الداعية والثقافة
إن الداعية إلى الله أمامه واجبات عظام، ومسئوليات جسام، كيف لا وهو يقود الناس إلى هذا الدين، ويردهم إليه كلما بعدوا عنه أو انحرفوا إلى غيره، أو لم يدخلوا فيه أصلًا، ولم يعرفوه، إن الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون همَّ المسلم وديدنه، وشغله الشاغل في الليل والنهار، في السر والعلانية، بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، عن طريق ما يقدمه الداعية من محاضرة، أو درس، أو خطبة، أو نصيحة بينه وبين المدعو، مع مراعاة آداب النصيحة.
والداعية من أحوج الناس إلى رفع مستواه الثقافي والعلمي، وتنمية مواهبه المهارية، وزيادة معارفه ومعلوماته الخاصة والعامة، وذلك بتعاهد القرآن الكريم وعلومه، والسنة المطهرة وما يتعلق بها، والاطلاع على أمهات الكتب والمراجع، وخاصة ما يتعلق بأمور العقيدة، ومصنفات الفقه والتاريخ والسير المعتمدة، والمصنفات المأمونة، والرجوع إليها عند الحاجة، وخاصة عند ورود سؤال إلى الداعية لا يجد له جوابًا، أو عند إرادة إعداد بحث لبعض الأمور الخلافية والتحقيق فيها، والتأكد من القول الصحيح المسند بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، فإن السائل أو القارئ غالبًا لا يقتنع إلا إذا سمع الدليل، وأي قول أو تحقيق يخلو من الدليل فهو مردود على قائله، فلا بد للداعية من أن يجتهد، ويبحث، ويقرأ، ويحقق المسائل الخلافية، ويرجح الصواب في ذلك.
كما على الداعية أن يبدأ يتفهم الأولويات؛ مثل قضية الإيمان والعقيدة، فلا بد أن تكون عقيدته صافية نقية، حتى إذا أراد أن ينقلها للناس ينقلها بهذا الصفاء، وهذه الشفافية المرهفة؛ كما عَلِمها وتعلمها من العلماء الأفاضل.
أما إذا كان في إيمان الداعية ضعف، وفي عقيدته غبش، وأخذ يدعو من غير علم وبصيرة وروية؛ فإنه يضر أكثر مما ينفع، ويخرب أكثر مما يصلح، ويهدم أكثر مما يبني، يتخبط في دعوته؛ يصوب الخطأ، ويخطئ الصواب، وينهى عن السنة، ويحث على البدعة جهلًا منه، ويتوخى الحكمة ولا ينظر في العواقب، ولا يفقه الترجيح بين المفاسد والمصالح؛ وبالتالي، يتحول إلى معول هدم، ينخر في جسم الأمة كالسوس في الخشب، أو كالسرطان في الجسم، فمثل هذا الذي يدّعي الإصلاح ويدّعي العمل لصالح الدعوة، وهو في الواقع مفسد ومخرب(1).
والدعوة إلى الله عز وجل من أهم المهمات، ومن أعظم الفرائض، والناس في أشد الحاجة إليها، سواء كان مجتمعًا مسلمًا أو مجتمعًا كافرًا.
فالمجتمع المسلم بحاجة إلى التنبيه على ما قد يقع فيه من أخطاء ومنكرات؛ حتى يتدارك ما وقع من ذلك، وحتى يستقيم على طاعة الله ورسوله، وحتى ينتهي عمَّا نهى الله عنه ورسوله.
والكافر يُدعى إلى الله، ويُبَيَّن له أن الله خلقه لعبادته، وأن الواجب عليه الدخول في الإسلام، والأخذ بما جاء به نبي الهدى عليه أفضل الصلاة والسلام.
ولكن الداعي إلى الله يلزمه مراعاة أمور مهمة في الدعوة؛ حتى تكون دعوته ناجحة، وتكون عاقبتها حميدة، أعظمها وأهمها العلم، فلا بد أن يكون لديه العلم، والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله العظيم، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، قال أهل العلم: معناه: على علم؛ لأن العلم بالنسبة إلى المعلومات كالبصر بالنسبة للمرئيات، فيجب على العالِم أن يعلم كيف يأمر، وكيف ينهى، وكيف يدعو إلى الله؛ كالبصير الذي يرى أمامه ما يضره من حفر وأشواك ونحو ذلك فيتجنبه(2).
من الأمور الهامة للداعية أن يكون واسع الاطلاع، كثير القراءة، يبحث عن كل جديد، ومن ذلك الكتب الجديدة، والنشرات الخاصة بالدعوة؛ فإن الاطلاع على الكتب، وخاصة كتب العلماء الذين لهم باع طويل وتجربة مديدة في الدعوة، جديرة بالقراءة والاستفادة منها، فسيجد فيها القارئ بغيته وضالته، وسيجد بعض الحلول لمشاكله وتساؤلاته، كما أنه سيجد فيها الأسلوب الأمثل والطريقة الصحيحة للدعوة، وخاصة إذا كانت هذه الكتب قد صدرت من عالِم موثوق بعلمه وعقيدته.
فعمل الدعوة متجدد مع تجدد الزمن، وتغير الوسائل، وتعدد الطرق، باختلاف المكان والزمان وتغيرهما، فلكل زمان طرقه ووسائله وأساليبه، ولكل مكان الطرق والوسائل والأساليب الخاصة به، فما يحصل في زمان لا يحصل في زمان آخر، وما يصلح في بلد قد لا يصلح في البلد الآخر؛ إذ إن الوسائل متجددة بتجدد الاختراعات والصناعات، فلا بد للدعاة أن يواكبوا ذلك التجديد، ويستخدموا الوسائل الحديثة، ويسخروها في مصلحة الدعوة.
والداعية عليه أن يدخل الميادين التي فيها خدمة للدعوة، ويتعرف على ما جد من طرق وأساليب جديدة في مجال الدعوة.
كما أنه ينبغي للداعية أن يكون على اطلاع ومتابعة لما يعمله أعداء الإسلام ضد هذا الدين، وما يحيكونه من مؤامرات في مؤتمراتهم وخلواتهم؛ حتى لا يخدع، وحتى يقابل هذه المخططات وهذا الهجوم الشرس على الإسلام بصده والوقوف ضده؛ بل إننا نأمل أن تدخل الدعوة الإسلامية جميع بلدانهم؛ بل بيوتهم وقُراهم، حتى يدخل الناس في دين الله أفواجًا، وتشرق الأرض بنور ربها بمشيئة الله وقدرته، وما ذلك على الله بعزيز(3).
فالحاصل أن الداعي إلى الله يجب أن يكون لديه من العلم والبصيرة والثقافة الإسلامية، المستنبطة من كتاب الله وسنة رسوله عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، ما يمكنه من توجيه الناس إلى الخير، وتحذيرهم من الشر.
وينبغي أن يستعين بكتب أهل العلم المعروفين بالاستقامة والفضل وحسن العقيدة، حتى يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، وينهى عنه.
والعلم الشرعي يمثل العمود الفقري للداعية في دعوته؛ لأن به يميز الأمور، ويحافظ على الأصيل، ويستطيع أن يتعامل مع الجديد وفق الضوابط الشرعية والأصول المرعية؛ ولذلك تجد كثيرًا من المعاصرين يغرقون في الجوانب الثقافية المذكورة، وأصبحت قراءة كتب الشرق والغرب من أولى أولوياتهم، وأكبر اهتماماتهم، حتى إن بعض من يكتب في مثل هذا تجد استشهاده بنظريات الغرب، وذكر أسماء منظريهم أكثر من ذكر النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، وأقوال أئمة العلم والدين في القديم والحديث؛ ولذلك فإن الخطاب الدعوي في كثير من الجهات مترهل ومهزوز، فالقريحة ترابية، والفكرة سحابية! والشعارات تأخذ مساحات كبيرة، في ذهن غالب الدعاة، أكثر من المبادئ والقواعد والأصول، وبسبب هذا تجد الترحل والتقلب سمة بارزة على هذا اللون من المثقفين، ولذلك لا بد من معرفة أن ثقافة الداعية تكمن في العلم الشرعي المؤصل، ولا يعني هذا بالضرورة إغفال النظر في باقي الفنون والعلوم، لكن لا يسمح تمريرها إلا عن طريق غربلتها عبر الأدلة الشرعية، والقواعد والأصول المرعية، فالعلم خير زاد وخير سلاح؛ لأنه سبب للتقوى، وسبب لكل خير وفضيلة وتقدم.
إن من أسباب تأخر أمة من الأمم هجرها للقراءة، فهي مصدر الوعي في المجتمعات، وهي نماء العقول، وإبصار للأعمى، ومجالسة للعلماء والفضلاء، وبها تعرف أخبار السالفين، ومنها تعلم أحوال المعاصرين.
إن من أفضل ما يعمر به المرء ساعات ليله ونهاره عبادة ربه جل وعلا، فهي العمر الحقيقي للإنسان الذي سيجني ثماره بعد الممات، وإن من أفضل العبادات وأجل القربات طلب العلم وتحصيله، بنية خالصة، عن طريق الكتب، قراءة على العلماء أو بانفراد(4).
مع الحذر من قراءة أي كتاب مجهول مؤلفه، أو معروف بالفسق والزندقة والانحراف، فالكتب تختلف باختلاف محتواها ومؤلفيها، فهي إما داء أو دواء.
إن الداعية اللبيب هو الذي يحرص كل الحرص على زيادة ثقافته، وتنمية معلوماته العامة، وذلك بالقراءة المستمرة للكتب، وخاصة كتب الدعوة، وما يلحق بذلك من بحوث ورسائل ونشرات تخص الدعوة، ويفضل أن يخصص الداعية وقتًا كافيًا للبحث والتنقيب، في أمهات الكتب، عن بعض المسائل الخلافية، التي كثيرًا ما يتساءل الناس عنها ويختلفون فيها، فيلخص الداعية ما توصل إليه من نتائج وإيجابيات نافعة مقرونة بالدليل، وأن يطَّلِع على ما يجد من بحوث ورسائل وتجارب ناجحة للدعوة الإسلامية، وليس هناك صعوبة في أمر الاطلاع والقراءة، فالكتب والكتيبات والرسائل، والمراجع من أمهات الكتب، قل أن تخلو منها مكتبة عامة؛ بل قد توجد جميعها، أو بعضها، في المكتبات الخاصة في البيوت، والمكاتب المهتمة بالكتب(5).
أدوات الداعية الثقافية:
لا يمكن للداعية أن يحقق ما يصبو إليه في دعوته إلا إذا توافرت فيه جملة من المقومات والصفات، الفطرية والمكتسبة، وامتلك زمام السيطرة على أطره المرجعية المقدسة، وفَقِه كلَّ معطيات عصره، جملة وتفصيلًا، وتحلى بأخلاق الإسلام خلال ممارساته الدعوية والحياتية كلها، وبذلك يضمن النجاح لدعوته، وهاته الأدوات الرئيسة هي:
1- فقه الأطر المرجعية، بجميع بواباتها ومداخلها المنهجية، وهي:
- القرآن الكريم، عبر تفاسيره (المأثور، الفقهي، الحركي، العلمي)، وعلومه وأحكامه، كبوابات لعبور مغاليق النص الكريم المقدس، واستسبار أحكامه المقدَّسة.
- السنة النبوية المطهرة: القولية والعملية والتقريرية، عبر صحاحها، وسننها، ومسانيدها، وشروحها، كمفاتيح تدبُّر وفهم صحيح لممارسات رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوية.
- فهم وعمل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون رضوان الله تعالى عليهم.
- فهومات واجتهادات التابعين وتابعيهم من أعلام المسلمين إلى الذين يلونهم، الأمثل فالأمثل.
- حركية التاريخ الإسلامي وتعاقباته السننية.
- التراكمات المعرفية والعلمية والخبراتية، المادية والمعنوية، الأفقية والعمودية التي توصل إليها العالم.
2- فقه الواقع:
ونعني بفقه الواقع محصلة الرؤية الشمولية الواعية والحقيقية، لكل المعطيات الواقعية الجغرافية، والديمغرافية الرقمية، والفكرية، والفلسفية، والتاريخية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، والاتصالية، والإعلامية، التي تشكل علاقات المجتمع البشري، المحلي والإقليمي والعالمي، ويدخل في فقه الواقع علم فقه المواقع لجميع مراكز الاستقطاب والتأثير، ومختلف قوى المجتمع؛ الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والاقتصادية.
وهذا العلم الواقعي يفرض على الداعية أن يحسن التعامل مع فقه التموقع الدقيق، بحيث يتقن فن التموقع، وتوجيه الخطاب المناسب، من الزاوية المناسبة، وبالمنهجية المؤثرة، تجاه فئة من المدعوين دون سواهم، عملًا بالمبدأ القرآني: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، وفي الزمن المناسب(6).
3- الحس الحضاري العالي المستوى:
ونعني بالحس الحضاري العالي المستوى، لدى الداعية الإسلامي، امتلاكه قدرات السيطرة والتحكم في أهم الوسائل، والتقنيات، والمناهج، والأساليب المتطورة، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101](7).
4- الثقافة الشمولية الواسعة:
فإن الفهم الشمولي الصحيح للإسلام أمر ضروري ورئيسي في صحة المنهج وسلامته واستقامته؛ لأن الإسلام دين الله تعالى وشريعته، ولأنه الدين الباقي إلى يوم القيامة، ولأن الله تعالى وعد الأمة الإسلامية إذا استقامت على منهج الله وشريعته وحكمه، أن يُمكنها في الأرض، ويرفع شأنها، ويؤتيها خيريتها{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأرْضَ يَرِثُهَا عِبادِيَ الصَّالِحُون} [الأنبياء:105].
5- إدراكه الشامل لحجم التحديات الإعلامية والثقافية والحضارية، التي تواجه الوجود الإسلامي:
وعلى رأس هذه التحديات حجم سيولات التدفق الإعلامي الغربي المُعادي، الموجه لأمتنا العربية والإسلامية، والمتمثلة في الكم الهائل من الحصص، والبرامج، والخطط، والمضامين، والرسائل الإعلامية، التي تهاجم بقوةٍ الفردَ المسلم، عبر ترسانة هائلة من الأجهزة، والهيئات، والمنظمات، والوسائل المسموعة والمكتوبة والمرئية(8).
فالواجب على دعاة الإسلام إحياء معالم الإسلام ومعانيها الصحيحة الشاملة في القلوب؛ بدءًا من الجانب العقدي، والتعبدي، والتشريعي، والأخلاقي، وغيرها؛ حتى تنبني دعوة الإسلام من جديد في نفوس شباب المسلمين، وحتى تُتِم الدعوةُ مسيرتها إلى حيث يشاء الله تعالى لها.
________________
(1) دليل الداعية، للشيخ ناجي بن دايل السلطان، ص165.
(2)فتاوى ابن باز (4/236).
(3) دليل الداعية، ص160.
(4) البصيرة في الدعوة إلى الله، د. عزيز بن فرحان العنزي، ص38.
(5) دليل الداعية، ص169.
(6) الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر، للشيخ محمد الغزالي، ص142.
(7) الدعوة قواعد وأصول، للأستاذ جمعة أمين، ص88.
(8) محاولة لرسم سمات ومعالم ثقافة الإمام الداعية، د. أحمد عيساوي، مجلة الوعي الإسلامي، العدد: 532.