إدارة الأزمات في التاريخ الإسلامي
عرفت الدولة الاسلامية جوهر نظام إدارة الأزمات على يد رسولنا صلى الله عليه وسلم، وبالبحث العلمي الدقيق في سيرته العطرة سواء في حياته الاجتماعية الأولى أو حياته السياسية والادارية والحربية، سيجد الإنسان ما لا يعد ولا يحصى من أصول منهجية لعلم إدارة الأزمات، وحين تحل الأزمات والفتن يختلط الحق بالباطل ويلتبس على الناس، فيأتي دور أهل العلم في تمييز الحق من الباطل، وبيان الحكم الشرعي للناس، واتخاذ المواقف العملية وقيادة الناس، وقد أمر الله تعالى بالرجوع إلى أهل العلم في مثل هذه المواقف فقال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وها هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتجهون لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وينصتون له حين خاض الناس في أمر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أن سمعوا كلامه حتى انصرفوا موقنين.
نماذج من إدارة الأزمة في السنة النبوية:
غزوة الأحزاب:
غزوة الأحزاب مظهر من مظاهر أزمة تناولها القرآن الكريم مبينًا آثارها على نفوس من تعرض لها بقوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10- 12]، وقد جمعت الغزوة بين عدة عوامل للقلق، فهي من جهة تضم عدوانًا ثلاثيًا خارجيًا يجمع قوى الكفر في الجزيرة ممثلة بقريش واليهود والأعراب ممثلين بغطفان، ومن جهة ثانية حدثت ثغرة داخلية إذ تآمرت جماعة من داخل المدينة مع الأعداء وهم يهود بني قريظة، وقد واجه المسلمون الأزمة بأمور منها:
أ- الإفادة من قدرات المجموع، وتهيئة الأجواء، ليعطي أفراد الفريق كلهم ما عندهم:
ويتضح هذا في الإفادة من خبرة سلمـان الفارسي، ومن دخول نعيم بن مسعود الغطفاني الإسلام لما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم المساعدة قال له: «إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة» (1).
ب- تحديد الهدف، والموازنة الموضوعية بين البدائل المتاحة، واختيار أقربها إلى حل الأزمة وتحقيق مصلحة العمل والمنظمة فيما لا يخالف الشريعة الإسلامية:
وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عندما جمع أصحابه في غزوة الخندق يأخذ رأيهم، فعرضوا عليه آراءهم، وكان من بين الآراء رأي سلمان الفارسي رضي الله عنه، الذي أشار إلى حفر الخندق، فأخذ برأيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه الأقرب للصواب، جاء في مختصر السيرة النبوية: فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه استشار أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون، وعمل فيه بنفسه.
وهذه مهارة يحتاج إليها الإداري لينتفع بخبرات جميع الفريق؛ بحيث تتجمع عنده الخبرات وتتراكم، ويتمكن بهذا التراكم أن ينهض بهم، فالأمم تنهض بالإدارة أكثر من نهضتها بوفرة الموارد، وقد تكون الخبرات موجودة في مؤسسة ما ولكن بسبب انعدام الإدارة لا يستفاد منها، وأحيانًا تتحول إلى عنصر معيق بسبب عدم التنظيم والتنسيق بين الجهود.
غزوة حنين:
بعد فتـح مكة جمعت قبيلة هوازن رجـالها لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وادي حنين، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه ألفان من أهل مكة وعشرة آلاف من أصحابه الذين فتح الله بهم مكة، فكانوا اثني عشر ألفًا، واستعمل عتاب بن أسيد رضي الله عنه على مكة.
فلما استقبلوا وادي حنين انحدروا في وادٍ من أودية تهامة أجوف في عماية الصبح، قال جابر: وكانوا قد سبقونا إليه فكمنوا في شعابه ومضايقه قد تهيئوا، فوالله ما راعنا إلا الكتائب قد شدوا علينا شَدَّةَ رجل واحد، فانشمر الناس راجعين لا يلوي أحد على أحد، وانحاز رسول الله ذات اليمين ثم قال: «أيها الناس، هلموا إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله» (2).
وبقي معه نفر من المهاجرين وأهل بيته فاجتلد الناس، فوالله ما رجعت الناس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى عند رسول الله، وكانوا حين رأوا كثرتهم قالوا: لن نغلب اليوم عن قلة، فوقع بهم ما وقع ابتلاءً من الله لقولهم ذلك.
ويستفاد من هذا الموقف عدد من الدروس في إدارة الأزمة:
أ- الثبات وعدم الاضطراب:
كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين، إذ انسحب جمع من الجيش المسلم أمام خطة هوازن، ففر الصحابة من هول المفاجأة وشدة النبل، وهنا صمد النبي صلى الله عليه وسلم، واستطاع بثباته أن يعيد تجميع جيشه وفريق عمله لمواجهة الأزمة.
في رواية البخاري: فنـزل واستنصر ثم قال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، ثم صف أصحابه (3)، وتلاحظ من هذه الرواية أهمية ثبات القائد، وأن مصدر الثبات اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء والاعتماد عليه، وكيف انعكس هذا الثبات على تجميع أصحابه بعد أن تشتتوا وكادوا يخسرون المعركة.
وأيًا ما كان السبب فلا يجوز في مبادئ إدارة الأزمة أن نفسر الهزيمة بأننا لم نكن نتوقع أن يهاجم العدو بهذه الشراسة؛ فهذا تسبيب مرفوض في الفكر الإداري، والحل العلمي أن تواجه المشكلة لا أن تلقي الخطأ على الآخرين، وأن تكون القيادة تتمتع بالكفاءة وشجاعة القلب.
وفي هذا المعني يقول ابن تيمية: تجد الرجل الذي يقتل كثيرًا إذا خاف أصابه الجبن وانخلع قلبه، وتجد الرجل الثابت القلب الذي لم يقتل بيديه كثيرًا ثابتًا في المخاوف، مقدامًا على المكاره، وهذه الخصلة، أي الشجاعة، يُحتاج إليها في أمراء الحروب وقواده ومقدميه أكثر من الأولى، فإن المقدم إذا كان شجاع القلب ثابتًا أقدم وثبت ولم ينهزم فقاتل معه أعوانه، وإذا كان جبانًا ضعيف القلب ذل ولم يقدم ولم يثبت ولو كان قوي البدن، والنبي صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس في هذه الشجاعة التي هي المقصودة في أئمة الحرب.
فالمرؤوسين بحاجة لأن يروا أمامهم قدوة، والقائد يمتاز بأنه يشيع الطمأنينة بين الأفراد، وهذا ما نلحظه في موقف النبي صلى الله عليه وسلم في وسط المعركة ينادي بصوته: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» (4).
ب- تشجيع الفريق والرفع من معنويات العاملين وقت الأزمات:
مما يدفعهم للعمل بحماس وحيوية، وهذا ما نلحظه في نداء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أهل الشجرة: يا أهل سورة البقرة»: يعني الشجرة التي بايعوا تحتها، فذكرهم ببيعته لهم هناك على أن لا يفروا وعلى الموت (5)، فثبتوا ونجحوا في اجتياز الأزمة.
ويذكر أهل السيرة أن الصحابة لما سمعوا هذا النداء عادوا كما تعود المرضع لصغيرها، وهكذا يتضح أن هذه المهارة التي امتلكها النبي صلى الله عليه وسلم كانت فاعلة ومكنته من مواجهة الأزمة وتحويل الهزيمة إلى نصر.
ج- مكافأة المحسن:
ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الغزوة أعلن عن مكافأة لمن ثبت وصمد فقال: «من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه» (6)، وقد اختلف الفقهاء في تفسير هذا الحديث هل هو حكم عام أم هو تدبير إداري مرتبط بفكرة المكافأة، فذهب الإمام الشافعي وأحمد إلى أنه حكم عام، وقال مالك وأبو حنيفة: إنه مبني على فكرة المكافأة.
ومن النصوص الفقهية في موضع التشجيع قولهم في بيان ما يلزم الإمام: ويرفق بجيشـه في السير، ويعـد لهـم الزاد، ويقوي نفوسهم بما يخيل إليهم الظفر (7).
د- معـالجة الرسول صلى الله عليه وسلم للأزمة الناشئة بعد توزيع الغنائم في أعقاب حنين:
بعد انتصار المسلمين في معركة حنين نال المسلمون غنائم وفيرة تطلعت لها مطامع الناس، قال ابن إسحاق: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافاً من أشراف الناس يتألفهم ويتألف بـهم قومهـم، فأعطى أبا سفيـان بن حرب مائة بعير، وأعطى ابنه معاوية مائة بعير، وأعطى حكيمَ بنَ حزام مائة بعير، قال ابن هشام: لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب ولم يكن في الأنصار منها شيء، فوجـد هذا الحي من الأنصـار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومه (8).
هـ- المفاتحة والمعاتبة مصدرٌ للتزويد بالمعلومات:
قال ابن إسحق: فدخل عليه سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظامًا في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: «فأين أنت من ذلك يا سعد؟»، قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي، قال: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة» (9).
وتلحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم هنا يعمل على تحليل هذه المعلومات، ومتابعتها ومعرفة حقيقتها، فهو يريد أن يعرف موقف سعد بن عبادة، ليعرف القوى المحركة للفكرة، وما حجم التيار المعترض، ثم العمل على إحباط الأزمة واتقاء نتائجها.
فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، قال: فجاء رجال من المهاجرين فتركهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار: «ما قالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!»، قالوا: بلى، الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟»، قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل.
قال صلى الله عليه وسلم: «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، ألا ترضون يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فو الذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار».
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرقوا (10).
لاحظ كيف واجه الرسول صلى الله عليه وسلم اعتراض الأنصار وحاورهم ولم يرضَ بسكوتهم أول مرة، فالنفوس تهاب الزعيم، ولهذا يقولون بأدب: لله ورسوله المن والفضل، وكان بإمكان الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستند إلى سكوتهم المشوب بالخجل ليبرر تصرفه بالغنائم، لكنه صلى الله عليه وسلم يحاورهم ويقر لهم بالفضل ليكون سكوتهم عن رضا وارتياح وتكون العلاقة بين القيادة والرعية مستندة إلى الرضا لا إلى الخوف أو الخجل.
فوجود مصدر للمعلومات، متمثل بمفهوم المعاتبة إذ جاء سعدٌ النبيَ صلى الله عليه وسلم وأخبره بما يقول قومه، ساعد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتعرف على الأزمة في بداياتها، ويعرف مكونات الأزمة، ويفهم القوى المحركة لهـا، وبسؤاله: أنت ماذا تقول: «فأين أنت من ذلك يا سعد»؟ أدرك صلى الله عليه وسلم هل الاعتراض هو على مستوى الأنصار أم أنه تيار في داخلهم.
وكان محرك الأزمة شعورهم بالحرمان من العطاء، وتمت المعالجة عن طريق التعويض بالمكافـأة المعنوية، ثم بشـرح فكرة الهدف لفريق العمل، إذ خاطبهـم النبي صلى الله عليه وسلم قائـلًا: «أوجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم»، فغاية العطـاء لترغيب القوم بالإسـلام، والرسـول صلى الله عليه وسلم يستند في هذا إلى ما عرف من ثبات الأنصار في الإسلام؛ وهذا نوع من المكافأة المعنوية، التي تعوض المكافأة وتزيد عليها في التأثير، ثـم أكرمهـم إكرامًا كبيرًا بقوله: «أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم في رحالكم»؟، ثم دعا لهم «اللهم ارحم الأنصار»، واعترف بفضلهم: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فأغنيناك»؛ فَشَرحُ الأهداف لفريق الأزمة، مع التقدير المعنوي والمكافأة المعنوية، كل ذلك مكَّن النبي صلى الله عليه وسلم من مواجهة الأزمة في بداياتها.
فلو كان سعد، رضي الله عنه، يعرف أن موقف القيادة المفترض الصدود لم يكن ليذهب ليخبره صلى الله عليه وسلم بمشاعر قومه؛ فلا بد أن تُشعر القيادة فريقَ العمل أن صدرها منفتح للتغيير، وأنها تحسن الإصغاء، وأن تواجه بوادر الأزمة بالمصارحة والوضوح (11).
عوامل إدارة الأزمات:
أولًا: الثبات والتثبت:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45]، فالأزمات عواصف تهز الأمة ولا بد للأمة من تثبيت، والقلوب الضعيفة عرضة للمد والجزر ولجذب الشياطين.
وتذكر قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصدّيق في الغار، وثباته على المحنة وشدة البلاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، وقوله: «لا تحزن إن الله معنا» (12)، وتذكر كذلك قصة ثبات المسلمين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم اليرموك حين ثبتوا فثبتهم الله.
ثانيًا: تثبيت العلماء:
والعلماء بشر تعصف بهم الفتن كما تعصف بالناس، ويرتفع الإيمان وينخفض وتشتد العزيمة وترتخي ويميل ويثبت، فكُن مع العلماء، وإذا كانت كلمة العلماء تعني شيئًا وقت الرخاء فهي أعظم وقت الأزمة، ومن ذلك الأعرابي الذي ثّبت الإمام أحمد زمن المحنة فقال له: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا وإن عشت عشت حميدًا فقوي قلبي (13)، فلم تكن هناك كلمة أقوى منها في قلب الإمام أحمد.
ثالثًا: ترسيخ الإيمان:
علينا أن نحرص على بث الإيمان في قلوبنا وقلوب الآخرين عند الأزمة لأمور منها:
أ- في الأزمة تقبل القلوب على خالقها، وعلى الدعاة أن يضخوا في القلوب معاني الإيمان والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة والتوبة.
ب- أن الأزمة لا تخلو من فتنة وظلمة وجفاف وتيه، وفي الإيمان نور وغيث وهداية، قال ابن حجر رحمه الله في استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر والفزع إليها عند الفتن: وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وأكد عليه بقوله: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» (14).
ت- أن الإيمان أمان، فالله تبارك وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، فبقدر الإيمان تكون المدافعة وبقدر الإحسان تكون المعية وبقدر العبادة تكون الكفاية.
رابعًا: توضيح الدين:
في الأزمات يكثر السؤال والقيل والقال ويُفجر الموقف الواحد ألف سؤال وسؤال، وتلتفت الأمة إلى العلماء ليسمعوا الكلمة، والكلمة هنا غالية، قد تكلف الإنسان رأسه أو وظيفته، وحينئذ فلا بد من قيام لله بتوضيح الدين خاصة إذا مست الأمة في عقيدتها وشوش التوحيد وهمشت الثوابت ونطق الرويبضة، وقد تكون المسألة بغاية الوضوح وقت الرخاء، فإذا وقعت الواقعة فكأنما غشيتها غمامة؛ ولا يكفي مجرد التنظير لهذه المسائل، بل يجب تنزيل هذه الأحكام الشرعية على ما يلائمها من الواقع بكل رسوخ وتحقيق كما فعل علماؤنا الأفاضل.
خامسًا: استشعار الأزمة:
تمر الأزمة بالأمة، فلا يبالي الرجل بما كان وما يكون، لم يتغير جدوله، ولم يعد نفسه، ولم يضع بصمته في صفحة الأزمة، ولقد عرض للأمة نازلة توجب الاشتغال بما هو أعظم من نوافل التحديث وأعظم من ذلك أن ترى ذا العلم، وذا الدعوة يرى الأزمة تركض إليه وإلى قومه ولم يحرك ساكنًا؛ ليس لغفلة أو جهالة أو لعجز، فيُعذَر، بل تعاميًا وتماوتًا.
سادسًا: استنهاض الهمم:
على الأمة أن تستنهض هممها وأن تشكلها بل تفجرها تفجيرًا؛ لأن السيوف والقنابل قبل أن تقصف الرؤوس تقصف الهمم، واستنهاض الهمم بالآي والحديث وبالخطبة وبالقصة وبالشعر وبالموقف الشجاع، كما فعل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في مؤتة، شجع الناس وأيقظ هممهم وذكّرهم أنه إما الشهادة أو النصر، فقال الناس: والله صدق ابن رواحة، وفي معركة عين جالوت وكيف واجه المظفر قطز رحمه الله التتار وشجع الناس وسما بهممهم حتى هزموا الأعداء شر هزيمة.
سابعًا: تجميع الصفوف:
نحتاج إلى رص الصفوف والقلوب والجهود، ونحتاج إلى نشر أدب الخلاف وفقه الأخوة مع قاموس نظيف للألفاظ، ونحتاج إلى النصح والتصحيح وبيان الحق والصبر على ذلك، فالمقصود الاجتماع على الحق، والله يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وأول ما نحتاج إلى الالتفاف حوله ورص الصف معه العلماء العاملون، والمجاهدون المؤمنون، والدعاة الصادقون، نحتاج إلى ترشيد الجهود، إلى التسامي عن المعارك الهامشية حول اسم أو رمز أو المجادلة عن حظ النفس باسم الدفاع عن الدين أو الأنانية الفكرية الضيقة في "أنا" الفردية أو "نحن" الحزبية، كذلك نحن بحاجة إلى التسامي عن توزيع التهم، فلا نشق الصف بتعيير الآخر بشق الصف.. إلى آخر ما ذكر المؤلف تحت هذا الموقف المهم والمطلب الأهم.
ثامنًا: تفعيل الأمة كل الأمة:
كل الأمة، الصغير والكبير، والرجل والأنثى، الغني والفقير، وما بينهما، الصحيح والمريض، والأعرج والمشلول، حتى البر والفاجر، وآخرين خلَّطوا، والجماعات الإسلامية بكل الأسماء وفي كل الاتجاهات.
تريد مهذبًا لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
العمل للأمة واجب الجميع؛ لأنها أزمة الجميع، ولأننا نحتاج كل الطاقات، وهي أوسع من فئة أو أفراد صالحين، نحتاج إلى إيقاظ الأمة، نحتاج إلى تجييش الأمة، نحتاج إلى التغاضي شيئًا ما وتأجيل الخلافات والخصومات الداخلية، فهذا جيش سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خرج إلى القادسية جهادًا ودفاعًا للباطل، وفي الجيش أبو محجن الثقفي رضي الله عنه شرب الخمر وجلد الحد ولكنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
تاسعًا: الاحتساب:
وكما أن الخفافيش العلمانية تخرج في الليل وتضغط وتستنفر، فلا بد للمرابطين الساهرين على حصون الأمة أن يصطادوا الخفافيش، أن يطاردوا اللصوص، وأن يفعلوا شيئًا، ومن صور الاحتساب:
- الاحتساب على المرأة وحياطتها وصيانتها وحراسة فضيلتها.
- الاحتساب على منع الظلم، وهذا من أعظم الأعمال المتوجبة على أهل العلم، خاصة إذا ماتت الأمانة وفرخت الأنانية وعاش الناس في طبقية بشعة، يفتقر فيها الفقير ويفحش فيها الغني وتمتص دماء الناس هنا وهنا... إلى آخر ما ذكر المؤلف عند هذه النقطة.
- الاحتساب على رعاية الناس وحفظ أمنهم وتدبير معيشتهم، كل بحسب موقعه وقدرته، في أهله أو قرابته، في مسجده أو حيّه أو بلده، خاصة إذا اشتدت الأزمة وارتخت القبضة التي تنظم الأمر وتدفع اللصوص.
عاشرًا: إشاعة الوعي:
إن كانت الأزمة ضاربة، فلا بد أن نستيقظ، لقد نامت الأمة نومة شتوية طويلة عن سنن الله وعادة الحياة وكيد الأعداء، نومة جلبها الخمول وحب الدنيا، نعم الوعي ثقيل أحيانًا، شعور مؤلم أن تشعر بأن الحياة لا تصفو، أن تشعر بقسوتها، أن تشعر بمخططات الأعداء، بل وتنفيذهم، ليس هذا فقط بل وأن عليك أمام كل هذا واجبات وحركة وثمن وأنه لا بد أن تتعلم وتخطط وتنفذ، ومن صور الوعي:
- أن تشعر ببعدك عن الله وحاجتك إليه وفقرك إليه وتقصيرك في حقه وحق دينه وحق عباده.
- الوعي بالمنافقين، الخفافيش البشرية التي تكمن في نهار الرخاء وتخرج في ليالي الأزمة، وما وقع من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد على ذلك.
- الوعي بعداوة الكفار، الكفار الذين لن يرضيهم شبر الأرض ولا برميل النفط ولا الكلمة والبسمة، فضلًا عن السكون والسكوت، والله يقول لك: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].
- الوعي بسنن الله في المدافعة {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
- الوعي بأنفسنا، بمواضع قوتنا وضعفنا، بمشكلاتنا، الأحداث محك تجربة لمناهجنا، لعلاقتنا، لصبرنا، لتفكيرنا، وأهم من ذلك كله لإيماننا.
- الوعي بمعنى الصبر وحقيقته، وبسبيل النصر وطريقته، وبأن الثبات في سبيل الله نصر، والوعي بأن الله يبتلي المؤمنين ويزلزلهم حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه متى نصر الله؟
الحادي عشر: إلى الله:
إلى الله، فالخير بيديه، والشكوى إليه، والأمر منه وإليه، إلى الله بالدعوات واللهفات والاستغاثات، بقنوت وصلوات، بقائمة من الأدعية حال الفتن والكرب وخوف الأعداء نحفظها ونحفِّظها أبناءنا ومَن وراءنا.
وقد فهذا قتيبة بن مسلم سأل عن محمد بن واسع يوم قتال الترك فقيل له: هو ذاك في الميمنة جامع على قوسه يبصبص بأصبعه نحو السماء، فقال قتيبة: تلك الأصبع أحب إلي من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير (15).
وصايا للتعامل مع الأزمة:
يحتاج التعامل مع الأزَمات لوصايا لا بد أن تُراعى، ولهذا يقدم الباحثون وصايا عشر للتعامل مع الأزمة، وهي توخي الهدف وتحديده في معالجة الأزمة، والاحتفاظ بحرية الحركة وعنصر المبادأة والمباغتة، والحشد والتعاون، كذلك الاقتصاد في استخدام القوة، والتفوق في السيطرة على الأحداث، والتأمين للأرواح والممتلكات والمعلومات والمواجهة السريعة، والتعرّض السريع للأحداث، واستخدام الأساليب غير المباشرة كلما كان ممكنًا.
ويعتمد المنهج المتكامل للتعامل مع الأزمات على عدة مراحل كمرحلة الاختراق لجدار الأزمة، ومرحلة التمركز وإقامة قاعدة للتعامل مع عوامل الأزمة بعد اختراقها، ومرحلة توسيع قاعدة التعامل، ومد جسور ومجسات الاختبار، ومرحلة الانتشار السريع لتدمير عناصر الأزمة، وشل حركتها ومرحلة التحكم والسيطرة على موقع الأزمة، وأخيرًا مرحلة التوجيه لقوى الفعل الإداري الصانعة للأزمة في مجالات أخرى.
ويشير الباحثون إلى الطرق غير التقليدية؛ كطريقة تفريغ الأزمة من مضمونها، وطريقة تفتيت الأزمات، وطريقة تدمير الأزمة ذاتيًا وتفجيرها من الداخل، وطريقة الوفرة الوهمية، وطريقة احتواء وتحويل مسار الأزمة، كذلك طريقة فرق العمل والاحتياط التعبوي للتعامل مع الأزمة، وطريقة المشاركة الديمقراطية للتعامل مع الأزمة وطريقة احتواء الأزمة أو تصعيدها.
هذا وتعتبر طريقة فرق العمل من أكثر الطرق شيوعًا واستخدامًا للتعامل مع الأزمات، وتتطلب وجود أكثر من خبير ومختص وفني في مجالات مختلفة، وحساب كل عامل بدقة وتحديد التصرف المطلوب بسرعة وتناسق، وعدم ترك بعض الأمور للصدفة، أو تجاهل بعض العناصر حيث يلعب إعلام الأزمة دورًا مزدوجًا إخباريًا وتوجيهيًا في هذا المجال (16).
_____________
(1) سيرة ابن هشام (2/ 229).
(2) أخرجه أحمد (15027).
(3) أخرجه البخاري (3042).
(4) منهاج السنة النبوية (8/ 78).
(5) منهاج السنة النبوية (8/ 129).
(6) أخرجه الترمذي (1562).
(7) المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (2/ 171).
(8) سيرة ابن هشام (2/ 498).
(9) سيرة ابن هشام (2/ 499).
(10) المصدر السابق.
(11) إدارة الأزمات في المصادر التراثية/ إسلام ويب.
(12) أخرجه البخاري (3615)، ومسلم (2009).
(13) مسند أحمد (1/ 100).
(14) أخرجه مسلم (2948).
(15) واجب المسلم عند الفتن/ موقع المسلم.
(16) إدارة الأزمات .. ومواجهة المشكلات/ موقع مداد.