دعاة التغريب
إن التغريب تيار مشبوه، يهدف إلى نقض عرى الإسلام، والتحلل من التزاماته وقيمه واستقلاليته، والدعوة إلى التبعية للغرب في كل توجهاته وممارساته، ومن واجب قادة الفكر الإسلامي كشف مخططاته، والوقوف بصلابة أمام سمومه ومفترياته، التي تبثها الآن شخصيات مسلمة، وصحافة ذات باع طويل في محاولات التغريب، وأجهزة وثيقة الصلة بالصهيونية العالمية والماسونية الدولية، وقد استطاع هذا التيار استقطاب كثير من المفكرين العرب، فمسخوا هويتهم، وحاولوا قطع صلتهم بدينهم، والذهاب بولائهم وانتمائهم لأمتهم الإسلامية، من خلال موالاة الغرب والزهو بكل ما هو غربي، وهي أمور ذات خطر عظيم على الشباب المسلم.
والتغريب هو تيار فكري كبير، ذو أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية وفنية، يرمي إلى صبغ حياة الأمم بعامة، والمسلمين بخاصة، بالأسلوب الغربي، وذلك بهدف إلغاء شخصيتهم المستقلة وخصائصهم المتفردة، وجعلهم أسرى التبعية الكاملة للحضارة الغربية(1).
نعم، لقد اتخذت عداوة النصارى للإسلام ومحاربتهم له أشكالًا مختلفة ومظاهر عِدَّة، ابتداءً بحمل السلاح وتجييش الجيوش النظامية، إلى الالتجاء للخداع والمكر المتمثِّل في غزوهم الفكري للعالم الإسلامي تحت عدة أقنعة, من التنصير إلى الاستشراق، إلى استجلاب أبناء المسلمين وتنصيرهم بطرقهم المختلفة؛ من بناء المدارس لهم والمستشفيات, وإنشاء شتَّى المرافق التي قدَّمنا ذكرها، ونشطوا في ذلك نشاطًا عاليًا, أثمر فيما بعد استيلاءهم على العالم الإسلامي حسيًّا ومعنويًّا, وعلت حضارتهم المادية التي يفاخرون بها على حضارة الإسلام، علت في قلوب مريضة أصيبت بالانبهار بما عند الغرب من صناعة وفكر ونظام سهل.
وقد توالت الهزائم على العالم الإسلامي, فلا يخرجون من هزيمة إلا إلى أخرى، وأصاب المسلمين الوهن والاستخذاء أمام العبقرية الأوروبية، ونجح الجزء الأكبر من المخططات اللادينية، وتضافرت الجهود, وأشغلوا المسلمين بأحداث هامشيَّة فيما بينهم, لا تخدم أي شكل من أشكال المصالح العامة.
وكانت أكبر الخطط الناجحة هي تلك التي اتفق عليها زعماء الغرب، من ضرب المسلمين بعضهم ببعض, والاتجاه بالحرب وجهةً أخرى ليس فيها جيوش ولا آلات حربية، وإنما هي حرب الإسلام ذاته عن طريق الغزو الفكري بدون إثارة المسلمين, والتفنن في إطلاق الشعارات البرَّاقة على أعمال العلمانيين والمنصِّرين في البلاد الإسلامية, في أشكال مساعداتٍ ظاهرها الرحمة وباطنها دمار الإسلام والمسلمين(2).
لقد جَنَّدَ الاستعمار بعض المستشرقين، كما يقول الدكتور مصطفى السباعي، لتسميم هذا المنبع الروحي، فنصبوا الفخ باسم البحث العلمي والتفكير الحر، وجاء نفر فوقعوا في الفخ، وراحوا يُرَوِّجُونَ بضاعة الغُزاة، إما عن جهل بحقيقة التراث الإسلامي، أو عن انخداع بالأسلوب العلمي المزعوم، وإما عن رغبة في الظهور بمظهر التحرر العقلي وشجاعة الرأي، وإما عن انحراف فكري ووجداني بتأثير الاستهواء(3).
تيارات التغريب:
وقد ذكر الشيخ محمد حامد الناصر أن مجمل تيارات التغريب تكمن في ثلاثة:
1ـ تيارات مدرسة الاستعمار، وهو من أدوات المستعمر لتنفيذ سياسته في إدارة شئون البلاد؛ ومن هؤلاء: سعد زغلول، وأحمد لطفي السيد.
2ـ التيار الثاني: تيار تطوير الإسلام، وأهل هذا التيار ينصب اهتمامهم في زعمهم: تطوير الدين وإعادة تفسيره وفق الحضارة الغربية، ومن هؤلاء: رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، ثم أصبحت على يد محمد عبده ومدرسته.
3ـ التيار الثالث: ويمثله نصارى العرب، وجهوا جل اهتمامهم إلى تأسيس الصحف اليومية؛ كصحيفة الأهرام، والمقطم، وتحملان الأنباء العالمية والمذاهب السياسية، وبعضها كان يحمل طابعًا أدبيًا علميًا؛ مثل: صحيفة المقتطف، وصحيفة الهلال.
وقد ذُكِرت شخصيات كثيرة تنادي بهذا التغريب؛ مثل: أديب إسحاق، وسليم نقاش، وبطرس البستاني، وهم من أنشط العرب في نقل الحضارة الغربية(4).
وما إن ظهرت اللادينية إلّا وتلقَّفَها اليهود ونشروها بكل وسائلهم الكثيرة ودعاياتهم المؤثرة، حتى رَكَن كثير ممن ينتسب إلى الإسلام إلى تلك الدعايات, وتحولوا إلى جنود لخدمة اليهود؛ من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وقد حذَّرنا الله تعالى من الركون إلى أعداء ديننا بقوله عز وجل: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود:113], وقد وضَحت هذه النار في الشعوب الإسلامية، الذين تنكَّروا لدينهم وتقبَّلوا العلمانية، وضحت في معيشتهم وفي أمنهم وفي تكاتفهم؛ بل وفي كل شئون حياتهم، فكانت أمرًا مخزيًا: {سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
ولا يزال اليهود أداة تخذيل وإغواء لكل الأمم، وخصوصًا الأمة الإسلامية, التي تمثل عدوهم اللدود الأبدي، ذلك العدو الذي تآمروا عليه منذ بزوغ فجره إلى اليوم، ولكن {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64]، وما تمجيدهم للعلمانية ولأقطابها, وذمهم للإسلام ولتعاليمه إلا جزء من عداوتهم له، وجزء من مخططاتهم للقضاء عليه، ولن يُتِمَّ الله لهم ذلك إن شاء الله إلى الأبد {وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
ومن تلك الأسباب لانتشار العلمانية أيضًا هذه البعثات لأبناء المسلمين، التي ترسل إلى الغرب للدراسة؛ إلا من رحم الله منهم, ذلك أن الطالب يذهب باعتباره تلميذًا مستفيدًا لا مناظرًا مدافعًا، فيشبع من هناك بما قد أُعِدَّ له وفق مخطَّط محكم، وحينما يُتِمُّ دراسته ويرجع إلى بلده الإسلامي لا شك أنه يرجع بغير الفكر الذي ذهب به؛ إذ لا بد وأن يتأثر ولو باتجاه واحد على الأقل, أو شبهة لا يستطيع دفعها عن نفسه مهما حاول التماسك, والتوفيق بيد الله تعالى.
بل إن كثيرًا من الذين ذهبوا للدراسة في الدول الكافرة العلمانية يرجعون بقلوب غير التي ذهبوا بها معهم, فيتمنَّون لو أن مجتمعهم الإسلامي يتحول في لحظة إلى صورةٍ طبق الأصل من تلك المجتمعات الكافرة التي ألفوها وأشربوا حبها، وقد صرَّح كثير منهم بإعجابه بالحضارة الأوروبية، واعتقدوا أن لا مخرج للمسلمين إلى السعادة وامتلاك القوة إلا بتقليد الغرب في كل صغيرة وكبيرة؛ كالطهطاوي، وأحمد خان، وعلي عبد الرزاق، وطه حسين.
فرجع كثير من طلاب العلم من المسلمين، الذين ذهبوا إلى الدول الأوروبية للدراسة، وهم متضلعون من تعاليم العلمانية ومقتنعون بها، وإذا رجع الفكر إلى تاريخ المسلمين الأوائل, فإن صاحبه يشعر بالحزن والأسى؛ لأن ماضي المسلمين كان هو النور المشرق، وكان العلم وأهله وكتبه كلها عند المسلمين وفي جامعاتهم، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا في حمأة الجهل، فانقلب الحال رأسًا على عقب حينما زهد كثير من المسلمين عن تعاليم دينهم, ورغبوا في الحضارة الغربية وزخرفها، فأصبح بعض المسلمين ينظر إلى العلوم الغربية بنفس الإكبار الذي كان ينظر به الغرب إلى العلوم الإسلامية(5).
وقد دأب قوم في السنوات الأخيرة إلى توجيه الاتهامات إلى مصادر السُنَّة ورجالها، وقد كتب هذه الأشياء مستشرقون لهم ولاء ديني معارض ومخالف للإسلام وللمسلمين، وقد اعتمدوا في ذلك على خيوط جمعوها من فكر المعتزلة وغُلاة الشيعة وحكايات الأدب، التي كان مؤلفوها موضع الشُبهة في أمرهم وتخريجهم للحقائق، وكانت أبرز مَقَالاتِهِمْ هي الاعتماد على كتب النوادر والمحاضرات والحكايات، التي لم تؤلف لتأريخ الرجال، ولم تُصَنَّفْ للتحقيق العلمي، والتي جمعت من المجالس وكانت مادة للتفكه والتسلية(6).
أهداف دعاة التغريب وأساليبهم:
كان هدف التغريب واضحًا؛ هو محاولة قتل شخصيتنا، ومحو مقوماتها وتدمير فكرها، وتسميم ينابيع الثقافة فيها، ورغبتهم الشديدة في أن يحولوا العالم الإسلامي إلى مقلدين للغرب في كل شيء، وأن يكونوا تبعًا لهم, وأما أساليبهم فهي كثيرة ومتنوعة، ومن أهمها:
1ـ إحياء ما يسمونه بالحضارات القديمة في العالم الإسلامي، ومنها النفاذ إلى قيام الحضارات الغربية المتمثلة في الاستخفاف بالقديم في النهاية ونبذه، وقد استعد روكفلر اليهودي المتعصب بمبلغ عشرة ملايين دولار تبرعًا لإنشاء متحف للآثار الفرعونية في مصر، وملحق به معهد أيضًا، وقد فعل الكثير منهم ذلك، والغرض من هذا هو النفاذ إلى تفريق كلمة المسلمين وبتبديدهم، من خلال إرجاع كل قطر إلى جاهليته القديمة، قبل الإسلام، والالتفاف حولها.
2ـ التركيز على المناداة بالقضاء على التفرقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي؛ حتى تبقى للمسلم شخصية متميزة، ويسمون ذلك تطورًا في الفكر والثقافة على غرار عصر التنوير عند الأوروبيين.
3ـ إحياء الدعوة إلى تقديس الوطنية والقومية وغيرها من النعرات الجاهلية، والاعتزاز بها لتكون بديلًا عن الاعتزاز بالدين وقيمه، والإشادة بما حققته الوطنية الغربية، وإظهار الإعجاب بها، وذلك لضمان عدم عودة المسلمين إلى الألفة العامة بينهم، وعدم اتحادهم في كتلة واحدة؛ ليسهل على الغرب وأتباعهم التأثير على كل قطر بمفرده.
4ـ الدعوة إلى الالتفاف حول ما يسمونه الإنسانية؛ لكي يجتمع الجميع تحتها، فتزول الفوارق والخلافات الدينية، فيحل السلام، وتصبح الأرض وطنًا للجميع، بزعمهم، وهي دعوة يهودية، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب؛ لأنها في حقيقتها سراب(7).
5. محاولة التمويه بخلط الأخلاق الإسلامية المصدر بالعادات والتقاليد التي هي من صنع المجتمع.
6. محاولة تأليه العقل، أو تقديس العلم، أو الدعوة إلى عبادة البطولة.
ولقد شهد العالم الإسلامي تغيرًا اجتماعيًا استجابة لدعوات التغريب، على يد المستعمرين ومؤسساتهم التنصيرية والاستشراقية، ولكنه، وَفْق الأسلوب الجديد، أصبح يتم على أيدي المسلمين أنفسهم من تلاميذ المستشرقين والمبتعثين، يساندهم في تنفيذ هذا المخطط بعض الحكام من المسلمين.
كما أثمرت جهود المنصرين تنصير كثير من أبناء المسلمين الذي درسوا في مدارسهم، أو ألجأتهم الحاجة أو الإعجاب إلى اتباع دين النصارى؛ كما اعتقد كثير من المنتسبين إلى الإسلام الأفكار الكافرة، كالفكرة الشيوعية، أو القومية البعثية، أو العلمانية، أو غير ذلك من الفلسفات الضالة.
وكثمرة لتشجيع المستعمرين ازدهرت المظاهر الوثنية؛ من عبادة القبور، والحج إلى المشاهد، والطرق الصوفية الضالة، التي استحوذت على كثير ممن لديهم نزعة إلى التدين في كثير من البلاد الإسلامية(8).
وظهر أصحاب الدعوات الهدامة؛ أمثال من يدعو لسفور المرأة وغيره، إذا أرادوا تسويغ باطلهم في صفوف الناس دخلوا على الناس من مداخل يظنها السفيه الجاهل شرعية، كإبليس تمامًا؛ يدخل عليك من طريق الشر، وإلا دخل عليك من أبواب الخير، ولا غرو في ذلك، فهو معلمهم الأكبر.
أصحاب هذه الدعوات أتوا النصوص الشرعية وأقوال العلماء فيها، فأخذوا بعض أقوال العلماء التي فهموها فهمًا شهوانيًا وألصقوها بالدين، وركبوا بضاعتهم عليها، وعرضوها على الناس، هؤلاء الذين أوحى إليهم شياطينهم من الجن والإنس في باريس؛ من أمثال قاسم أمين، فانتكس تفكيرهم بين معاهدها، وما بدا لهم حين لم يعتصموا بحبل الله المتين، الذي يذود عنهم كل شيطان مريد، وذلك حين بُعثوا إلى تلك البلاد لينقلوا إلينا الصالح النافع من علومها وصناعتها، فضلّوا الطريق، وعادوا إلينا بغير الوجه الذي بُعثوا به.
جاء هؤلاء، بعد ثلاثة عشر قرنًا من نزول القرآن، ليخرجوا لنا حقائق التنزيل التي غاب علمها عن الأولين والآخرين من الفقهاء، ويضربوا بإجماع المسلمين، في الأجيال المتعاقبة، عرض الحائط، أليس ابتداع هذه الدعوة في ظل الاحتلال الإنجليزي، وتزعم فريق من المتفرنجين، الذين عُرفوا بموالاة ذلك الأجنبي المحتل، أليس دليلًا كافيًا على أنها طارئة علينا من الغرب، تقليدًا بأهله المنحرفين عن فطرة الله التي فطر الناس عليها؟؛ بل إن أصحاب هذه الدعوات كشفوا على حقيقتهم، كما قال الشاعر:
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلَم
فهذا تحرير قاسم أمين الذي لبس لباس الدين، في كتابه عن تحرير المرأة، وحرف النصوص الشرعة عن وجهها، ها هو ينكشف على حقيقته، وذلك أنه حين واجه تلك المعارضة الشديدة، التي أحرجته كثيرًا بعد تأليفه كتاب عن تحرير المرآة، ها هو يسفر عن وجهه الحقيقي، ويخلع عنه ثوب الحياء، وقناع التدين، ويكشف في جرأة وصراحة عن أهدافه المغرضة، في كتابه الجديد الذي سماه «المرأة الجديدة»؛ حيث بدا فيه تأثيره بالحضارة الغربية واضحًا، من خلال ما يسمى بالمنهج العلمي، فيقول في كتابه عن التشريع الفسيولوجي، والتجربة في البلاد التي منحت المرأة حريتها، قد أثبت أن المرأة مساوية للرجل في الملكات.
ويستشهد فيقول: «إن العفة تكتسب بمنهج الحرية للمرأة، وإن اختلاف الأجواء لا أثر له في ذلك»، ويقول: «نحن لا نستغرب أن المدينة الإسلامية أخطأت في فهم طبيعة المرأة، وتقدير شأنها، فليس خطؤها في ذلك أكبر من خطئها في كثير من الأمور الأخرى»، ويقول: «والذي أراه أن تمسكنا بالماضي هو من الأهواء، التي يجب أن ننهض لمحاربتها جميعًا؛ لأنه ميل إلى التدين والتقهقر، وهذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه، وليس له من الدواء إلا أن نربي أولادنا على أن يعرفوا شئون المدينة الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها، وإذا أتى هذا انحلت الحقيقة أمام عيوننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي، وتيقنا أن من المستحيل أن يتم إصلاح ماضي أحوالنا إذا لم يكن مؤسسًا على العلوم العصرية الحديثة»، إلى أن قال: «هذا هو الذي جعلنا نضرب الأمثال بالأوروبيين، ونشيد بتقليدهم، وحملنا على أن نستلفت الأنظار على المرأة الأوربية»(9).
مر دعاة التغريب بمرحلتين:
إحداهما: رفض الإسلام والدين جملة وتفصيلًا، والدعوة إلى التبعية لأفكار الغرب ومنطلقاتهم الإلحادية؛ شرقية أو غربية.
والثانية: أن هؤلاء لما وجدوا أن الشعوب الإسلامية، والطبقة الواعية بالذات، رافضة لمنهجهم وإلحادهم، متجهة نحو دينها وتراثها، أخذوا في مسايرة الموجة، فصاروا يبحثون عن منطلقات تراثية لأفكارهم، فوجدوا في آراء الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والقرامطة، والباطنية، والصوفية، ما يعدونه تراثًا له قيمة عظيمة ينبغي الرجوع إليه والانطلاق منه.
وعلى سبيل المثال وجدوا في قضية التأويل عند الفرق مجالًا خصبًا لدعم توجهاتهم الفكرية(10).
في الوقت الذي يجري فيه صريف الأقلام الجهادية من علماء المسلمين، في شتى فجاج أرض الله، بالدعوة إلى الله، والتبصر في الدين، ومواجهة موجات الإلحاد والزندقة، وردِّ دعاوى الجاهلية القديمة والمعاصرة: القومية، البعثية، الماركسية، العلمنة، الحداثة، وصد عاديات التغريب، والانحراف، والغزو المعنوي بجميع أنواعه وضروبه وأشكاله، بدت محنة أخرى في ظاهرة هي أبشع الظواهر المعادية للإسلام والمسلمين؛ إذ نزعت في المواجهة نزعًا عنيفًا بوقاحة وفراهة، كيدًا للمسلمين، وطعنًا في الدين، وليًّا بألسنتهم؛ لإفساد نزعة التدين بالإسلام، والدخول فيه، وتذويب شخصيته في معترك الديانات، ومطاردة التيار الإسلامي، وكبت طلائعه المؤمنة، وسحب أهله عنه إلى ردة شاملة.
وكل ذلك يجري على سنن الصراع والتقابل والتدافع، كما قال أبو العلاء المعري:
يُجْنَى تزايد هذا من تناقص ذا كالليل إن طال غال اليوم بالقِصَر
وأعلى من ذلك وأجلُّ قول الله تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقوله سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].
وذلك فيما جَهَرَتْ به اليهود والنصارى، من الدعوة الجادة إلى نظرية الخلط بين الإسلام وبين ما هم عليه من دين محرَّف منسوخ، وزرع خلاياهم في أعماق أمة الإسلام في كل صقع ودار، وصهر المسلمين معهم في قالب واحد، فلا ولاء، ولا براء، ولا تقسيم للملة إلى مسلم وكافر أبدًا، ولا لتعبدات الخلائق إلى حق وباطل، ونصبوا لذلك مجموعة من الشعارات، وصاغوا له كوكبة من الدعايات، وعقدوا له المؤتمرات والندوات والجمعيات والجماعات، إلى آخر ما هنالك من مخططات وضغوط، ومباحثات ظاهرة أو خفية، معلنة أو سرية، وما يتبع ذلك من خطوات نشطة، ظهر أمرها وانتشر، وشاع واشتهر.
وهم في الوقت نفسه في حالة استنفار، وجد ودأب في نشر التنصير، وتوسيع دائرته، والدعوة إليه، واستغلال مناطق الفقر، والحاجة، والجهل، وبعث النشرات عبر صناديق البريد(11).
التغريب في الألفاظ:
كان المجتمع الإسلامي في الماضي يستعمل ألفاظًا تحمل مدلولات إسلامية، لا يختلف أحد في فهمها ولا في استعمالها، ولا تدور المناقشات حولها.
ثم جاء الاستعمار العسكري للبلاد الإسلامية، الذي تبعه الاستعمار الفكري، فعمل على تغيير الألفاظ، وتغيير مدلولاتها، فيسير المسلمون في اتجاه الحضارة الغربية، ويتركون الحضارة الإسلامية.
الأجانب: بدلًا من الكفار.
الحرب: بدلًا من الجهاد.
التراث: بدلًا من الإسلام.
المساعي الحميدة: بدلًا من الصلح بين طائفتين من المسلمين.
الوطنية والقومية: بدلًا من الإسلامية.
إلى غير ذلك من التعبيرات التي تسربت إلى ثقافتنا الحديثة بدون أن نشعر، وبعد فترة بدأت هذه البذور تأتي بثمارها.
فقد أصبح الكفار يعيشون في بلادنا على أنهم أجانب فقط، ومن الممكن أن يكون الأجنبي أيضًا مسلمًا، وأن يكون عربيًا؛ لأنه من غير البلد الذي يعيش فيه، ومن الممكن أيضًا أن يكون الأجنبي أرقى ثقافة وأكثر مدنية.
وبالتالي فالمسلم لا يرى أن هؤلاء الكفار دونه في شيء وأنه مطالب بهدايتهم إلى الإسلام، فيبدأ في الاقتداء بهم، وتنمحي صورة المسلم شيئًا فشيئًا، ويصير الأمر إلى ما نرى في بلادنا الإسلامية من الاقتداء بالأجانب، والاقتناع بأنهم المثل الأعلى في التربية.
ثم إلى الاقتناع بأن التمسك بالإسلام هو سبب التأخر في المجتمعات الإسلامية التي تتمسك به، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
واستعملت كلمة الحرب بدلًا من الجهاد؛ لأن الجهاد يعطي ظلاله الإسلامية فهو حرب ضد أعداء الإسلام، وهو جهاد في سبيل الله تعالى، ومن يقتل في سبيل الله فإنه شهيد(12).
ومنذ مطلع القرن الماضي، وبعد القضاء على دولة الخلافة الإسلامية التي كانت توحد أمة الإسلام وأقطارها، رسم المستعمر البريطاني والفرنسي، وتبعه الأمريكي، خطة لتقطيع الأوطان العربية والإسلامية؛ وذلك بهدف احتلال الأوطان، وشل حركة الشعوب، ومنعها من المقاومة والتحرر.
وكان من أسس هذه الخطة ما يلي:
1- التقطيع السياسي بمعاهدة سايكس بيكو، وتحويل الوطن العربي إلى دويلات تفتقر كل دولة إلى مقومات الدولة، فنظام الحكم فردي استبدادي، والديمقراطية مغيبة أو مزورة، والميزانية من مساعدات الأجنبي لإحكام هيمنته، أو قائمة على القروض والديون، والاقتصاد والتنمية محكومة بأهداف المستعمر في فرض التخلف والعجز.
2- التقطيع الثقافي والفكري بإقامة مدارس أجنبية في بلاد المسلمين، وجامعات تحمل الفكر الغربي وتحارب الإسلام عقيدة وحضارة، وتشكك بأصولنا الحضارية التي صنعت أمجاد هذه الأمة ووحدتها.
3- تشجيع الغرب للحركات القومية المنفصلة عن الإسلام، ومحاربة الحركات القومية التي تؤلف بين عروبتها وإسلامها(13).
آثار التغريب التي تواجه الثقافة الإسلامية:
1- تشويه الإسلام، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة النبوية وعقيدة الإسلام وشريعته، وما يحدث الآن من محاولة لربط الإسلام بالإرهاب هو جزء من هذه الحملة.
2- تفريق المسلمين وإزالة الوحدة الإسلامية، والدعوة إلى القوميات المتنوعة، وقد كانت الرابطة التي تجمع الشعوب الإسلامية هي الرابطة الإسلامية, فشجع الغرب الصليبي الشعوب المختلفة على المناداة بالقوميات التي تنتسب إليها الأمم المختلفة, فنادى العرب بالقومية العربية, والأتراك بالتركية الطورانية, ونادى الأكراد بالكردية, وقد كان ظهور هذه الدعوات سببًا في إضعاف الخلافة التركية العثمانية وتحطمها.
3- الجهل بالإسلام وعقائده وأحكامه في كثير من بلاد الإسلام، وانتشار البدع والخرافات والمذاهب الباطلة؛ كالقاديانية، والبهائية، وانتشار الأفكار العلمانية المتطرفة والتكفيرية الغالية.
4- الهزيمة النفسية لدى بعض المسلمين، واهتزاز الثوابت لديهم، ونشوء طبقة من المثقفين المستغربين المنبهرين بالغرب وثقافاته.
5- إضعاف اللغة العربية، التي اختارها الله لكتابه، كما قال تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف:2]، وانتشار اللهجات المحلية.
6- إقصاء شريعة الإسلام من الحكم، وتشجيع العلمانية في البلاد الإسلامية، وهذا الأثر بذل الكفار في سبيل تحقيقه الكثير من الجهد والمال والفكر, وقد أقنعوا به كثيرًا من الحكام في الديار الإسلامية.
7- إفساد التعليم، وإضعاف التعليم الإسلامي ومدارس القرآن الكريم، والمناداة بعلمنة التعليم والدعوة إلى التعليم المختلط.
8- إفساد المرأة: لقد حرص الكفار على هذا؛ لأن فسادها يفسد الأبناء والأزواج, فأخرجوها من بيتها, وهتكوا حجابها, وزينوا لها التمرد على دينها بمختلف الأساليب, وزعموا أن تحضرها وتقدمها لا يكون إلا إذا سارت مسيرة المرأة في أوروبا(14).
سبل مواجهة حركة التغريب:
أهم السبل التي بها نضع قواعد للوقوف أمام هذا التيار المنحرف؛ أخلاقيًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، وذلك من خلال عشرة مطالب نوجزها لك أيها القارئ في السطور التالية:
1. تفعيل وإحياء الدعوة إلى الله تعالى.
2. إقامة مراكز دراسات متخصصة في الفكر والثقافة؛ لبناء فكر معاصر صحيح يوافق النصوص الشرعية، وتقويمه على أصول أهل السنة الجماعة.
3. إقامة منتديات فكرية في المدن الرئيسية تستقطب الشباب المهتمين بهذا الشأن، وقيام طلبة العلم المتخصصين عليها، وتهدف للحوار والمناقشة للأفكار المعاصرة.
4. تأليف كتاب جماعي يُجِيبُ على كافة الأسئلة المطروحة في الساحة حول القضايا الفكرية، يُكتب بمنهج علمي قوي، ويوضح الموقف السلفي حولها، ثم تسويقه وتدريسه والدعاية له.
5. إبراز دور العلماء، وإقامة المكاتب الخاصة لترتيب أعمالهم، وربط العلاقات الاجتماعية بينهم وبين سائر شرائح المجتمع، وترتيب اللقاءات الدورية لهم.
6. تحرير المصطلحات الفكرية وبيان غموضها، وإظهار المعاني الصحيحة من المعاني الفاسدة في مدلولها، وتحذير المجتمع منها، والتذكير بجناية المصطلحات الكلامية والفلسفية على الأمة.
7. ضرورة استثمار الشبكة العالمية (الانترنت)، وإقامة رابطة تنسيقية بين المواقع الإسلامية، وتبني كل موقع مجموعة من طلبة العلم المتخصصين لمناقشة ورصد جانب من الأفكار المعاصرة، وهي أسهل نافذة إعلامية يمكن العمل عليها.
8. توسيع الدعوة في صفوف النساء؛ لأن إفساد المرأة جزء مركزي في المشروع التغريـبي، ومواجهته تقتضي العمل على بناء المرأة المسلمة علميًا ودعويًا وفكريًا.
9. محاصرة الاتجاه التغريبي من خلال الرصد والمتابعة الدقيقة، والفضح والكشف لخططه وأساليبه، ومواجهة القائمين على مؤسساته، بمخالفاتهم الشرعية والآثار السلوكية والأمنية والاجتماعية المترتبة عليها.
10. الوحدة خلق وتربية وثقافة: وإذا درسنا تعاليم الإسلام في وحدة المسلمين في الصلاة صفوفًا متراصة يتقدمهم إمامهم، ووحدة المسلمين في الصوم ينضبطون جميعًا لبداية الإمساك والإفطار وبأخلاق الصائمين، ووحدة المسلمين في الحج على أرض عرفة، وحول منى، وحول البيت، يلبّون ويكبرون ويعلنون الأخوة الإسلامية؛ العرب هنا، والترك هنا، والشقر هنا، والسود هنا، قبلتهم واحدة، وهتافهم واحد.
هذه الوحدة التي يصنعها الإسلام في شعائره وعباداته وسلوك أبنائه تحتاج إلى الإمام القائد، الذي يجمع الأمة ويوحدها للوقوف في وجه أخطر حملة تدميرية صليبية يهودية، تسعى لهدم حصوننا الإيمانية والثقافية والحضارية والسياسية والاجتماعية من الداخل، وتحتاج إلى الشعب الواعي، الذي يعرف كيف يجند نفسه لله في وجه التغريب الذي فرّقنا إلى دويلات لا تملك من أمرها شيئًا، وإلى شعوب مقهورة، تُسلب خيراتها، وتُحتل أوطانها، ويُقتل أبناؤها في العراق وفلسطين والشيشان، ويُهدد مسجدها الأقصى بالهدم لبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه(15).
***
_________________
(1) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (2/ 698).
(2) المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها (2/ 711).
(3) السنة النبوية في مواجهة شبهات الاستشراق، ص8.
(4) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب، ص129.
(5) المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها (2/ 716).
(6) السنة النبوية في مواجهة شبهات الاستشراق، أنور الجندي، ص9.
(7) المذاهب الفكرية المعاصرة، لغالب عواجي (1/ 465).
(8) أثر الإيمان في تحصين الأمة الإسلامية ضد الأفكار الهدامة (1/ 173).
(9) دعاة التغريب، رابطة علماء المسلمين.
(10) موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1143).
(11) الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، ص12.
(12) معجم المناهي اللفظية، ص74.
(13) كيف نواجه المخطط التدميري بالوحدة والجهاد؟ إبراهيم زيد الكيلاني، موقع: قصة الإسلام.
(14) نحو ثقافة إسلامية أصيلة، ص63.
(15) كيف نواجه المخطط التدميري بالوحدة والجهاد؟