logo

قال هي عصاي


بتاريخ : الأحد ، 1 جمادى الأول ، 1443 الموافق 05 ديسمبر 2021
بقلم : تيار الاصلاح
قال هي عصاي

تاريخ الإنسان مع العصي تاريخ قديم وصحبة طويلة، قال بن دريد: إنما سميت العصا عصا لصلابتها مأخوذة من قولهم: عص الشيء وعَصَا وعَسَا إذا صلب.

والعصا عود من الخشب يتوكأ عليها وَيهشُ بها على الغنم، ولها فوائد أخرى كما قال نبي الله موسى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طـه: 17]، وردت كلمة العصا في القرآن في 12 آية وأتت مرة واحدة بلفظ (منسأته).

والعصا مثل يضرب للجماعة يقال: شق فلان عصا المسلمين؛ إذا خالف ألفتهم، وفرق جماعتهم.

ويقال: إياك وقتيل العصا، يريد إياك وأن تكون القتيل في الفتنة التي تفارق فيها الجماعة (1).

والعصا، اسم للجماعة، وقال الشاعر:

فَلِلَّهِ شَعْبَا طِيَّةٍ صَدَعا العَصَا       هِيَ اليَوْمَ شَتَّى، وَهْيَ أَمْسِ جَميع

وألقى الرجل عصاه إذا اطمأنَّ مكانه.

وتقول العرب: العَصَا من العُصية، ولا تلد الحية إلا حية، تريد أن الأمر الكبير يحدث عن الأمر الصغير.

والمِحْجَنة والمِحْجَن: هي العصا المعوجة، وفي الحديث المرفوع أنه طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن بمحجنه.

وحديث عمرو بن مسعود السلمي مع معاوية بن أبي سفيان.

ما بال شيخك مخنوقًا بجرّته      طال البلاء به دهرًا وقد صبرا

قد جاء ترعد كفّاه بمحجنه      لم يترك الدّهر من أولاده ذكرًا.

قيل لأحد الحكماء: ما لك تُدمن إمساك العصا ولست بكبير ولا مريض؟ فقال:

حملت العصا لا الضَّعف أوجبَ حمْلَها        عليَّ ولا أنَّي تحنيت من كبر

ولكنني ألزمت نفسيَ حمْلها        لأعلمها أن المقيم على سفر

ليعلم الجميع أن المقيم على سفر فلا يَرْكن، ويَسْلك الطريق المستقيم فلا يُجتال، ويعلم حاجته للزاد والعدة، فمن أراد الخروج أعد له عُدة.

قال الله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 17].

  قال القرطبي في تفسيره: تعرض قوم لتعديد منافع العصا منهم ابن عباس، قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئًا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم (2).

وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا، فذكروا من ذلك أشياء: منها: قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفرها، وأعتمد بها في مشيتي، ليتسع خَطْوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وأُلقي عليها كسائي، فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلى ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي، وعلاقة أدواتي، أعصي بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بنيَّ (3).

وروي عنه ميمون بن مهران قال: إمساك العصا سنة للأنبياء، وعلامة للمؤمن.

وقال الحسن البصري: فيها ست خصال؛ سنة للأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون للضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات (4).

منافع العصا كثيرة، ولها مدخل في مواضع من الشريعة: منها أنها تتخذ قبلة في الصحراء; وقد كان للنبي عليه الصلاة والسلام عنزة تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها; وذلك ثابت في الصحيح.

والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئًا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم، ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل.

قال الشوكاني: قد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخبارًا وأشعارًا وفوائد لطيفة ونكتًا رشيقة، وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصاة النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته؛ وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده، وكان عادة العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب.

وقال بعضهم: إمساك العصا سنة الأنبياء وزينة الصلحاء وسلاح على الأعداء وعون الضعفاء وغم المنافقين وزيادة في الطاعات.

ويقال إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان ويخشع منه المنافق والفاجر وتكون قبلته إذا صلى وقوته إذا أعيا (5).

وسئل عن قوله: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]، قال: لست أحيط بجميع مآرب موسى عليه السلام؛ ولكني سأنبئكم جملًا تدخل في باب الحاجة إلى العصا، من ذلك: أنها تحمل للحية والعقرب والذئب والفحل الهائج، ولعير العانة في زمن هيج الفحول، وكذلك فحول الجحور في المروج، ويتوكأ عليها الكبير الدانف والسقيم المدنف، والأقطع الرجل والأعرج، فإنها تقوم مقام رجل أخرى، وقال أعرابي مقطوع الرجل:

الله يعلم أني من رجالهم      وإن تخدّد عن متنيّ أطماري

وإن رزئت يدا كانت تجمّلني       وإن مشيت على زج ومسمار

والعصا تنوب للأعمى عن قائده، وهي للقصار والفاشكار والدباغ، ومنها المفأد للملّة (أي الخشبة يحرك بها الرماد الحار) والمحراك للتنور، وهي لدق الجص والجبسين والسمسم، ولخبط الشجر وللفيج (ساعي البريد والدولة) وللمكاري، فإنهما يتخذان المخاصر، فإذا طال الشوط وبعدت الغاية استعانا في حضرهما وهرولتهما في أضعاف ذلك؛ بالاعتماد على وجه الأرض، وهي تعدل من ميل المفلوج، وتقيم من ارتعاش المبرسم (المصاب بمرض البرسام) ويتخذها الراعي لغنمه، وكل راكب لمركبه، ويدخل عصاه في عروة المزود، ويمسك بيده الطرف الآخر، وربما كان أحد طرفيها بيد رجل والطرف الآخر بيد صاحبه وعليها حمل ثقيل، وتكون- إن شئت- وتدًا في حائط، وإن شئت ركزتها في الفضاء وجعلتها قبلة، وإن شئت جعلتها مظلة، وإن جعلت فيها زجًا كانت عنزة، وإن زدت فيها شيئًا كانت عكازًا، وإن زدت فيها شيئًا كانت مطردًا، وإن زدت فيها شيئًا كانت رمحًا، والعصا تكون سوطًا وسلاحًا (6).

إنَّكَ خَيْرٌ مِنْ تَفَارِيقِ العَصا:

وهذا من قول غُنَيَّة الأعرابية في شأن ابنها: وذلك أنّه كان لها ابن شديد العَرامة، كثير التفلت إلى النّاس، مع ضعف بَدَنِهِ ٍ ودقّة عظْم، فواثب مرّةً فتى من الأعراب، فقطع الفتى أنفَه، فأخذَتْ غنيّةُ ديةَ أنفه فحسُنت حالُها بعد فقرٍ مُدْقِع، ثمّ واثَبَ آخرَ فقطع أذنَه فأخذت الدِّية، فزادت ديةُ أذنه في المال وحُسْن الحال، ثم واثَبَ بعد ذلك آخرَ فقطع شَفَته فأخذَتْ ديةَ شفتِه، فلمَّا رأت ما قد صار عندها من الإبل والغَنَم والمتاع والكسب بجوارح ابنِها حَسُن رأيها فيه، فذكرته في أرجوزة لها تقول فيها:

أَحْلِفُ بالْمَرْوَةِ حَقَّا وَالصَّفَا      أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْ تَفَارِيقِ الْعَصَا

قيل لأعرابي: ما تفاريق العصا تقطع ساجورًا والسواجير تكون للكلاب وللأسرى من الناس، ثم تقطع عصا الساجور فتصير أوتادًا ويفرق الوتد فتصير كل قطعة شظاظًا، فإن جعل لرأس الشظاظ كالفلكة صار للبختي مهارًا وهو العود الذي يدخل في أنف البختي، وإذا فرق المهار جاءت منه تواد وهي الخشبة التي تشد على خلف الناقة إذا صرت، هذا إذا كانت عصا، فإذا كانت قناة فكل شق منها قوس بندق، فإن فرقت الشقة صارت سهاماً، فإن فرقت السهام صارت حظاء، فإن فرقت الحظاء صارت مغازل، فإن فرقت المغازل شعب به الشعاب أقداحه المصدوعة وقصاعه المشقوقة، على أنه لا يجد لها أصلح منها وأليق بها، يضرب فيمن نفعه أعم من نفع غيره (7).

قصة الشرقي مع التغلبي:

قال الشّرْقيّ: خرجتُ من الموصل وأنا أريد الرَّقّةَ مستخفيًا، وأنا شابٌّ خفيف الحاذِ، فصحبني من أهل الجزيرة فتى ما رأيتُ بعده مثلَه، فذكر أنه تغلبي، من ولد عمرو بن كلثوم، ومعه مِزْود وركوة وعصًا، فرأيتُه لا يفارقها، وطالت ملازمتُه لها، فكدت من الغيظ أرمي بها في بعض الأودية، فكنَّا نمشي فإذا أصبنا دوابَّ ركبناها، وإن لم نُصب الدوابَّ مشَينا، فقلت له في شأن عصاه.

فقال لي: إنّ موسى بن عمران صلى الله عليه وسلم حين آنس من جانب الطُّور نارًا، وأراد الاقتباس لأهله منها، لم يأتِ النارَ في مقدار تلك المسافة القليلة إلا ومعه عصاه، فلما صار بالوادي المقدَّس من البقعة المباركة قيل له: ألق عصاك، واخلَعْ نعليك، فرمى بنعليه راغبًا عنهما، حين نزّه الله ذلك الموضِع عن الجِلد غير الذَّكيّ، وجعل الله جِمَاعَ أمره من أعاجيبه وبرهاناته في عصاه، ثم كلمه من جوف شجرةٍ ولم يكلّمه من جوف إنسان ولا جانّ.

قال الشّرْقيّ: إنه ليُكثر من ذلك وإني لأضحك متهاونًا بما يقول، فلما برزْنا على حمارَينا تخلَّف المُكَاري فكان حمارُه يمشي، فإذا تلكّأَ أكرهَه بالعصا، وكان حماري لا ينساق، وعلم أنه ليس في يدي شيءٌ يُكرهه، فسبقني الفتى إلى المنزل فاستراح وأراح، ولم أقدر على البَراح، حتَّى وافاني المُكاري، فقلت: هذه واحدة، فلمّا أردْنا الخروجَ من الغدِ لم نقدْر على شيءٍ نركبُه، فكنا نمشي، فإذا أعيا توكأ على العصا، وربما أحضَرَ ووضع طرف العصا على وجه الأرض فاعتمد عليها ومَرَّ كأنه سهم زالج، حتى انتهينا إلى المنزل وقد تفسَّخْتُ من الكلال، وإذا فيه فضل كثير، فقلت: هذه ثانية.

فلمَّا كان في اليوم الثالث، ونحن نمشي في أرض ذات أخاقيقَ وصُدوع، إذْ هجمنا على حيَّةٍ منكَرة فساورتْنا، فلم تكن عندي حيلةٌ إلا خِذلانَه وإسلامَه إليها، والهربَ منها، فضربها بالعصا فثقلت، فلمَّا بَهَشَت له ورفعت صدرَها ضَربَها حتَّى وقذَها، ثمّ ضربها حتَّى قتلها، فقلت: هذه ثالثةٌ، وهي أعظمهنّ.

فلمّا خرجنا في اليوم الرابع، وقد والله قَرِمْت إلى اللَّحم وأنا هاربٌ مُعْدِم، إذا أرنبٌ قد اعترضَتْ، فحذفها بالعصا، فما شَعرتُ إلا وهي معلَّقة وأدركنا ذكاتَها، فقلت: هذه رابعة.

وأقبلتُ عليه فقلت: لو أنّ عندنا نارًا لما أخّرتُ أكلَها إلى المنزل، قال: فإنّ عندك نارًا فأخرج عُوَيدًا من مِزْودِه، ثمّ حكّه بالعصا فأورَتْ إيراءً المَرْخُ والعَفَارُ عنده لا شيء، ثم جَمَع ما قدَر عليه من الغُثاء والحشيش فأوقد نارَه وألقى الأرنبَ في جوفها، فأخرجناها قد لزِق بها من الرَّماد والتُّراب ما بغّضَها إليّ، فعلَّقَها بيده اليُسرى ثم ضرب بالعصا على جُنوبها وأعْراضها ضربًا رقيقًا، حتَّى انتثر كلُّ شيءٍ عليها، فأكلناها وسكن القَرَم، وطابت النَّفس، فقلت: هذه خامسة.

ثمّْ إنّا نزلْنا بعضَ الخانات، وإذ البيوتُ مِلاءٌ روثًا وتُرابًا، ونزلنا بعَقِب جُنْدٍ وخَرابٍ متقدّم، فلم نجدْ موضعًا نَظلُّ فيه، فنظر إلى حديدةِ مِسحاةٍ مطروحةٍ في الدّار، فأخذَها فجعل العصا نِصَابًا لها، ثمّ قام فجرفَ جميعَ ذلك التُّرابِ والرَّوث، وجرَدَ الأرضَ بها جَرْدًا، حتَّى ظهر بياضُها، وطابت ريحُها فقلت: هذه سادسة.

وعلى أيِّ حالٍ لم تَطِبْ نفسي أن أضعَ طعامي وثيابي على الأرض، فنَزَع والله العصا من حديدة فلما صرتُ إلى مَفْرِق الطُّرق، وأردتُ مفارقته، قال لي: لو عَدَلت فبتَّ عندي كنتَ قد قضيتَ حقَّ الصُّحبة، والمنزلُ قريب، فعدلتُ معه فأدخلَني في مَنزلٍ يتَّصل ببيعة، قال: فما زال يحدِّثني ويُطْرِفني ويُلْطِفني اللّيلَ كلَّه، فلما كان السّحرُ أخذ خُشَيْبة ثم أخرجَ تلك العصا بعينها فقرعَها بها، فإذا ناقوسٌ ليس في الدنيا مثلهُ، وإذا هو أحذَقُ الناس بضرْبه، فقلت له: ويلَك، أمَا أنت مسلم، وأنت رجلٌ من العرب من ولد عَمرو بن كلثوم؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ تضربُ بالناقوس؟ قال: جُعلتُ فِداك إنَّ أبي نصرانيّ، وهو صاحب البِيعة، وهو شيخٌ ضعيف، فإذا شَهِدتُه بَرَرته بالكفاية، فإذا هو شيطانٌ مارد، وإذا أظرفُ النّاس كلِّهم وأكثرُهم أدبًا وطلبًا، فخبَّرته بالذي أحصيتُ من خِصالِ العصا، بعد أن كنتُ هممتُ أن أرمَي بها، فقال: والله لو حدّثتُك عن مناقب نفع العصا إلى الصبح لما استنفَدْتُها المِسحاة فوتَدها في الحائط، وعلَّقَ ثيابي عليها، فقلت: هذه سابعة (8).

وقد كانت العصا لا تفارق يد سليمان بن داود عليه السلام في مقاماته وصلواته، ولا في موته ولا في أيام حياته، حتى جعل الله تسليط الأرضة عليها وسليمان ميّت وهو معتمد عليها؛ من الآيات عند من كان لا يعلم أن الجن لم تكن تعلم إلا ما تعلم الإنس (9).

مراتب العصا:

أول مراتب العصا المخصرة: وهو ما يأخذه الإنسان بيده تعلُّلًا به، فإذا طالت قليلًا واستظهر بها الراعي والأعرج والشيخ فهي العصا، فإذا استظهر بها المريض والضعيف فهي المنسأة، فإذا كانت في طرفها عقافة فهي المحجن، فإذا طالت فهي الهراوة، فإذا غلظت فهي القحزنة والمرزبة (ويقال: إنها من حديد)، فإذا زادت على الهراوة وفيها زج فهي العنزة، فإذا كان فيها سنان صغير فهي العكازة، فإذا طالت شيئًا وفيها سنان دقيق فهي نيزك ومطرد، فإذا زاد طولها وفيها سنان عريض فهي آلة وحربة، فإذا كانت مستويةً نبتت كذلك لا تحتاج إلى تثقيف فهي صعدة، فإذا اجتمع فيها الطول والسنان فهي القناة والصعدة والرمح.

وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنزة تركز له فيصلي إليها؛ عن عون بن أبي جحيفة، قال: سمِعت أبي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأتي بوضوء فتوضأ فصلى بنا الظهر والعصر وبين يديه عنزة، والمرأة والحمار يمرون من ورائها (10).

وكان له صلى الله عليه وسلم مخصرة؛ عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: «ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة»، قال فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: اعملوا فكل مُيسَّر، أما أهل السعادة فييسَّرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسَّرون لعمل أهل الشقاوة»، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} [الليل: 5- 10] (11).

والمخصرة: عصا أو قضيب يمسكه الرئيس ليتوكأ عليه، ويدفع به عنه، ويشير به لما يريد وسميت بذلك؛ لأنها تحمل تحت الخصر غالبًا للاتِّكاء عليها، وفي اللغة اختصر الرجل: إذا أمسك المخصرة (12).

قال القرطبي: والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئًا على سيف أو عصا، فالعصا مأخوذة من أصل كريم ومعدن شريف، ولا ينكرها إلا جاهل، وقد جمع الله لموسى عليه السلام في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما آمن به السحرة المعاندون، واتخذها سليمان عليه السلام لخطبته وموعظته وطول صلاته، وكان ابن مسعود رضي الله عنه صاحب عصا النبي صلى الله عليه وسلم وعنزته، وكان يخطب بالقضيب، وكفى بذلك فضلًا على شرف حال العصا، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء، وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب، وأنكرت الشعوبية على خطباء العرب أخذ المخصرة والإشارة بها إلى المعاني، والشعوبية تبغض العرب وتفضل العجم (13).

ومن المعجزات التي جاء بها موسى عليه السلام إلى فرعون: تحوُّل العصا إلى أفعى، وقد ورد تحوُّل العصا إلى أفعى بألفاظ ثلاثة:

الأولى: حية تسعى، فأول ما ظهرت حية على هيئة جان تهتزُّ أمام موسى في الطور؛ قال تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه: 20]؛ وإنما أمره الله بإلقاء العصا هنا حتى لا يخاف منها إذا ألقاها أمام فرعون.

وكان وقت إلقائها بعد أن سار بأهله من مدين إلى مصر لرؤية أهله، فأخطأ الطريق في ليلة شاتية باردة مظلمة، وقد جاء المخاض زوجه، فأخرج زنده ليقدح نارًا لأهله ليصطلوا، ويبيتوا حتى يصبح ويعلم وجه طريقه، وحاول مرارًا قدح زنده ولكن دون فائدة، ثم أبصر نارًا، فقال لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ} [القصص: 29]، فإن لم أجد خبرًا، فسآتيـكم بـــ {جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29]، فحين وصلها رآها نورًا ممتدًّا من السماء إلى شجرة عظيمة، فتحيَّر موسى وخاف حين رأى نارًا عظيمة بغير دخان، فتراجع فنُودي منها، فلما سمع الصوت استأنس فعاد {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30] (14)، ثم أمر بخلع حذائه {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]؛ لذا بنو إسرائيل يخلعون أحذيتهم في الصلاة، وأمرنا أن نخالفهم فنصلي بالأحذية.

الثانية: جان تهتزُّ، والجان أصغر الحيات، وقد وصفت بذلك؛ لبيان شدة تحركها، قيل كانت في بداية تحولها كأنها جان، ثم تنتفخ وتتورَّم حتى تصبح ثعبانًا عظيمًا في نهاية حالها؛ قال تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل: 10].

الثالثة: ثعبان مبين، وهو الكبير من الحيات، وقيل: الذكر، وقد جاء وصف الحية بأنها ثعبان مبين يوم أن ألقيت أمام فرعون، فلما رآها وقع عن سريره من شدة الخوف، كذلك تحوَّلت إلى ثعبان عظيم أمام السحرة تلقف سحرهم العظيم، وتعود عصا كما كانت؛ قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 107]، وجاءت الآية {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} جملة اسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات الثعبانية فيها، وأنها في الأصل كذلك، وقيل: جاء اختلاف وصفها باختلاف أحوالها، فهي كالحية في سعيها، وكالجان في حركتها، وكالثعبان العظيم في ابتلاعها (15).

والحكمة من تحوُّل العصا إلى ثعبان عظيم؛ لأنه أعظم الحيات، ومن أجل بثِّ الرعب في نفس فرعون الذي ادَّعى الربوبية والعلو في الأرض، فأراد الله تعالى أن ينهار كل ذلك أمام عصا صغيرة تتحوَّل إلى ثعبان يبتلع إفك السحرة، ويهدم كبرياء فرعون فضلًا عن التحكُّم في ملكه، فقد انهار داخله قبل أن ينهار خارجه.

والسحرة الذين أقسموا بعزة فرعون أنهم لغالبون، يلقون سحرًا عظيمًا بدافع الكفر والجحود ثم بعد ساعة يلقون رؤوسهم للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!

ومن عجيب أمر العصا أنها لم تكن في التحوُّل على هيئة واحدة، فقد كانت تتحوَّل إلى حية وثعبان لتكسير إكسير الكبر في نفوسهم، أما مع بني إسرائيل فلم يعد لها وجود كأفعى تخيف؛ إذ يكفيهم الخوف المتمكِّن في قلوبهم، فقد كان موسى عليه السلام يضرب لهم العصا بالبحر فيصبح يابسًا كالصخور، وأمواجه جامدة عظيمة كالجبال {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63]، ويضرب الحجر اليابس فيخرج منه الماء، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [الأعراف: 160]، في حين تقرع أسماعهم آيات الله فيهزؤون منها، وقلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، فلا ندى فيها ولا رطوبة لإيمان (16).

_______________

(1) نوادر المخطوطات (1/ 184).

(2) تفسير القرطبي (11/ 126).

(3) فتح البيان في مقاصد القرآن (8/ 223).

(4) تفسير القرطبي (11/ 188).

(5) فتح البيان في مقاصد القرآن (8/ 224).

(6) إعراب القرآن وبيانه (6/ 184).

(7) مجمع الأمثال (1/ 37).

(8) البيان والتبيين (3/ 32).

(9) البيان والتبيين (3/ 62).

(10) أخرجه البخاري (477).

(11) أخرجه البخاري (2647)، مسلم (1296).

(12) فتح الباري (11/ 496).

(13) تفسير القرطبي (11/ 188).

(14) الفتح الرباني (20/ 90).

(15) تفسير البيضاوي (1/ 46).

(16) دلالة العصا في القرآن الكريم/ الألوكة.