logo

قواعد الدعوة إلى الله


بتاريخ : الأربعاء ، 16 ربيع الآخر ، 1439 الموافق 03 يناير 2018
بقلم : تيار الاصلاح
قواعد الدعوة إلى الله

يتسرع عدد كبير من الشباب لممارسة الدعوة إلى الله تعالى؛ لينال شرفها، ويحصل على ثوابها، لعل الله تعالى يهدي على يديه شخصًا واحدًا؛ فيكون له الثواب الجزيل والخير العظيم، كما ورد في حديث النبي الأمين صلى الله عليه وسلم المتفق على صحته: «لَأَن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النَّعم»(1)، خصوصًا أن من يقوم بالدعوة إلى الله تعالى فهو يؤدي أشرف مهمة، ويتشبه بالأنبياء، ويسير على نهج المرسلين.

ولكن للدعوة إلى الله تعالى قواعد وأصول، لا بد أن نتعلمها إذا أردنا الممارسة لهذه المهمة حتى نصلح ولا نفسد، وحتى نبشر ولا ننفر.

القاعدة الأولى: القدوة قبل الدعوة :

ليحذر الداعية أن يراه المدعو على خلاف ما يدعو، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه إذا نهى الناس عن أمر دعا أهله فقال لهم: «قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإنما ينظر الناس إليكم نظر الطير إلى اللحم، فإن هبتم هاب الناس، وإن وقعتم وقع الناس، وإنه، والله، لا يقع أحد منكم في أمر قد نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب؛ لمكانكم مني»(2).

لا تتوهم أن أحدًا يصغي إليك إن لم تكن قدوة له، هذا الكلام تحتاجه مع أولادك، يحتاجه المعلم في الصف، والموظف في الدائرة، والداعية في المسجد، قبل أن تستقيم على أمر الله لا تطمع أن يصغي أحد إليك.

فأنت حينما تطبق هذا المنهج العظيم يمكن أن تكون داعية صامتًا؛ لأن استقامتك دعوة، وصدقك دعوة.

القاعدة الثانية: الإحسان قبل البيان :

افتح قلب من تدعوه بإحسانك ليفتح لك عقله لبيانك، سيدنا معاوية جاءته رسالة شديدة اللهجة من عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فيها تجاوز كبير في حق أعظم ملكٍ على وجه الأرض وقتها، يهدد فيها الخليفة من أجل اختلاف بسيط حول قطعة أرض صغيرة، فيقول في رسالته: «أما بعد؛ فيا معاوية [باسمه فقط، من دون لقب، لا أمير المؤمنين، ولا خليفة المسلمين، ولا شيء من هذا القبيل]، إن رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك، وإلا كان لي معك شأن، والسلام».

فدفع معاوية بكتابه إلى ابنه يزيد، فقال له: «يا يزيد، ماذا نصنع؟»، فلما قرأ يزيد الكتاب غلا الدم في عروقه القرشية الأصيلة، وقال: «أرى أن ترسل له جيشًا أوله عنده وآخره عندك، يأتونك برأسه»، فابتسم معاوية في وجه ابنه، وأراد أن يعلمه درسًا في الحلم، فقال له: «يا بني، غيرُ ذلك أفضلُ»؛ فأملى على الكاتب: «اكتب: أما بعد؛ فقد وقفتُ على كتاب ولد حواري رسول الله، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلها هينة جنب رضاه، وهذه أرضي كلها ومن عليها هدية لك»!

فلما وصل الجواب إلى ابن الزبير خجل من أدب خليفة المسلمين وحلمه، فردّ عليه بكتاب رقيق جاء فيه: «أما بعد؛ فيا أمير المؤمنين، أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل»، فاستدعى معاوية ابنه يزيد، وقال له، وعيناه تبتسمان من السعادة: «يا بني، مَن عفا ساد، ومن حلم عظُم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب»(3).

قبل أن تكون داعية، متكلمًا، فصيحًا، طليق اللسان، معك قصص وشواهد وأدلة ونصوص، كن محسنًا، هذا الذي أمامك لا يحتاج إلى فلسفة، يحتاج إلى إحسان .

ثمامة بن أثال كان قبل إسلامه من أكبر المجرمين بحق أصحاب رسول الله، وقع بيد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أسيرًا، لكنهم ما عرفوه، هو زعيم قبيلة كبير، ربطوه في سارية المسجد، مرّ به النبي عليه الصلاة والسلام وقال له: «ما تظن أني فاعل بك؟»، قال: «إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن تسأل مالًا تعطه»، النتيجة قدم له النبي عليه الصلاة والسلام طعامًا من بيته، وأكرمه، وأطلق سراحه(4)، هذا ثمامة صار من كبار أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإحسان قبل البيان، افتح قلب من حولك بإحسانك ليفتحوا لك عقلهم لبيانك.

القاعدة الثالثة: المبادئ لا الأشخاص:

نحن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، سيدنا عمر جاءه ملك الغساسنة جبلة بن الأيهم، فأسلم وأسلم ذووه معه، وكتب إلى الفاروق يستأذنه في القدوم إلى المدينة، ففرح عمر بإسلامه وقدومه، فجاء إلى المدينة وأقام بها زمنًا والفاروق يرعاه ويرحب به، ثم بدا له أن يخرج إلى الحج، وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطيء إزاره رجل من بني فزارة فحله، فغضب الأمير الغساني لذلك، وهو حديث عهد بالإسلام، فلطمه لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حل به، وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه، ثم سأله فأقر بما حدث، فقال له عمر: «ماذا دعاك يا جبلة لأن تظلم أخاك هذا فتهشم أنفه؟»، فأجاب بأنه قد ترفق كثيرًا بهذا البدوي، وأنه لولا حرمة البيت الحرام لأخذ الذي فيه عيناه، فقال له عمر: «لقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل وإما أن أقتص منك»، وزادت دهشة جبلة بن الأيهم لكل هذا الذي يجري، وقال: «وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟»، فقال عمر: «إن الإسلام قد سوى بينكما»، فقال الأمير الغساني: «لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن أكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية».

فقال الفاروق: «دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل اقتصصت منك»، فقال جبلة: «إذن أتنصر»، فقال عمر: «إذا تنصرت ضربت عنقك؛ لأنك أسلمت، فإن ارتددت قتلتك».

وهنا أدرك جبلة أن الجدال لا فائدة منه، وأن المراوغة مع الفاروق لن تجدي، فطلب من الفاروق أن يمهله ليفكر في الأمر، فأذن له عمر بالانصراف، وفكر جبلة بن الأيهم ووصل إلى قرار، وكان غير موفق في قراره، فقد آثر أن يغادر مكة هو وقومه في جنح الظلام، وفر إلى القسطنطينية فوصل إليها متنصرًا، وندم بعد ذلك على هذا القرار أشد الندم(5).

وفي هذه القصة نرى حرص الإسلام على مبدأ المساواة؛ فالإسلام قد سوى بين الملك والسوقة، ولا بد لهذه المساواة أن تكون واقعًا حيًا، ليس مجرد كلمات توضع على الورق.

الأمم ترقى إذا اعتمدت مقاييس موضوعية، وتتخلف إذا اعتمدت مقاييس انتمائية.

القاعدة الرابعة: الأصول قبل الفروع:

الإسلام يحتاج اليوم إلى الدعوة من جديد، لا أقصد دعوة الكفار المخالفين، فهي واجبة، ولكن أمامنا ما هو أوجب وما هو أقرب، وهو دعوة شباب المسلمين إلى الإسلام.

لا تعجبوا، فإن أكثر أبناء المسلمين لا يعرفون ما الإسلام، حتى الذين يُصلّون منهم ويصومون، فإن الكثير منهم يصلي ويصوم بحكم العادة، ولكنه لا يعرف أسرار الصلاة والصوم، ولا يعرف من أحكامهما إلا القليل.

نسي المسلمون الأصول وغرقوا بالفروع، تقاتلنا على جزئيات الدين؛ لذلك بعض العلماء الكبار أفتى بإغلاق هذا المسجد الذي فيه خصومة انتقلت إلى الضرب حول عدد ركعات التراويح.

رسول الله صلى الله عليه وسلم لبث ثلاث عشرة سنة في مكة لا يدعو فيها إلا إلى تصحيح العقيدة وإقرار التوحيد، فلما استقر التوحيد في النفوس وصحّت العقيدة نزلت عليه تفصيلات الشريعة وآيات الأحكام.

فلماذا لا يفعل العلماء والمرشدون والدعاة إلى الله مثل فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ التوحيد هو الأصل، فلماذا نجد من يبدأ بفروع الفروع قبل الأصل؟

لا أقول إن جميع المشايخ والدعاة على هذا، لا؛ بل إن فيهم المشايخ العلماء العاملين، ولكنهم قلة، والكثرة تشتغل بالفرع عن الأصل، الكثرة تعيش في محيط ضيق، لا تتعداه بأبصارها، ولا تعرف ما وراءه، فلا تقدّر الخطر الذي يحيق بالإسلام، ولا تعلم ماذا يصنع أعداء الإسلام.

لا تدري أن الإسلام عاد غريبًا كما بدأ غريبًا، صار غريبًا في بلاده وبين أهله، إن المساجد تمتلئ بالمصلين، والناس يصومون في رمضان، والحجاج يزداد عددهم سنة بعد سنة، ولكن الصلاة والصيام والحج فقدت، عند كثير من الناس، روحها وبقي جسدها، إن سموم أعداء الإسلام دخلت إلى مجتمع المصلّين الصائمين، إلى بيوتهم، إلى أفكار رجالهم، إلى أزياء نسائهم، إلى مناهج مدارسهم، إلى قوانين محاكمهم(6).

القاعدة الخامسة: التيسير لا التعسير:

عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا»(7).

نحن الآن بحاجة إلى تبسيط الدين، وعقلنته، وتطبيقه، بسّط، لا تُدخل الناس بمتاهة كبيرة، لا تدخلهم بالخلافات بين العلماء، وأدلة كل فريق، وكيف ردوا على الفريق الأول، دعك من هذا، كن مبسطًا لهذا الدين، فالبساطة الآن نحتاجها جميعًا، ستة أشهر أبقاه في أحكام المياه(8).

القاعدة السادسة: التربية لا التعرية :

ليس القصد أن تعري الإنسان، أن تحرجه، لا تحمروا الوجوه، انصحه فيما بينك وبينه، فالتربية لا التعرية.

عن أنس أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه، فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(9).

كان لأبي حنيفة جار إسكاف يعمل نهاره أجمع، فإذا جنه الليل رجع إلى منزله، وقد حمل لحمًا فطبخه، أو سمكة فشواها، ثم لا يزال يشرب حتى إذا دب الشراب فيه غزل بصوت يقول: «أضاعوني وأي فتى أضاعوا، ليوم كريهة وسداد ثغر»، فلا يزال يشرب ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم.

وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله، ففقد أبو حنيفة ليلة صوته فاستخبر عنه، فقيل: «أخذه الشرط، وهو محبوس»، فلما صلى أبو حنيفة الصبح من غده ركب بغلته وجاء الأمير فاستأذن عليه فأذن له، وألا ينزل حتى يطأ البساط، فلم يزل الأمير يوسع له في مجلسه حتى أنزله مساويًا له، فقال: «ما حاجتك؟»، فقال: «إسكاف أخذه الحرس ليأمر الأمير بتخليته».

قال: «نعم، وكل من أخذ معه تلك الليلة»، فخلى جميعهم، فركب أبو حنيفة والإسكاف يمشي وراءه، ولما نزل مضى إليه وقال: «يا فتى، أضعناك؟»، قال: «لا؛ بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرًا عن حرمة الجار ورعاية الحق»، وتاب الرجل عما كان فيه، الشاب يحتاج إلى قلب كبير، إلى صدر واسع، إلى رحمة(10) .

القاعدة السابعة: أن تعرف شرف الرسالة:

هذا ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبى طالب عندما أعطاه الراية يوم خيبر، فقال علي: «علام أقاتل الناس، نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله، لَأَنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حُمْر النَّعم»(11).

فالداعية يقدم الجنة هدية للناس من حوله، ويدلهم على مقامات السعادة، وأي أجر يكتب للداعية عند ربه إلا الأجر الذي يليق بجلال المعطي سبحانه، ويتناسب مع قدر العطية.

إن من يهتدي على يد الداعية يكون عونًا للداعية على أداء رسالته، ويضم جهده إلى جهد الداعية، وهكذا فإن الدعوة لا تتكاثر إلا عن طريق الدعوة، ولا تتقوى إلا بالعناصر الجديدة الرافدة، وما تغير حال المسلمين من السر إلى العلن إلا يوم أن دخل عمر وحمزة في دين الله، وما تغير حالهم من الجماعة إلى المجتمع إلا يوم أن دخل الأنصار في دين الله تعالى.

وإن من يهديه الله على يديك، أيها الداعية، إنما هو كَلَبِنَة فكَّت من بناء الجاهلية ووضعت في بناء الإسلام، وسيكون هذا على حساب الكفرة الضلال، وهو خسارة للشيطان وأعوانه، وكسب لأنصار الرحمن، وفي كل مرة يهتدي فيها من يهتدي فإنما يسقط ركن من الأركان، وهكذا كان أمر الجاهلية في مكة، ففي كل صباح لهم حديث، الكفار يتكلمون عن الصابئين المفارقين الخارجين، والمسلمون يفرحون بالداخلين المؤمنين، وكأني ببناء الكفر يتصدع كل يوم ويفقد من بنائه ما يفتح ثغرة بعد ثغرة فيه.

القاعدة الثامنة: إنما عليك الجهد:

وهذه القاعدة تعالج خطأً شائعًا عند كثيرين، وهو أن الأجر يترتب على النتيجة الدنيوية الظاهرة، مشبهين ذلك بالأعمال الدنيوية التي يُنظر فيها إلى النتائج المحسوسة، ولو كان الأمر في الدعوة كذلك لكان كثير من أنبياء الله صلوات الله عليهم محكومًا عليه بالإخفاق، وحاشا لأنبياء الله أن يوصفوا بهذا، رغم قلة المؤمنين بدعوتهم، فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه ويمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، قال الله تعالى: }وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ{ [العنكبوت:14]، وظاهر سياق الآية، كما يقول ابن كثير: أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عامًا(12).

ورغم هذا المكث الطويل فإنه لم يؤمن من قومه إلا قليل، قال تعالى: }حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ{ [هود:40].

ويلاحظ الاستثناء في الآية بعد قوله: {وَمَنْ آمَنَ} حتى لا يُفهم بأن عدد المؤمنين كان كبيرًا قال: {وَمَا آمَنَ مَعهُ إِلَّا قَلِيلٌ}.

وكذلك كان أمر أكثر الأنبياء؛ فإنهم يحشرون يوم القيامة ومع بعضهم الواحد والاثنان والثلاثة، وبعضهم لا يكون معه أحد من المؤمنين.

ولذلك فقد وجه الله تعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى عندما أمره بالدعوة والتبليغ ولم يطالبه بالنتيجة، فقال: }فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ{ [الشورى:48]، وقال: }فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ{  [النحل:35]، وقال: }وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ { [النور:54].

فأمر الهداية بيد الله تعالى، وهو القائل: }إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ{ [القصص:56].

ومن فقه هذه القاعدة أن الداعية لا يقع تحت الإحباط والضغوط النفسية الناشئة عن إعراض الناس وعدم استجابتهم، ولقد رفع الله تبارك وتعالى الحرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم ولم يكلفه إلا بما يستطيع، فقال: }لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ{ [البقرة:272]، وقال: }فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ{ [فاطر:8]، وفي هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان الحريص على إيصال الخير والهداية إليهم، ولكنهم عموا وصمّوا.

وكذلك رُفع هذا الحرج عن الدعاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إن لم يهتد الناس ولم يستجيبوا لهم بعد استنفاد غاية الجهد معهم؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.

وفي هذه القاعدة علاج لأولئك المتعجلين من الدعاة، الذين ينتظرون النتائج الدنيوية الظاهرة، ويجعلونها شرطًا للمواصلة والسير في طريق الدعوة، وهذا التلازم إنما هو سوء فهم من جهة، ومخالفة صريحة لقواعد الدعوة في القرآن والسنة من جهة أخرى.

القاعدة التاسعة: على الداعية أن يسعى إلى البلاغ المبين:

ليس أمر الدعوة إلى الله بأقل من أمر الدعوة أو الدعاية إلى سلعة دنيوية، ونحن على يقين أن صاحب البضاعة يستخدم أقوى الوسائل وأوسعها انتشارًا من أجل إيصال الجمهور إلى درجة القناعة ببضاعته، ونراه في سبيل ذلك يستخدم الكلمة والصورة والهدية وغير ذلك من الوسائل.

وقد جعل الله تعالى مهمة رسله وأنبيائه البلاغ، فقال: }فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ{ [النحل:35]، ووصف البلاغ بأنه المبين، وقال تعالى: }الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَه {[الأحزاب:39].

وعند إعراض الناس عن الإيمان كان يأتي التأكيد على وصول الأنبياء إلى رتبة البلاغ، قال تعالى: }فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي{ [الأعراف:79].

ولا معذرة للداعية إذا قصر في البلاغ، ولقد نبه الله تبارك وتعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى مثل هذا قائلًا: }يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ{ [المائدة:7].

قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: «وهذا تأديب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئًا من شريعته، وليس المقصود بالبلاغ مجرد الإخبار أو الإعلان، إنما المراد أن تصل رسالته للناس».

ومن مقتضيات البلاغ أن يعي الداعية ما يُبلغه؛ لأنه لا تبليغ بلا وعي، ويستفاد هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: «نَضَّرَ الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلَّغها، فرَبَّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يُغَلّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من وراءهم»(13).

قال الخطابي عند شرحه لهذا الحديث: «نَضَّر الله معناه الدعاء له بالنضارة، وهي النعمة والبهجة»(14)، وهذه النضارة من آثار التبليغ على المُبلِّغ، فالمُبَلِّغون أصحاب الوجوه الناضرة في الدنيا والآخرة.

القاعدة العاشرة: الجهد البشري يحتاج مددًا ربانيًا:

من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها؛ بل يعينه عليها: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]، ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة، وتمنحه ذلك الخير الكثير.

شاء الله تبارك وتعالى أن تعمل هذه الدعوة بالوسائل البشرية، والداعية الحق هو الذي يستطيع أن يوظف عالم الأسباب من أجل دعوته، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل ليله بنهاره، آخذًا بالأسباب، ومستخدمًا لأساليب عصره المتاحة، ولم يقل بما أنه يوحى إلي فإن لي طريقة أخرى في التماس النظر، وإننا لنجد في تفاصيل سيرته صلى الله عليه وسلم تطبيقات واسعة لهذا المبدأ.

وفي قول الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، بيان شاف لهذا المبدأ، والتكليف هو الأمر بما يشق عليه، والتكليف هنا مرتبط بالوسع الذي هو الطاقة والجِدَّة، قال القرطبي: «نص الله تعالى على أنه لا يكلف العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلف، وفي مقتضى إدراكه وبنيته، وفي هذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأويلهم أمر الخواطر»(15)، أي لم يكلفهم الله بما في خواطر النفوس وخلجات القلوب.

والناس اليوم يفهمون هذه الآية على أن الوسع هو أدنى ما يستطيعه المرء؛ ولذلك فإن هذا الوسع متقلب متغير حسب الدوافع، فقد يدعي المسلم أنه لا يجد سوى ساعة من فراغ، قائلًا: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ثم يزيد هذا الجهد إلى ساعتين قائلًا: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ثم نجد وقته يتسع لثلاث ساعات من العمل فيقول: لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.

وهذا التقلب والتغير في ظرف واحد وزمان واحد دليل على أن الادعاء الأول لم يكن صحيحًا، وأنه لم يبذل وسعه في المرة الأولى والثانية والثالثة.

ونحن لا ننسى أن الناس متفاوتون في أصل المقدرة والجهد، وأن مساحات نفوسهم متفاوتة كذلك، ولكن المطلوب أن تصل هذه النفس إلى أكبر عطاء لها، وأن يكون جهدها متزايدًا متصاعدًا كل يوم، وإن قدرًا كبيرًا من طاقة العاملين والدعاة محكوم عليه بالهدر والضياع، إن لم يُستغل في سبيل الحق والدعوة، وإن كثرة العاملين الذين يقدمون بعض ما يستطيعون يعيقون السير، وتزدحم بهم الطرق، تمامًا كالعربات التي تملأ الطريق في الوقت الذي لا تحمل من وسعها سوى الشيء القليل.

إن الله تعالى خلق هذا الإنسان وجعل في وسعه الكثير الكثير، ونحن في هذه الحياة نقرأ عن بعض المنحرفين ومدمني الإجرام، أنهم يبذلون جهدًا في سبيل انحرافهم وإجرامهم ما يجعلهم يواصلون الليل والنهار، ويقطعون شاسع المسافات، ويعانون ضروبًا من التحمل والصبر ما يحير الألباب، ويبذلون من الأموال، ويركبون من الأهوال والمخاطر ما يثير العجب العجاب، والذي يستطيع فعل الشر فإنه يستطيع فعل الخير، ومن يركب المصاعب والأهوال في سبيل الباطل فإنه قادر على ذلك في سبيل الحق والخير.

وعندما نقرأ سير الأولين من الأصحاب رضوان الله عليهم نرى أن أكثرهم قد مات خارج بلده، فهذا أبو أيوب الأنصاري يرقد عند أسوار القسطنطينية، وهذه أم حرام بنت ملحان ترقد في جزيرة قبرص، وهذا عقبة بن عامر يرقد في مصر، وهذا بلال يرقد في دمشق، وهكذا فقد اندفع هؤلاء الأصحاب في أصقاع الأرض يرفعون راية الإسلام، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيله، وهذا من منطلق إيمانهم بقول الله تعالى: }لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا {[البقرة:286].

القاعدة الحادية عشرة: خاطبوا الناس على قدر عقولهم:

نخطئ كثيرًا عندما نظن أن أسلوبًا واحدًا في الخطاب هو الأسلوب المناسب لجميع الناس للتأثير فيهم، وحثهم على الإيمان والعمل, كما يخطئ آخرون إذ يظنون أن طريقة واحدة؛ هي الشدة في توصيل المفهوم وبيانه بالطريقة الخطابية وجمع كل الأدلة له أمام السامع، هي الطريقة المثلى التي تجمع القلوب وتغير القناعات.

إن الناس طوائف مختلفة، وجماعات شتى، وثقافات متباينة، وانتماءات متكاثرة، وعقليات متفاوتة، وعادات وتقاليد عديدة، ومن ظن من الدعاة أنه يستطيع أن يهمل كل هذه الاعتبارات، ويختزل طريقة الدعوة إلى الناس أجمعين في طريقة يظنها جديرة بذلك، مهملًا عقول الناس وطاقاتهم واستيعابهم وفهمهم, فنحن ههنا نبين له مجانبته للصواب, كما نبين له كيف كان صلى الله عليه وسلم، وهو معلم البشرية جمعاء، ينوع أسلوبه ويختار ما يناسب عقول الناس؛ بل ويأمر أتباعه من الدعاة إلى الله بمخاطبة الناس على قدر عقولهم.

الداعية إلى الله حكيم حليم عاقل، هدفه الوصول إلى قلوب الناس قبل عقولها؛ لأنهم لو أحبوه وآمنوا بما يقول فسيعملون عقولهم في كلامه إعمال القابل الراضي، لا إعمال الرافض الساخط.

والداعية إلى الله يتعامل مع العقول حسب مقدرتها لا حسب مقدرته، ولا يحملها فوق طاقتها، وقد فهم ابن عباس رضي الله عنهما قول الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، فقال: «كونوا حلماء فقهاء»، وقال البخاري: «ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره»، والبدء بصغار العلم مرجعه مراعاة العقول حتى لا تنفر من الدعوة، قال ابن حجر: «والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق منها»(16).

وربانية الدعوة إلى الله لا تتم بمجرد تبليغ الأحكام والأدلة فقط، وإنما باتخاذ الوسائل الحكيمة للوصول إلى هداية الناس.

من حكمة الداعية وفهمه أن يختار الأساليب المشوقة المؤثرة والمناسبة في ذات الوقت، وأن يتجنب العبارات الخشنة الجارحة، والتي قد يسهل استبدالها بالأساليب الجميلة الحلوة المؤدية لنفس المعنى, فالعبارات الجميلة دليل على حسن انتقاء الداعية ورقته، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينتقون الكلام لبعضهم البعض كما ينتقى أطايب التمر.

يقول الشاطبي رحمه الله: «وعلى هذا النحو مر السلف الصالح في بث الشريعة للمؤالف والمخالف, ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية علم أنهم قصدوا أيسر الطرق وأقربها إلى عقول الطالبين, لكن من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف؛ بل كانوا يرمون بالكلام على عواهنه، ولا يبالون كيف وقع ترتيبه إذا كان قريب المأخذ سهل الملتمس»(17).

القاعدة الثانية عشرة: الابتلاء سنة الله تعالى:

سأل رجلٌ الإمامَ الشافعي فقال له: «أيهما أفضل للرجل: أن يُمكَّن أو يُبتلى؟»، فقال له: «لا يمكَّنُ حتى يُبتلى»، فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحدٌ أن يَخْلُصَ من الألمِ أَلْبَتة(18).

هذا إبراهيم عليه السلام ابتلي من قومه بالمشقة والعنت، وردوا دعوة التوحيد؛ بل أرادوا قتله شر قتلة بحرقه بالنار، ولكن الله تعالى حفظه وتولاه، وأخرجه بإذنه سليمًا معافًى، وذلك لصبره على أذى قومه، وثباته على الحق الذي أرسل به، فمكَّنه الله تعالى بعد ابتلاء ومحن، وقد ابتلاه ربه في ذبح ابنه إسماعيل، فصدق بوعده، ووفى مع ربه، وعاونه ولده البار، فنال أعلى الدرجات، ورفع ذكره، فما زال اسمه يذكر في كتاب الله تعالى حتى تقوم الساعة عليه الصلاة والسلام.

وهذا موسى عليه الصلاة والسلام قد تعرض للبلاء منذ طفولته بوضعه في التابوت، ورميه في اليم، وأخذ الأعداء له، وإخراجه من بلده، وإرادة فرعون قتله، فثبت على طريقه، ولم يهتز لما يتعرض له من قبل أعدائه، فأراه الله تعالى من آياته ومعجزاته، وأغرق أعداءه أمام عينه، وأنجاه بفضله ورحمته، وأعزه ونصره بعد أن كان مطاردًا خائفًا، وهكذا سنة الله تعالى مع أنبيائه ورسله.

القاعدة الثالثة عشرة: مجال الدعوة واسع فليختر الداعية لدعوته:

عندما تكون الدعوة في طور التأسيس والتكوين، فإن الجهد المبذول قد يقع في مكانه المناسب إذا راعى الداعية مبدأ التخيُّر لدعوته.

فليبدأ بالقريب قبل البعيد، فإنه لا داعي لقطع المسافات من أجل دعوة إنسان ما، لا سيما إذا كان لا على التعيين، في حين أن الأقربين والمجاورين في السكنى أو العمل محتاجون لمثل هذه الدعوة، وهؤلاء الأقربون معروفون عند الداعية، ولا يحتاج إلى جمع المعلومات عنهم، وهم يعرفونه فلا داعي لكثير من المقدمات، وهم يعتبون عليه إذا أهملهم وذهب إلى الأبعدين، وهو يعيش بينهم، فهم العين الساهرة في الخير والشر، وهم الشهداء على السراء والضراء، وهو عند الله مسئول عنهم، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على قومه أنهم لا يفقهون جيرانهم، ولا يُعَلِّمونهم، فتوعدهم بالعقوبة، وأمهلهم سنة للقيام بهذا التكليف(19).

وعندما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين، فقال: }وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ{ [الشعراء:214]، قال الرازي: «ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب؛ ذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولًا ثم على الأقرب فالأقرب ثانيًا، لم يكن لأحد فيه مطعن البتة، وكان قوله أنفع وكلامه أنجع»(20)، أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت }وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ{ صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فجعل ينادي: «يا بني فِهْر، يا بني عَدِيّ»، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولًا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تُغير عليكم أكنتم مصدقيَّ؟»، قالوا: «نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا»، قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ:46].

يقول ابن حجر: «والسر في الأمر بإنذار الأقربين أن الحجة إذا قامت عليهم تعدتهم إلى غيرهم، وإلا كانوا علة للأبعدين في الامتناع»(21).

ففي قصة موسى عليه السلام يقول الله تعالى: }فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ{ [يونس:83]، ولا أعني بقولي هذا إهمال الكبار، وإنما أعني أن إقبال الصغار والناشئة على الدعوة أسرع، وإن صغير اليوم هو رجل الغد، والناشئة هم مستقبل الأمة.

إن كسب المواقع الجديدة القريبة السهلة الممكنة يساعد على كسب المواقع البعيدة الصعبة؛ لأن الانتشار الواسع يعطي الدعوة دماءً جديدة، وحيوية وطاقة تصرف في الوصول إلى المواقع الأبعد، ثم إن الفكرة عندما تشيع ويكثر أنصارها فإن كثيرين يراجعون موقفهم منها على ضوء ذلك.

والمفروض أن يراعى التخير وفقًا للمرحلة التي تمر فيها الدعوة، فقد تكون المرحلة مرحلة تجميع وسعة انتشار، وقد تكون المرحلة مرحلة عمل محدد، تربوي أو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي، وفي كل مرحلة تُراعى مقتضياتها، ويكون التخير وفق هذه المقتضيات، وقد نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك، بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب»(22). 

على ضوء المرحلة التي كانت تمر فيها الدعوة في مكة، فقد انتشرت الدعوة بين الضعفاء والفقراء، ووصلت إلى مرحلة تريد أن تعلن فيها عن نفسها، وشخصية كشخصية عمر تناسب المرحلة الجديدة، وهذا ما حدث يوم أن دخل عمر رضي الله عنه في دين الله، فقد دخلت الدعوة طورًا جديدًا هو طور العلن بعد السر.

وعندما ذهب مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة جاءه أُسيد بن حُضير، وكان مشركًا، فقال لمصعب ولأسعد بن زرارة: «ما جاء بكما إلينا، تسفهان ضعفاءنا؟»، وكان أسعد قد قال لمصعب: «هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه»، فدعاه مصعب إلى الله تعالى، وقرأ عليه القرآن، ثم قال: «ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟»، قالا له: «تغتسل فَتَطَهّرُ وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي»، فقام فاغتسل، وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم قال لهما: «إن ورائي رجلًا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ».

ولما أقبل سعد عليهما قال أسعد بن زُرارة: «أيْ مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان»، ولما عرض عليه مصعب الإسلام أسلم، ثم انطلق إلى قومه بني عبد الأشهل فقال: «كيف تعلمون أمري فيكم؟»، قالوا: «سيدنا، وأوصلنا، وأفضلنا رأيًا، وأيمننا نقيبة»، قال: «فإن كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله وبرسوله»، قالا: «فوالله، ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلمًا ومسلمة»(23).

ونستفيد من هذه الحادثة أمرًا مهمًا، وهو أن توجيه الدعوة إلى بعض مراكز القوة في المجتمع يُسهم في الإسراع في عملية التغيير، وقد يغير كثيرًا في المعادلة لصالح الدعوة، ونستفيد منها أيضًا مراعاة المرحلية في الدعوة.

القاعدة الرابعة عشرة: الزمن عنصر فعال من عناصر الدعوة:

كثيرًا ما يشعر الدعاة بخيبة الأمل عندما يدعون إلى الله، ويستعملون الحجج والبراهين، ولكن لا يجدون استجابة كبيرة من قبل المدعوين، وهذا الشعور بالخيبة ناشئ عن إسقاطهم لعنصر مهم من عناصر معادلة الدعوة، وهو عنصر الزمن.

أول ما يجب أن نعلمه أن الواقع الذي نتعامل معه واقع غير إسلامي، وأنه تشكل بفعل عوامل كثيرة، معظمها نشأ بفعل مؤثرات مادية إلحادية أو فاسدة، وقد سيطر هذا الواقع على أفراد المجتمع، وأصبح الداعية يتعامل مع الفرد القابع تحت هذه التراكمات الفكرية والسلوكية، التي هي بمثابة الحجاب المانع من الاتصال بين الداعية والمدعو، وبعبارة أخرى فإن الداعية في عالم، والمدعو في عالم آخر، والمدعو صاحب قيم غير القيم التي ينادي بها الداعية، ولهذا كله فإن توقع الاستجابة السريعة في غير محله، وهو مخالف لطبائع الأشياء.

إن أية كلمة يقولها الداعية لا تذهب هباءً منثورًا، وإنما تدخل في مكونات المدعو، ويختزنها عقله، وتتراكم خبراته الخَيِّرة، وقد يظهر أثر كلمة قيلت قبل سنوات بفعل موقف محرك أدى إلى استرجاع تلك الخبرة، ثم إن ما يقوله الداعية اليوم يجده داعية آخر رصيدًا بعد سنين، وكثيرًا ما يحدث أنه عندما نتحدث مع إنسان ما يقول: هذا شيء سمعته من فلان.

وإن اختيار زمن الدعوة أمر في غاية الأهمية، وهناك أوقات يخلو المرء فيها مع نفسه، ولا يكون مستعدًا فيها لتقبل الأفكار، وإن الدعوة تتأثر بالجو العام، والظرف الذي يمر فيه الداعية والمدعو؛ ولهذا فإن على الداعية أن يختار أنسب الأوقات التي لا إحراج فيها ولا مشقة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا»(24).

ولا ينبغي أن يطيل الداعية على المدعو؛ لأنه قد يضجره ويمله، ومعيار عدم الإطالة أن يترك المدعو في شوق لاستكمال الموضوع، وأن يطلب المزيد.

الاستعجال على المدعو قد يؤدي إلى نتيجة سيئة؛ إذ إنه قد يفصل في المسألة إمّا بالرفض وإما بالاستجابة والإقبال، وكلا الأمرين قبل أوانه خطير، وهذا من قبيل سلب القرار، لا من قبيل اختيار القرار.

ففي حالة قرار الرفض يكون المدعو قد تعجل في اتخاذ قراره، قبل أن يستكمل وجوه الدعوة، وبذلك يكون قد اتخذ موقفًا من الدعوة، وليس من السهل أن يغير موقفه؛ لأن المرء حريص على أن يُعرف بالمواقف الثابتة، وهذه النتيجة إنما كانت بفعل الداعية الذي أراد أن يجني الثمرة قبل أوانها.

وفي حالة قرار الاستجابة المستعجل يجد المدعو نفسه، بعد وقت يسير، أمام تكاليف وواجبات لم يحسب حسابها، ويتبين له أنه لو انتظر قليلًا لما اختار هذا الموقف، ويدخل في صراع بين الموقف المعلن والموقف المبدئي، وقد يرتكب محظورات سلوكية؛ كالكذب والنفاق، وكل هذا بسبب الاستعجال عليه، ولو فتحت أمامه فرصة التفكر والتدبر لاتخذ الموقف المبدئي الأصيل.

والطريقة المثلى ألا نستعجل إصدار القرار؛ بل نطلب من المدعو أن يتمهل في اتخاذ المواقف، وأن نصارحه بالعقبات في طريق الاستجابة إلى جانب الإيجابيات المبشرة والآمال المتوقعة.

وإن إدخال الزمن كعنصر من عناصر الدعوة يخفف من حدة الدعاة، ويقف أمام اليأس الذي يعتري الدعاة أحيانًا، ويفتح لهم باب الأمل، ذلك عندما يفقهون دور الزمن، وإن الطبيب لا يقول للمريض خذ العلاج جرعة واحدة؛ بل يقول له: خذه على جرعات، وفي خلال مدة معينة من الزمن.

القاعدة الخامسة عشرة: الدعوة فن وقيادة، وهي تقوم على التخطيط والمتابعة:

يظن كثير من الدعاة أن الدعوة تقوم على قول الكلمة الخيرة في أي وقت وفي أي مكان، وأنها تسير بطريق عشوائي، يستوي فيه الدعاة على اختلاف إمكانياتهم، ومما لا شك فيه أن هناك دعاة آتاهم الله تعالى قدرة فائقة على التبليغ، وتراهم يألفون ويُؤلفون، وقد وضع الله لهم القبول في قلوب الخلق، وهناك دعاة لا يحالفهم التوفيق في المنطق والأسلوب، وكلا الفريقين بحاجة إلى مبادئ الدعوة وأساليبها والتدرب عليها، وبذلك تكون الدعوة فنًا يُتلقى، وقواعد وأساليب تُطَوَّر، ووسائل تتأثر بالتحديث والمعاصرة.

والتخطيط الواعي هو الذي ينقل الدعوة إلى الإطار الفني المنتج، والتخطيط هو التصور النظري لسير الدعوة، وكلما اكتمل التخطيط واستوعب عناصره أدى إلى النتيجة المتوقعة بعون الله وبعد الاتكال عليه.

وكما عُرفت أنواع الخطط الاقتصادية والسياسية والتربوية، فإن على الدعاة أن يتجهوا نحو التخطيط للدعوة.

والخطة الواعية رأسها الأهداف، وجسمها الوسائل، والربط بين الأهداف والوسائل عن طريق الأساليب، ومادتها الإمكانيات البشرية والمادية والمعنوية، وموجهها المتابعة والتقويم، وثمراتها ظهور الأهداف على شكل نتائج ملموسة.

والزمن عنصر فعّال في الخطة، يدل على مدى النجاح أو الفشل، فما يحتاج إلى يوم واحد لا ينبغي أن يُصرف فيه شهر، وما يحتاج شهرًا من الزمن لا ينبغي الإسراع في إنجازه في يوم أو أسبوع.

والمراجعة والتقييم بعد انتهاء مدة الخطة تساعد على معرفة الممكن من غير الممكن، والسهل من الصعب، والمراجعة تقدم هدفًا أو تؤخره، وتحكم على فعالية الوسائل أو عدم فعاليتها، وتكشف عن جدوى الأساليب أو عدم جدواها.

والمتابعة عين ساهرة، وأذن صاغية، ويد مؤيدة، والخطة القوية قد تفشل بلا متابعة، والخطة الضعيفة قد تنجح مع المتابعة المستمرة.

فإذا توافرت هذه العناصر فقد وُجدت الخطة العلمية الواعية، ثم يُوكَل أمر تنفيذها إلى العناصر البشرية المدربة المنظمة، ولإعداد المنفذين فإن علومًا كثيرة أصبحت اليوم على درجة من الأهمية للداعية، فالعلوم الإدارية، وعلوم الاتصال بالأفراد والجماعات، والعلوم اللغوية والبلاغية، والعلوم النفسية والتربوية، هذه وغيرها تُعدُّ الداعية المنفذ للخطة.

والداعية الناجح صاحب مبادرة وبديهة حاضرة، وقدرة على التصرف في أسوأ الظروف، وقبل أن يفاجأ بالمواقف الصعبة فإنه يفترضها، ويتصورها، ويلتمس لها الحلول، وهكذا فإنه يستعين بالموقف الوهمي الذي افترضه سابقًا لمواجهة الموقف المفاجئ.

القاعدة السادسة عشرة: الأجر الدنيوي يفسد المروءة ولا يصلح للدعوة:

الداعية يعمل بمقتضى تكليف الله تعالى، ووظيفة الدعوة ليست من جنس الوظائف الدنيوية، فهي أسمى وأشق، وما من وظيفة تحتمل كل صور الهلاك والإنهاك كوظيفة الدعوة؛ ففيها توقع هلاك النفس والمال، وفيها احتمال البعد عن الأهل والولد والأوطان، ووظيفة فيها مثل هذا الجهد لا تعادلها الدنيا كلها.

ولقد كان كل نبي من أنبياء الله الكرام يؤكد هذا المبدأ قائلًا: }لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا{ [الأنعام:90]، وقد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزام هذا النهج، وعندما أعرض أهل مكة عن الإيمان جاءت الآية تسألهم عن سبب إعراضهم، وتقول: }أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ{ [الطور:40]، علمًا بأن طلاب الدنيا لا يفعلون شيئًا إلا بأجر دنيوي، وإن قصة السحرة مع موسى عليه السلام تثبت هذا عندما قالوا لفرعون: }أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ{ [الشعراء:41]، فأكد لهم فرعون ذلك وقال: }قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ{ [الشعراء:42].

وبعد دخول الإيمان إلى قلوبهم لم يتركوا الأجر فقط؛ بل قالوا له: }فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا{ [طه:72].

والأجر الذي ينبغي أن يتنزه عنه الداعية لا يقتصر على المال، وإنما يشمل كل منفعة سببها الدعوة، وينبغي ألا ينتظر من الناس كلمة الشكر ولا إسداء المعروف، وكل الذي يريده من المعروف أن تصل الدعوة إلى قلوب الخلق.

وقد يجد الداعية قبولًا عند الناس، فيُعبرون عن محبتهم له بالهبات والصلات والخدمات والدعوات، وقبول الداعية لمثل هذه الأمور يحط من دعوته في أنظار الناس، فيهون عليهم، ويصبح الداعية مرذول الطريقة مذموم السيرة، والصادقون من الدعاة يعطون ولا يأخذون، وهم أصحاب الأيدي العالية والنفوس الكبيرة، ويدخل هذا تحت المروءة التي هي عنصر من عناصر الشخصية المسلمة، ومُكون من مُكونات الثقة، يقول الماوردي: «والمروءة هي حلية النفوس، وزينة الهمم»(25). 

ولا تكون المروءة إلا في العفة والنزاهة والصيانة، والعفة البعد عن المحارم والمآثم، والنزاهة البعد عن المطامع الذاتية، والمواقف المريبة، وأما الصيانة فتكون بصيانة النفس عن تحمل المنن والاسترسال في الاستعانة بالخلق(26).

يقول الماوردي: «والمحتاج إلى الناس كل مُهتضم، وذليل مُستثقل»(27).

ومما يجب أن يلتفت إليه أن الوظائف التي يُحبس عليها صاحبها؛ كالتعليم والإمامة والخطابة، إنما يأخذ الأجر لكونه مشغولًا بها عن الاحتراف والاكتساب، وهذا جائز شرعًا، ويدخل في ذلك أيضًا مسئولية الإمامة العامة وولاية القضاء، وكل ما كان من جنس هذه الأعمال وكان محبوسًا عليها.

القاعدة السابعة عشرة: التعرف على المدعو عامل أساسي في كسبه:

ليست الدعوة كما يظن بعض الدعاة أنها كلمة تقال من أجل إبلاغ العذر وإقامة الحجة، ويُتوصل إليها بأن يُقال كل شيء في كل مكان، وفي أي زمان ولأي إنسان، مهما كان ظرفه، ولا فرق في ذلك بين محزون ومسرور ومريض ومشغول وغيره، وكأن الغاية هي إلقاء العبء وزرع البذر كيفما اتفق، والتوفيق بيد الله تعالى، وبالرغم من كون هذا الأمر دعوة؛ إلا أنها دعوة على غير بصيرة، والداعية مطالب بالبصيرة مع الدعوة، لقول الله تعالى: }قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ{ [يوسف:108]، ويقول الإمام الرازي في تفسيره: «وهذا يدل على أن الدعاة إلى الله تعالى إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط، وهو أن يكون على بصيرة مما يقول، وعلى هدى ويقين»(28).

وهذه البصيرة تظهر على شكل أنواع من السلوك، وألوان من التصرف والتعامل، وطرائق من الاختيار، تتقرر بعد معرفة المدعوين، وإدراك أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والنفسية، ومما لا شك فيه أن التعامل مع المجهول شاق وصعب، في حين أن التعامل مع المعروف يوفر الكثير من الجهد.

وأول ما ينبغي معرفته أسماء المدعوين وكناهم وألقابهم، وأن يخاطبهم الداعية بأحب الأسماء إليهم، وأن يتجنب ما يسوؤهم من الألقاب والكنى، والداعية الناجح يعمل جهده على أن يذكر أسماء المدعوين، وإذا لم يرزق الذاكرة الحافظة فإن عليه أن يستحفظ الأسماء، وقد يجد المدعو في نفسه إذا تكرر نسيان الداعية لاسمه، في حين أن المدعو يفاجأ إذا خاطبه الداعية باسمه، ويشعر بالاهتمام والتقدير.

وإن معرفة ما يحبه المدعو وما يكرهه تجعل الداعية فقيهًا بلغة المدعو الخاصة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما إن يعلم حب أبي سفيان للفخر حتى يقول: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن»(29)، وإذا بزعيم مكة الذي خرج للدفاع عن قاعدة الشرك يرجع ليحولها قاعدة للإسلام.

وفي صلح الحديبية يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يُعرض الهدي في وجه الحُلَيْس بن علقمة، سيد الأحابيش، الذي أرسلته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ابن هشام: «ثم بعثوا إليه الحُلَيْس بن علقمة، وكان يومئذ سيد الأحابيش، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن هذا من قوم يتألهون [أي: يتعبدون]، فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه»(30)، فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله رجع إلى قريش، ولم يصل إلى  الرسول الله صلى الله عليه وسلم إعظامًا لما رأى، فقال لهم ذلك، فقالوا له: اجلس فإنما أنت أعرابي لا علم لك، فغضب عند ذلك وقال: يا معشر قريش، والله، ما على هذا حالفناكم، ولا على هذا عاقدناكم، أيُصدُّ عن بيت الله من جاء معظمًا له»(31).

وهاتان الحادثتان، وغيرهما كثير في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، شواهد على البصيرة التي جاء هذا الدين يؤكدها في كل جزئياته، ويستطيع الداعية إذا أوتي مثل هذه البصيرة أن يكسب قلوب الناس، وأن يستفيد من طاقاتهم وجهودهم.

ومن جوانب المعرفة الضرورية والمفيدة معرفة أوضاع المدعو الاقتصادية، فإن كان فقيرًا معوزًا كانت مساعدته من أهم القضايا التي تهم الداعية، وإن كان مريضًا كانت مواساته وإرشاده إلى الطبيب المسلم من وظائف الداعية.

وحضور الداعية في المناسبات، من الأفراح والأتراح والأعياد، يفتح له ميادين الدعوة، ويقدم له فرصًا طبيعية للاتصال بالناس وكسب وُدِّهم، وكم من سؤال عن الولد المريض جعل الوالد يفتح قلبه ويلقي بسمعه ويمد يده، وكم من همسة تهنئة بولد رُزقه، أو فوز حققه كانت سببًا في تحويل اتجاه وتغيير قرار، ولا يعدم الداعية البصير من وسائل كثيرة تساعده على كسب القلوب وتكثير الأنصار.

القاعدة الثامنة عشرة: المعاصرة ومعرفة البيئة العامة من أسباب نجاح الدعوة:

كلما تقدم الزمن، واتسعت الحياة وتعقدت، كان الداعية أحوج إلى مزيد من المعارف، ويصبح من الضروري أن يتعرف الداعية على البيئة العامة؛ الاجتماعية والاقتصادية والسكانية والسياسية، والداعية الأوسع اطلاعًا هو الأقوى أثرًا في الغالب، ولما كان الداعية يقوم بدور قيادي في المجتمع فإن أفراد هذا المجتمع يتوقعون أن يجدوا عند الداعية ثقافة واسعة، ومعارف متنوعة المستوى المحلي والعالمي.

ومعرفة البيئة العامة تساعد الداعية على الاستفادة من فرص البيئة، وتساعده كذلك على الاستفادة من البيئة المحلية والعالمية؛ فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر في الدول المعاصرة، فيجد الأمن والطمأنينة عند النجاشي في الحبشة، وإن كان ذلك بوحي من الله تعالى، فإن على الداعية أن يبذل جهده لمعرفة معطيات الزمان والمكان والسكان، ومما لا شك فيه أن كل بيئة لها مميزاتها ومتطلباتها، فالبيئة الصحراوية غير البيئة القروية، والبيئة القروية غير البيئة الحضرية، والبيئة التجارية غير الصناعية والزراعية.

والداعية اليوم يعيش في عالم إسلامي مترامي الأطراف، ولا يخلو قطر من أقطاره من مشكلة مزمنة، وفي الوقت نفسه فإنه لا يخلو قطر من أسباب القوة والمنعة للإسلام والمسلمين، ثم إن العمل الإسلامي في هذه الأرجاء المتباعدة أخذ يتجه إلى الوحدة والتعاون، ومن أجل ذلك فلا بد من المعرفة الواسعة بهذا العالم.

والداعية يعيش في عالم تتصارع فيه الأفكار والتيارات والفلسفات، والأفكار فيه سريعة التقلب والتغير، والعالم الإسلامي يتلقى عن الغرب والشرق بلا احتراس، وفي نهاية المطاف يجد الداعية نفسه أمام هذه الأفكار، وما كان يمكن تجاهله في عصر صعوبة الحركة والانتقال أصبح لا يمكن تجاهله في عصر المحطات الفضائية والأقمار الصناعية.

والداعية يعيش في عصر المخترعات العلمية المتطورة، ومنها ما يفيده في دعوته، ومنها ما يعوق دعوته، والداعية الناجح يكتسب من مخترعات عصره ما ينفعه، ويتقي ما يضره.

والداعية يعيش وسط كتلة بشرية ذات مذاهب شتى، منها البعيد ومنها القريب، ومنها المعادي ومنها المسالم؛ لذا كان لا بد من معرفة هذه الفرق معرفة علمية موضوعية، توقف الداعية على حجم كل مذهب وتأثيره، وتوقفه على تاريخ نشوئه وأهدافه ووسائله.

الأمر الذي يوصل الداعية إلى بر الأمان والسلامة والنجاح له ولدعوته(32).

______________

(1) أخرجه أبو داود (3661).

(2) تاريخ المدينة (2/ 751).

(3) مائة من عظماء أمة الإسلام، ص193-194.

(4) انظر البخاري (4372).

(5) موسوعة الأخلاق (2/ 71).

(6) في الدعوة والإصلاح، ص127.

(7) أخرجه مسلم (1734).

(8) قواعد الدعوة إلى الله، محمد راتب النابلسي.

(9) أخرجه مسلم (1401).

(10) التاج والإكليل (8/ 186).

(11) أخرجه البخاري (3701)، ومسلم (2406).

(12) تفسير ابن كثير (5/ 413).

(13) صحيح الترغيب والترهيب (1/ 104).

(14) معالم السنن (4/ 187).

(15) تفسير القرطبي (3/ 429).

(16) فتح الباري (1/ 162).

(17) الموافقات (1/ 59).

(18) الفوائد، لابن القيم، ص208.

(19) مجمع الزوائد (1/ 164).

(20) تفسير الرازي (24/ 172).

(21) فتح الباري (8/ 503).

(22) أخرجه الترمذي (3681).

(23) سيرة ابن هشام (1/ 435-437).

(24) أخرجه البخاري (70).

(25) أدب الدنيا والدين، ص306.

(26) أدب الدنيا والدين، بتصرف، ص316.

(27) المصدر السابق، ص316.

(28) تفسير الرازي (18/ 225).

(29) سيرة ابن هشام (4/ 16).

(30) أخرجه أحمد (18910).

(31) راجع سيرة ابن هشام (3/ 225).

(32) قواعد الدعوة إلى الله، للدكتور همام سعيد، بتصرف كثير.