logo

قصة قوم يونس


بتاريخ : الأحد ، 18 ذو الحجة ، 1443 الموافق 17 يوليو 2022
بقلم : تيار الاصلاح
قصة قوم يونس

ها هي قصة يونس عليه السلام تعطي درسًا غاية في الأهمية، وغاية في العمق، لا بد لكل صاحب دعوة ولا بد لكل سائر في الطريق إلى الله أن يأخذ العبرة منها، ويجعلها نبراسًا في دعوته، ومؤشرًا في طريقه.

أرسل الله يونس عليه السلام إلى قومه داعيًا إلى الله ومرشدًا في طريق التغيير، فاستعصوا عليه وكذبوه؛ كحال أي قوم مع أي نبي أو رسول، فالأقوام قد تراكمت على قلوبهم وعقولهم آثار السنين من الجهالة والعادات والتقاليد التي يصعب على أي قوم تغييرها والانتقال إلى وضع جديد ما عهدوه وما جربوه.

وروي في قصة قوم يونس عن جماعة من المفسرين: أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل، في القرن الثامن قبل الميلاد، وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس عليه السلام يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه فأبوا، فقيل: إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل، وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه؛ فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم فهو نزول العذاب لا شك، فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم، فأصبحوا فلم يجدوه، فتابوا ودعوا الله ولبسوا المسوح، وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم في تلك الحالة.

وقال ابن مسعود: وكان الرجل يأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيرده، والعذاب منهم فيما روي عن ابن عباس على ثلثي ميل، وروي على ميل.

وعن ابن عباس: أنهم غشيتهم ظلة وفيها حمرة، فلم تزل تدنو حتى وجدوا حرها بين أكتافهم.

وقال ابن جبير: غشيهم العذاب كما يغشى الثوب القبر، فلما صحت توبتهم رفع الله عنهم العذاب.

وقال الطبري: خص قوم يونس من بين سائر الأمم بأن تيب عليهم بعد معاينة العذاب، وذكر ذلك عن جماعة من المفسرين.

وقال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا عين العذاب لما نفعهم الإيمان.

قلت: قول الزجاج حسن، فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون؛ لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك (1).

قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87- 88].

فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وحملانها، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].

وأما يونس عليه السلام، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا؛ فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضا، فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا، قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]، أي: وقعت عليه القرعة، فقام يونس عليه السلام، وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه وتعالى من البحر الأخضر -فيما قاله ابن مسعود- حوتًا يشق البحار، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا، ولا تهشم له عظمًا؛ فإن يونس ليس لك رزقًا، وإنما بطنك له يكون سجنًا.

وقوله: {وَذَا النُّونِ} يعني: الحوت، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة (2).

ولكن قصة يونس هي المثل الوحيد البارز للقوم الذين يتداركون أنفسهم قبل مباغتة العذاب لهم، فيثوبون إلى ربهم وفي الوقت سعة، وهم وحدهم في تاريخ الدعوات الذين آمنوا جملة بعد تكذيب، فكشف عنهم العذاب الذي أوعدهم به رسولهم قبل وقوعه بهم، كما هي سنة الله في المكذبين المصرّين (3).

فما كان من يونس عليه السلام إلا أن هجر قومه منذرًا إياهم بالعذاب المحيط بهم، ورحل يضرب في الأرض الوسيعة وداعيًا في أقوام آخرين، ظنًا منه أن الأرض واسعة، ويمكنه الدعوة في أي قوم غير الذي أرسل إليهم، فأودته قدماه إلى البحر فركبه مع قوم آخرين، وبينما كانوا في لجة البحر ثقل القارب واستهموا لإلقاء واحد منهم لتخفيف الحمل، فكان السهم على يونس عليه السلام.

فألقي أو ألقى نفسه فأخذه الحوت بأمر ربه فلم يأكل له لحمًا ولم يكسر عظمًا، فدخل في ظلمة من فوقها ظلمة وظلمة (ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل) وضاق عليه الأمر فدعا ربه أني قد ظلمت نفسي، فاستجاب له ربه ونجاه، فلفظه الحوت على الساحل، حيث يقول الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87– 88].

ولكن الله تعالى علم من يونس عليه السلام الإيمان وصدق التوجه، وأنه ما ترك الطريق عمدًا ولا تنكرًا للدعوة؛ وإنما تركه غضبًا وسهوًا منه، فكانت الإجابة والنجاة ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَكَذٰلِكَ نُنجِـي الْمُؤْمِنِينَ}.

ولعل الحكمة في نجاة قوم يونس تتمثل في أمرين:

أحدهما: أن الله علم أن تكذيبهم يونس عليه السلام في ابتداء دعوته لم يكن ناشئًا عن تصميم على الكفر واستخفاف بعظمة الله، ولكنه كان شكًا في صدق يونس عليه السلام، ولعل ذلك أنهم كانوا على بقية من شريعة موسى عليه السلام، وإنما حرفوا وحادوا عن طريق الإيمان مما يعلمه الله، فإن في نينوى كثيرًا من أسرى بني إسرائيل الذين كانوا في أسر الآشوريين، فلما أوعدهم يونس عليه السلام بالعذاب بعد أربعين يومًا ورأوا أماراته بعد خمسة وثلاثين يومًا اهتدوا وآمنوا إيمانًا خالصًا.

وثانيهما: أن يونس عليه السلام لما صدرت منه فلتة المغاضبة كان قد خلط في دعوته شيئًا من حظ النفس؛ وإن كان لفائدة الدين، فقدر الله إيمان قومه لعلمه كمال الإيمان والصبر والتسليم لله، وهذا عتاب وتأديب بينه وبين ربه، ولذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة من توهم أن ما جرى ليونس عليه السلام من المغاضبة والمعاقبة ينقص من قدره، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» (4)، يعني في صحة الرسالة لا في التفاضل فيها (5).

إن طريق الدعوة ليس معبدًا إنه طريق طويل وشاق، ولا بد أن يتعرض السائرون فيه للقذف بالحجارة، ولوضع الصخور في طريقهم، وربما تكون العثرات طبيعية المنشأ؛ لأن الطريق لم يسلكه أحد منذ زمن طويل فتراكمت عليه الأتربة والحجارة نتيجة ما تعرض إليه من رياح وهزات وانجرافات.

وهنا دور السائر في الطريق أن يصبر على الأذى ويحتسب كل ذلك عند الله، فإن غضب كظم وإن أوذي صبر؛ فليس المهم الشخص، وإنما المهم الدعوة، المهم أن نصل إلى نهاية الطريق.

ربما تحاول مرة وعشرة ومئة مرة، وفي كل مرة تتعرض للتكذيب أو الإنكار، ولكن عساها تكون في المرة الواحدة بعد المئة، وربما تكون في المرة الواحدة بعد الألف.

إن المهمة كبيرة، فربما تكون العثرات التي تكونت بفعل الزمن أعتى من غيرها، فإن تراكمات كبيرة من الجهالة والعادات والتقاليد ترسخت على مر السنين، فأصبحت جزءً من الطريق يصعب اقتلاعه.

فلا بد من المحاولة والصبر وعدم اليأس، والبحث عن المناطق الحساسة التي يمكن طرق بابها، فتكون هي المدخل للقلوب والضمائر النائمة فتصحو ولا تنام.

قد يكون من السهل هجر الناس وترك الدعوة بسبب التعرض للتكذيب أو الإنكار، وهذا مما لا شك فيه راحة للسائر في الطريق وزوال لهمه، ولكن ماذا استفادت الدعوة من ذلك الهجر؟ وهل سيحدث تقدم في السير في الطريق؟ ليس المهم أبدًا من يسير في الطريق؛ ولكن المهم أن يصل الطريق إلى نهايته.

فالرسول صلى الله عليه سلم مات ولم تتوقف الدعوة، وها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت (6).

وهذه هي دعوتنا وهذا هو سبيلنا لا دعوة أشخاص ولا أسماء؛ إنها دعوة خالصة لله لرب الأشخاص والمسميات.

فلا يأس مع الدعوة، وما عليك إلا الدعوة والتبيان للناس بخطى ثابتة واثقة وسبيل بيّن، ولا تتبع أهواء الناس البعيدة عن هدى الله فيضلوك بضلالهم، وتتيه الدعوة في لجج الجهل والأهواء، حيث يقول الله تعالى: {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى: 15].

وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49].

حيث أن أكثر الناس لا يعلمون وبعيدون عن جادة الصواب حيث وردت في مواقع كثيرة في القرآن {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، فإن أنت مشيت وراء خطاهم الضالة السبيل المتبعة أهواء النفس؛ فإنك ستضل لا محالة، وتضل الأمة من وراءك، وتتقاذف الدعوة أمواج الأهواء يمنة ويسرة حتى تتساقط أركانها ركنًا تلو الآخر، وتنهدم فتصبح أثرًا بعد عين.

وإن انهدام الدعوة لن يكون بمعزل عن السائرين في الطريق ولا المتبعين لها؛ وإنما ستهدم على رؤوسهم، وسينالهم العذاب المقيم بما كسبت أيديهم.

فما عليك إلا الدعوة بعيدًا عن الأهواء، فإن هم تولوا فاعلم أن الله ليس بغافل عنهم، وإنما أراد أن يصيبهم شيئًا مما كسبت أيديهم، وما عليك من الإثم من شيء، إنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، ويوم القيامة تردون إلى الله فيحكم بينكم بميزان للقسط يوضع (7).

الدروس والعبر المستفادة من القصة:

- التوبة وتسبيح الله عز وجل هما السر في نجاة سيدنا يونس عليه السلام وكشف الغمة عنه، قال تعالي في كتابه العزيز: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143- 144].

- الله سبحانه وتعالي يستجيب دعاء المؤمن، فإن سيدنا يونس عليه السلام عندما دعا ربه ولجئ إليه عز وجل كشف الله عز وجل عنه الغمه واستجاب لدعائه، قال تعالي: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].

- الله قادر على كل شيء، والدليل على ذلك قوله تعالي: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، فقد شاء الله عز وجل أن يبقي سيدنا يونس عليه السلام حيًا في بطن الحوت وأمر الحوت ألا يأكل له لحمًا، ولا يهشم له عظمًا.

- الإيمان والتقوى والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى هو مخرجٌ من الفتن وسبب للنجاة من البلاء والمحن.

- ومن قصة يونس عليه السلام وقومه يتبين صدق التوجه إلى الله، والتضرع إليه، وبالصدق والتوبة والدعاء، يرفع الله الضراء ويكشف البلوى، وتأملوا ما خصَّ الله قوم يونس بقوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].

والمعنى: لم توجد قريةٌ آمنت بكاملها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس، وما كان إيمانهم إلا تخوفًا من عذاب الله الذي أنذرهم به نبيهم يونس عليه السلام فخرجوا إلى الصحراء وجأروا إلى الله بالدعاء ومعهم نساؤهم وأطفالهم ودوابهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، حتى تضرعوا إلى الله وجأروا إليه، وصدقوا في توبتهم ودعائهم، ورغت الإبل وفصلانُها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فلما علم الله صدقهم رفع عنهم العذاب ومتعهم إلى حين.

- وفي القصة: أن عظم الجزاء مع عظم البلاء، ويبتلي الله عباده على قدر إيمانهم، والأنبياء أكثرُ الناس بلاءً، ومع ما وقع ليونس عليه السلام من البلاء فقد كان في نجاته درسٌ له ورفعة وذكرى للمؤمنين من بعده، وصدق الله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] (8).

وقصة يونس عليه السلام واحدة من قصص القرآن، فهل تُقرأ للعبرة والاتعاظ أم تُهذُّ كغيرها من آي الكتاب هَذَّ الشعر؟!

وحسبنا أن ندرك أن قوم يونس كان عذاب مخز يتهددهم، فلما آمنوا في اللحظة الأخيرة قبل وقوعه كشف عنهم العذاب، وتركوا يتمتعون بالحياة إلى أجل، ولو لم يؤمنوا لحل العذاب بهم وفاقاً لسنة الله المترتبة آثارها على تصرفات خلقه.. حسبنا هذا لندرك أمرين هامين:

أولهما: الإهابة بالمكذبين أن يتعلقوا بخيوط النجاة الأخيرة، فلعلهم ناجون كما نجا قوم يونس من عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وهو الغرض المباشر من سياقة القصة هذا المساق.

وثانيهما: أن سنة الله لم تتعطل ولم تقف بكشف هذا العذاب، وترك قوم يونس يتمتعون فترة أخرى.

بل مضت ونفذت؛ لأن مقتضى سنة الله كان أن يحل العذاب بهم لو أصروا على تكذيبهم حتى يجيء، فلما عدلوا قبل مجيئه جرت السنة بإنجائهم نتيجة لهذا العدول، فلا جبرية إذن في تصرفات الناس، ولكن الجبرية في ترتيب آثارها عليها (9).

أرشدت قصة يونس إلى ما يأتي:

1- وقعت حادثة التقام الحوت يونس عليه السلام بعد أن صار رسولًا، لقوله تعالى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)} [الصافات: 139- 140]، أي أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك.

2- لا يصح لنبي المهاجرة عن بلد القوم الذين أرسل إليهم إلا بإذن ربه، فلما ذهب يونس عليه السلام بغير إذن ربه، وصف فعله بالإباق، قال العلماء: إنما قيل ليونس: أبق عن العبودية، لأنه خرج بغير أمر الله عز وجل، مستترًا من الناس، وإنما العبودية: ترك الهوى، وبذل النفس عند أمور الله عز وجل، فلما آثر هواه لزمه اسم الآبق، ولم يبين لنا القرآن الكريم سبب إباقه، وقد فهم ذلك بالأمارات.

3- القرعة جائزة شرعًا، وملزمة الأثر كالقسمة، لقوله تعالى: {فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141]، لكن المستقر في تشريعنا أنه لا يجوز الاقتراع على إلقاء الآدمي في البحر، وإنما تطبق عليه الحدود والتعزيرات على مقدار جنايته؛ وإنما كان ذلك في يونس وزمانه مقدمة لتحقيق برهانه، وزيادة في إيمانه.

4- أتى يونس عليه السلام بما يلام عليه، فأصابته القرعة ثلاث مرات، فألقوه في البحر، تخفيفا لحمولة السفينة، فالتقمه الحوت، وهو آت بما يلام عليه.

5- لم يبين القرآن الكريم مدة لبثه في بطن الحوت، لذا اختلف العلماء في تعيين المدة، فقيل: بعض يوم، أو ساعة واحدة، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: عشرين يومًا، وقيل: أربعين يومًا، والمعول عليه أن الله أبقاه حيًا في بطن الحوت، فجعله عسير الهضم عليه، في مدة قليلة أو كثيرة، معجزة له.

6- لقد نجى الله تعالى يونس عليه السلام، لأمرين: أنه كان من المسبحين الذاكرين الله كثيرًا طوال عمره، ومن تعرف على الله وقت الرخاء عرفه وقت الشدة، وأنه أعلن توبته في بطن الحوت الذي حماه الله من هضمه، فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لذلك قيل: إن العمل الصالح يرفع صاحبه إذا عثر.

وقال الحسن البصري: ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملًا صالحًا في حال الرخاء، فذكّره الله به في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، وإذا عثر وجد متكأ (10).

ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الضياء عن الزبير: «من استطاع أن يكون له خبي من عمل صالح، فليفعل»(11)، أي: فليجتهد العبد، ويحرص على خصلة من صالح عمله، يخلص فيها بينه وبين ربه، ويدخرها ليوم فاقته وفقره، ويسترها عن خلقه، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه.

أما تسبيحه فقال القرطبي: الأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان، فعن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له» (12).

7- كان من تتمة نعمة الله على يونس عليه السلام أنه بعد أن ألقاه الحوت، وهو في حال من الضعف، بساحل قرية من الموصل، أنبت عليه لحمايته وتظليله شجرة من يقطين. روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: طرح يونس بالعراء، وأنبت الله عليه يقطينة، قلنا: يا أبا هريرة، وما اليقطينة؟ قال: شجرة الدّبّاء، هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض- أو هشاش الأرض- فتفشج عليه، فترويه من لبنها، كل عشية وبكرة حتى نبت.

8- بعد أن اشتد لحمه ونبت شعره، أعاده الله إلى قومه الذين يزيد عددهم عن مائة ألف، فدعاهم إلى ربه، فآمنوا لما رأوا أعلام نبوته، ليظهر الله إرادته وقدرته له في الإيمان، ولما آمنوا أزال الله الخوف عنهم، وآمنهم من العذاب، ومتعهم الله بمتاع الدنيا إلى منتهى أعمارهم (13).

خلاصة دعوة ذي النون صدق في التوجه إلى الله، وتسبيح بحمده وحده، وطلب الغوث والنجاة منه، وإذا وصلت الأمة والأفراد هذا المستوى فسيأتيهم ما يوعدون.

أيها المؤمنون وتظل قصةٌ ذي النون درسًا وموعظة لكل مغموم، ومهما اشتطت بالمرء الدروب، أو لاحقته الهموم، أو أحاطت به الكروب، فخلاصه الوحيد مناجاة ربه، والتضرع إليه، وسؤالهُ الفرج وصدق الله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17].

وحاجة المرء للتوبة والاستغفار مستمرة، وفيها خلاص من الذنوب، وانتقال من حالٍ إلى حال: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4].

هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الأمة، فمهما أطلقت الأمة من نداءات فسيظل النداء المنقذ: «لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ»، ومهما تلبست به من شعارات براقة زائفة، فيظل شعار التوحيد هو الشعار الحق.

كم تصيب الأمة من أزمات ولكنها لا تحسن المخرج منها، فتتوالى عليها النكبات، وتتضاعف الأزمات، وكم تملك من أسباب القوة الإلهية، ولكنها –مع الأسف- تهمشها وتظل تلهث وراء السراب مستجدية من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، وتقرأ في كتاب ربها أن الولاء الحقّ لله ولرسوله وللمؤمنين، ثم هي تستمرئ ولاء الكافرين وتناشد المنافقين، وما لم يصح المعتقد، ويتوحد الاتجاه لله الحق، فستظل المسيرة متخبطة، والعدو غالبًا، والنصر بعيدًا.

ألا ويح الأمة في صدورها عن كتاب ربها، وبعدها عن هدي أنبيائها والله يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، ويقول: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111] (14).

------------

(1) تفسير القرطبي (8/ 384).

(2) تفسير ابن كثير (5/ 366).

(3) في ظلال القرآن (3/ 1752).

(4) أخرجه الترمذي (183).

(5) التحرير والتنوير (11/ 291).

(6) أخرجه البيهقي (16536).

(7) وذا النون/ رابطة العلماء السوريين.

(8) قصة ذي النون عليه السلام/ ملتقى الخطباء.

(9) في ظلال القرآن (3/ 1821).

(10) تفسير القرطبي (15/ 126).

(11) أخرجه النسائي (11834).

(12) أخرجه الترمذي (3505).

(13) التفسير المنير للزحيلي (23/ 143).

(14) قصة ذي النون عليه السلام/ ملتقى الخطباء.