فويل لهم مما كتبت أيديهم
عن ابن عباس رضي الله عنهما: «الويل المشقة من العذاب»، وقال الخليل بن أحمد: «الويل شدة الشر»، وقال سيبويه: «ويل لمن وقع في الهلكة، وويح لمن أشرف عليها»، وقال الأصمعي: «الويل تفجع، والويح ترحم»، وقال غيره: «الويل: الحزن»، وقال الخليل: «وفي معنى ويل: ويح وويش وويه وويك وويب»، ومنهم من فرق بينها، وقال بعض النحاة: «إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لأن فيها معنى الدعاء»، ومنهم من جوز نصبها بمعنى: ألزمهم ويلًا.
قلت: لكن لم يقرأ بذلك أحد.
وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة:79]، قال: «هم أحبار اليهود»، وكذا قال سعيد عن قتادة: «هم اليهود»، وقال سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة: «سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}، قال: (نزلت في المشركين وأهل الكتاب)»، وقال السدي: «كان ناس من اليهود كتبوا كتابًا من عندهم يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمنًا قليلًا»(1).
وعن ابن عباس أنه قال: «يا معشر المسلمين، كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء، وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث أخبار الله، تقرءونه غضًا لم يشب، وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله؛ ليشتروا به ثمنًا قليلًا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم، ولا والله، ما رأينا منهم أحدًا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم»(2).
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: «الثمن القليل الدنيا بحذافيرها».
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]؛ أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت، وعن ابن عباس قال: «فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب، {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}»، يقول: «مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم».
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]؛ أي: فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء، وويل لهم مما أكلوا به من السحت(3).
فساعة الكتابة لها ويل وعذاب، وساعة بيع الصفقة لها ويل وعذاب، والذي يكسبونه هو ويل وعذاب.
وكلمة كسب تدل على عمل من أعمال جوارحك يجلب لك خيرًا أو نفعًا، وهناك كسب وهناك اكتسب؛ كسب تأتي بالشيء النافع، واكتسب تأتي بالشيء الضار، ولكن في هذه الآية الكريمة الحق سبحانه وتعالى قال: {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}(4).
فالويل والهلاك على من استخدم قلمه وعقله، من المارقين والدجالين والكذابين، للنيل من دين الله ومن أنصار شريعة رب العالمين، يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق.
أنعم الله عليهم بنعم كثيرة فما استعملوها إلا في الصد عن سبيل الله، بدراهم معدودة، ومناصب زائفة، ينحني أمام الباطل، يصفق لكل خنزير، ويتلذذ بأكل الجيف.
لم ينبرِ قلمه مرة لينتصر لمظلوم، ولا مدافعًا عن أسير، وإنما كتاباته وكلماته ما استعملت إلا للزيف والمراوغة والتفلت من الدين، يبنون الفروع على غير أصولها، فيبوءون بضياع الأصل والفرع معًا.
بل جعلوا الفروع سلمًا للأصول؛ بل للوصول، على طريقة أبي دلامة حين حكمه الخليفة في جائزته، فاقترح كلب صيد، ثم طلب خادمًا له، ثم جارية تطبخ الصيد، ثم دارًا تؤوي الجميع، أكلًا للعنقود حبة فحبة مع لحاف وجبة.
فإنهم كقطيع لا عقول لهم يكفي لإسكاتهم ماء وأعلاف
يريد بقلمه ولسانه أن يداوي علة الأمة بعلل، ويقتل جرثومةً فيها بزرع جراثيم؛ كطبيب يجرب معلوماته في المرضى ليزيدهم مرضًا، ثم يعيش على أمراضهم التي مكن لها فيهم، فهو حاميها وحراميها، سرطانه دواء سلها.
هو طالح لا صالح لكنهم غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسه
حملة الأقلام المسمومة، والأفكار الكاسدة، مورثة الضغائن، موقظة الفتن، لقطاء الكتابة، لابسي جلود الضأن على قلوب الذئاب.
والذئب أخبث ما يكون إذا بدا متلبسًا بين النعاج إهابًا
الأدعياء الذين اقتحموا عرينًا ظنوا أن قد نامت آساده، لكأن القائل عناهم يوم قال:
لقيط في الكـــــــــتابة يدعـــــيها كدعوى الجعل في بغض السماد
فدع عنك الكتابة لست منها ولــــــــو لطخت وجـــــــهك بالمــــــــــداد
أولئك الرعاع الذين اتخذوا دين الله هزوًا ولعبًا، وعلوم الشريعة هراءً ولغبًا، ليس لهم في العلم إنعام، إن هم إلا كالأنعام.
ألسنة كالسياط، أدبها ودأبها التربص، فالتوثب على الأعراض في اعتراض، أشرفت علينا بقرون الفتنة لتضرب الثقة في قوام الأمة، طبع أصحابها، كما يقول ابن القيم عليه رحمة الله، طبع خنزير، يمر على الطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ولغ فيه وقمح، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها، ولا ينقلها، ولا تناسبه، فإذا رأى سقطةً أو كلمةً عوراء، ولو في فهمه، وجد بغيته وجعلها فاكهته، ألا بئس المنتجع وبئست الهواية، ويا ويلهم يوم تبلى السرائر يوم القيامة(5).
عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم, يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا, ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا, يبيع دينه بعرض من الدنيا»(6)، يعني: محرمًا لدم أخيه، وعرضه، وماله، ويمسي مستحلًا.
لا يميزون فيه الخطأ من الصواب، ولا يحققون فيه الأمور؛ بل ينجرفون وراء تيارات الفتن، وينزلقون وراء الهوى، وينقادون لأهواء الحياة وزينتها، فيبيعون دينهم بعرض حقير، ويخسرون آخرتهم بدنياهم.
يخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المستقبل الغامض، الذي تتطاير فيه الفتن تطاير النار والشرر، فتحرق من تحرق، وتزعج من تزعج، هنالك يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا فتحرقه الفتنة فيصبح كافرًا(7).
وهذه الفتن قد يكون فيها ما يعم الناس، وقد يكون فيها ما يخص، وأن منها الكلمة الخبيثة، التي يقذفها الشيطان على لسان ولي من أولياء الشيطان ليقولها، إما جادًا أو هازلًا، ليسمعها الضعيف القلب فيفتتن بها؛ الفتنة التي لا يخلص منها إلى يوم القيامة؛ لأن القلوب كثيرة التقلب من ربقة الحق، شديدة التطلع إلى منافذ الضلال، فإذا قذف في روعها شيء من المضللات وجد عندها داءً قاتلًا وشرًا مستعدًا؛ كالنار التي تقع في الخراق، فينبغي للإنسان أن يكون أشد خوفًا وحذرًا على دينه وإيمانه، متعاهدًا له بالذكر ومدارسة القرآن وامتثال أمر القرآن بالنظر والتدبر والفكر المؤدي له إلى الحق صباح مساء؛ بل في كل وقت ونفس وساعة(8).
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة، دخل حديث بعضهم في بعض، أنه قال رجل في غزوة تبوك: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء»; يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: «كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: «يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق».
قال ابن عمر: «كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: (إنما كنا نخوض ونلعب)، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ما يلتفت إليه وما يزيده عليه»(9).
هذا هو ديدنهم (إنما كنا نخوض ونلعب)، عذر أقبح من ذنب، لا يجرؤ خنزير منهم أن يستهزئ بظالم أو كافر، وإنما يتجرأ على آيات الله ورسوله.
وقد توعد الله من اتخذ آياته هزوًا ولعبًا بالعذاب المهين، فقال: {وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية:9]، وإعداد العذاب المهين في القرآن لم يأتي إلا في حق الكفرة والمشركين، وآيات الله دلائله وحججه وأمره ونهيه.
وهذه القصة فيها فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى:
أن من استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن ارتد عن دين الإسلام ردة تنافي التوحيد، وهذا وجه المناسبة من عقد المصنف لهذا الباب، أن من استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن، أو استهان بشيء من ذلك، أنه يرتد عن دين الإسلام ردة تنافي التوحيد، وتخرج من دين الإسلام؛ لأن هؤلاء كانوا مؤمنين، فارتدوا عن دينهم بهذه المقالة، بدليل قوله تعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم}.
الفائدة الثانية:
أن نواقض الإسلام لا يعفى فيها عن اللعب والمزح، سواءً كان جادًا أو هازلًا؛ بل يحكم عليه بالردة والخروج من دين الإسلام؛ لأن هؤلاء زعموا أنهم يمزحون، ولم يقبل الله جل وعلا عذرهم؛ لأن هذا ليس موضع لعب ولا موضع مزح.
الفائدة الثالثة:
وجوب إنكار المنكر؛ لأن عوف بن مالك أنكر ذلك وأقره الرسول على ذلك.
كذلك فإن من لم ينكر الكفر والشرك فإنه يكون كافرًا؛ لأن الذي تكلم في هذا المجلس واحد، والله نسب هذا إلى المجموع فقال: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم}؛ لأن الراضي كالفاعل، وهذه خطورة عظيمة.
الفائدة الرابعة:
فيه احترام أهل العلم وعدم السخرية منهم، أو الاستهزاء بهم؛ لأن هذا المنافق قال: «ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء»، يريد بذلك العلماء، والعلماء ورثة الأنبياء، وهم قدوة الأمة، فإذا طعنَّا في العلماء فإن هذا يحدث الخلخلة في المجتمع الإسلامي، ويقلل من قيمة العلماء، ويحدث التشكيك فيهم.
فالوقيعة بالمسلمين عمومًا، ولو كانوا من العوام، لا تجوز؛ لأن المسلم له حرمة، فكيف بولاة أمور المسلمين وعلماء المسلمين.
فالواجب الحذر من هذه الأمور، وحفظ اللسان، والسعي في الإصلاح، ونصيحة من يفعل هذا الشيء.
الفائدة الخامسة:
في الحديث دليل على وجوب الغلظة على أعداء الله ورسوله، من المنافقين والكفار ودعاة الضلال، وأن الإنسان لا يلين لهم؛ لأنه إن لان معهم خدعوه ونفذوا شرهم، فلا بد من الحزم من ولي الأمر ومن العالِم نحو المنافقين والكفار ودعاة السوء(10).
قال ابن حزم: «صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى، أو بملك من الملائكة، أو بنبي من الأنبياء عليهم السلام، أو بآية من القرآن، أو بفريضة من فرائض الدين، فهي كلها آيات الله تعالى، بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر»(11).
والاستهزاء بدين الله من علامات الكفار، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)} [الفرقان:41-42].
ومن علامات المنافقين خاصة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)} [المطففين:29-33].
والمستهزئ بالله أو آياته أو رسوله أو شيء من دينه وشريعته كافر بالله، حتى وإن زعم عدم قصده لحقيقة ما قال، وإن صلى وصام، فهو بذلك القول مرتد، سواء اعتقده بقلبه أو اعتقد الإيمان بقلبه؛ ولذا هؤلاء المنافقون في الآية لم يكونوا يعلمون بكفرهم، وظنوا أنهم معذورون، ومع هذا لم يقبل منهم ذلك، ولم يمنعهم من الردة، وهذا حكم الله يحكم ما يشاء، لا معقب لحكمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران:106]: «دل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرًا؛ بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبين أن الاستهزاء بالله ورسوله يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفرًا وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه»(12).
ولعظيم خطر الاستهزاء بالدين حذر الله من الجلوس مع المستهزئين فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} [النساء:140].
قال ابن كثير: «أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم، ورضيتم الجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه»(13).
قال القاضي عياض: «اعلم، وفقنا الله وإياك، أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به نقصًا في نفسه، أو نسبه، أو دينه، أو خصلة من خصاله، أو عرض به، أو شبهه بشيء على طريق السب له، أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه، والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حكم الساب، وكذلك من لعنه، أو دعا عليه، أو تمنى مضرة له، أو نسب إليه ما لا يليق على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر، ومنكر من القول وزور، أو عيره بشيء مما جرى من البلاء والمحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع من الصحابة وأئمة الفتوى، من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا...، لا نعلم خلافًا في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة، وقد ذكر غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره»(14).
جعل الله السخرية بالمؤمنين سببًا في دخول النار فقال: {قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)} [المؤمنون:108-110].
إن الإنسان قد يقول كلمة الكفر وهو يلعب ويضحك ولا يشعر، كما قال تعالى عقب هذه الآيات في سورة التوبة الفاضحة للمنافقين: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة:74]، فقد جاء في سبب نزولها عن عروة بن الزبير أن جُلَاسَ بن سويد قال: «لئن كان ما يقول محمد حقًا لنحن شر من الحمير»، فقال عمير بن سعد، وكان ربيبه في حجره: «والله، إن الذي يقول حق، وإنك لشر من الحمار»، ورفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جلاس فرد قوله وكذَّبه وقال: «والله، ما قلت ذاك، ولقد كذب عليَّ، فأنزل الله: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة:74]، الآية قال جلاس: «صدق يا رسول الله، لقد قلت ذاك، وقد عرض الله علي التوبة، وإني أستغفر الله وأتوب إليه مما قلت»(15).
إن الإسلام يتشوف للستر على أهل المعاصي، ولكن لعظيم هذا الجرم وخطره على الفرد والمجتمع فضح الله قائله، وبين كذبه في الحلف بالله، فهذا دليل على أن من الخير للمجتمع عدم الستر على أمثال هؤلاء المجرمين أعداء الدين.
قال فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين: «فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم، لا يجوز لأحد أن يعبث فيه، لا باستهزاء بإضحاك ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر؛ لأنه يدل على استهانته بالله عز وجل ورسله وكتبه وشرعه، وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله عز وجل مما صنع؛ لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ويصلح عمله، ويجعل في قلبه خشية من الله عز وجل وتعظيمه وخوفه ومحبته»(16).
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليًا رضي الله عنه بذهيبة فقسمها بين الأربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، فغضبت قريش والأنصار، قالوا: «يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا»، قال: «إنما أتألفهم»، فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية محلوق، فقال: «اتق الله يا محمد»، فقال: «من يطع الله إذا عصيت؟ أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني»، فسأله رجل قتله، أحسبه خالد بن الوليد، فمنعه، فلما ولى قال: «إن من ضئضئ هذا [أو: في عقب هذا] قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد»(17).
عن أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، لا يرجعون حتى يرتد على فوقه، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله منهم»، قالوا: «يا رسول الله، ما سيماهم؟»، قال: «التحليق»(18).
قال القاضي: «معناه يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق به شيء منه، والرمية هي الصيد المرمي، وهي فعيلة بمعنى مفعولة»(10).
أضرار السكوت على المستهزئين:
ضرر السكوت على استهزاء المنافقين بالله وآياته ورسوله وشرائع دينه وبحملته عظيم وخطير على الفرد والمجتمع، أما الفرد فقد بين الله ما أعد لمن شاركهم من النكال والعذاب في الآخرة، وأما الضرر على المجتمع فمنها على سبيل الاختصار:
1- التهوين والتقليل من حرمة الدين والقرآن والسنة؛ مما يجرئ الكفار وأعداء الدين على النيل من شريعة رب العالمين.
2- يزهد الناس في الالتزام بالدين؛ فحينما يتجرأ عليه كل فاسق ومنافق ومارق من الدين، فيكثر الفساد العريض المؤذن بالعقوبة الدنيوية قبل الأخروية.
3- فيه نشر للفرقة والتفكك في المجتمع؛ لأن هناك فئة تغار على حرمات الله، فيحصل الشجار وربما الاقتتال، ودرءًا لهذا كله لا بد أن يسكت هؤلاء المستهزءون، وألا يستثيروا حفيظة أهل الغيرة من المسلمين، جنَّب الله المسلمين الفتن والشرور.
4- أن انتشار هذا المنكر هو طريق للضعف وطمع الأعداء في الأمة، فإن العزة والقوة تكون بالتمسك بالدين وحفظ شريعته، فإن الله قد قال: {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء:139]، وعدم الاعتزاز بالدين والغيرة على حرمات رب العالمين دليل على أن فاعله والساكت عنه لم يرفع بهذا الدين رأسًا، ومن لم يرفع بهذا الدين رأسًا أصبح تابعًا لكل كافر وطامع في بلاد المسلمين(20).
***
______________
(1) تفسير ابن كثير (1/ 206).
(2) أخرجه البخاري (2685).
(3) تفسير ابن كثير (1/ 206).
(4) تفسير الشعراوي (1/ 421).
(5) حروف تجر الحتوف، للشيخ علي القرني.
(6) أخرجه مسلم (118).
(7) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 387).
(8) الإفصاح عن معاني الصحاح (8/ 163).
(9) التفسير البسيط (10/ 535).
(10) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد (190-192).
(11) الفصل في الملل والأهواء والنحل (3/ 299).
(12) مجموع الفتاوى (7/ 273).
(13) تفسير ابن كثير (1/ 567).
(14) الشفا (2/ 932).
(15) تاريخ المدينة، لابن شبة (1/ 355).
(16) المجموع الثمين (1/ 63).
(17) أخرجه البخاري (3344).
(18) أخرجه الترمذي (4765).
(19) شرح النووي على مسلم (7/ 159).
(20) تنبيه الغافلين على خطورة الاستهزاء بالدين وعباد الله الصالحين، موقع: صيد الفوائد.