الحريات الفردية
ما تزال كلمة الفاروق عمر رضي الله عنه حينما قال: متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؛ ما تزال خالدةً عبر السنين تطرق مسامع الظالمين، وتؤرّق مضاجع المستكبرين في الأرض، فبعد أن ساد الظلم والقهر والعبودية بأشكالها في أنحاء الجزيرة العربية؛ حيث كان يستعبد القوي الضعيف، ويستغل الغني الفقير، ولا تُعطى للمرأة أبسط حقوقها في الحياة.
جاء الإسلام بشعار تحرير الناس من أغلال الجاهلية وضلالاتها، وتحرير المرأة من الغبن والأسر التي كانت فيه إلى رحاب حريةٍ لم يعرف لها العالم مثيلًا في عدالتها وسموها ورقيها، حتى صارت مبادئ الإسلام مضربًا للأمثال ونموذجًا يحتذى به.
ولقد عبر الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه بكلماتٍ بليغة عن أهداف هذه الرسالة حينما قال لكسرى: بعثنا الله لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى سعة الإسلام؛ فالإسلام هو أول من أقر بحرية الإنسان الكاملة، فما هو مفهوم الحرية في الإسلام، وما هي أبرز مظاهرها؟
التأصيل الإسلامي للحرية:
قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وقال جل شأنه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].
وحالُ مفهوم الحرية في الإسلام كحاله في الميادين المعرفية الأخرى، يتعدد بتعدد زوايا النظر إليها، والمجالات المقصودة منها، لذلك، فإنه من الصعب ضبط مفهوم واحد يشمل جميع المجالات دون إجمال أو تخصيص، غير أن من أوسع التعاريف التي تراعي مبدأ التأصيل (المرجعية) ومبدأ التطبيق (السلوك) هو ما عبّر عنه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن بأن الحرية: هي أن تتعبّد للخالق باختيارك، وألَّا يستعبدكَ الخلق في ظاهرك وباطنك (1).
وقريبًا من هذا التعريف، اعتبر الطاهر بن عاشور رحمه الله مفهوم الحرية مفهومًا نسبيًا، وانتقد إطلاق معناه الذي يراد منه عمل الإنسان ما يقدر على عمله حسب مشيئته لا يصرفه عن عمله أمر غيره (2).
إذ إن غياب ركن المرجعية واضح في هذا المفهوم الأخير.
ومن خلال التعريف الأول، يمكننا القول بأن الحرية في الإسلام ليست مُطلقةَ العواهِن، وإنما هي مطلقة من وجه، مقيدة من وجه آخر، مطلقة باعتبار أن الأصل في الأشياء الإباحة، ومقيدة لأن هذا الإطلاق تم تقييده بحدود وقيود مسَطَّرة تكبح جماح المتحرِّر، وتقف به عند حدود حقوق الغير، (حقوق الله، حقوق الغير، حقوق الطبيعة، حقوق النفس ذاتها،…)، ولذلك، فإن اعتبارَ جانبِ الإطلاق دون تقييده بما نُصَّ عليه عبثٌ منهجي.
أما الإطلاق كما يُراد له اليوم فإنه غير مباح ولا مشروع في الإسلام، لأنه يستلزم العبث والفوضى، ويستلزم تقاطع الحريات وتصادم المصالح ونشوء الصراعات، والإسلام يأبى ذلك ولا تستقيم به طبيعتُه.
وهذا ما اختصره التوصيف الذي قام به الطاهر بن عاشور رحمه الله في عبارته الجامعة: الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض، حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، ولم يدخل عليه -أي البشر- التحجيرُ في أعماله إلا بتعارض متعَلَّقاتِها -أي الحرية-، مثل أن تتعلق إرادته بفعل شيء يبتغيه، فإذا تأمل أعرض عنه إعراضًا، إما اختياريًا، إن كان لتغليب إحدى منفعتين على أخرى تعارضها، كما يكف عن عمل يسوءه أو يسوء ابنه أو حبيبَه، فيترك ما يريد لما يريد.
وإما إعراضًا قهريًا إذا صرفه عن عمله توارد مشيئة غيره على ذلك المبتغى (3).
تتأسس الحرية عندنا على أصل كبير، وهو قاعدة معلومة عند علماء المسلمين، هي: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم (4).
أو: الأصل في المنافع الإذن... (5).
فكل شيء، سواء كان فعلًا، أو قولًا، مأكلًا، أو ملبسًا، أو غيره جائز أصالةً، إلا أن يحمل ما يقتضي حرمته، فنصوص الوحي وتشريعاته قلّمَا تحمل ألفاظ الإباحة، لأنها الأصل، وإنما غالب نصوصها إيجابٌ أو استحباب، أو كراهة أو تحريم، والذي يقيد حرية المرء أمران، الإيجاب والتحريم، فالأول جالب للمنفعة، والثاني دارئٌ للمفسدة، وكلاهما إلزامي، الأول معراج للارتقاء، والثاني سياج للاتّقاء، فمن فرّط في الأول هوى، ومن وقع في الثاني غوى، وذلك بدرجات تتفاوت بحسب التفريط والاجتراح.
ولما كان الأمر كذلك، فإن حدود الحرية في الإسلام تتحدَّدُ في امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، وهو ما يؤصله النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وسكت عن كثير عن غير نسيان فلا تكلفوها، رحمة من الله فاقبلوها» (6).
وهذا من أصول الاستدلال على إباحة المسكوت عنه، إذ معنى العفو هو نفي الحرج، أو عدم المؤاخذة (7)، وهو قسم من أقسام الإباحة عند بعض الأصوليين (8)، لأن عدم المؤاخذة على الفعل مع السكوت عنه هو حدّ المباح، وبناء على هذا، وإضافة إلى كون الفرائض والمحرَّماتِ محدودةً بمحدودية النصوص وعِلَلِها ومقاصدها، فإن ما عداها كلّه مباح، ما لَمْ يُعارِض ما شرعَه الشارع الكريم، وهذا مقرَّر في كتب الأصول (9).
مظاهر الحرية في الإسلام:
من ناحية العقيدة؛ فإن الإنسان تكون له الحرية ابتداءً في اعتناق ما يشاء من الأديان، أما إذا اعتنق الدين الإسلامي فقد وقع بينه وبين هذا الدين عقدًا لا يحل له فسخه؛ وهذا من تمام هذا الدين وعظمته.
في الحياة؛ فإن الإنسان له الحرية الكاملة والاختيار غير المنقوص في أن يسلك أي الطرق التي يراها مناسبة في حياته، فقد هدى الله تعالى الإنسان إلى طريق الخير كما بين له طريق الشر، فإما أن يكون شاكرًا وإما كفورًا.
أكد الإسلام على حرية الأفراد الشخصية في الحياة؛ فللإنسان أن يأكل ما يريد وأن يشرب ما يريد وأن يتنعم بما يريد ويشاء من الخيرات، وأن يبيع ويشتري ما يشاء، ما دامت تلك المُباحات لا تضر بالنفس أو تؤذي النّاس.
حرص الإسلام على تحرير الإنسان تحريرًا كاملًا من العبودية للبشر أو العبودية لشهوات النفس، فقد حد الإسلام من مظاهر الرق والعبودية التي كانت منتشرة قديمًا بحثه على تحرير الأرقاء وملك اليمين، كما أكد الإسلام على ضرورة تحرير النفس من التّعلق بالشهوات من مالٍ ومتاعٍ وزينة، فمن أحب شيئًا تعلق به قلبه، وإذا تعلق القلب بشيء ملكه هذا الشيء واستعبده.
لقد خلق الله الإنسان حرًا، وخلق بني آدم أحرارًا، ليسوا بعبيد للعبيد، وهذا هو الأصل فيهم، والله تعالى أعطى الإنسان إرادة، ومشيئة، واختيارًا، فالعبد ليس مجبورًا على عمل، وإنما هو حر في اختياره ومشيئته، وبناء على هذه الحرية في الاختيار والمشيئة؛ يحاسبه الله تعالى، فلو كان العبد مكرهًا مجبرًا لا حرية له في الاختيار؛ فإن الله لا يؤاخذه على أفعاله المكره عليها: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (10)، فإذا فقد العبد حريته في العمل، ومشيئته في الاختيار، فصار مجبرًا مكرهًا، لا يؤاخذه الله، فيكون الإكراه عذرًا له في هذه الحالة فلا يأثم، وأما ما عمله باختياره، وحريته، ومشيئته، فإن الله تعالى يحاسبه عليه، وقد جاء الشرع بتحريم بيع الحر، ومن الكبائر أن يبيع الإنسان حرًا فيأكل ثمنه، كما في الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعط أجره» (11).
وقد جعلت الشريعة للرق أسبابًا معينة، ومسارات خاصة، فمن تعداها فباع حرًا فإنما يأكل في بطنه نار جهنم، وقد استعبد بعض البشر بعضًا عبر التاريخ، كما فعل فرعون مع بني إسرائيل، وقد امتن الله على بني إسرائيل لما نالوا الحرية بعد استعبادهم، وقد ذاقوا ذل العبودية لفرعون وقومه فقال سبحانه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49]، وكان فرعون يمن على موسى أنه لم يستعبده كما استعبد قومه، فكان رد موسى، {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 22]، فأنا واحد، وقومي هؤلاء جميعًا، فأين منتك عليَّ في أن لم تستعبدني، وأنا فرد واحد، واستعبدت قومي على كثرتهم وعددهم.
وجاءت الشريعة الإسلامية بوضع الآصار والأغلال، فهي شريعة تخفيف، ورفع للقيود الشاقة، ولذلك نجد فيها تخفيفًا في أحكام المكره، كما قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]، ولا تستقيم حياة الإنسان إلا إذا كان عبدًا لشيء واحد وهو الله تعالى، {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللهِ} [الأنعام: 19]، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالعبودية لله تعالى فقط، وعندما يصبح الإنسان عبدًا لله يتحرر من أسر المخلوقات، وعندما يصبح عبدًا لله فإنه يكون في غاية الحرية في نفسه، وكذلك فإن الصحابة لما خرجوا لفتوحات البلدان كان قائلهم يقول: لقد ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقال علي: لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًا (12).
ونعى الله على أهل الكتاب أن يكونوا عبيدًا لأحبارهم فقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ} [آل عمران: 64]؛
قال عدي بن حاتم: فانتهيت إليه (أي: النبي صلى الله عليه وسلم) وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} [التوبة: 31]، حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، فقال: فقال: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟» قلت: بلى، قال: «فتلك عبادتهم» (13).
ولذلك كان أعظم البشر الأنبياء، وقد مدحهم الله بالعبودية له فقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ} [ص: 17]، وقال عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} [ص: 44]، وهكذا عباد الله المتقون، عباد الله الأخيار، ونبينا صلى الله عليه وسلم رأسهم، وصفه الله بالعبودية له، فقال: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الفرقان: 41]، {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19].
صور للحريات التي أعطاها الإسلام للإنسان:
فالحرية التي أعطاها الله للإنسان أعطاه إياها ليختار ما يشاء من هذه المباحات، فيأكل ما يشاء، ويلبس ما يشاء، ويتنقل حيث يشاء، ويمتهن ما يشاء من المهن، ويعمل ما يشاء من الأعمال، وكذلك يبيع ما يشاء، ويشتري ما يشاء، ويستأجر ما يشاء، ويؤجر ما يشاء، من سائر التصرفات.
وهذه الحرية، وهذا الاختيار أيضًا نجده للذكر والأنثى: فالإنسان يتزوج من يشاء، وكذلك المرأة ترضى بمن تشاء، فمن شاءت وافقت على الزواج منه، ومن شاءت أن تأبى الزواج منه أبت، ولها الحرية في ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: كيف أذنها؟ قال: «أن تسكت» (14).
وقال سبحانه: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
وهذه الحريات التي أعطاها الله للبشر ثابتة، ومقررة وهي من العيش الكريم، والحياة الآمنة، والسعي في طلب المعاش.
وجاء الإسلام بحرية الابتكار، فهذا الإنسان مسموح له أن يكتشف، وأن يخترع، وأن يركب، وأن يصنع، إنها أشياء مفتوحة بحرية للناس، إنه حر أن يتكلم بما في نفسه، وأن يعبر عن رأيه، وهكذا وجوه الحرية كثيرة واضحة.
العبوديات وصور معاصرة لها:
ولكن من الناس من يختار أنواعًا من العبودية غير العبودية للبشر الصريحة، ولما فطن أعداء الله إلى الكيفية التي يستعبدون بها البشر أوقعوهم في أنواع من العبوديات غير قضية أن يكون في رقبته غل، ويساق بالسلاسل ليعمل في مزرعة فلان، وحقل فلان، ومصنع فلان، تلك كانت صور سابقة، كانت مشهورة بالعبودية، ولكن ابتكر هؤلاء طرقًا جديدة في فتح أبواب العبودية، بأن يكون الناس عبيدًا لأفكارهم بما يهيمنون عليه من وسائل البث، عبيدًا لشهواتهم بما يثيرونه فيهم من الغرائز، عبيدًا للدرهم والدينار بما يجذبونهم إليه من ألوان، استعباد المال لصاحبه.
وهكذا انتشرت حريات هي في الحقيقة عبوديات.
حرية الغريزة فصار بعض الناس عبيدًا للشهوات، فالشهوة هي التي تحركه، هي التي تقيمه، وهي التي تقعده، وهي التي تؤزه، وهي التي تسكنه، وهي التي تجعله يدفع، وتجعله يحجم، فأطلقوا للبشر عنانًا في أنواع المحرمات والشهوات، فصار هذا عبدًا لامرأة، وهذا عبدًا لكأس ومخدر يدفع من أجله شبابه وثروته، بل ويسرق لأجل تحصيله، فصار هنا عبيد للنساء، وهناك عبيد للمخدرات والمسكرات، وفي ذاك التوجه عبيد للمال، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة» (15).
وهنالك من هو عبد لشخص إذا عشقه وهويه فصار معشوقه، فهو الذي يحركه، فهو يذكره في قيامه، وقعوده، وأكله، وحتى يراه في نومه، فهذه عبودية خطيرة، عبودية العشق، فيظن هذا الإنسان أنه حر ليس بعبد لأنه ليس ملكًا لفلان يسوقه من رقبته بسلسلة، ولكنه في الحقيقة عبد لهذه الشهوة، وهذه المادة.
من فوائد العبودية لله:
العبودية لله تحرر الناس من هذه العبوديات لغير الله، فإذا صرت عبدًا لله تحررت من عبودية الشهوة، وإذا صرت عبدًا لله تحررت من عبودية الدرهم والدينار، فصار الدرهم والدينار يخدمك لا أنت الذي تخدمه، ولما سئل بعض أهل العلم عن متى يكون الإنسان عبدًا للدرهم والدينار ومتى لا يكون؟ فقال: إذا كان المال عنده بمثابة الحمار الذي يركبه، وبيت الخلاء الذي يدخله، فليس عبدًا للدرهم والدينار، فكلهم يحتاج إلى دابة ينتقل عليها، وبيت خلاء يدخل فيه ليقضي حاجته، لكن هل الإنسان الذي يدخل بيت الخلاء والمرحاض يحب المرحاض، ويهيم به، ويفتتن به، ويعيش معه حضرًا، وسفرًا، ليلًا، ونهارًا في أحواله؟
كلا، إنه يحتاجه فيدخله وقت الحاجة، ثم يخرج منه، وقلبه غير متعلق به، وإذا كان له دابة يركبها فإنه يحتاجها ويتخذها ولا بد له منها، لكن قلبه ليس متعلقًا بحماره الذي يركبه، ليس يهواه، ويتيه به، ويهيم، فأما إذا صار المال بالنسبة له هو الذي يرضى من أجله، ويسخط من أجله، ويحب من أجله، ويبغض من أجله، ويعطي من أجله، ويمنع من أجله، ويعيش لأجله، فعند ذلك يكون عبدًا له؛ ولذلك فإن العبودية لله تخلص شابًا من فتاة عشقها، والعبودية لله تخلص مدمنًا من مخدر سقط في وحله، والعبودية لله تخلص سكرانًا من خمر قد لعب بكليته ودخل في جسده، والعبودية لله تخلص الناس من التعلق بغير الله، فتجعلهم أحرارًا، ولو كان بلالًا الحبشي، أو سلمان الفارسي، أو صهيبًا الرومي، أو غير ذلك ممن استعبدوا في يوم من الأيام.
إن مفهوم العبودية لله ينبغي أن يكون حقًا في أنفسنا، فنحب لله، ونبغض لله، ونعطي لله، ونمنع لله، ونعيش لله، ونموت في سبيل الله، وهكذا.
ضوابط الحريات في الإسلام:
قد نفخ أعداء الإسلام في بعض الناس باسم الحرية ما يجعلونهم بذلك عبيدًا لشهواتهم، وأهوائهم، ومبادئ الغرب والشرق، وهذه الأطروحات الباطلة التي يأتون بها ليلًا ونهارًا؛ ولذلك فإن الله لما أعطى للبشر حرية في التصرفات -كما قلنا- بيعًا، وشراء، واستئجارًا، وكفالة، ورهنًا، وحوالة، ونحو ذلك، وأعطاهم الحرية في الطعام، واللباس، والنكاح، فإنه سبحانه وتعالى جعل لذلك قيودًا، وفَهم القيود مهم جدًا لمعرفة بطلان مبدأ الحرية المطلقة.
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فإذا هوي الإنسان شيئًا، ومال إليه، وأراد الله ورسوله عكس هذا فيجب عليه الانقياد لما أراده الله ورسوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51]؛ ولذلك من المبادئ الإسلامية العظيمة لا حرية في فعل المعصية، ويجب التفريق بين الحرية وبين الحرام، قال عليه الصلاة والسلام: «إذا نَهيتُكم عن شيءٍ فاجتنبوهُ» (16).
ولذلك فلا يمكن أن يقال: أن هناك حرية في سب الله، أو أنبيائه ورسله، أو التطاول على ثوابت الدين وأحكامه وشرائعه، وليس هناك حرية في انتقاد أحكام الميراث، أو أحكام الولاية في الإسلام، أو انتقاد أحكام الطلاق، أو أحكام النكاح، ليس هناك حرية في انتقاد ما جاءت به الشريعة من الحدود؛ كحد السرقة، أو حد الزنا، ونحو ذلك، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تترك عقوبة الزاني إذا كان راضيًا بفعله هو والزانية؛ لأن الله ليس براض، ولا يمكن أن يكون الربا حلالًا إذا كان المرابي والذي يدفع إليه الربا الآخذ والمعطي راضيين، لا يمكن أن يكون حلالًا إذا كانا راضيين؛ لأن الله ليس براض، ولا يمكن أن تكون المرأة حرة في طريقة خروجها، ولباسها، وتبدي ما تشاء من الزينة، وتتبرج، وتتعطر، وتمر على من تشاء من الرجال، وتمشي بأي طريقة في الأسواق، وتخلو بمن تشاء، وتفعل ما تشاء بحجة أنها حرية شخصية؛ لأن الله لا يرضى عن هذا.
مفاهيم خاطئة في الحرية:
وبعض الناس يفهم في ضوابط الحرية شيئًا واحدًا، وهو أنك لا تضر بالآخرين، ويقول لك: حريتك تقف عند ضرري، فالتدخين عنده يمكن أن يفهم على أنه ممنوع إذا كان يضر بالآخرين؛ ولذلك يتحدثون عن التدخين السلبي، ويقول لك بالتالي: إذا كنت في بيتك وحدك فدخن أنت حر، لكن لا تدخن أمامي لأنك تضرني بأنفاسك، والخطأ في هذا أنه قال له مقرًا: إذا كنت في بيتك وحدك دخن أنت حر، فهذه عبارة خاطئة شرعًا، فلا يجوز لك أن تدخن لا في بيتك، ولا خارج بيتك، لا عند الناس، ولا وحدك؛ لأن التدخين محرم، وأنت تضر نفسك.
فكثير من الناس لا يفهمون في قضية الحرية الشخصية أن الشرع يحرم ما يضر بنفس الإنسان، ويقولون: ما دام هو يضر نفسه فله أن يفعل ما يشاء، وبناء عليه إذا أغلق عليه بابه، وأخذ إبرة مخدر، وبقي في بيته لا يؤذي أحدًا، ولا يخرج إلى الناس حتى يذهب مفعول المخدر؛ فعندهم أنه حر.
وهذا من أكبر مكائد إبليس، ومن أبطل الباطل؛ لأنه ليس حرًا، والملكان يقيدان عليه ما يفعله في قعر بيته، وحسابه عند الله يوم القيامة، وعلى من ولاه الله أمر المسلمين أن يأخذ على يديه، ولو كان يفعل ذلك؛ لأن السفيه إذا كان لا يعرف أن يقف عند حده بنفسه، ولو كان الضرر على نفسه، فإن الله يولي عليه من يوقفه عند حده، ولو كان ضرره على نفسه فقط.
ولذلك فمن الانحرافات الحديثة أن تجد من يقول: لا تكفر أمامي، لا تسب الأنبياء والصحابة أمامي، اذهب أغلق على نفسك البيت وسب من تشاء، سب الرب، سب الدين، سب الصحابة، سب الأنبياء، افعل ما تشاء.
هذا من أبطل الباطل، فكيف يقر، ويسمح له أن يسب الله، أو الدين، أو الأنبياء، أو الصحابة في بيته إذا كان لا يسمعه أحد، فلا يجوز أن يقر على ذلك؛ لأن هذا السماح بالكفر حرام، ولو كان الإنسان يفعله وحده، فالكفر لا يقر، والمعصية لا تقر حتى لو كان العاصي يفعلها وحده في بيته، أنت لا تراه لست مسئولًا عنه، ولكن لو سئلت: ما يفعله فلان في بيته الآن من المعصية، هل هي حرية شخصية؟ تقول: لا، ليس حرًا أن يعمل ذلك في بيته وحده أبدًا، أنت لا تدري عنه، وأنت لا تحاسبه، وله رب يحاسبه، نعم، لكن ما حكمه؟ حرام، وهل يحق له أن يفعل ذلك وحده؟ لا يحق له ذلك شرعًا، بل هو حرام، وهو آثم، ومعاقب عند الله.
وبالمناسبة لا يوجد معصية لا تتعدى إلى الغير، هذا لا بد أن يكون في قلبه نكتة سوداء، ستظهر في معاملته للناس بعدما يخرج من بيته.
عباد الله: لما قالت الشريعة: «لا ضرَرَ ولا ضِرارَ» (17)، ما معنى ذلك؟ لا ضرر بالنفس، ولا ضرار بالغير، وبعض الناس يفهم النصف الثاني فقط: «لا ضرار» يعني: لا يجوز أن تضر غيرك.
وقوله: «لا ضرر» يعني: لا يجوز أن تضر بنفسك حتى لو كنت مع نفسك وحدك أين تذهب بهذا؟
ولذلك فإن الحرية في الإسلام مقيدة، فمن أبطل الباطل قول: الحرية المطلقة، نريد الحرية المطلقة، فنقول: لا حرية مطلقة في الإسلام، وإلا ما كان للعبودية لله معنى؛ لأن الحرية المطلقة تقتضي ألا تقيد بأي قيد، فكيف يبتلي الله الناس، هذا عبد صالح أو لا، إذا كان لم يقيد حريتهم، فمبدأ القيود على الحرية هي التي تبين هل هذا عاص، أو طائع، وكيف ستتبين قضية الصلاح والمعصية والطاعة بدون قيود.
القيود هذه لما يقال لك: لا تزني، ولا تتعامل بالربا، ولا تشرب الخمر، ولو كنت وحدك، ولا يجوز لك أن تأكل الخنزير، لو قال: آكل الخنزير وحدي أنا في البيت ما أضر أحدًا، فلا يجوز ذلك، ولو كان وحده، والعبودية لله هنا تظهر أن يمتنع الإنسان عما قيده الله به، فهذه الحدود ليست فقط أشياء تضر بالغير، فالحدود أشياء تضر بالنفس أيضًا، فلو شرب الخمر في بيته، هذه حدود لله، انتهك حد الله، ولو زنا وإياها برضاها ورضاه انتهك حد الله، ولو سب الأنبياء وحده في البيت انتهك حد الله.
إذن هذا الانتهاك لحد الله يحاسب عليه الإنسان، والحريات الغربية لا تقول بهذا أبدًا، فالحريات الغربية فقط تقيد بالإضرار بالآخرين، إذا أضررت بالآخرين فحريتك تنتهي، وإذا ما أضررت بالآخرين بزعمهم على تعريفهم للإضرار بالآخرين فحريتك مطلقة.
ولذلك يقولون: حرية الاعتقاد، اعتقد بما تشاء، اعتقد بحجر، بشجر، اعتقد بما تشاء، بلا دين، تكون يهوديًا، نصرانيًا، بوذيًا، سيخيًا، هندوسيًا، كن ما شئت، حرية اعتقاد، هذا غير موجود في دين الإسلام، فالإسلام يوجب على الناس أن يعبدوا الله ويسلموا له: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، والله عاقب أقوامًا على أنهم أشركوا به، وكفروا، فعاقب قوم عاد، وثمود، وقوم لوط، وشعيب.
وكثير من الناس يتكلمون عن حرية الرأي، ويدخلون فيها حرية الكفر، ويخلطون بين حرية الفكر، وحرية الكفر، ويسمحون بحرية الكفر ضمن حرية الفكر، وأن تعتقد ما تشاء من المذاهب الضالة، ولذلك عندهم مشكلة حقيقة في حد الردة، وفي حديث: «من بدل دينه فاقتلوه» (18).
والمقصود بدينه دين الإسلام، كما بين العلماء في شرح الحديث، فيقولون: من أراد أن يخرج من الدين فليخرج، ولكن في الإسلام الذي يخرج من الدين يقتل، وإلا يصبح الدين بوابة بلا بواب، ولا راع، ولا حارس، ويجترئ الناس على ترك الدين، وعلى ترك الإسلام، وهكذا يصبح الدين ألعوبة، من شاء دخل، ومن شاء ترك.
فإن قال قائل: فما معنى قول الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؟ الجواب: معناه على ضوء الأحاديث والآيات الأخرى، {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، وعلى ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله» (19)، أن من أراد من غير المسلمين، ومن أهل الكتاب تحديدًا، أن يبقى على دينه مقابل أن يدفع الجزية، ولا يدخل في الإسلام فله ذلك، لكن يقال له: إذا مت على هذا، فأنت في النار، فيجب أن تدخل، «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (20) (21).
______________
(1) سؤال العمل (ص: 135).
(2) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام (ص: 160).
(3) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، (ص: 162).
(4) الأشباه والنظائر (ص: 60).
(5) البحر المحيط (4/ 322).
(6) أخرجه الطبراني (7461).
(7) الموافقات (1/ 144).
(8) إعلام الموقعين (1/ 242).
(9) الإسلام والحريات الفردية/ مركز يقين.
(10) أخرجه البخاري (2528).
(11) أخرجه البخاري (2227).
(12) النحو الوافي (1/ 588).
(13) أخرجه الطبراني في الكبير (218).
(14) أخرجه البخاري (6970).
(15) أخرجه البخاري (2887).
(16) أخرجه البخاري (7288).
(17) أخرجه ابن ماجه (2341)
(18) أخرجه البخاري (3017).
(19) أخرجه البخاري (393).
(20) أخرجه مسلم (153).
(21) مفهوم الحرية في الإسلام/ محمد صالح المنجد.