logo

في ظلال التربية القرآنية للداعية


بتاريخ : الأربعاء ، 20 ربيع الآخر ، 1438 الموافق 18 يناير 2017
بقلم : تيار الاصلاح
في ظلال التربية القرآنية للداعية

القرآن الكريم كتاب الهداية الكبرى للعباد، يهدي كافة الناس إلى الرشاد، قال الله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52].

والقرآن الكريم هو كتاب هذه الدعوة، هو روحها وباعثها، وهو قوامها وكيانها، وهو حارثها وراعيها، وهو بيانها وترجمانها، وهو دستورها ومنهجها، وهو في النهاية المرجع الذي يستمد منه الدعاة وسائل العمل ومناهج الحركة وزاد الطريق، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].

إن هذه البشرية، وهي من صنع الله، لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق، وشفاء كل داء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82].

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه، ولا تسلك في أمر نفسها، وفي أمر إنسانيتها، وفي أمر سعادتها أو شقوتها ما تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة، وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع الجهاز، ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه، فترده إلى المصنع الذي منه خرج، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب، الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه وأنشأه: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} [الملك:13-14].

ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة، البشرية المسكينة الحائرة، البشرية التي لن تجد الرشد، ولن تجد الهدى، ولن تجد الراحة، ولن تجد السعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير، كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير! ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثًا هائلًا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرًا في كل ما ألم بها من نكبات.

لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورًا جديدًا عن الوجود والحياة والقيم والنظم، كما حقق لها واقعًا اجتماعيًا فريدًا، كان يعز على خيالها تصوره، مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاءً، نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية والإيجابية، والتوازن والتناسق؛ بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها؛ في ظلال القرآن، ومنهج القرآن، وشريعة القرآن.

فالقرآن الكريم هو الآمر الناهي، الواعظ الزاجر، وهو نور يكشف ظلمات الجهل، فما أعظم هذا القرآن، وما أروع تعاليمه، وما أبلغ هديه وتوجيهاته؛ وصف للمسلمين الدواء وأن فيه الشفاء، وحدّ لهم حدودًا لا يتعدونها، بالأوامر والنواهي، وبالترغيب والترهيب، والتمثيل, والقصص، وإبراز وقائع الآخرة، وعرض الآيات الكونية، وأوضح لهم طرق تحقيق الهدف عبادة ومعاملة، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم كل تعامله تخلّقٌ بالقرآن الكريم، حتى صار امتثال القرآن، أمرًا ونهيًا، سجية له وخُلقًا تطبّعه، فما أمره القرآن فعله، وما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم؛ من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكل خلق جميل.

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} هكذا على وجه الإطلاق فيمن يهديهم وفيما يهديهم، فيشمل الهدى أقوامًا وأجيالًا بلا حدود من زمان أو مكان، ويشمل ما يهديهم إليه كل منهج وكل طريق، وكل خير يهتدي إليه البشر في كل زمان ومكان.

يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور، بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة، وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء، وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.

ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته وعمله، فإذا هي كلها مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى أعلى وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل عبادة متى توجه الإنسان به إلى الله، ولو كان هذا العمل متاعًا واستمتاعًا بالحياة.

ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة بين التكاليف والطاقة، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء، ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار، ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادًا وأزواجًا، وحكومات وشعوبًا، ودولًا وأجناسًا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض، الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الرسالات السماوية جميعها والربط بينها كلها، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها، فإذا البشرية كلها بجميع رسالاتها السماوية في سلام ووئام.

التربية القرآنية منهج وسبيل:

إن التربية القرآنية القائمة على ترسيخ الإيمان بالله واليوم الآخر، والعمل الصالح منهج واضح، وسبيل قاصد لا غنى للأمة في جميع أطوارها عن انتهاجه، ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.

التكوين التربوي للداعية:

في القرآن الكريم منهج تربوي يجمع بين المثالية والواقعية، ويحقق للإنسان القيادة في صناعة الحضارة من خلال الإنسان الفرد، والأسرة، والمجتمع، الذين تتحقق فيهم شروط الارتقاء، ويمكن رؤية ذلك من خلال ما يلي:

أولًا: تحديد الهدف: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18]، ليس هناك من فرض ثالث ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة، وما يترُك أحد شريعة الله إلا ليُحكّم الأهواء، فكُل ما عداها هوى يهفو إليه الذين لا يعلمون.

إنها شريعة واحدة التي تستحق الاتباع، وما عداها أهواء مُتبعة الجهل، وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها ويدع الأهواء كلها، وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء، وأصحاب الأهواء يتساندون فيما بينهم ضد صاحب الشريعة، فلا يجوز أن يأمل في بعضهم نصرة لهم، أو جنحًا عن الهوى الذى يربُط بينهم برباطه، إن هذا الدين جد وقد جاء ليحكُم الحياة، جاء ليُعبّد الناس لله وحده وينتزع من المغتصبين لسلطان الله هذا السلطان، فيرد الأمر كله إلى شريعة الله لا إلى شرع أحد سواه.

وجاءت هذه الشريعة لتحكُم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية وقضاياها، ولتُدلي بحُكم الله في الواقعة حين تُقدّر بقدر حجمها وشكلها وملابساتها، ولم يجئ هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار، ولا لتكون شريعته موضع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة، إنما هو منهج حياة كاملة شاملة، تعترضه العقبات والمشقات، إنه منهج لبناء واقع الحياة على قاعدة (لا إله إلا الله)، وذلك برد الناس إلى العبودية لربهم الحق، ورد المجتمع إلى حاكميته وشريعته، ورد الطغاة المعتدين على ألوهية الله وسلطانه من الطغيان والاعتداء، وتأمين الحق والعدل للناس جميعًا، وإقامة القسط بينهم بالميزان الثابت، وتعمير الأرض، والنهوض بتكاليف الخلافة فيها عن الله بمنهج الله، وكلها أمانات من لم ينهض بها فقد خانها وخان بعهده الذى عاهد الله عليه، ونقض بيعته التي بايع بها رسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27].

إن طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري تستهدف الإسلام، إسلام العباد لرب العباد، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، بإخراجهم من سُلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم إلى سُلطان الله وحاكميته وشريعته وحده، في كل شأن من شئون الحياة، وفى هذا جاء الإسلام، جاء ليرُد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذى يحتوى الناس، فيجب أن تكون السُلطة التي تُنظم حياتهم هي السُلطة التي تُنظِم وجوده، والناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم وحياتهم وموتهم، كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعاتهم، وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها، وهم لا يملكون تَغيير سُنة الله بهم في هذا كله، كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتُصرّفه.

ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم، فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شئون هذه الحياة، تنسيقًا بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقًا بين وجودهم كُله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني.

إن الداعية داعية إلى الله {وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ}، لا إلى دنيا، ولا إلى مجد، ولا إلى عزة قومية، ولا إلى عصبة جاهلية، ولا إلى مغنم، ولا إلى سلطان أو جاه، ولكن داعيًا إلى الله في طريق واحد يصل إلى الله بإذنه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (46)} [الأحزاب:45-46]، فالدعوة دعوة إلى الله {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ}، دعوة خالصة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، دعوة إلى الله لا لقومية ولا لعصبية ولا لأرض ولا لراية، لا لمصلحة ولا لمغنم، ولا لتمليق هوى، ولا لتحقيق شهوة، ومن شاء أن يتبع هذه الدعوة على تجرُدها فليتبعها، ومن أراد غيرها معها فليس هذا هو الطريق، وإن الدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة، ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع، ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتَجروا بها في سوق الدعوات تُشترى منهم وتُباع، إنما تقوم الدعوات بالقلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاهًا ولا متاعًا ولا انتفاعًا، إنما تبغي وجهه وترجو رضاه، ويجب ألا نغفل عن هذه الحقيقة البسيطة، التي كثيرًا ما ننساها، وهي أن الناس هم الناس، والدعوة هي الدعوة، والمعركة هي المعركة.

إنها أولًا، وقبل كلِ شيء، معركة مع الضعف والنقص والشُح والحرص في داخل النفس، ثم هي معركة مع الشر والباطل والضلال والطغيان في واقع الحياة، والمعركة بطرفيها لا بد من خوضها، ولا بد للقائمين على الجماعة المسلمة في الأرض من مواجهتها، كما واجهها القرآن أول مرة، وواجهها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد من الأخطاء والعثرات، ولا بد من ظهور الضعف والنقص في مراحل الطريق، ولا بد من المضي أيضًا في علاج الضعف والنقص كلما أظهرتهما الأحداث والتجارب، ولا بد من توجيه القلوب إلى الله بالأساليب التي اتبعها القرآن في التوجيه.

ويوجه الله توجيهًا حاسمًا لبيان طبيعة الدعوة وطبيعة الدعاة {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، إن الدعاة إلى الله ليس عليهم إلا أن يؤدوا تكاليف الدعوة في كل مراحلها، وليس عليهم أن يبلغوا بها إلا ما يشاؤه الله، كما أنه ليس لهم أن يستعجلوا خطوات الحركة، ولا أن يشعروا بالفشل والخيبة إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض، إنهم دعاة وليسوا إلا دعاة، بذلك يتعلم الدعاة إلى الله أن يتأدبوا في حق الله، إنه ليس لهم أن يستعجلوا النتائج والمصائر، ليس لهم أن يستعجلوا هداية الناس، ولا أن يستعجلوا وعد الله ووعيده للمُهتدين والمُكذّبين، ليس لهم أن يقولوا: دَعَونا كثيرًا فلم يستجب لنا إلا القليل، أو لقد صبرنا طويلًا فلم يأخذ الله الظالمين بظلمهم ونحن أحياء.

إن عليهم إلا البلاغ، أما حساب الناس في الدنيا أو في الآخرة فهذا ليس من شأن العبيد، إنما هو من شأن الله، فينبغي تأدُبًا في حق الله، واعترافًا بالعبودية له أن يُترك له سبحانه، يفعل فيه ما يشاء ويختار، وإنه لمِمّا يخدع الناسَ أن يروا الفاجر الطاغي أو المستهتر الفاسد أو الملحد الكافر مُمَكنًا له في الأرض، غير مأخوذ من الله، لكن الناس إنما يستعجلون، إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ولا يرون نهاية الطريق، ونهاية الطريق لا تُرى إلا بعد أن تجيء، لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يُصبحوا أحاديث، والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع لينتبه المخدوعون الذين لا يرون في حياتهم الفردية القصيرة نهاية الطريق، فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة، ويحسبونه نهاية الطريق، وهذا هو القرآن الكريم يقرر في كثير من جوانبه الحقيقية {فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ}.

ثانيًا: معرفة حقيقة الأعداء وكشف خططهم:

إن القرآن الكريم لَيوقفُنا أمام خطر شديد على العقيدة يكمن في الطريق، وهذا التوجيه واضح في الآية العظيمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، إن هذا القرآن يُربّي وعي المسلم بحقيقة أعدائه وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه، إنها معركة العقيدة، فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وبين كل أعدائه، وهم يعادونه لعقيدته ودينه قبل أي شيء آخر، وهم يعادونه هذا العداء الذي لا يهدأ لأنهم فاسقون عن دين الله، ومن ثم يكرهون كل من يستقيم على دين الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة:59]، فهذه هي العقيدة، وهذه هي الدوافع الأصلية.

إن قيمة هذا المنهج الإلهي وقيمة التوجيهات الأساسية فيه عظيمة، فإخلاص الولاء لله ورسوله ودينه، وللجماعة المُسلمة القائمة على هذا الأساس، ومعرفة طبيعة المعركة، وطبيعة الأعداء فيها أمران مُهمان، سواء في تحقيق شرائط الإيمان، أو في التربية الشخصية للمسلم، أو في التنظيم الحركي للجماعة المسلمة، فالذين يحملون راية هذه العقيدة لا يكونون مؤمنين بها أصلًا، ولا يكونون في ذواتهم شيئًا، ولا يُحققون في واقع الأرض أمرًا ما لم تتم في نفوسهم المُفاصلة الكاملة بينهم وبين سائر المُعسكرات التي لا ترفع رايتهم، وما لم يتمحص ولاءهم لله ورسوله ولقيادتهم الخاصة المؤمنة به، وما لم يعرفوا طبيعة أعدائهم وبواعثهم، وطبيعة المعركة التي يخوضونها معهم، وما لم يستيقنوا أنهم ألب عليهم، وأن بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة والعقيدة الإسلامية على السواء.

وسذاجة أي سذاجة، وغفلة أي غفلة أن نظُن أن لنا وأهل الكتاب طريقًا واحدًا نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار والملحدين، فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة مع المسلمين، وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السُذج منا في هذا الزمان، حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد بوصفنا جميعًا أهل دين، ناسين تعليم القرآن كله، وناسين تعليم التاريخ كله.

فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلًا} [النساء:51]، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين أَلَّبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة، وكانوا لهم درعًا ورداءً، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين شَنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شرّدوا المسلمين في فلسطين، وأحلّوا اليهود محلهم، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية، وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يُشرِّدون المسلمين في كل مكان، ثم يظهر بيننا من يظنُ أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر، ندفع به المادية والإلحاد عن الدين، إن هؤلاء لا يقرءون القرآن، وإذا قرءوه اختلطت عليهم دعوة السماحة، التي هي طابع الإسلام، فظنوها دعوة الولاء الذى يحذر منه القرآن الكريم.

إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض، تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم، كما وقفت له بالأمس الموقف الذى لا يمكن تبديله؛ لأنه الموقف الطبيعي الوحيد، إن نداء الله موجَّه لكل من ينطبق عليه ذات يوم صفة (الذين آمنوا).

لقد نزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته، ولينشئ تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها، المفاصلة التي لا تنهي المساحة الخلقية، فهذه صفة المسلم دائمًا، ولكنها تُنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا، الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل، فهذا مفرق الطريق، وما يمكن أن يتميع حس المسلم في المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام، وبينه وبين كل من لا يرفع راية الإسلام، ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملًا ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة، التي تستهدف، أول ما تستهدف، إقامة نظام واقعي في الأرض فريد، يختلف عن كل الأنظمة الأخرى، ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التصورات الأخرى.

إن القرآن الكريم يعمل ولا يزال يعمل في قيادة المجتمع المسلم، وفى توجيهه وفى توعيته، وفى إعداده لمهمته الضخمة، ولن يُفهم القرآن إلا وهو يُدْرس في مجاله الحركي الهائل، ولن يفهمه إلا أُناس يتحركون بالقرآن، والقرآن الكريم يُحذّر من التشكيلات التي تُتخذ ستارًا إسلاميًا، وفى حقيقتها إضرارًا بالإسلام، {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:107]، لقد اتُخذ مسجد الضرار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكيدة للمسلمين، لا يُراد به إلا الإضرار بالمسلمين وإلا الكفر بالله، وإلا ستر المتآمرين على الجماعة المسلمة، الكائدين لها في الظلام، وإلا التعاون مع أعداء هذا الدين على الكيد له تحت ستار الدين.

وليعرف الدُعاة في كل زمان وفى كل مكان أن هذا المسجد ما يزال يُتخذ في صور شتى، تُلائم ارتقاء الوسائل الخبيثة التي يتخذها أعداء هذا الدين، تُتخذ في صور نشاط ظاهره للإسلام وباطنه لسحق الإسلام أو تشويهه أو تمويهه وتمييعه، وتُتخذ في صور أوضاع ترفع لافتة الدين عليها لتتّرس وراءها وهى ترمي هذا الدين، وتتخذ في صور تشكيلات وتنظيمات وكتب وبحوث تتحدث عن الإسلام؛ لتخدّر القلقين الذين يرون الإسلام يُذبح ويُمحق، فتُخدرهم هذه التشكيلات وتلك الكتب إلى أن الإسلام بخير لا خوف عليه ولا قلق، وتتَخذ في صور شتى، ومن أجل مساجد الضرار الكثيرة هذه يتحتم على الدعاة كشفها وإنزال اللافتات الخادعة عنها، وبيان حقيقتها للناس وما تخفيه وراءها، ولنا أسوة في كشف مسجد الضرار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان الله القوي الصريح.

ثالثًا: التميُّز والمُفاصلة:

إن الاختصاص والتميز ضروريان للجماعة المسلمة: الاختصاص والتميز في التصور والاعتقاد، والاختصاص والتميز في القبلة والعبادة، وهذه كتلك؛ لا بد من التميز فيها والاختصاص، والجماعة المسلمة، التي تتجه إلى قبلة مميزة، يجب أن تُدرك معنى الاتجاه، إن القبلة ليست مجرد مكان أو جهة تتجه إليه الجماعة في الصلاة، فالمكان أو الجهة ليس سوى رمز، رمز للتميز والاختصاص، تميز الشخصية وتميز الهدف وتميز الاهتمامات وتميز المكان، والأمة المسلمة اليوم بين شتى التصورات الجاهلية التي تعج بها الأرض جميعًا، وبين شتى الأهداف الجاهلية، وبين شتى الاتهامات الجاهلية التي تَشغل بال الناس جميعًا، وبين شتى الرايات الجاهلية التي ترفعها الأقوام جميعًا، الأمة المسلمة اليوم في حاجة إلى التميز بشخصية خاصة لا تتلبس بشخصيات الجاهلية السائدة، والتمّيز بأهداف واهتمامات تتفق مع تلك الشخصية وهذا التصور، والتميز براية خاصة تحمل اسم الله وحده {قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، هذه سبيلي واحدة مستقيمة لا عِوج فيها ولا شك ولا شبهة، وأدعوا إلى الله على بصيرة، فنحن على هدى من الله ونور، نعرف طريقنا جيدًا، ونسير فيه على بصر وإدراك ومعرفة.

هذه طريقي فمن شاء فليتابع ومن لم يشأ فأنا أسير في الطريق المستقيم، وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم ولا يسلك مسلكهم ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون، ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم وهم متميعون في المجتمع الجاهلي، فهذه دعوة لا تؤدي شيئًا ذا قيمة، إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية، وأن يتميزوا بتجَمُع خاص، آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة الإسلامية، لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي، وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضًا، إن اندماجهم وتمييعهم في المجتمع الجاهلي وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية يذهب بكل السلطان الذى تحمله عقيدتهم، وبكل الأثر الذى يمكن أن تُنشئه دعوتهم، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة، وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين، إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس.

إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات، غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها، ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله، على أيدي جميع رسل الله، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم لم يقع في مرة واحدة قبل تميز العصبة المسلمة، ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة؛ أي الدين، وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها؛ أي نظام حياتها، وإن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعًا.

رابعًا: الواقعية والجدية: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة:217].

إن الدعوة الإسلامية لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، كما أنها لا تستخدم القهر المادي لضمائر الأفراد، ولكن طبيعتها هي الواقعية الحركية، فهي حركة ذات مراحل، لها وسائل متكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فالدين الإسلامي لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة، والذى يراجع أحداث السيرة النبوية ووقائعها ليرى من خلالها الواقع التاريخي للمنهج الحركي الإسلامي، فيتبين للدعاة أنه لا يمكن التعايش بين منهجين للحياة بينهما الاختلاف الجذري العميق البعيد الشامل لكل جزئية من جزئيات الاعتقاد والتصوُر والخُلق والسلوك، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإنساني، وهو الاختلاف الذى لا بد أن ينشأ من اختلاف الاعتقاد والتصور بين منهجين للحياة يقوم على عبودية العباد لله وحده لا شريك له، والآخر يقوم على عبودية البشر للبشر والآلهة المُدّعاة وللأرباب المتفرقة، ثم يقع بينهما التصادم في كل خطوة من خطوات الحياة؛ لأن كل خطوة من خطوات الحياة في أحد المنهجين لا بد أن تكون مختلفة مع الأخرى، ومتصادمة معها تمامًا في مثل هذين المنهجين، وفي مثل هذين النظامين.

وليدرك الدعاة أنها لم تكن فلتة عارضة أن تقف قريش تلك الوقفة العنيدة لدعوة أن (لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) في مكة، ولا أن تحاربها هذه الحرب الجائرة في المدينة، ولم تكن فلتة عارضة أن يقف اليهود في المدينة كذلك لهذه الحركة، وأن يجمعهم مع المشركين معسكر واحد لاستئصال شأفة ذلك الخطر، الذى يتهدد الجميع بمجرد قيام الدولة الإسلامية في المدينة على أساس هذه العقيدة، وإقامة نظامها وفق ذلك المنهج الرباني المتفرد.

وكذلك لنعلم أنها لم تكن فلتة عابرة أن يقف النصارى لهذه الدعوة منذ ذلك الحين إلى آخر الزمان، إنها طبائع الأشياء، إنها أولًا طبيعة المنهج الإسلامي التي يعرفها جيدًا أصحاب المناهج الأخرى، طبيعة الإصرار على إقامة مملكة الله في الأرض، وإخراج الناس كافة من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، وتحطيم الحواجز المادية التي تحول بين الناس كافة وبين حرية الاختيار الحقيقية، ثم إنها طبيعة التعارض بين منهجين للحياة لا التقاء بينهما في كبيرة ولا صغيرة، وحرص أصحاب المناهج الأرضية على سحق المنهج الرباني، الذي يتهدد وجودهم ومناهجهم وأوضاعهم قبل أن يسحقهم، فهي حتمية لا اختيار فيها في الحقيقة لهؤلاء وهؤلاء، وكانت هذه الحتمية تفعل فعلها على مدى الزمن، وتتجلى في صور شتى تؤكد وتعمق أصلها في المنهج الإلهي.

إن السمة الرئيسية للدعوة الإسلامية هي الواقعية والجدية، فالدين ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب للترف الذهني والتكاثر بالعلم والمعرفة، وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر تعبدية يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، إن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان، وهو منهج حركي واقعي يواجه واقع الناس بوسائل مكافئة، يواجه حواجز الإدراك والرؤية بالتبليغ والبيان، ويواجه حواجز الأوضاع والسلطة بالجهاد المادي لتحطيم سلطان الطواغيت وتقرير سلطان الله، والحركة بهذا الدين في واقع بشري، الصراع بينه وبين الجاهلية ليس مجرد صراع نظري يقابل بنظرية، إن الجاهلية تتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد كي يقابلها الدين بوسائل متكافئة أن يتمثل في مجتمع ووضع وسلطة، ولا بد بعد ذلك أن يجاهد ليكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة لسواه.

إن الإسلام منهج واقعي للحياة، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية، إنه يواجه الحياة البشرية كما هي بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية، يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير والارتقاء في آن واحد، يواجهها بحلول عملية تكافئ واقعيتها ولا ترفرف في خيال حالم لا تجدي على واقع الحياة شيئًا.

خامسًا: تحديد الأساليب الدعوية:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].

على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، ويعين وسائلها وطرائقها، ويرسم المنهج للرسول الكريم، وللدعاة من بعده بدينه القويم، فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه الله في هذا القرآن.

إن الدعوة دعوة إلى سبيل الله، لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله، لا فضل له يتحدث به، لا على الدعوة ولا على من يهتدون به، وأجره بعد ذلك على الله.

والدعوة بالحكمة، والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.

وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجر والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيرًا ما يهدي القلوب الشاردة، ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.

وبالجدل بالتي هي أحسن، بلا تحامل على المخالف، ولا ترذيل له وتقبيح، حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلًا عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها، في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر! ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين، فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله.

هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة، فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازًا لكرامة الحق، ودفعًا لغلبة الباطل، على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع، فالإسلام دين العدل والاعتدال، ودين السلم والمسالمة، إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي، {وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ} وليس ذلك بعيدًا عن دستور الدعوة فهو جزء منه، فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها، فلا تهون في نفوس الناس، والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد، ولا يثق أنها دعوة الله.

فالله لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها، والمؤمنون بالله لا يقبلون الضيم وهم دعاة لله والعزة لله جميعًا، ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس، وقيادة البشرية إلى الطريق القويم، فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون، ويعتدى عليهم فلا يردون؟!

ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل، فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر، حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرًا، وأكثر فائدة للدعوة.

فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر، فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة الله ويرخصانها فالقاعدة الأولى هي الأولى.

ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال، وضبط للعواطف، وكبت للفطرة، فإن القرآن يصله بالله ويزين عقباه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ} فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس، والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره.

ويوصي القرآن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي وصية لكل داعية من بعده، ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون، فإنما عليه واجبه يؤديه، والهدى والضلال بيد الله، وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال، وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية لله، فالله حافظه من المكر والكيد، لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته، لا يبتغي من ورائها شيئًا لنفسه.

ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره، ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه، ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} ومن كان الله معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون.

هذا هو دستور الدعوة إلى الله كما رسمه الله، والنصر مرهون باتباعه كما وعد الله.

سادسًا: الأخذ بالأسباب:

{اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)} [طه:42-44].

اذهب أنت وأخوك مزودين بآياتي، وقد شهد منها آية العصا وآية اليد، {وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} فهو عدتكما وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد، اذهبا إلى فرعون، وقد حفظتك من شرِّه من قبل وأنت طفل وقد قذفت في التابوت، فقذف التابوت في اليم، فألقاه اليم بالساحل، فلم تضرك هذه الخشونة، ولم تؤذك هذه المخاوف، فالآن أنت معد مهيأ، ومعك أخوك، فلا عليك وقد نجوت مما هو أشد، في ظروف أسوأ وأعنف.

اذهبا إلى فرعون فقد طغى وتجبر وعتا {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.

اذهبا إليه غير يائسين من هدايته، راجيين أن يتذكر ويخشى، فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة، ولا يثبت عليها في وجه الجحود والإنكار.

وإن الله ليعلم ما يكون من فرعون، ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه، والله يحاسب الناس على ما يقع منهم بعد أن يقع في عالمهم، وهو عالم بأنه سيكون، فعلمه تعالى بمستقبل الحوادث كعلمه بالحاضر منها والماضي في درجة سواء.

سابعًا: الإعراض عن الجاهلين:

الإعراض يكون بالترك والإهمال والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال، والمرور بها مر الكرام، وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد.

وقد ينتهي السكوت عنهم والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها؛ بدلًا من الفحش في الرد واللجاج في العناد، فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير، إذ يرون صاحب الدعوة محتملًا معرضًا عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويعزلون، وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى، وإذا قدر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة.

وهذا التعقيب: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم، عليم بما تحمله نفسك من أذاهم، وفي هذا ترضية وتسرية للنفس، فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم، وماذا تبتغي نفس بعد ما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟

هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو؛ أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم؛ بل يشكر من كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره؛ بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم.

ثامنًا: الزاد الإيماني:

لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.

لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة، فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره، أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدر به على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع! وهكذا دبر الله لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو يُعِدُّه لحمل الأمانة الكبرى، وتغيير وجه الأرض، وتعديل خط التاريخ، دبر له هذه العزلة قبل تكليفه بالرسالة بثلاث سنوات، ينطلق في هذه العزلة شهرًا من الزمان، مع روح الوجود الطليقة، ويتدبر ما وراء الوجود من غيب مكنون، حتى يحين موعد التعامل مع هذا الغيب عندما يأذن الله.

فلما أن أذن، وشاء سبحانه أن يفيض من رحمته هذا الفيض على أهل الأرض، جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في غار حراء.

{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل:1-9].

إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير، فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة الأمر وقدره، فقال لخديجة رضي الله عنها وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النوم يا خديجة»! أجل، مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق! {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل:1-4].

إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة؛ قيام الليل، أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه، وأقله ثلث الليل، قيامه للصلاة وترتيل القرآن، وهو مد الصوت به وتجويده، بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم.

***

________________

في ظلال القرآن.