توظيف الشعر في الدعوة إلى الله
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل: علي رقيب
ولا تـحـســـبن الله يغـــفـل سـاعة ولا أن مــــــا تخفيــــه عنــــــه يغـــيـــب
ألم تر أنّ اليوم أســـــرع ذاهــب وأنّ غـــــــدًا للنّــاظريــــن قـــــــــــــريب(1)
كلمات قليلات أوصلت معاني كثيرة، يحتاجها الداعية في توصيل دعوته بأيسر الطرق وأوجز العبارات، هكذا الشعر.
قال ابن بسام في ترجمة الشيخ: «فجرد قلمه للرد على هؤلاء المغرضين، ولسانه برائع الشعر على المارقين، فصار يكيل لهم الصاع صاعين بقوة الكلام وسطوع الحجة، وصحة البرهان، فيدحض أقوالهم، ويرد شبههم، ويوهن حجتهم، كما يرميهم بشهب من قصائده الطنانة، وأشعاره الرنانة، وقوافيه المحكمة، وأبياته الرصينة، وبهذا فهو ذو القلمين، وصاحب الصناعتين، وقلما اجتمع النثر والشعر لواحد إلا لنوابغ الكتاب، وأصحاب الأقلام، فصار لسان هذه الدعوة، ومحامي هذه الملة»(2).
تحتاج الدعوة إلى جهاز إعلامي، والشعر في العصر الجاهلي كان هو الوسيلة الإعلامية الوحيدة المتوافرة، سواء أكان ذلك يتعلّق بالقبيلة أم يتناول الأفراد.
ولم يعرف العرب الخطابة بشكلها الإعلامي الجاد إلا بعد ظهور الدولة الإسلامية، حيث أصبحت خطبة الجمعة وسيلة الإعلام الرسمية الرئيسة، وتراجع الشعر عن مركز الصدارة في إعلام الدولة، لكنه بقي محتفظًا بالمركز الثاني.
وإنشاد الشعر الجيد النزيه؛ للرد على المشركين والدفاع عن الإسلام، كشعر حسان رضي الله عنه، أو للتنشيط على العمل والسير في السفر، ليس ذلك شبيهًا بالأناشيد الجماعية المستعملة الآن، فلا تُقاس عليه؛ لما بينهما من الفارق الواضح.
وفي الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب قال: مر عمر رضي الله تعالى عنه على حسان في المسجد وهو ينشد الشعر، فلحظ إليه، فقال: كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: أنشدك الله، أسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أجب عني، اللهم أيده بروح القدس»؟(3).
وقد أخرج الشيخان أيضًا من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: «اهجهم، أو هاجهم، وجبريل معك»(4).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد، يقوم عليه قائمًا يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم»(5).
فهل يؤخذ أيضًا من هذا من يعدل عن القرآن والسنة، ويستدل بأقوال الشعراء والشعر، ويكثر ذلك في استدلالاته، وقد انتشر هذا كثيرًا بين الوعاظ وبين المشايخ؟
لا شك أن الإكثار من الشعر مذموم، والاقتصار عليه ممنوع؛ «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا»(6)، فمن يقتصر على الشعر، أو يكون ديدنه الشعر، ويترك نصوص الكتاب والسنة لا شك أنه مذموم، ولا مانع أن يذكر الشعر المؤثر بعد نصوص الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة.
فمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهج الشعراء مختلفان، ولا شبهة هناك، فالأمر واضح صريح: {وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)} [الشعراء:224-226].
فهم يتبعون المزاج والهوى، ومن ثم يتبعهم الغاوون الهائمون مع الهوى، الذين لا منهج لهم ولا هدف، وهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور والقول، وفق الانفعال الذي يسيطر عليهم في لحظة من اللحظات تحت وقع مؤثر من المؤثرات.
وهم يقولون ما لا يفعلون، لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة! إن طبيعة الإسلام، وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة، إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية، في الغالب؛ لأن الشاعر يخلق حلمًا في حسه ويقنع به، فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع.
والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوّم، فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم، ولا تنفق مع منهجه الذي يأخذهم به، دفعهم إلى تغييرها، وتحقيق المنهج الذي يريد.
ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهوّمة الطائرة، فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة، وفق منهجه الضخم العظيم.
ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ، إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن، منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها، ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها، فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرًا وفنًا، وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع، ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها، وتدع واقع الحياة كما هو مشوهًا متخلفًا قبيحًا! وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام، في ضوء الإسلام، ثم تعبر عن هذا كله شعرًا وفنًا.
فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ.
ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون، وإلى خفايا النفس البشرية، وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن، وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ، والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال.