أجر الداعية
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [ص:86]الداعي إلى الله يؤدي واجبًا، ويقوم بعبادة، امتثالًا لأمر الله، والأجر على العبادة يناله العابد من الرب الجليل تفضلًا منه وإحسانًا، وعلى هذا فلا يطلب الداعي من أحد من الخلق أجرًا على دعوته، ولا مالًا ولا ثناءً ولا جاهًا، ولا أي عوض من الأعواض المادية أو المعنوية، قال تعالى مخبرًا عن نوح عليه السلام: {فَإِنْتَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72]، وقال عن نبينا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، أي: إلَّا أن ترعوا قرابتي معكم، فتسمحوا لي بالدعوة إلى الله تعالى، ولا تمنعوني منها، ولا تصدوا الناس عنها، وهكذا شأن جميع رسل الله يدعون الناس إلى الله، ولا يبغون منهم جزاءً ولا شكورًا؛ لأن أجرهم على الله الكريم(1).
إنها الدعوة الخالصة للنجاة، بعد كشف المصير وإعلان النذير، الدعوة الخالصة التي لا يطلب صاحبها أجرًا، وهو الداعية السليم الفطرة، الذي ينطق بلسانه، لا يتكلف ولا يتصنع(2).
فعنصر التجرد عن الغرض الشخصي في الدعوة إلى الإصلاح من أهم العناصر المؤثرة، التي تجعل المنصفين يستجيبون للدعوة، ويتأثرون بإرشاد الداعي ونصحه وتوجيهه.
وقد أمر الله رسوله محمدًا عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بهدي الرسل السابقين، فيقول لقومه: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الشورى:23]، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90](3).
أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلًا ولا شيئًا على دعوتك إياهم إلى الهدى؛ بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ} [سبأ:47]، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، وقال: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وقال تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)} [يس:20-21].
إن من الناس من يقول أحدهم كلمة ويشهد الله على ما في قلبه، وهي كلمة يريد من ورائها أجرًا، قد يكون هذا الأجر مالًا محددًا يقبضه ويتلقاه، وقد يكون شهرة بين الناس، وقد يكون جاهًا، فالأجر في قوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} نكرة في سياق النفي قد دخلت عليها (من) الزائدة فهي من أعلى صور العموم.
إن أي أجر وأي ثمرة عاجلة يريدها صاحبها في الدنيا كفيلة بأن تبعثر عليه الأوراق، كفيلة بأن تكون هذه الكلمة التي يقولها، أو تلك التي يسطرها، أن تكون وثيقة اتهام عليه لبراءته من منهج الأنبياء وانحرافه عن منهجهم، أما الدعاة الصادقون، الذين يقتفون هدي النبوة ويسيرون على منهجها، فهم أولئك الذين يقولون ما يعتقدون أنه الحق، ويدينون الله عز وجل به، دون أن يرجوا من وراء ذلك أجرًا في دار الدنيا، أيًا كان هذا الأجر؛ مالًا أو جاهًا أو ثراءً(4).
فطلب الأجر لا يكون إلا من الله، والداعية إذا طلب أجرًا من الناس، أو مثوبة على دعوته، سقط من أعينهم سقطة ما بعدها سقطة، فلا يقبلون له كلامًا، فهم لا يحترمونه في الباطن وإن احترموه في الظاهر، ولا يقبلون كلامه، ولا يجلسون على مائدته، وتراهم من أشنع الناس عليه في غيابه، والحديث المشهور: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»(5).
وعندما جاء صاحب يس المؤمن إلى مسرح الأحداث، وصف هؤلاء الدعاة بصفتين أو سمتين بارزتين، لا يختلف عليهما اثنان، وهما أخطر صفتين؛ لأنهما جاءتا على لسان الآخر، وكذلك لم ينكرهما أصحاب القرية، والتي جعلت الرجل المؤمن يبني على أساسهما أن هؤلاء الدعاة صادقون، وبعيدون عن مواطن الشبهات أو مواضع الاتهام، وكانتا من أقوى حججه أثناء حواره مع قومه المكذبين.
وأول هاتين الصفتين نلمحها من قوله: {اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس:21]؛ أي: اتبعوا هؤلاء الكرام الذين لم يتكسبوا بفكرتهم، ولم يطلبوا أجرًا نظير وعظهم، ولم يتعيشوا بدعوتهم.
ألا ترون من لا يسعى إلى مغنم، ولم يطمع في أجر، وتنزه عما بأيديكم؛ ألا يدل ذلك على صدقه؟! وهي السمة التي يتميز بها أصحاب الدعوات.
وتأمل كيف أنكر الله سبحانه على مشركي مكة موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لم يطلب أجرًا يثقل كاهلهم، فيدفعهم إلى التكذيب: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور:40] .
وهو الرد نفسه من نوح عليه السلام على قومه المكذبين: {وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ} [هود:29].
وهو أيضًا الاستنكار نفسه من هود عليه السلام على موقف عاد: {يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [هود:51] .
والترفع عما بأيدي الناس، أو العفة والنزاهة، هي سمة بارزة لكل طليعة مؤمنة، وهذه السمة هي سبيل الكرامة والاحترام، ومن مسوغات قبول الناس للفكرة، وسبب أساس لكسب حبهم، كما قال الحسن البصري رحمه الله: لا تزال كريمًا على الناس ما لم تتعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك(6).
إن الإسلام ليس ملكًا لنا، وإنما هو أمانة الله في أعناقنا، ومن الوفاء بالأمانة أن تؤدى إلى من هو أقدر على القيام بها والحفاظ عليها، وهو مغزى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «ليبلغ الشاهد الغائب»(7)، وقوله: «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(8).
لقد انتشر الإسلام في إفريقيا وآسيا على أيدي التجار المسلمين بأكثر مما انتشر على أيدي الدعاة الرسميين، ذلك أن الاحتساب غير الاحتراف، وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا القول الكريم: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} شعارًا مشتركًا بين رسل الله أجمعين.
نحن بحاجة إلى تأمل المغزى العميق وراء هذا الشعار؛ لنصل إلى معادلة صحيحة نحل بها مشكلة الدعوة العويصة في عالمنا، وهي كيف نوفق بين كون الدعوة غاية يجب التجرد لها والتضحية في سبيلها، وبين كونها مصدرًا ضروريًا لرزق من تناط بهم وظائفها، في عالم أصبح توزيع العمل والتخصص في المعرفة سمة من سماته؟
قال ابن القيّم: «أما الهدية للمفتي ففيها تفصيل: فإن كانت بغير سبب الفتوى، كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفت، فلا بأس بقبولها، والأولى أن يكافأ عليها، وإن كانت بسبب الفتوى، فإن كانت سببًا إلى أن يفتيه بما لا يفتي به غيره ممن لا يهدي له، لم يجز له قبول هديته؛ لأنها تشبه المعاوضة على الإفتاء.
وأما أخذ الرزق من بيت المال، فإن كان محتاجًا إليه جاز له ذلك، وإن كان غنيًّا عنه ففيه وجهان، وهذا فرع متردد بين عامل الزكاة، وعامل اليتيم، فمن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ»(9).
إن صاحب هذه الدعوة وأتباعه لا يتاجرون بها ولا ينتفعون من ورائها؛ بل العكس هو الصحيح تمامًا، يضحون من أجلها بالنفس والمال، ويبذلون في سبيل نشرها وتحقيقها كل غالٍ ونفيس.. {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [الطور:40]، {قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام:90].
الداعي إلى الله لا يترك دعوته أبدًا في مقابل عرض من أعراض الدنيا، فما من نبي جاء لقومه إلا قال لهم: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [هود:51]، {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا} [هود:29].
ورسولنا صلى الله عليه وسلم عندما عرض عليه كفار مكة المال والجاه والسلطان لم يناقشهم فيها، فهي أسقط وأذل من أن تناقش، ولكنه عرض عليهم أن يؤمنوا بالله وحده، فتلا عليهم القرآن.
وهو القائل صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به، فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به»(10).
وعن أبي بن كعب قال: علمت رجلًا القرآن فأهدى لي قوسًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «إن أخذتها أخذت قوسًا من نار»(11).
وهذا سليمان عليه السلام بعث بكتابه إلى بلقيس ملكة سبأ يدعوها وقومها إلى الإسلام، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)} [النمل:29-33].
فما كان من بلقيس إلا أن تختبر ذلك الملك بهدية تبعثها إليه من جميع أصناف المال، فإن كان هذا الملك يريد الدنيا فسيقبل الهدية ويكف عنهم، وإن لم يقبلها فمعناه أنه صادق في دعوته، ولهم المبادرة إلى إجابته والدخول في ملته.
{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} [النمل:36](12).
وفي الرد استهزاء بالمال، واستنكار للاتجاه إليه في مجال غير مجاله، مجال العقيدة والدعوة: {أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ} أتقدمون لي هذا العرض التافه الرخيص؟ {فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ}، لقد آتاني من المال خيرًا مما لديكم.
ولقد آتاني ما هو خير من المال على الإطلاق: العلم والنبوة، وتسخير الجن والطير، فما عاد شيء من عرض الأرض يفرحني {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}، وتهشون لهذا النوع من القيم الرخيصة التي تعني أهل الأرض، الذين لا يتصلون بالله، ولا يتلقون هداياه(13).
وأما إذا كان قصده بدعوته جاهًا أو سلطانًا أو شهرة أو مالًا ونحو ذلك من أمور الدنيا، فلا يحصل له شيء من الأجر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علمًا مما يُبتغَى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة»، يعني ريحها(14).
______________
(1) أصول الدعوة، عبد الكريم زيدان، ص323.
(2)في ظلال القرآن، سيد قطب (ص:86).
(3) الحضارة الإسلامية، عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة، ص355.
(4) منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، محمد الدويش.
(5) رواه ابن ماجه (4102).
(6) قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية، مجلة البيان (العدد:193).
(7) رواه البخاري (67).
(8) رواه الترمذي (2656).
(9) إعلام الموقعين، لابن القيم (4/178).
(10) رواه أحمد (19944).
(11) رواه ابن ماجه (2158).
(12) سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام، صالح بن طه عبد الواحد، ص125.
(13) في ظلال القرآن (النمل:36).
(14) رواه أبو داود (3664).