الحج من التوحيد حتى إحياء الهوية
من أظهر شعائر وحدة الأمة شعيرة الحج، حيث الالتقاء على التوحيد، فتجتمع الأمة الآن، وتتذاكر الأجيال الأولى عبر الأنبياء، وتتذكر وظيفتها بالتوحيد بين البشرية.
وإذا أردنا وصف هذا الدين بكلمة واحدة لقلنا: إنه دين التوحيد؛ فقاعدته الأساسية: هي إفراد العبودية والتلقي والتوجه لله سبحانه وتعالى، ومحاربة الشرك بشتى ألوانه وأصنافه؛ حتى يخلص الدين لله، وتتطهر الأرض من أنواع الطواغيت، وكل الأعمال إذا خالطها الشرك تتحول هباءً منثورًا.
وفي هذه الأيام حيث تغرق البشرية بأنواع الشرك والخضوع لغير الله، والجهل بدين الله في كل ناحية من نواحي حياتهم؛ يبرز الإسلام كهادٍ وحادٍ للإنقاذ من وهدة الضلال وطريق الانحدار.
ومن المعالم المهمة التي تستحق أن نقف عندها كثيرًا؛ الواقع العقدي الذي يعيشه كثير من أبناء المسلمين، حيث انتشر الجهل واندرست كثير من معالم التوحيد الخالص، حينما كدرته شوائب الضلالة والهوى؛ فأضحت العقيدة عند بعضهم مجرد فلسفات كلامية، أو تصورات جدلية، أو تأويلات باطنية، فانفرط عقد الأمَّة الإسلامية، وتفرقت بها السبل، وتجارت بها الأهواء، حتى أصبحت السنَّة مهجورة، ورفعت البدعة أعلامها، وذرَّ قرن الفتنة في كثير من المحافل والمجتمعات الإسلامية، وتصدَّر الرويبضة من المبتدعة وأهل الأهواء زمام الريادة والتأثير، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
وزاد من بلاء الأمة افتتان كثير من أبنائها بالتفوق الحضاري للغرب الذي أجلب بخيله ورجله علينا، فاستباح الحرمات وزيَّن الأباطيل، ولم يكتف الغرب بانتهاك حقوق الشعوب الإسلامية، وانتهاب خيراتها، كما لم يكتف بإفساد الأخلاق وتدمير المجتمعات في أوحال الرذيلة، بل تجاوز ذلك إلى اختراق العقول، ونشر العقائد الإلحادية والمبادئ المادية التي تُعرِض عن هدايات الوحي الإلهي.
وعندما بدأت الحرب الغربية الأخيرة على ما يسمونه بـ (الإرهاب الإسلامي) كشفت الأيام بجلاء عن حجم التردي العقدي الذي ينخر في جسم الأمَّة، ويحوطها بالضعف والتقهقر والانهزام؛ فرأينا كثيرًا من آيات هشاشة الإيمان وضعف اليقين بنصر الله تعالى وتأييده، ورأينا ضعف التوكل والاستعانة به سبحانه، كما رأينا تصدع أركان الولاء للمؤمنين، وسقوط كثير من المسلمين في أحضان الكافرين.
ونجزم جزمًا أكيدًا بأن مدار صلاح الأمة وعزتها ونهضتها على صفاء العقيدة وسلامتها؛ فإذا رسخ الإيمان في النفوس، وحفظ الله تعالى الأمَّة من البدع والضلالات قديمها وحديثها؛ استقام أمرها وقويت شوكتها، وسلكت الطريق الصحيح للبناء والتمكين، وإن هي فسدت ونخرتها الأهواء، واستحكمت فيها الانحرافات، تردت وسقطت في مستنقع الهزيمة والتبعية.
إن العقيدة التي نعني؛ ليست مجرد أسس وقواعد نظرية، لا؛ بل إنها معرفة الله جل وعز حق معرفته، بتفرده بالربوبية والقهر والعظمة والتدبير، واتصافه بجليل الصفات وجميلها وأحسن الأسماء وأكملها.. معرفة تملأ على العبد فؤاده وعقله، فتدفعه بلا تردد أو تأخر إلى القيام بحق المولى الكبير سبحانه محبة وخوفًا ورجاء، يبرهن عليها بإفراد خالقه بالطاعة والانقياد كما شرع له على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، في كل مجالات الحياة، مع تمام القبول والرضى، ثم الانهماك في أداء العبادات والأنساك على وجهها.
تلك هي حقيقة الإسلام التي تقتضي الاستسلام لله جل وعلا، وذلك هو معنى الإيمان الذي هو: ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهذا هو طريق العبودية الحقة لرب العالمين التي هي بداية الانطلاق ورمز الحرية، ودرب السعادة حين يحقق العباد ما خلقوا لأجله.
ما أروع شأن الحجيج حين يعبرون عن عبوديتهم واستسلامهم بالتزامهم ما أنزله الله تعالى، وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم: زمانًا ومكانًا ونوعًا وصفة وعددًا وكيفية، وما أجلَّ تعبيرهم عن الإيمان بتكبد المشاق وأداء النسك على وجهه، وما أصدق متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم حيث أخذوا عنه مناسكهم، وما أجمل شعارهم حين يُلبُّون لله بالتوحيد.
إنَّ الحج من أعظم المواقف التي يتجلى فيها شأن التوحيد من بداية الدخول في النسك، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه في سياق وصف حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنَّ الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» (1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بها صوته لتكون شعارًا لكل أصحابه رضي الله عنهم؛ فقد ثبت عنه أنه قال: «أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية» (2).
ولا نجافي الحقيقة إذا قلنا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى أيام مناسك الحج في تقرير التوحيد، وبناء العقيدة، وما تبع ذلك من الدعوة إلى الاعتصام بالكتاب العزيز، وتعظيم شعائر الله عز وجل، والحث على حسن التأسي والاهتداء بهديه عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
إن تجديد العقيدة في نفوس المسلمين من أولى الأولويات الدعوية التي دلت عليها النصوص الشرعية، ولهذا لمَّا بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن، أمره أن يبدأ ببيان التوحيد، فقال: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب؛ فإذا جئتهم فادعُهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة؛ فإن هم أطاعوا لك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم؛ فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» (3)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بداية الانطلاق في بيان التوحيد وتقريره.
وصلاح التوحيد سبب بعون الله تعالى لكل صلاح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض سببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة إلى غير الله (4) (5).
وإن منسك الحج من أعظم شعائر الإسلام تمثيلًا للتوحيد، ففيه تعود بنا الذكريات إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي حطَّم الأصنام ليكون الدين كله لله، وترَك بلاد الأصنام مهاجرًا إلى ربه، وهو الذي سمانا المسلمين من قبل، وهو الذي بنى مع ولده إسماعيل عليه السلام أول بيت للناس يعبد فيه الله وحده، وفي الطواف والسعي والوقوف والرمي يتجلى التوحيد ناصعًا، والدعاء كله لله.
«لبيك لا شريك لك» بينما كان دعاء العرب في الجاهلية: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، ولذلك وصف الصحابي حَجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما أحرم من ذي الحليفة، قال: «فأهلَّ بالتوحيد»، وهو يعنى التلبية.
قال النووي: قوله: «فأهل بالتوحيد، لبيك اللهم لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به»، فلم يرُد رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا منه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: فيه إشارة إلى ما روي من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر، كما روي في ذلك عن عمر رضي الله عنه أنه كان يزيد؛ لبيك ذا النعماء والفضل الحسن، لبيك مرهوبًا منك ومرغوبًا إليك، وعن بن عمر رضي الله عنه: لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل.
وعن أنس رضي الله عنه: لبيك حقًا تعبدًا ورقًا.
قال القاضي: قال أكثر العلماء المستحب الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبه قال مالك والشافعي والله أعلم (6).
إن أغلى ما يملكه المسلم عقيدته الصافية التي يجب التمسك بها؛ ولو انحرف عنها أهل الأرض، ولو أن هناك محاولات (لعصرنة) الإسلام والتنازل عن شيء منه مقابل اعتراف الغرب بنا أو رضاه عنا.
ويتساءل المسلم باحثًا عن جواب لهذا الوضع الأليم: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقولون: لبيك اللهم لبيك، ونحن نقولها كما يقولون؟ لكن الإيمان ليس قولًا فقط، بل هو قول وعمل؛ فتلبية الأمة في وقتنا الحاضر وإن شابهت في اللفظ تلبية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لكنها باينتها في الحقيقة والمعنى؛ إذ تلبية الأمة المعاصرة ما هي إلا مجموعة من الحروف المتراصة جنبًا إلى جنب التي تصدر في النهاية صوتًا كصوت التلبية، لكنها تلبية جامدة لا حياة فيها، ولا أثر لها في الواقع، تلبية صوت لا تلبية عمل، تلبية شكل ومظهر لا تلبية حقيقة ومخبر؛ فماذا تعني التلبية في حقيقتها ومخبرها؟ إنها تعني التوحيد الذي حرك القلوب فأخرج أصحابها من الظلمات إلى النور، وحوّلهم من مجموعات متناثرة من القبائل المتفرقة إلى أمة عظيمة، هي كما قال عنها ربها وخالقها وخالق الناس أجمعين: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسيرها: «أنتم توفون سبعين أمة أنتم آخرها وأكرمها على الله عز وجل» (7).
قال جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم: «فأهلَّ بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» (8)؛ فالتلبية هي إعلان بالتوحيد وإظهار له «فإن لبيك مأخوذة من ألَبّ بالمكان إلبابًا: أي أقام به ولزمه، ولَبَّ لغة فيه، قال الفراء: ومنه قولهم: «لَبَّيْك»: أي أنا مقيم على طاعتك، وثنَّى: (لبيك اللهم لبيك) على معنى التأكيد: أي إلبابًا بك بعد إلباب، وإقامة بعد إقامة.
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: التلبية هي: إجابة دعوة الله تعالى لخلقه حين دعاهم إلى حج بيته على لسان خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والملبي هو المستسلم المنقاد لغيره، كما ينقاد الذي لبب وأخذ بلُبته، والمعنى: إنّا مجيبوك لدعوتك، مستسلمون لحكمتك، مطيعون لأمرك مرة بعد مرة لا نزال على ذلك (9).
فـ (لبيك) تعني أننا طائعون لك يا ربنا، وأننا مقيمون على هذه الطاعة التي هي طاعة خالصة لك إقامة متواصلة ليس لأحد فيها شيء؛ فنحن نعبدك وحدك ولا نعبد أحدًا سواك، سواء كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلًا أو عبدًا صالحًا، أو غير ذلك، ولا نطيع في معصيتك أحدًا، سواء كان والدًا أو رئيسًا أو أميرًا، ونحن نتبع شرعك الذي جاء في كتابك، أو بلَّغه لنا رسولك في سنته: نحل ما أحل ونحرم ما حرم، نعتقد صواب ما جاء به وبطلان ما خالفه؛ فنحن نتابع يا ربنا رسولك في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والسلوكيات، وفي السياسة والاقتصاد وفي القضاء، وفي كل شؤوننا وأمورنا، لا نبتغي به بدلًا، نوالي من والى ونعادي من عادى، ونحن مقيمون على ذلك لا نغادره طرفة عين؛ لأنه ديننا الذي تصلح به أمور الدنيا، ويفوز العبد به بالرضوان في الآخرة؛ فأين نجد حقيقة هذه التلبية أو أثرها في حياة أو دنيا أمة التوحيد في عصرنا الحاضر؟ (10).
الحج والبراءة من الشرك وأهله:
من الأمور المحكمة التي دلت عليها النصوص الشرعية الثابتة من الكتاب والسنة، وجوب البراءة من الشرك وأهله، قال الله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
قال ابن كثير رحمه الله: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ}؛ أي بدينكم وطريقتكم، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا}؛ يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا ما دمتم على كفركم، فنحن أبدًا نتبرأ منكم ونبغضكم {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَه}؛ أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد (11).
وقد كرَّست شعائر الحج المتعددة هذا المعنى، فخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في الموقف بعرفة والدفع منها، وكذلك الخروج من المزدلفة، وعلَّل ذلك بقوله: «هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك» (12)، فعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فإن أهل الشرك والأوثان وكانوا يدفعون من المشعر الحرام عند طلوع الشمس على رؤوس الجبال مثل عمائم الرجال على رؤوسها، هدينا مخالف لهديهم» (13).
هذا درس عظيم في بغض المشركين والبراءة منهم ومن أفعالهم وعباداتهم وسلوكهم وأخلاقهم، وما فقه هذا الدرس مَنْ يتشبه بالمشركين في العبادات أو الأخلاق والسلوك أو المظهر أو الزي واللباس؛ لأن من البراءة ترك التشبه بهم، والقصد إلى مخالفتهم.
الحج دعوة لتعظيم الشرع:
المسلم معظِّم للشرع مقدِّم له على كل شيء؛ على الآراء والأقوال، على العقول والأفهام، على الرجال، على النفس والمال، يرى الشريعة معصومة؛ يقبل منها كل ما جاءت به وثبتت نسبته إليها؛ حتى لو لم يستوعب ذلك عقلُه، أو لم تتبين له في ذلك الحكمة، ويظهر ذلك المعنى جليًا في الحج، يظهر في كل شعيرة من شعائره، فالحاجُّ يتقلب في مناسك متنوعة، ويتنقل بين مشاعر متعددة، لا يعقل لكثير منها معنى، سوى الامتثال لأمر الله، والتأسي برسول الله؛ فهو يقبِّل حجراً تارةً، ويرمي حجرًا تارةً أخرى؛ وهو يتجاوز مشعرًا، ليصل إلى آخر، ثم يعود إلى الأول؛ وهو يطوف سبعًا، ويسعى سبعًا، ويرمي بسبع، دون أن يدرك معنى خاصًا للعدد.
كما أنه، صلى الله عليه وسلم، ظل ينبه على هذا المعنى، من المتابعة والانقياد، فيقول: «لتأخذوا مناسككم؛ فإني لا أدري لعلِّي لا أحج بعد حجتي هذه» (14).
وقد فقه الصحابة هذا المعنى، فعمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن: أما والله، إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك، فاستلمه ثم قال: فما لنا وللرمل إنما كنا راءينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه (15).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وفي قول عمر هذا، التسليم للشارع في أمور الدين، وحُسن الاتباع فيما لم يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يفعله، ولو لم يعلم الحكمة فيه (16).
لهذه الأمة وظيفة أخرجها الله تعالى من أجلها، ودورًا منوط بها؛ وهو استمرار دعوة الأنبياء، وامتداد أثرهم، واستنقاذ البشرية من الشرك الذي تميل دائمًا للهلكة فيه ويوقعها فيه الشيطان.
الحج وإحياء الهوية الإسلامية:
إن رسول الله إبراهيم عليه السلام هو الذي حدّد لنا هويتنا، إنها الملة الحنيفية، وليس لنا هوية غيرها، وبمجرد التنازل عن شيء منها يبدأ العد التنازلي لحضارتنا وقوّتنا.
إن الشريعة تكفل لنا العيش في هذا العصر إذا كنا على مستوى الاجتهاد والفقه في الإسلام، ولكن أن نتنازل عن هويتنا بسبب جهلنا بما تبيحه الشريعة وبما تمنعه فهذه هي الطامة.
أمة المسلمين واحدة منذ خلق الله تعالى آدم عليه السلام إلى أن يرث الله عز وجل الأرض ومن عليها، جمع بينهم توحيد الله وعبادته، فلم يعد شيء يقدر على التفريق بينهم؛ لا جنس ولا شكل ولا لون ولا لغة ولا بلد، وها هم المسلمون على تنوعاتهم الكثيرة في هذا الموسم العظيم يجمعهم موقف واحد لعبادة الله العلي الكبير.
وفي هذا الموقف الكبير أكّد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الجليل، فعن جابر رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع، فقال: «يأيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود؛ إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلَّغت؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «ليبلغ الشاهد الغائب» (17).
ومع هذا فلا تزال فكرة التوحيد ضعيفة لم تأخذ مجرى التطبيق العملي بعد، ولم يتم الإسراع بها، وسبب ذلك هو ضعف البصيرة عن العواقب، والنظر إلى العاجل من مغانم سطحية مؤقتة لا تسمن ولا تغني من جوع.
إن أهل السنة مدعوون الآن أكثر من أي وقت مضى لإظهار خاصية من خصائص الإسلام، وهي جمع الناس على دينٍ واحد، وإذا كان الغرب الأوربي والغرب الأمريكي قد انفرد بالساحة وحده ولم يعد له منافس من الشرق الشيوعي، فإنه يعلم ويصرّح علنًا أن المنافس الآن هو الإسلام، وإذا لم نتمكن من التوحد تحت راية التوحيد فسنبقى رقمًا كما أطلق علينا العالم الثالث (18).
------------
(1) أخرجه مسلم (1218).
(2) أخرجه أحمد (8314).
(3) أخرجه البخاري (4347)، ومسلم (29).
(4) التفسير الكبير (4/309).
(5) منطلق الحجيج/ مجلة البيان (العدد: 184).
(6) شرح النووي على مسلم (8/ 174).
(7) أخرجه أحمد (19164)، والترمذي (2927).
(8) أخرجه مسلم (2137).
(9) مجموع الفتاوى (26/ 115).
(10) لبيك اللهم لبيك/ مجلة البيان (العدد: 208).
(11) تفسير ابن كثير (4/ 349).
(12) مسند الشافعي، (1 / 369).
(13) أخرجه البيهقي (5/ 125).
(14) أخرجه مسلم (1297).
(15) أخرجه البخاري (1605).
(16) فتح الباري (3/ 463).
(17) أخرجه أحمد (23489).
(18) لبيك لا شريك لك/ مجلة البيان (العدد: 30).