logo

المروءة


بتاريخ : الأربعاء ، 29 ربيع الأول ، 1438 الموافق 28 ديسمبر 2016
بقلم : تيار الاصلاح
المروءة

جاء الإسلام بتهذيب السلوك والدعوة إلى مكارم الأخلاق بعد تحقيق التوحيد، كما حض على كل ما يحفظ الـمروءة، وحــذر من كل ما ينقصها، ولقد كان أسوتنا وقدوتنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم، ومروءة لا يصل إليها مخلوق، كما شهد له ربه بذلك حيث قـال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].

المروءة صفة مهمة من الصفات المكملة لشخصية المسلم الحق, وهي وإن اختلفت من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر؛ إلا أن لها سمة عامة؛ وهي المحافظة على رجولية المسلم ودينه وهيبته.

جاء في لسان العرب: «المروءة كمال الرجولية, والمروءة: الإِنسانية، وقيل للأحنف: ما المروءة؟ فقال: العفة والحرفة، وسئل آخر عن المروءة، فقال: المروءة ألَّا تفعل في السر أمرًا وأنت تستحيي أن تفعله جهرًا»(1).

قال القرطبي: «وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك، والعادة متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر، خصوصًا إذا كانت الحالة حالة ضرورة»(2).

وقال الجرجاني: «هي قوة للنفس، مبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها، المستتبعة للمدح شرعًا وعقلًا وعرفًا»(3).

وقال ابن القيم: «حقيقة المروءة: اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم، والشيطان الرجيم، فإن في النفس ثلاثة دواع متجاذبة:

داع يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشيطان، من الكبر والحسد والعلو والبغي والشر والأذى والفساد والغش.

وداع يدعوها إلى أخلاق الحيوان، وهو داعي الشهوة، وداع يدعوها إلى أخلاق الملك، من الإحسان، والنصح، والبر، والطاعة، والعلم، والمروءة بُغْضُ الداعيين الأولين وإجابة الداعي الثالث، ولهذا قيل في حد المروءة: إنها غلبة العقل للشهوة، ونقل عن الفقهاء قولهم: حد المروءة: استعمال ما يجمل العبد ويزينه، وترك ما يدنسه ويشينه»(4).

ومن أحسن ما قيل في تفسير المروءة أنها: تَخَلُّق المرء بخلق أمثاله من أبناء عصره، ممّن يراعي مناهج الشرع وآدابه في زمانه ومكانه؛ لأن الأمور العرفية قلما تنضبط؛ بل تختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والبلدان، وهذا بخلاف العدالة، فإنها لا تختلف باختلاف الأشخاص، فإن الفسق يستوي فيه الشريف والوضيع، بخلاف المروءة فإنها تختلف(5).

وقيل: المروءة التحرز عما يسخر منه ويضحك به، وقيل: هي أن يصون نفسه عن الأدناس، ولا يشينها عند الناس، وقيل: المروءة إنصاف مَنْ دونك، والسمو إلـى مَنْ فوقك، والجزاء عما أوتي إليك من خير أو شر، وقيل غير ذلك.

درجات المروءة:

للمروءة ثلاث درجات:

الأولى: مروءة المرء مع نفسه، وهي أن يحملها قسرًا على فعل ما يجمل ويزين، وترك ما يقبّح ويشين، ليصير لها ملكة في العلانية، ولا يفعل خاليًا ما يستحي من فعله في الملأ، إلّا ما لا يحظره الشرع والعقل.

الثانية: مروءة المرء مع الخلق، بأن يستعمل معهم شروط الأدب والحياء، والخلق الجميل، ولا يظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه.

الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه، ويكون ذلك بالاستحياء من نظره إليك، واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس، وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان فإنه قد اشتراها منك، وأنت ساع في تسليم المبيع، وليس من المروءة تسليمه معيبًا(6).

شروط المروءة في نفس المرء:

أي شروطها في نفسه، بعد التزام ما أوجبه الشرع من أحكامه فيكون بثلاثة أمور:

الأول: العفة؛ وهي نوعان: العفة عن المحارم، والآخر: العفة عن المآثم.

الثاني: النزاهة؛ وهي أيضًا نوعان: النزاهة عن المطامع الدنيوية، والثاني النزاهة عن مواقف الريبة.

الثالث: الصيانة؛ وهي أيضًا على نوعين:

أ- صيانة النفس بالتزام كفايتها، ذلك أن المحتاج إلى الناس كل مهتضم، وذليل مستثقل، وهو لما فطر عليه محتاج إلى ما يستمده ليقيم أود نفسه، ويدفع ضرورتها؛ ولذلك قالت العرب: «كلب جوّال خير من أسد رابض».

ب- صيانتها عن تحمل المنن؛ ذلك لأن المنة استرقاق للأحرار، تحدث ذلة في الممنون عليه، وسطوة في المان، والاسترسال في الاستعانة تثقيل، ومن ثقل على الناس هان، ولا قدر عندهم لمهان(7).

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي خير، يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد، ثم قال له: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، فتركه حتى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» فقال: عندي ما قلت لك، فقال: «أطلقوا ثمامة»، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

يا محمد، والله، ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي، والله، ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي، والله، ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله، لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم(8).

حكي أن معاوية سأل عمرًا رضي الله عنهما عن المروءة، فقال: «تقوى الله تعالى، وصلة الرحم»، وسأل المغيرة فقال: «هي العفة عما حرم الله تعالى، والحرفة فيما أحل الله تعالى»، وسأل يزيد فقال: «هي الصبر على البلوى، والشكر على النعمى، والعفو عند المقدرة»، فقال معاوية: «أنت مني حقًا»(9).

خوارم المروءة:

المقصود من كلمة الخوارم تلك النقائص التي تفقد الشيء تمامه؛ ولأن كثيرًا من الناس قد اختل عندهم ميزان المروءة منذ أزمنةٍ سابقةٍ، إلا أن الأمر زاد في هذا الزمان، ولم يعد أكثرهم محافظًا على كثيرٍ من آدابها الفاضلة وأخلاقها الكريمة، وصفاتها الحميدة؛ فإن هناك عددًا من خوارم المروءة وقوادحها التي انتشرت بين الناس، وأصبحت غيـر مستنكرةٍ عندهم لكثرة من يمارسونها.

أنواع خوارم المروءة:

يمكن أن نصنف خوارم المروءة إلى نوعين اثنين:

الأول: خوارم للمروءة بحسب الشرع.

الثاني: خوارم للمروءة بحسب العرف السائد.

فالأولى لا تتغير ولا تتبدل بتبدل الأحوال والأزمان؛ لأنها تستمد ثباتها من الشرع الحنيف، وعليه فكل من وصف بأنه منخرم المروءة بواحدة من تلك الخوارم فهو مخروم المروءة في كل حين، كأخذ الأجر على التحديث عند من يرى حرمة ذلك، فمن خرمت مروءته لهذا فإنه لا يزال على ذلك أبدًا، وكذلك من خرمت مروءته بسبب السفه وبذاءة اللسان؛ لأن المسلم لا يكون بذيئًا ولا سفيهًا.

وأمَّا الخوارم التي ترجع إلى مخالفة عرف سائد، فإنَّ المحققين من العلماء لا ينظرون إليها سواءً بسواء مع تلك الخوارم التي ترجع إلى مخالفة أصل شرعي؛ لجواز أن يتغير العرف السائد، فما يعدّ من الخوارم في زمن لا يكون كذلك في زمن آخر، وما يعد من الخوارم في بلد لا يكون كذلك في بلد آخر؛ لاختلاف العرف في هذين البلدين؛ مثل: كشف الرأس، فقد يكون مستقبحًا في بلد للعرف السائد فيه، فيكون قادحًا في المروءة والعدالة، وقد لا يكون مستقبحًا في بلد آخر، فلا يكون قادحًا في العدالة؛ ولهذا فإن المروءة في مثل هذا هي مراعاة العرف السائد(10).

يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: «ولا شك أن خوارم المروءة تخضع إلى حد كبير إلى العرف السائد، فما يكون قبيحًا وقادحًا في المروءة في بلد ما قد لا يكون كذلك في بلد آخر؛ لاختلاف العرف في هذين البلدين؛ مثل كشف الرأس، فقد يكون مستقبحًا في بلد للعرف السائد فيه فيكون قادحًا في المروءة والعدالة، وقد لا يكون مستقبحًا في بلد آخر فلا يكون قادحًا في العدالة؛ ولهذا فإن المروءة في مثل هذا هي مراعاة العرف السائد»(11).

صفات الأفعال حتى تكون خارمة للمروءة:

الأول: أن تكون الأفعال والأقوال محرمة شرعًا، ولو فعلها لمرة واحدة، أو المكروهة بشرط التكرار، أو الصغائر بشرط الغلبة على الطاعات، أمَّا المباحات فيشترط فيها حتى تكون خارمة للمروءة قبحها في العادات والأعراف المعتبرة شرعًا، إذ لا يُؤمن معها الجرأة على الكذب، والإدمان على فعلها.

الثاني: الإدمان أو الإصرار أو الغلبة: خوارم المروءة من المحرمات لا يشترط فيها الإدمان، وكذلك صغائر الخسة، أما الصغائر ورذائل المباحات فيشترط فيها الإدمان؛ وذلك لأن الإنسان لا يسلم من يسير اللهو، أو فعل بعض المباحات؛ لعدم العصمة، وليس هذا شرطًا متفقًا عليه(12).

أسباب خوارم المروءة:

للمروءة خوارم تسقط من قدرها، وقد تذهب بها نهائيًا، فمن خوارمها:

1- الخبل في العقل (أي الفساد فيه):

إن الإنسان سمي مرءًا أو امرءًا أي عاقلًا, ووصف بالمروءة لأنه لا يتصف بخلافها إلا الحمقى، وقد ورد ذلك في أثر عمر, فجعل العقل هو المروءة, فقال: كرم المرء دينه, ومروءته عقله, وحسبه خلقه، ومن هنا كان الخبل في العقل سببًا في اقتراف خوارم المروءة، والذي يجعلنا لا نثق بكلامه فنرد شهادته بسببه.

ولا تستغرب هذا؛ بل من الحكماء من جعل المروءة أعلى درجة من العقل, فقال: العقل يأمرك بالأنفع, والمروءة تأمرك بالأرفع، فمن أخل بمروءته رضي بالدون ولم يكرم نفسه مما يشينها.

ويلتقي هذا مع اشتراط الفقهاء الفطنة، وعدم التغفل في الشهود ولو كانوا عدولًا، وعدم قبول شهادة المجنون ابتداءً.

2- نقصان الدين:

إن الفسق علامة على النقص في الدين، فلا يقدم على الكبائر مثلًا إلا فاسق غير مبال بدينه, وكذا خوارم المروءة لا يقدم عليها حتى تخرم مروءته إلا ناقص دين, فكان أحد الأسباب التي تخرم المروءة.

3- قلة الحياء:

إن من أسباب فعل الخوارم قلة الحياء؛ لأن فاعلها لا يستقبح القبيح, ولا يبالي بكلام الناس، وقلة حيائه تعطيه الجسارة في فعل خوارم المروءة(13).

بعض خوارم المروءة منقولًا عن علماء الأمة:

وفيما يلي نذكر أمثلة على بعض خوارم المروءة التي تنتشر في مجتمعنا المعاصر، سواءً أكانت قوليةً أم فعلية، ومنها:

- من خوارم المروءة أن يباعد الإنسان بين فترات الاستحمام حتى يتدرّن ثوبه، وتفوح الرائحة الكريهة منه, ويتجنّب الناس مجالسته لهذا السبب، قال القرطبي: «النظافة وهي مُروءة آدمية، ووظيفة شرعية»(14).

- من خوارم المروءة أن يأكل الإنسان السحت (المال الحرام)، قال القرطبي: «سُمي الحرام سحتًا لأنه يسحت مروءة الإنسان»(15).

- من خوارم المروءة الوقوع في الشبهات؛ كالجلوس مع النساء الأجنبيات في الأماكن العامة، ودخول الأماكن التي فيها انتهاك حرمات الله، ولو لم يكن هو كذلك، قال ابن حجر في الفتح: «(فمن اتقى المشبهات)؛ أي: حذر منها، قوله: (استبرأ) بالهمز بوزن استفعل، من البراءة، أي: برأ دينه من النقص وعرضه من الطعن فيه؛ لأنّ من لم يُعرف باجتناب الشبهات لم يسلم لقول من يطعن فيه، وفيه دليل على أن من لم يتوقّ الشبهة في كسبه ومعاشه فقد عرض نفسه للطعن فيه، وفي هذا إشارة إلى المحافظة على أمور الدين ومراعاة المروءة»(16).

- من خوارم المروءة كثرة المزاح والجلوس في الطرقات لرؤية النساء، قال ابن حجر في الفتح: «كثرة المزاح واللهو وفحش القول، والجلوس في الأسواق لرؤية من يمرّ من النساء من خوارم المروءة»(17).

كثرة المزاح والمداعبة القولية والفعلية، ولا سيما مع من لا يعرفهم الإنسان؛ لما في ذلك من إسقاط هيبته، والإقلال من مكانته، ولأن كثرة المزاح مدعاةٌ لحصول الخصام، وإثارة الأحقاد في النفوس.

وهنا يجدر التنبه إلى أن هذا لا يعني أن يكون الإنسان عبوسًا منقبضًا؛ فإن هذا مما يُذم ويُكره، ولكن هدي الإسلام أن يكون الإنسان جادًا في قوله وعمله وكل شأنه، مع شيءٍ من البشاشة وطلاقة الوجه، لما روي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ»(18).

كما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عُماله: «امنعوا الناس المزاح؛ فإنه يذهب بالمروءة، ويوغر الصدور»، وقال بعض الحكماء: «تجنب سوء المزاح ونكد الهزل، فإنهما بابان إذا فتحا لم يغلقا إلا بعد غم»(19)، وما ذلك إلا لما ينتج عن كثرة المزاح، في الغالب، من الاستخفاف، وقلة الهيبة، وذهاب الحشمة.

- من خوارم المروءة مخالفة لباس أهل بلدته، والتفنّن في الغرابة في اللباس، قال في الفتح وهو يتكلم عن لبس الثوب الأحمر: «وقال الطبري: الذي أراه جواز لبس الثياب المصبغة بكل لون، إلا أني لا أحب لبس ما كان مشبعًا بالحمرة, ولا لبس الأحمر مطلقًا ظاهرًا فوق الثياب؛ لكونه ليس من لباس أهل المروءة في زماننا، فإن مراعاة زي الزمان من المروءة ما لم يكن إثمًا، وفي مخالفة الزيّ ضرب من الشهرة، والتحقيق في هذا المقام أن النهي عن لبس الأحمر إن كان من أجل أنه زي النساء فهو راجع إلى الزجر عن التشبه بالنساء, فيكون النهي عنه لا لذاته، وإن كان من أجل الشهرة أو خرم المروءة فيمنع حيث يقع ذلك»(20).

وكذلك ارتداء بعض الناس، وبخاصة من هم في سن الشباب، الملابس التي وفدت إلينا من مجتمعاتٍ غير محافظة على القيم والأخلاق الإسلامية، والتي قد تكثُر عليها الرموز والشعارات والعبارات المخالفة لتعاليم ديننا الحنيف، أو المخلة بالآداب، والمنافية للأذواق السليمة، أو تكون من الملابس المضحكة المزرية؛ لما قد يكون فيها من التشبه بأهلها، أو لأنها لا تليق بالإنسان المسلم العاقل المُتزن، لا سيما في المساجد، والأسواق، والمجالس، والأماكن العامة.

- من خوارم المروءة ألَّا يأكل مما يليه، يأكل من جوانب القصعة أو وسطها, قال النووي رحمه الله تعالى: «من السنّة الأكل مما يليه؛ لأن أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة، فقد يتقذّره صاحبه لا سيما في الأمراق وشبهها»(21).

والإكثار من تناول الطعام والإقبال عليه بنهمٍ شديدٍ، لا سيما عندما يكون الإنسان مدعوًا إلى وليمةٍ أو نحو ذلك؛ لما في ذلك من منافاةٍ للأدب، ولما فيه من مخالفة لهدي الإسلام عند تناول الطعام.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن من أسوأ العادات وأكثرها أذى في الصلاة أن يتجشأ آكل الثوم، أو البصل، أو الكُراث في صف المصلين، فيُزعجهم ويقطع خشوعهم، وتخرج من فمه رائحة كريهة يؤذي بها عباد الله من الملائكة والمصلين؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تجشأ رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كف عنا جُشاءك، فإن أكثرهم شِبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة»(22).

- من خوارم المروءة أن يتحدث الإنسان إلى جُلسائه ببعض الأحاديث المخلة بالآداب، وأن يُخبرهم، صادقًا أو كاذبًا، ببعض القصص والمغامرات والأحداث الفاضحة بحجة الإمتاع والمؤانسة، وهذا أمرٌ مخالفٌ لما أمر الله به عباده من الستر وعدم نشر الفاحشة بين المسلمين، كما يتبع هذه المخالفة أن يتحدث الإنسان عما يقع بينه وبين امرأته من أُمور خاصة، أو وصف تفاصيل ذلك، لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منـزلةً يوم القيامة الرجل يُفضي إلى امرأته وتُفضي إليه ثم ينشر سرها»(23)؛ وما ذلك إلا لما في هذا الأمر من خيانةٍ للأمانة ومخالفةٍ للمروءة وآداب المسلم، التي تمنعه من مجرد التعرض لهذا الأمر تصريحًا أو تلميحًا، وأما مجرد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجةٍ فذكره مكروه؛ لأنه خلاف المروءة.

قال النووي: «تحريم إفشاء الرجل ما يجري بينه وبين امرأته من أمر الاستمتاع، ووصف تفاصيل ذلك, وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه، فأما مجرد ذكر الجماع فإن لم تكن فيه فائدة ولا إليه حاجة فمكروه؛ لأنه خلاف المروءة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(24).

- إضاعة الوقت بالجلوس لوقتٍ طويلٍ في المقاهي والاستراحات وما في حكمها لغير حاجةٍ مُلحة.

يُضاف إلى ذلك ما في ارتياد هذه الأماكن من هدرٍ للوقت وإضاعته فيما لا فائدة منه ولا نفع فيه، ولا سيما في هذا الزمان، الذي كثُر فيه الفساد والانحراف؛ وهنا يجدر بنا أن نتذكر ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم تِرَة (أي: حسرة وندامة)، وما مشى أحدٌ ممشى لم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة، وما أوى أحدٌ إلى فراشه ولم يذكر الله فيه إلا كان عليه ترة»(25).

كذلك أن يلهو الرجل كبير السن الساعات الطوال على شاشات التلفاز، يتابع الأفلام والمسلسلات، ولا يأبه لتقدّمه في السن وقربه من لقاء الله سبحانه وتعالى، فعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعذرَ الله إلى امرئ أخَّرَ أجَله حتى بَلَّغَهُ ستين سنة»(26).

قال ابن حجر في الفتح: «الإعذار: إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار, كأن يقول: لو مُدّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به»(27).

- من خوارم المروءة الجدل مع الأصحاب لمجرد الجدل؛ لأن الموافقة من المروءة، والمنافقة من الزندقة(28).

- من خوارم المروءة إخفاء الزاد عن الأصحاب في السفر، وكثرة الخلاف معهم, قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: «للسفر مروءة وللحضر مروءة؛ فأما المروءة في السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المِزاح في غير مَساخط الله، وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل»(29).

- من خوارم المروءة أن تأكل المرأة في الشارع، وكذا الرجل ما لم يكن جائعًا، أو صاحب عمل في السوق...، واستثنى البلقيني من الأكل في السوق مَن أكل داخل حانوت مستترًا(30).

- من خوارم المروءة أن يستأثر الرجل بالطعام, ويأكل أكثر من إخوانه إذا كان الطعام مشتركًا، وكانوا يدفعون ثمنه تشاركًا بينهم، قال النووي: «يستحب اشتراك المسافرين في الأكل واستعمالهم مكارم الأخلاق، وليس هذا من باب المعارضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام وألا يأكل بعضهم أكثر من بعض؛ بل هو من باب المروءات ومكارم الأخلاق، وهو بمعنى الإباحة، فيجوز وإن تفاضل الطعام واختلفت أنواعه، ويجوز وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، لكن يستحب أن يكون شأنهم إيثار بعضهم بعضًا»(31).

- من خوارم المروءة أن يتحدث الإنسان عن أهل الفضل والعلم والمشهود لهم بالخير لمجرد أنهم ارتكبوا صغيرة من الصغائر, فعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»(32).

- من مروءة الرجل أن يخدم الأكبر منه سنًّا والأكثر علمًا، ولا يُعَد هذا إنقاصًا من قدره, قال النووي: «ويجوز للفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجة، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب؛ بل من مروءات الأصحاب وحسن العشرة، ودليله من قصة موسى حمل فتاه غداءهما, وحمل أصحاب السفينة موسى والخضر بغير أجرة لمعرفتهم الخضر بالصلاح»(33).

- قص شعر الرأس بأشكالٍ غريبةٍ وغير مألوفة، وكُلنا يعلم أنه قد انتشرت في هذا الزمان بعض قصات الشعر المضحكة المبكية، وخاصة بين الشباب والشابات، والتي يعلم الله أنها تُشوه الشكل، وتدل على فساد الذوق، وحب التقليد؛ كما تؤكد أن من يفعلها عامدًا مُتعمدًا ضعيف العقل ممسوخ الهوية؛ لأنه مُقلدٌ للآخرين ممن لا دين لهم ولا مروءة ولا حياء.

- الرقص والتصفيق والتمايل مع الأنغام المحرمة، وهز بعض أعضاء الجسم أو تحريكها، وغير ذلك من الحركات الساقطة التي يؤديها البعض في الاحتفالات والأعراس ونحو ذلك، مما لا يليق بالإنسان المسلم ذكرًا كان أو أُنثى، حتى إن بعض أهل العلم وصف الرقص والتصفيق والتمايل إذا صدر عن الرجال بأنه خفة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلهما إلا أرعن.

- أن يأتي الإنسان ببعض الأقوال أو الأفعال الهزلية التي تُضحك منه الناس؛ كأن يُقلد شخصًا في كلامه، أو حركاته، أو نحو ذلك لغرض السخرية منه وإضحاك الآخرين عليه.

- امتهان الشحاذة ومدُّ اليد للناس من غير حاجةٍ ضروريةٍ تدعو إلى ذلك، وما عُدَّ التسول مما يُخالف المروءة إلا لما في ذلك الفعل من احتمال الكذب، والخداع، والتحايل؛ الأمر الذي يُسقط مروءة الإنسان، ويُذهب ماء وجهه في الدنيا ولحمه في الآخرة؛ فقد روي عن حمزة بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى اللهَ، وليس في وجْهِهِ مُزْعَةُ لحمٍ»(34).

- الادهان عند العطار دون أن ينوي الشراء، ومثله تذوق الأطعمة أو الفواكه والخضروات عند الباعة، وفي نيته ألا يريد الشراء.

- التكلم بالأعجمية وترك العربية من غير حاجة، قال عمر رضي الله عنه: «ما تكلم الرجل الفارسية إلا خبَّ، ولا خبَّ إلا نقصت مروءته»(35)، وقال ابن تيمية رحمه الله: «وأما اعتياد الخطاب بغير اللغة العربية، التي هي شعار الإسلام ولغة القرآن، حتى يصير ذلك عادة للبلد وأهله، أو لأهل الدار أو للرجل مع صاحبه، أو لأهل السوق، أو لأهل الديوان؛ فلا ريب أن هذا مكروه فإنه من التشبه بالأعاجم»(36).

الوسائل المعينة على اكتساب المروءة:

يقول ابن حبان البستي: «الواجب على العاقل أن يلزم إقامة المروءة بما قدر عليه من الخصال المحمودة، وترك الخلال المذمومة, وقد نبغت نابغة اتكلوا على آبائهم واتكلوا على أجدادهم في الذِّكْر والمروءات، وبعدوا عن القيام بإقامتها بأنفسهم, ولقد أنشدني منصور بن محمد في ذم من هذا نعته:

إن المروءة ليس يدركها امرؤ     ورث المروءة عن أب فأضاعها

أمرته نفس بالدناءة والخنا     ونهته عن طلب العلى فأطاعها

فإذا أصاب من الأمور عظيمة     يبني الكريم بها المروءة باعها»

إلى أن قال: «ما رأيت أحدًا أخسر صفقة، ولا أظهر حسرة، ولا أخيب قصدًا، ولا أقل رشدًا، ولا أحمق شعارًا، ولا أدنس دثارًا من المفتخر بالآباء الكرام وأخلاقهم الجسام، مع تعريه عن سلوك أمثالهم وقصد أشباههم، متوهمًا أنهم ارتفعوا بمن قبلهم، وسادوا بمن تقدمهم، وهيهات أنى يسود المرء على الحقيقة إلا بنفسه، وأنى ينبل في الدارين إلا بكده»(37).

فإذا كانت المروءة لا تنال بالميراث، ولا تنتقل عبر المورثات الجينية من الآباء إلى الأبناء، فكيف ينالها الشخص وكيف يصل إليها؟

عوامل تحقيق المروءة:

أولًا: علو الهمة والتطلع إلى السمو بالنفس, والترقي بها إلى المعالي.

ثانيًا: منافسة أصحاب المروءات ومسابقة أصحاب الأخلاق العالية {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].

ثالثًا: ومما يعين على تحصيل المروءات شرف النفس واستعفافها ونزاهتها وصيانتها.

رابعًا: المال الصالح خير معين على بلوغ المروءات, قال أبو حاتم رحمه الله: «ومن أحسن ما يستعين به المرء على إقامة مروءته المال الصالح، ولقد أنشدني منصور بن محمد الكريزي:

احتل لنفسك أيها المحتال     فمن المروءة أن يرى لك مال

كم ناطق وسط الرجال وإنما    عنهم هناك تكلم الأموال

فالواجب على العاقل أن يقيم مروءته بما قدر عليه، ولا سبيل إلى إقامة مروءته إلا باليسار من المال، فمن رزق ذلك وضن بإنفاقه في إقامة مروءته فهو الذي خسر الدنيا والآخرة، ولا آمن أن تفجأه المنية فتسلبه عما ملك كريهًا، وتودعه قبرًا وحيدًا، ثم يرث المال بعد من يأكله ولا يحمده، وينفقه ولا يشكره، فأي ندامة تشبه هذه وأي حسرة تزيد عليها»(38).

ولذا قال بعض العرب: «المروءة طعام مأكول, ونائل مبذول, وبشر مقبول, وكلام معسول»، وقيل: «لا مروءة لمقل»، وقال بعضهم: «المال والمروءة رضيعا لبان, وشريكا عنان, وغزيا حصان, وفرسا رهان»(39).

خامسًا: ومما يعين على تحصيل المروءة اختيار الزوجة الصالحة «فاظفر بذات الدين تربت يداك»(40).

قال مسلمة بن عبد الملك: «ما أعان على مروءة المرء كالمرأة الصالحة».

سادسًا: ومما يعين على المروءة مجالسة أهل المروءات ومجانبة السفهاء وأهل السوء، أسند ابن حبان عن بعضهم قال: «كان يقال: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلب صدأ الذنوب، ومجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تذكي القلوب»(41).

ومتى جالس المرء أهل المروءات اكتسب منهم صالح الأخلاق والصفات، قال ابن عبد البر: «فلا تكاد تجد حَسَنَ الخلق إلا ذا مروءة وصبر»(42).

وكذلك إن عاشر المرء إخوان السوء وقليلي المروءة أخذ عنهم أخلاقهم، وكان ذلك سببًا في القدح بمروءته، قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «آفة المروءة إخوان السوء»(43).

قال العلامة المعلمي: «اشتهر بين أهل العلم أن مما يخرم العدالة تعاطي ما ينافي المروءة، وقيَّده جماعة بأن يكثر ذلك من الرجل حتى يصير إخلاله بما تقتضيه المروءة غالبًا عليه»(44).

قال الشافعي: «ليس من الناس أحد نعلمه، إلا أن يكون قليلًا، يمحص الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصية، ولا يمحص المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما شيئًا من الطاعة والمروءة، فإذا كان الغالب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قُبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة رُدَّت شهادته»(45).

أقول: ذكروا أن المدار على العُرْف، وأنه يختلف باختلاف حال الرجل وزمانه ومكانه، فقد يُعَدُّ الفعل خرمًا للمروءة إذا وقع من رجل من أهل العلم، لا إذا كان من فاجر، مثلًا، وقد يُعَدُّ ذلك الفعل من مثل ذلك الرجل خَرْمًا للمروءة في الحجاز، مثلًا، لا في الهند، وقد يُعَدُّ خرمًا للمروءة إذا كان في الصيف لا إذا كان في الشتاء، أو يُعَدُّ خرمًا في عصر ثم يأتي عصر آخر لا يُعَدُّ فيها خرمًا.

لا يخلو ذلك الفعل الذي يَعُدُّهُ أهل العُرْف خرمًا للمروءة عن واحد من ثلاثة أوجه:

الأول: أن يكون، مع صرف النظر عن عُرْف الناس، مطلوبًا فعله شرعًا وجوبًا أو استحبابًا.

الثاني: أن يكون مطلوبًا تركه، بأن يكون حرامًا أو مكروهًا أو خلاف الأولى.

الثالث: أن يكون مباحًا.

فأما الأول: فلا وجه للالتفات إلى العُرف فيه؛ لأنه عرف مصادم للشرع؛ بل إذا ترك ذلك الفعلَ رجلٌ حفظًا لمروءته في زعمه كان أحق بالذم ممن يفعله لمجرد هواه وشهوته.

وأما الثاني: فالُعْرف فيه مُعاضد للشرع، فالاعتداد به في الجملة متجه؛ إذ يقال في فاعله: إنه لم يستح من الله عز وجل ولا من الناس، وضعف الحياء من الله عز وجل ومن الناس أبلغ في الذم من ضعف الحياء من الله عز وجل فقط، وتقدم حديث: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»(46).

وأما الثالث: فقد يقال: يلتحق بالثاني؛ إذ ليس في فعل ذلك الفعل مصلحة شرعية، وفيه مفسدة شرعية، وهي تعريض النفس لاحتقار الناس وذمهم.

هذا وقد يقال: إذا ثبت صلاح الرجل في دينه، بأن كان مجتنبًا الكبائر والصغائر غالبًا، فقد ثبتت عدالته، ولا يلتفت إلى خوارم المروءة؛ لأن الظاهر في مثل هذا أنه لا يتصور فيه أن يكون إخلاله بالمروءة غالبًا عليه، وعلى فرض إمكان ذلك فقد تبين من قوّة إيمانه وتقواه وخوفه من الله عز وجل ما لا يحتاج معه إلى معاضدة خوفه من الناس؛ بل يظهر في هذا أن عدم مبالاته بالناس إنما هو من كمال إيمانه وتقواه.

وأما من كثر منه ارتكاب الصغائر ومع ذلك كثر منه مخالفة المروءة, ولم يبلغ أن يقال: معاصيه أغلب من طاعاته، فهذا محل نظر، وفَصْل ذلك إلى المُعَدِّل: فإن كان يجد نفسه غير مطمئنة إلى صدقه فليس ممن يُرْضى، وقد قال الله عز وجل {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282](47).

قال الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: «المروءة من مقاصد الشرع، وخوارمها من مسقطات الشهادة قضاءً، والشرع يأمر بمعالي الأخلاق، وينهى عن سفاسفها، فكم رأى الراءون الممثل يفعل بنفسه الأفاعيل في أي عضو من أعضائه، وفي حركاته وصوته واختلاج أعضائه؛ بل يمثل دور مجنون أو معتوه أو أبله...، وعليه: فلا يمتري عاقل أن التمثيل من أولى خوارم المروءة؛ ولذا فهو من مسقطات الشهادة قضاءً، وما كان كذلك فإن الشرع لا يقره في جملته»(48).

مجالات المروءة:

1. رجاحة العقل ورزانته، يقول الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حسب المرء دينه، وكرمه تقواه، ومروءته عقله»، وقديمًا قيل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل».

2. صون النفس عن كل ما يعيبها أمام الخلق؛ ولو كان ذلك الأمر حلالًا، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «المروءة حفظ الرجل نفسه».

3. حسن التدبير وإتقان الصنعة من المروءة والأخلاق المحمودة؛ لأن الأخرق، الذي لا يتقن ما يصنعه، مذموم عند الناس «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»(49).

4. حسن المنازعة والكرم في الخصومات، فهي من صفات الرجل الحليم ذي المروءة التامة والإيمان الكامل «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره في أي الحور شاء»(50).

5. اجتناب الأماكن التي تشوبها الريبة والفساد والابتعاد عنها؛ لأنها مدعاة إلى تهم الناس وهذا من أعظم ما يدل على مروءة الإنسان.

6. إصلاح المال والقيام على الممتلكات بالرعاية والاهتمام، والاستثمار فيما فيه فائدة؛ حتى يكون المسلم عزيزًا رفيعًا، لا تذله الحاجة ليريق ماء الوجه من أجلها بالطلب أمام الآخرين، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «نحن معشر قريش نعد العفاف وإصلاح المال من المروءة».

آداب المروءة:

للمروءة آدابٌ كثيرة قل أن تجتمع في إنسان إلا أن يشاء الله تعالى؛ ولذلك فإن منازل الناس فيها تتباين تبعًا لما يُحصِّله الإنسان من آدابها ومراتبها، وقد وردت جُملةٌ من الآداب التي يجب أن يتمتع بها صاحب المروءة، ومنها:

• أن يكون ذا أناةٍ وتؤدةٍ؛ فلا يبدو في حركاته اضطراب أو عجلة أو رعونة، كأن يُكثر الالتفات في الطريق، ويعجل في مشيه العجلة الخارجة عن حد الاعتدال، وهكذا.

• أن يضبط نفسه عن هيجان الغضب أو دهشة الفرح، وأن يقف موقف الاعتدال في حالي السراء والضراء.

• أن يتحلّى بالصراحة والترفع عن المجاملة والنفاق، فلا يُبدي لشخصٍ الصداقة وهو يحمل له العداوة، أو يشهد له باستقامة السيرة وهو يراه منحرفًا عن السبيل.

• ألَّا يفعل في الخفاء ما لو ظهر للناس لعُدَّ من سقطاته والمآخذ عليه.

• أن يتجنب تكليف زائريه وضيوفه ولو بعملٍ خفيف؛ فقد ورد عن عمر بن عبد العزيز: «ليس من المروءة استخدام الضيف».

• أن يُحسن الإصغاء لمن يُحدثه من الناس؛ لأن في ذلك دلالةً على اهتمامه به، وارتياحه لمُجالسته، وأُنسه بحديثه.

• أن يكون حافظًا لما يؤتمن عليه من أسرارٍ وأُمور لا ينبغي أن تظهر لأحدٍ غير صاحبها.

كما أن من الآداب التي يمكن أن تُضاف إلى ما سبق ذكره من آداب المروءة: أن يترفع الإنسان بطوعه واختياره عن كل ما لا يليق به من الأقوال الباطلة والأفعال الشائنة والسلوكيات المنحرفة، وأن يربأ بنفسه عن إتيانها أو الاتصاف بها، قال الشاعر:

وحذارِ من سفَهٍ يشينُك وصفه      إن السِفاه بذي المروءة زاري

ويتبع لذلك ألا تُخالف أقواله وأفعاله ما جرت عليه العادة من الأعراف والتقاليد الاجتماعية الحسنة، المتوافقة مع تعاليم الشرع وتوجيهات الدين، وأن يحترم الآخرين بأن يتعامل معهم بما يُحب أن يتعاملوا معه، وألا يُفضِل نفسه بشيءٍ عنهم.

وانطلاقًا من كون المروءة ترتبط بالأعراف الإنسانية الصحيحة والعادات المقبولة في المجتمع ؛ فإنه ينبغي مراعاة أن ما يكون مخالفًا للمروءة في بلد أو مجتمع ما قد لا يكون مُخالفًا لها في بلد أو مجتمع آخر، وخير مثالٍ على ذلك عادة كشف الرأس وعدم تغطيته للرجال، التي تُعد مقبولةً في بعض البلاد وغير مقبولةٍ في بلادٍ أُخرى، وفي هذا الشأن يقول الشاطبي: «مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع؛ فهو لذوي المروءات قبيحٌ في البلاد المشرقية، وغير قبيحٍ في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك؛ فيكون عند أهل المشرق قادحًا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح»(51).

ولهذا فإن كل سلوكٍ يفعله الإنسان لا بد أن يخضع لميزان الشرع والعقل؛ وألا يُصادم النصوص الشرعية، أو يكون مخالفًا لما يستحسنه العقلاء؛ فإن الشرع لم يأت بما يخالف العقل أبدًا، ولذلك سُئل بعض الحكماء عن الفرق بين العقل والمروءة؟ فقال: «العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل»، وهذا يعني أن على الإنسان العاقل أن يحافظ على مروءته؛ لما في ذلك من الجمال والكمال والجلال، وإلى ذلك يُشير الشيخ محمد الخضر حسين، شيخ الجامع الأزهر، بقوله: «إذا نظرنا إلى تفاصيل الأخلاق والآداب، التي تقوم المروءة على رعايتها، وجدناها تبعث على إجلال صاحبها، وامتلاء الأعين بمهابته، ومن الحِكم السائرة: ذو المروءة يُكرم وإن كان معدمًا، كالأسد يُهاب وإن كان رابضًا، ومن لا مروءة له يُهان وإن كان موسرًا؛ كالكلب يُهان وإن طوق وحُليّ بالذهب».

المروءة خلق جليل وأدب رفيع، تميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات، المروءة خَلَّةٌ كريمة وخَصْلَةٌ شريفة، وهي أدب نفساني، تحمل الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، المروءة صدقٌ في اللسان، واحتمال للعثرات، وبذل للمعروف، وكف للأذى، وكمال في الرجولية، وصيانة للنفس، وطلاقة للوجه، المروءة من خصال الرجولة، فمن كانت رجولته كاملة كانت مروءته حاضرة، المروءة من أخلاق العرب التي يقيسون بها الرجال ويزنون بها العقول، حقًا إنها كلمة لها مدلولها الكبير الواسع، فهي تدخل في الأخلاق والعادات، والأحكام والعبادات.

***

____________

(1) لسان العرب (1/ 154).

(2) تفسير القرطبي (13/ 269).

(3) التعريفات، ص210.

(4) مدارج السالكين (2/ 366).

(5) مغني المحتاج (4/ 431).

(6) مدارج السالكين (2/ 368).

(7) نضرة النعيم (8/ 3375).

(8) أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764).

(9) أدب الدنيا والدين، ص310.

(10) الدرر السنية (2/ 50).

(11) جرح الرواة وتعديلهم، ص108.

(12) عدالة الشاهد في القضاء الإسلامي، ص358-359.

(13) المصدر السابق، ص356-357.

(14) تفسير القرطبي (8/ 261).

(15) المصدر السابق (6/ 183).

(16) فتح الباري (1/ 127).

(17) المصدر السابق (11/ 40).

(18) أخرجه مسلم (6690).

(19) المستطرف، ص469.

(20) فتح الباري (10/ 306).

(21) نيل الأوطار (8/ 184).

(22) أخرجه الترمذي (2478).

(23) أخرجه مسلم (3542).

(24) شرح النووي (10/ 8).

(25) أخرجه ابن حبان (853).

(26) أخرجه البخاري (6419).

(27) فتح الباري (11/ 240).

(28) الإصابة في تمييز الصحابة (2/ 441).

(29) تفسير القرطبي (5/ 189).

(30) مغني المحتاج (6/ 352).

(31) شرح مسلم، للنووي (12/ 131).

(32) أخرجه أبو داود (4375).

(33) شرح النووي (15/ 147).

(34) أخرجه مسلم (2396).

(35) مسند الفاروق (2/ 345).

(36) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 526).

(37) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ص230.

(38) المصدر السابق، ص233.

(39) عين الأدب والسياسة، ص142-143.

(40) أخرجه البخاري (5090) ومسلم (1466).

(41) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ص234.

(42) الاستذكار (5/ 105).

(43) المروءة، ص117.

(44) الاستبصار، ص36-38.

(45) مختصر المزني بهامش الأم (5/ 256).

(46) أخرجه البخاري (6069).

(47) النكت الْجِيَاد المنتخبة من كَلَام شيخ النقاد (3/ 269).

(48) المروءة وخوارمها، ص221.

(49) السلسلة الصحيحة (1113).

(50) رواه بن ماجه (4186).

(51) الموافقات (2/ 489).