logo

قصة داعية (مؤمن آل فرعون)


بتاريخ : الأربعاء ، 10 ذو الحجة ، 1436 الموافق 23 سبتمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
قصة داعية (مؤمن آل فرعون)

يُبْرِز كتابُ الله، في وسط هذه المعركة القائمة بين الحق والباطل، ما تركته دعوة موسى عليه السلام، رغمًا من مقاومة فرعون ورجاله، من الأثر العميق والحميد بين آل فرعون أنفسهم وبعض قرابته الأقربين، فالبذرة الصالحة متى وجدت تربة طيبة أسرعت إلى النمو فورًا، ذلك أن رجلًا من آل فرعون قد شرح الله صدره للإيمان بما جاء به موسى عليه السلام من عند الله، لكنه كتم إيمانه عن فرعون فترة من الزمن، ولم يعلنه لأحد من الناس، وبدافع من إيمانه، الخفي المكتوم، أخذ على عاتقه الدفاع عن موسى عليه السلام؛ حتى لا يناله أذى فرعون، وبسبب تدخله لم يقدم فرعون على تنفيذ حكم الإعدام في موسى عليه السلام؛ بل إن هذا المؤمن من آل فرعون مضى في سبيل الدفاع عن عقيدته الإيمانية الجديدة خطوة أبعد، فأخذ يمهد السبيل ويهيئ الجو؛ حتى يتمكن موسى عليه السلام من أن ينشر دعوته بين الناس وهو آمن على نفسه وعلى دعوته، دون مضايقة ولا متابعة(1).

وينص كتاب الله على أن مؤمن آل فرعون، وإن كان لم يعلن إيمانه بموسى عليه السلام في الحين، فقد تولى بنفسه نشر جزء مهم من دعوة موسى بين أعضاء الحاشية التابعة لفرعون، بصفة أنه مجرد ناصح لقومه أمين، لا بصفة كونه تابعًا من أتباع موسى عليه السلام وصحبه، وذلك ما تحكيه الآيات الكريمة:

 

{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)} [غافر:28-45].

وقد ذكرت هذه السورة، سورة غافر، لفتة إلى مصارع الغابرين، مقدمة لعرض جانب من قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون، تمثل موقف الطغيان من دعوة الحق، وتعرض فيها حلقة جديدة لم تعرض في قصة موسى عليه السلام من قبل، ولا تعرض إلا في هذه السورة، وهي حلقة ظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه، يدفع عن موسى عليه السلام ما هموا بقتله؛ ويصدع بكلمة الحق والإيمان في تلطف وحذر في أول الأمر، ثم في صراحة ووضوح في النهاية، ويعرض في جدله مع فرعون حجج الحق وبراهينه قوية ناصعة؛ ويحذرهم يوم القيامة، ويمثل لهم بعض مشاهده في أسلوب مؤثر؛ ويذكرهم موقفهم وموقف الأجيال قبلهم من يوسف عليه السلام ورسالته، ويستطرد السياق بالقصة حتى يصل طرفها بالآخرة، فإذا هم هناك، وإذا هم يتحاجون في النار، وإذا حوار بين الضعفاء والذين استكبروا، وحوار لهم جميعًا مع خزنة جهنم يطلبون فيه الخلاص، ولات حين خلاص! وفي ظل هذا المشهد يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الصبر والثقة بوعد الله الحق، والتوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار(2).

عن ابن عباس قال: لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون، والذي قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص:20].

وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل، و«أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»(3)، كما ثبت بذلك الحديث، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون، وهي قوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} أي: لأجل أن يقول ربي الله.

هذا الرجل المؤمن، الذي من آل فرعون، من بيت المملكة، لا بد أن يكون له كلمة مسموعة، وخصوصًا إذا كان يظهر موافقتهم ويكتم إيمانه، فإنهم يراعونه في الغالب ما لا يراعونه لو خالفهم في الظاهر، كما منع الله رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب من قريش، حيث كان أبو طالب كبيرًا عندهم، موافقًا لهم على دينهم، ولو كان مسلمًا لم يحصل منه ذلك المنع.

فقال ذلك الرجل المؤمن الموفق العاقل الحازم، مقبحًا فعل قومه، وشناعة ما عزموا عليه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ} أي: كيف تستحلون قتله، وهذا ذنبه وجرمه أنه يقول ربي الله، ولم يكن أيضًا قولًا مجردًا عن البينات، ولهذا قال: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} لأن بينته اشتهرت عندهم اشتهارًا علم به الصغير والكبير؛ أي: فهذا لا يوجب قتله.

فهلا أبطلتم قبل ذلك ما جاء به من الحق، وقابلتم البرهان ببرهان يرده، ثم بعد ذلك نظرتم: هل يحل قتله إذا ظهرتم عليه بالحجة أم لا؟ فأما وقد ظهرت حجته، واستعلى برهانه، فبينكم وبين حل قتله مفاوز تنقطع بها أعناق المطي.

ثم قال لهم مقالة عقلية تقنع كل عاقل، بأي حالة قدرت، فقال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي: موسى بين أمرين، إما كاذب في دعواه أو صادق فيها، فإن كان كاذبًا فكذبه عليه، وضرره مختص به، وليس عليكم في ذلك ضرر حيث امتنعتم من إجابته وتصديقه، وإن كان صادقًا وقد جاءكم بالبينات، وأخبركم أنكم إن لم تجيبوه عذبكم الله عذابًا في الدنيا وعذابًا في الآخرة، فإنه لا بد أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وهو عذاب الدنيا.

وهذا من حسن عقله، ولطف دفعه عن موسى، حيث أتى بهذا الجواب الذي لا تشويش فيه عليهم، وجعل الأمر دائرًا بين تينك الحالتين، وعلى كل تقدير فقتله سفه وجهل منكم.

ثم انتقل، رضي الله عنه وأرضاه وغفر له ورحمه، إلى أمر أعلى من ذلك، وبيان قرب موسى من الحق فقال: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ}؛ أي: متجاوز الحد بترك الحق والإقبال على الباطل، {كَذَّابٌ} بنسبته ما أسرف فيه إلى الله، فهذا لا يهديه الله إلى طريق الصواب، لا في مدلوله ولا في دليله، ولا يوفق للصراط المستقيم؛ أي: وقد رأيتم ما دعا موسى إليه من الحق، وما هداه الله إلى بيانه من البراهين العقلية والخوارق السماوية، فالذي اهتدى هذا الهدى لا يمكن أن يكون مسرفًا ولا كاذبًا، وهذا دليل على كمال علمه وعقله ومعرفته بربه(4).

إنها جولة ضخمة هذه التي جالها الرجل المؤمن مع المتآمرين من فرعون وملئه، وإنه منطق الفطرة المؤمنة في حذر ومهارة وقوة كذلك.

إنه يبدأ بتفظيع ما هم مقدمون عليه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ}، فهل هذه الكلمة البريئة المتعلقة باعتقاد قلب، واقتناع نفس، تستحق القتل، ويرد عليها بإزهاق روح؟ إنها في هذه الصورة فعلة منكرة بشعة ظاهرة القبح والبشاعة.

ثم يخطو بهم خطوة أخرى، فالذي يقول هذه الكلمة البريئة: {رَبِّيَ اللهُ} يقولها ومعه حجته، وفي يده برهانه: {وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} يشير إلى تلك الآيات التي عرضها موسى عليه السّلام ورأوها، وهم، فيما بينهم وبعيدًا عن الجماهير، يصعب أن يماروا فيها! ثم يفرض لهم أسوأ الفروض، ويقف معهم موقف المنصف أمام القضية تمشيًا مع أقصى فرض يمكن أن يتخذوه: {وَإِنْ يَكُ كاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} وهو يحمل تبعة عمله، ويلقى جزاءه، ويحتمل جريرته، وليس هذا بمسوغ لهم أن يقتلوه على أية حال! وهناك الاحتمال الآخر، وهو أن يكون صادقًا، فيحسن الاحتياط لهذا الاحتمال، وعدم التعرض لنتائجه.

{وَإِنْ يَكُ صادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وإصابتهم ببعض الذي يعدهم هو كذلك أقل احتمال في القضية، فهو لا يطلب إليهم أكثر منه، وهذا منتهى الإنصاف في الجدل والإفحام.

ثم يهددهم من طرف خفي، وهو يقول كلامًا ينطبق على موسى كما ينطبق عليهم: {إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} فإذا كان موسى فإن الله لا يهديه ولا يوفقه، فدعوه له يلاقي منه جزاءه، واحذروا أن تكونوا أنتم الذين تكذبون على موسى وربه وتسرفون، فيصيبكم هذا المآل! وحين يصل بهم إلى فعل الله بمن هو مسرف كذاب، يهجم عليهم مخوفًا بعقاب الله، محذرًا من بأسه الذي لا ينجيهم منه ما هم فيه من ملك وسلطان، مذكرًا إياهم بهذه النعمة التي تستحق الشكران لا الكفران: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا}.

إن الرجل يشعر بما يشعر به القلب المؤمن، من أن بأس الله أقرب ما يكون لأصحاب الملك والسلطان في الأرض فهم أحق الناس بأن يحذروه، وأجدر الناس بأن يحسوه ويتقوه، وأن يبيتوا منه على وجل، فهو يتربص بهم في كل لحظة من لحظات الليل والنهار، ومن ثم يذكرهم بما هم فيه من الملك والسلطان، وهو يشير إلى هذا المعنى المستقر في حسه البصير، ثم يجمل نفسه فيهم وهو يذكرهم ببأس الله: {فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا} ليشعرهم أن أمرهم يهمه، فهو واحد منهم، ينتظر مصيره معهم، وهو إذن ناصح لهم مشفق عليهم، لعل هذا أن يجعلهم ينظرون إلى تحذيره باهتمام، ويأخذونه مأخذ البراءة والإخلاص، وهو يحاول أن يشعرهم أن بأس الله إن جاء فلا ناصر منه ولا مجير عليه، وأنهم إزاءه ضعاف ضعاف.

هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية تُوَجَّه إليه النصيحة، تأخذه العزة بالإثم، ويرى في النصح الخالص افتياتًا على سلطانه، ونقصًا من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان: {قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ}.

إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صوابًا، وأعتقده نافعًا، وإنه لهو الصواب والرشد بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى جوار رأيهم رأيًا؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟! ولكن الرجل المؤمن يجد من إيمانه غير هذا، ويجد أن عليه واجبًا أن يحذر وينصح ويبدي من الرأي ما يراه، ويرى من الواجب عليه أن يقف إلى جوار الحق الذي يعتقده، كائنًا ما كان رأي الطغاة، ثم هو يطرق قلوبهم بإيقاع آخر لعلها تحس وتستيقظ وترتعش وتلين، يطرق قلوبهم بلفتها على مصارع الأحزاب قبلهم.

وهي شاهدة ببأس الله في أخذ المكذبين والطغاة: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ (31)}.

ولكل حزب كان يوم، ولكن الرجل المؤمن يجمعها في يوم واحد: {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ} فهو اليوم الذي يتجلى فيه بأس الله، وهو يوم واحد في طبيعته على تفرق الأحزاب {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ} إنما يأخذهم بذنوبهم، ويصلح من حولهم ومن بعدهم بأخذهم بأيام الله.

ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى، وهو يذكرهم بيوم آخر من أيام الله، يوم القيامة، يوم التنادي: {وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}.

وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة، الذين يحشرون الناس للموقف، وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار، وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار، وأصحاب النار أصحاب الجنة، فالتنادي واقع في صور شتى، وتسميته {يَوْمَ التَّنادِ} تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك، وتصور يوم زحام وخصام، وتتفق كذلك مع قول الرجل المؤمن: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ}.

وقد يكون ذلك فرارهم عند هول جهنم، أو محاولتهم الفرار، ولا عاصم يومئذ ولات حين فرار، وصورة الفزع والفرار هي أولى الصور هنا للمستكبرين المتجبرين في الأرض، أصحاب الجاه والسلطان! {وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ولعل فيها إشارة خفية إلى قولة فرعون: {وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ}(5).

أخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن على بن أبى طالب أنه قال: أيها الناس أخبروني من أشجع الناس؟ قالوا: أنت، قال أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني عن أشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذته قريش، فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، قال: فوالله، ما دنا منا أحد إلا أبو بكر؛ يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلًا أن يقول ربى الله؟ ثم رفع بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم: أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فوالله، لساعة من أبى بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا رجل أعلن إيمانه وبذل ماله ودمه(6).

وقد أشار الزمخشري إلى ما في طي هذا القول من اللطائف والأسرار ما ملخصه: إن هذا المؤمن استدرجهم في الإيمان باستشهاده على صدق موسى بإحضاره عليه السلام، من عند من تنسب إليه الربوبية، بينات عدة لا بينة واحدة، وأتى بها معرّفة، معناه البينات العظيمة التي شهدتموها وعرفتموها على ذلك، ليلين بذلك جماحهم، ويكسر من سَوْرتهم.

ثم أخذهم بالاحتجاج بطريق التقسيم فقال: لا يخلو من أن يكون صادقًا أو كاذبًا، فإن يك كاذبًا فضرر كذبه عائد عليه، أو صادقًا فيصبكم، إن تعرضتم له، بعض الذي يعدكم.

وإنما ذكر (بعض) في تقدير أنه نبي صادق، والنبي صادق في جميع ما يعد به؛ لأنه سلك معهم طريق المناصحة لهم والمداراة، فجاء بما هو أقرب إلى تسليمهم وَأَدْخَلَ في تصديقهم له؛ ليسمعوا منه ولا يردوا عليه صحته، وذلك أنه حين فرضه صادقًا، فقد أثبت أنه صادق في جميع ما يعد، ولكنه أردفه {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ليهضمه بعض حقه في ظاهر الكلام، ليريهم أنه ليس بكلام من أعطاه حقه وأثنى عليه، فضلًا عن أن يكون متعصبًا له، وتقديم (الكاذب) على (الصادق) من هذا القبيل.

قال الناصر: ويناسب تقديم الكاذب على الصادق هنا قوله تعالى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف:26-27]، فقدم الشاهد أمارة صدقها على أمارة صدق يوسف، وإن كان الصادق هو يوسف، دونها، لرفع التهمة وإبعاد الظن، وإدلالًا بأن الحق معه، ولا يضره التأخير لهذه الفائدة، وقريب من هذا التصرف لإبعاد التهمة ما في قصة يوسف مع أخيه؛ إذ بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه(7).

وأخيرًا يذكرهم بموقفهم من يوسف، ومن ذريته كان موسى عليهما السلام، وكيف وقفوا موقف الشك من رسالته وما جاءهم به من الآيات، فلا يكرروا الموقف من موسى، وهو يصدق ما جاءهم به يوسف، فكانوا منه في شك وارتياب، ويكذب ما جزموا به من أن الله لن يبعث من بعده رسولًا، وها هو ذا موسى يجيء على فترة من يوسف، ويكذب هذا المقال: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}.

وهذه هي المرة الوحيدة في القرآن التي يشار فيها إلى رسالة يوسف عليه السلام للقوم في مصر، وقد عرفنا من سورة يوسف، أنه كان قد وصل إلى أن يكون على خزائن الأرض، المتصرف فيها، وأنه أصبح (عزيز مصر)، وهو لقب قد يكون لكبير وزراء مصر، وفي السورة كذلك ما قد يؤخذ منه أنه جلس على عرش مصر، وإن لم يكن ذلك مؤكدًا، وذلك قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا} [يوسف:100].

وقد يكون العرش الذي رفع عليه أبويه شيئًا آخر غير عرش المملكة المصرية الفرعونية، وعلى أية حال فقد وصل يوسف إلى مكان الحكم والسلطان، ومن ثم نملك أن نتصور الحالة التي يشير إليها الرجل المؤمن، حالة شكهم فيما جاءهم به يوسف من قبل، مع مصانعة يوسف صاحب السلطان وعدم الجهر بتكذيبه وهو في هذا المكان! {حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا}، وكأنما استراحوا لموته، فراحوا يظهرون ارتياحهم في هذه الصورة، ورغبتهم عما جاءهم به من التوحيد الخالص، الذي يبدو مما تكلم به في سجنه مع صاحبي السجن: {أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}، فزعموا أن لن يجيئهم من بعده رسول؛ لأن هذه كانت رغبتهم، وكثيرًا ما يرغب المرء في شيء ثم يصدق تحققه؛ لأن تحققه يلبي هذه الرغبة! والرجل المؤمن يشتد هنا وهو يشير إلى هذا الارتياب والإسراف في التكذيب فيقول: {كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ}.

فينذرهم بإضلال الله الذي ينتظر كل مسرف مرتاب في عقيدته، وقد جاءته معها البينات.

ثم يشتد في مواجهتهم بمقت الله ومقت المؤمنين لمن يجادل في آيات الله بغير حجة ولا برهان، وهم يفعلون هذا في أبشع صورة، ويندد بالتكبر والتجبر، وينذر بطمس الله لقلوب المتكبرين المتجبرين! {الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} .

والتعبير على لسان الرجل المؤمن يكاد يكون طبق الأصل من التعبير المباشر في مطالع السورة، المقت للمجادلين في آيات الله بغير برهان، والإضلال للمتكبرين المتجبرين حتى ما يبقى في قلوبهم موضع للهدى، ولا منفذ للإدراك.

وعلى الرغم من هذه الجولة الضخمة، التي أخذ الرجل المؤمن قلوبهم بها، فقد ظل فرعون في ضلاله، مصرًا على التنكر للحق، ولكنه تظاهر بأنه آخذ في التحقق من دعوى موسى، ويبدو أن منطق الرجل المؤمن وحجته كانت من شدة الوقع بحيث لم يستطع فرعون ومن معه تجاهلها.

وأمام هذه المراوغة وهذا الاستهتار وهذا الإصرار ألقى الرجل المؤمن كلمته الأخيرة مدوية صريحة، بعد ما دعا القوم إلى اتباعه في الطريق إلى الله، وهو طريق الرشاد، وكشف لهم عن قيمة هذه الحياة الزائلة، وشوقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذرهم عذاب الآخرة، وبين لهم ما في عقيدة الشرك من زيف ومن بطلان: {وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ ال