logo

مشروعك في الحياة


بتاريخ : الاثنين ، 2 شعبان ، 1442 الموافق 15 مارس 2021
بقلم : تيار الاصلاح
مشروعك في الحياة

مشروع تتضح في ذهن صاحبه أهدافه، وتستولي فكرته على فكره وعقله، ويبذل له جميع طاقاته، مشروع يتناسب أولًا مع قدراتك وإمكاناتك، ثم تعيش همه في كل لحظة من حياتك، ثم تبذل له جميع ما تملك من فكر وعمل ومتابعة.

عن ابن مسعود، قال: إني لأمقت أن أرى الرجل فارغًا لا في عمل دنيا، ولا آخرة (1).

وروي عن عمر أَنه قال: إنِّي لأَكره أَن أرى أحدكم سبَهْللًا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة (2).

إن اشتغال الإنسان بما لا يعنيه ولا ينفعه إنما يدل في واقع الأمر على جهل الإنسان بمصالحه، وجهله بحقيقة نفسه وحقيقة الخلق والكون والحياة، أو يدل على غفلته عن السنن ونواميس الكون، أو يدل على محاولته التهرب من المسؤوليات، وذلك دليل عجزه وأمارة ضعفه في علاقته مع الله تعالى؛ فإن المؤمن القوي يكتسب قوته من حرصه على ما ينفعه مع استعانته بالله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز» (3).

إن أهم ما يساعد على اغتنام الأوقات الهروب من المجالس الخاوية، وترك فضول الكلام، والنأي عن أهل الكسل والبطالة، ومصاحبة المجدين النبهاء الأذكياء المتيقظين للوقت والدقائق، والانغماس في متعة المطالعة والاستزادة من المعرفة.

فالعاقل الموفق من يملأ حاضر عمره ووقته بفائدة وعمل صالح نافع، فيترقى في مدارج السمو والرفعة، يطلب علمًا، أو يكتب درسًا، أو يتعلم صنعة، أو يزور رحمًا، أو يعود مريضًا، أو ينصح ضالًا، أو يتكسب رزقًا يقوم به على عياله يكفهم عما في أيدي الناس.

ولا بدَّ لأيِّ إنسان أن يكون له أثرٌ يتركه من بعده، وعمر الإنسان لا يقاس بالسِّنين التي يعيشها؛ فكثير من الناس عمَّرَ الكثير وخرج من الدُّنيا ولا أثر، والبعض عاش قليلًا وترك الكثير الذي ما زال الناس يذكرونه به؛ كم عاش الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله وكم ترك؟!

ما الحلمُ الذي تَوَدُّ تحقيَقه؟

اجتمع في الحجر بالمسجد الحرام عبد الله، ومصعب، وعروة، بنو الزُّبير بن العوام، وابن عمر، فقال: تمنُّوا، فقال عبد الله: أتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين، فقال ابن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة، فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له (4).

ولا بد للشاب أن تكون نفسه توَّاقًة تسعى للمعالي؛ قال عمر بن عبد العزيز: إن نفسي هذه تواقة لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت الخلافة التي لا شيء أفضل منها تاقت إلى ما هو أفضل منها، قال سعيد: الجنة أفضل من الخلافة (5).

قال رجاء بن حيوة (وزير عمر): كنت مع عمر بن عبد العزيز لما كان واليًا على المدينة فأرسلني لأشتري له ثوبًا: فاشتريته له بخمسمائة درهم، فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه رخيص الثمن.

فلما صار خليفة للمسلمين بعثني لأشتري له ثوبًا؛ فاشتريته له بخمسة دراهم، فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه غالي الثمن.

قال رجاء: فلما سمعت كلامه بكيت، فقال لي عمر: ما يبكيك يا رجاء؟ قلت: تذكرت ثوبك قبل سنوات وما قلت عنه.

فكشف عمر لرجاء ابن حيوة سر هذا الموقف، وقال يا رجاء، إنّ لي نفسًا تواقة، وما حققت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه؛ تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنة، فأرجو أن أكون من أهلها، وكان يقول: من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من علمه قل كلامه إلا فيما ينفعه (6).

وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: «إن الله يحبُّ معالي الأمور وأشرفها ويكره سفاسفها» (7).

التقى شقيق بن إبراهيم البلخيّ الزّاهد– أحد شيوخ التَّصَوُّف- بإبراهيم بن أدهم فقال له إبراهيم بن أدهم: ما بدء أمرك الذي بلغك إلى هذا، فذكر أنه رأى في بعض الفلوات طيرًا مكسور الجناحين أتاه طائر صحيح الجناح بجرادة في منقاره، قال: فتركت التكسب فاشتغلت بالعبادة، فقال إبراهيم: ولم لا تكون أنت الطائر الصحيح الذي أطعم العليل حتى تكون أفضل منه، أما سمعت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى» (8)، ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار، فأخذ شقيق يد إبراهيم فقبلها، وقال: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق (9).

المسلم لا يقنع حتى يبلغ من أعماله غايتَها وأعلاها؛ فإن كان طالبًا لم يقنع إلا التَّفوُّقَ، وإن كان أبًا لم يقصِّر في تربية أبنائه {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: ٧٤]؛ وبناته؛ انظر الطموح ليكونوا قدوات في الخير «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، أراه فوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أﻧﻬار الجنة» (10)، فلا قيمة لمن اتَّكل على غيره ونظر إلى الأسفل على الدوام لا يتطلع إلى شيء، ولا يستشرف إلى علو، ولا يرجو من نفسه رقيًا، وظل واقفًا لا يدرك من سبقه، ولا يأمل اللِّحاقَ به أصلًا.

ولا يخلو مسلم من وجود نقطة تميزه ونواحي إبداع تبرزه؛ فلا بد من إخراجها؛ لينتفع ﺑﻬا المسلمون؛ ذلك أنَّ الذي يعيش لنفسه يعيش صغيرًا بسيطًا، وكذلك يموت، والذي يعيش لأمَّته يعيش كبيرًا عظيمًا؛ وكذلك يموت إن شاء الله.

ومن لم تتبلور عنده خصال التَّمَيُّز أو نقاط القوة، فليعمل على تَلمُّسها وصَقلها وتنميتها، ولا يتصور أن هنالك أحدًا يخلو من موهبة معيَّنة، أو طاقة ينفرد ﺑﻬا.

إنَّ كلَّ شخص على وجه هذه البسيطة يملك القدرَة ليكون شخصًا مبدعًا موهوبًا؛ أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقود جيشًا عرمرمًا، وفيه كبارُ الصَّحابة، وكان لا يتجاوز عمرُه حينها العشرين عامًا.

وابنا عفراء – معاذ ومعوذ رضي الله عنهما: يتصدَّيان لقتل فرعون هذه الأمَّة أبا جهل، فيبتدراه بسيفيهما فيضرباه حتى يقتلاه.

وابنُ عبَّاس رضي الله عنهما ترجمان القرآن: كان مرجعيَّة علميَّة وآيًة في الفهم والحفظ على صغر سنِّه (11).

قال زيد بن ثابت رضي الله عنه: ذهب بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعجب بي، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، معه مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة، فأعجب ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «يا زيد، تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي»، قال زيد: فتعلمت له كتابهم، ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا إليه، وأجيب عنه إذا كتب (12).

وفي رواية لأحمد: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب» قال: قلت: لا، قال: «فتعلمها»، فتعلمتها في سبعة عشر يومًا (13).

فإذن كان لدى هذا الغلام من الذكاء والفهم الذريع ما تعلم به لغة قوم من الكفار غير لغته؛ ليخدم الدين، وليكون كاتبًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كتب اليهود المرسلة إليه، ويجيب له عليها.

عيسى العوام رحمه الله:

قال ابن شداد رحمه الله في إحدى الوقائع التي كانت بين صلاح الدين والنصارى: ومن نوادر هذه الوقعة ومحاسنها أن عوامًا مسلمًا كان يجيد العوم، يقال له: عيسى العوام وكان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على ظهره ليلًا على غرة من العدوـ

البلد المسلمة كانت محاصرة بسفن العدو كانوا ينتظرون المدد ورسائل صلاح الدين التي يخبرهم فيها ماذا سيعملون ويمدهم بالنفقات لدعم الجهاد ـ

فكان هذا الغواص المسلم يدخل من تحت سفن الأعداء ثم يخرج بعدها، ويدخل البلدة المسلمة وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر لمراكب العدو، وكان ذات ليلة شد على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار، وكتب للعسكر، وعام في البحر فجرى عليه من أهلكه، ولكن الله قدر أن يموت هذا الرجل وهو جندي في وسط المعركة يخدم الدين، وأبطأ خبره عنا فاستشعر الناس هلاكهم، ولما كان بعد أيام بينما الناس على طرف البحر في البلد وإذا البحر قد قذف إليهم ميتًا غريقًا فافتقدوه فوجدوه عيسى العوام.

ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤِيَ من أدى الأمانة في حال حياته وقد أداها بعد وفاته إلا هذا الرجل، فإذن: حتى الغواصين والغطاسين كانوا يستغلون هذه الموهبة لنصرة الدين (14).

ولما دخل رسول الله المدينة توزعت الطاقات، واستغلت المواهب: فهذا بلال يؤذن، وسعد وغيره لحراسة الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ الأمر.

خالد الذي كان مبدعًا في القيادة استغل طاقته في أي شيء؟ استلم مباشرة الجيوش يقودها في سبيل الله، وحسان، وكعب، وابن رواحة للقيام بالدور الإعلامي المطلوب لخدمة الإسلام.

وابن مسعود صاحب النعلين والمطْهَرة؛ لأنه كان فقيهًا شديد التعلم كان يسأل رسول الله، حتى في الأشياء الدقيقة ليتعلم، وسلمان يدل على فكرة الخندق لما احتاج المسلمون، ونعيم بن مسعود الثقفي يعرض خدماته لما أسلم، وأبو طلحة يأتي رسول الله بتبرع سخي بستان كبير، يقول: يا رسول الله ضعها حيث أراك الله.

ووضع التجار إمكاناتهم لنصرة الدين:

فهذا عثمان رضي الله عنه يحفر بئرًا على نفقته، ويجهز جيش العسرة على نفقته، ويفك أزمة المسلمين في وقت شدة بأن تبرع بالدواب التي حملت التجارة له بما عليها للمسلمين.

والملاحظ في السيرة النبوية أن هذا الاستغلال والتوزيع لم يظهر بشكل واضح إلا في المجتمع المدني بعد إرساء القاعدة الصلبة والهجرة إلى المدينة.

الحرص على توفير الكفاءات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم، وقبل ذلك توفير الكفاءات الشرعية التي يتربى الناس عليها: وإلا فما الفائدة من الأطباء والمهندسين إذا كانت قلوبهم خاوية على عروشها من الإيمان والعقيدة الصحيحة.

وانظر إلى الغثاء المتدفق من أجيال البعثات على بلاد المسلمين.

كثير منهم ممن جاءوا من الغرب، أو الشرق قد أصبحوا حربًا على الإسلام وأهله، فليست القضية مجرد كفاءات علمية، وليست القضية مهارة في الأمور الدنيوية، قبل ذلك لا بد أن تعمر القلوب بالإيمان، وأن تتربى النفوس، وإلا فإن هذه الطاقات ستستخدم في حرب الإسلام ولو كان أصحابها عبد الله ومحمد وأحمد وعبد الرحمن.

استغلال الكفرة لمواهبهم أسوأ استغلال:

وانظر كيف استغل الكفار الأولون مهاراتهم ومواهبهم أسوأ استغلال: فهذا فرعون: لما أعطاه الله الملك والمال؛ سخر العباد، واستعلى عليهم، واعتدى على حق الألوهية، فادعى بأنه هو ربهم الأعلى، وبنوا له القصور والأنهار التي تجري من تحتها، وتأمل في هذه الأهرامات الموجودة الآن من الذي بناها؟ ولماذا بنوها؟ وكم أنفق فيها؟ إن الذين بنوها جماعة من الكفرة ممن سخر المساكين في ذلك الزمن، فأقاموها على دمائهم، وعلى أموال الشعوب الفقيرة في ذلك الوقت لماذا؟! لتكون مقبرة لهم زعموا! بناء كامل مقبرة لواحد ويدفن معه من الكنوز والأموال التي يحتاج إليها الناس.. كم قتل من الناس فيمن بنوا تلك الأهرامات؟ فالاستغلال السيئ للطاقات وللثروة هو الذي يبدد أموال الناس، ويفقرهم. وتأمل في حال قارون: لما أعطاه الله المال وأعطاه {مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص:76].

استكبر وعلا، وزعم بأن الله يحبه ويرضى عنه وإلا لما أعطاه، فبماذا عاقبه الله بعد ذلك؟ سوء استغلال الأموال؛ يؤدي إلى الهلاك، التبذير والإسراف يؤدي إلى الهلاك، إنفاق الأموال في مجالات الحرام يؤدي إلى الخراب والهلاك؛ ولذلك يقول نبي من الأنبياء لقومه موبخًا: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء: 128].

هذه المنشآت التي فيها ضرر على المنشآت وأهله، وفيها تبذير للأموال عبث.

وانظر كيف أغوى الشيطان أناسًا من المسلمين أنعم الله عليهم بالصوت الجميل فاستخدموه للغناء والفسق ومزامير الشيطان بدلًا من استغلاله في قراءة القرآن، ودعوة الناس للصلاة بالأذان.

وأنعم الله على آخرين بذاكرة جيدة استغلوها بحفظ تفاصيل التوافه من الرياضات والأهداف، وأسماء اللاعبين وتواريخ ذلك، وكلمات الأغاني وأشعار المجون، بدلًا من استخدام ذاكراتهم في حفظ كتاب الله والعلم الشرعي.

دعوة لاستغلال الطاقات في طاعة الله:

إن الله سيحاسب الناس على طاقاتهم، فعلى من أنعم الله عليه بطاقة أن يستغلها لطاعة الله. من أنعم الله عليه بشخصية جذابة وقدرة على التداخل مع البشر أن يستغلها في الدخول إلى قلوب الناس وتعميرها بالإسلام، وانظر إلى مصعب بن عمير كيف أنعم الله عليه بتلك الجاذبية مما أدخل فيه أناسًا من أهل الشرك، فصاروا قادة للإسلام.

ومن أنعم الله بجاه، أو نفوذ، أو سلطان، فعليه أن يستعمله للخير، وفي إحقاق الحق، ومحاربة الباطل، وأن يقرب أهل الخير، ويجعلهم بطانته ومشورتهم كما فعل الراشدون وعمر بن عبد العزيز.

ومن آتاه الله قدرة في الشعر؛ فلينظمه في المنافحة عن الإسلام، وهتك أستار الباطل كما كان حسان يفعل رضي الله عنه.

ومن آتاه الله بسطة في الجسم، فليجعلها في طاعة الله، حربًا على أعداء الله، يعين فيها الملهوف والمسكين والفقير من المسلمين.

ولما أعطى الله طالوت بسطة في العلم والجسم؛ استعملها في قيادة بني إسرائيل بشرع الله حتى وصلوا إلى نصر الله، وتأمل كيف عوتب موسى صلى الله عليه وسلم واعتبر ذلك خطيئة في حقه لما استخدم قوته الجسدية في ضرب رجل، فوكزه فقضى عليه.

إذن.. إذا كنا نريد أن نكون صادقين في استقامتنا على شرع الله؛ فعلينا باستغلال طاقاتنا ومواهبنا المادية والمعنوية لإعلاء كلمة الله (15).

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

أحد المعلمين وفقه الله في المرحلة المتوسطة يقول جلعت جزء من حصتي قبل بدء الدرس أول خمس دقائق ازرع فيهم أحد القيم عن فضل الصلاة أو بر الوالدين أو التهاون في الوضوء، أو الصحبة الصالحة.. وغيرها، فوجدت بفضل الله استقبال الطلاب للحديث معهم وحبهم للخير، فجميل لو تنقل هذه الفكرة إلى المعلمين لعل الله أن يبارك فيها وينفع بها بعض أبناءنا الطلاب.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (16).

يقول أحد الدعاة صليت العصر في مسجد فألقيت كلمة بعد الصلاة، ثم خرجت بسيارتي متجه إلى البيت، وفي طريقي إذا أحد الشباب بسيارته أشار بيده يريد أن أقف، فوقفت في أحد الأماكن، فنزل هذا الشاب وسلم علي وقال: والله يا شيخ لي ثمان أشهر ما صليت ولا فرض، مع العلم أني كنت في صغري في حلقة القرآن وحافظ جزء، ولكن بعد تخرجي من الجامعة وتوظفت تعرفت على شباب في العمل؛ منهم من يشرب الدخان، والأغلب لا يصلي ونسهر جميعًا في الإجازة إلى وقت متأخر، وأشعر الأن والله في ضيق لا يعلم به إلا الله، فهذه أول صلاة أصلي معكم العصر بعد ثمانية شهور، فهل لي من توبة؟

يقول الداعية وفقه الله: فقلت له: نعم: وذكرت له بعض الآيات والأحاديث عن فضل التوبة، فقال: وبإذن الله سوف أغير حياتي، واترك هذه الصحبة وأبحث عن صحبة تعينني على الخير بإذن الله.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (17)، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] (18).

إن بإمكان الواحد منا أن يكون مشروعًا في حياة نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، يقول الدكتور عبد الكريم بكار وهو يتحدث عن مشروع العمر للإنسان: يستطيع كثير من أفراد هذه الأمة أن يتخيّل أن حياته عبارة عن مشروع أنشأته أمّة الإسلام، واستثمرت فيه، ثم أوكلته إليه ليديرَه ويتابعَه، ويبذل فيه من ماله ووقته وجهده، وقد قبل هذه الوكالة وشرع يحاول في جعل ذلك المشروع ناجحًا ومثمرًا، بل يحاول أن يجعل منه مشروعًا نموذجيًّا بين المشروعات المناظرة.

وأود هنا أن أشير إلى فكرة مهمة هي أن الأمة الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من المال، لكنها التي يتلفّت صغارها وكبارها فلا يرون إلا رجالًا من الدرجة الرابعة، ولا يجدون نماذج رفيعة حيّة يقتدون بها ويقبسون من روحها وسلوكها ما يشكّل قسمات حياتهم.

إننا نريد من كل واحد منّا أن يفكّر هل يمكن أن يقدّم نموذجًا في الحفاظ على الوقت أو القراءة أو الحرص على صلاة الجماعة!! أو نموذجًا في الصدق أو التواضع أو خدمة المجتمع أو بر الوالدين أو الغيرة على حرمات الله تعالى أو نصح المسلمين؟! وحين يتمكّن 5% منّا تمثُّل هذه الفكرة وتطبيقها ثم نشرها والدعوة إليها فإنني أعتقد جازمًا أن وجه العالم سيتغيّر تغيّرًا واضحًا.

إن مشروع العمر هو مشروع تتّضح في ذهن صاحبه أهدافه، وتستولي فكرته على فكره وعقله، ويبذل له جميع طاقاته. هذا هو مشروع العمر، مشروع يتناسب أولًا مع قدراتك وإمكاناتك، ثم تعيش همّه في كل لحظة من حياتك، ثم تبذل له جميع ما تملك من فكر وعمل ومتابعة.

إنّ بإمكان الواحد منا أن يكون مشروعًا خاصًّا في حياة أمته فقط حين يتحرّر من الوهن والضعف وتقزيم النفس؛ ليركب نحو المعالي، كاتبًا في حياته الشخصية أنه أحد الكبار في حياة أمته.

وفي السنة النبويّة ورد ذكر امرأة كان لها مشروعها الشخصي الخاص، أتدري ما هو مشروعها؟! كانت تقمّ المسجد، هذا هو مشروعها، كانت تحرص على أن يكون مسجد رسول الله نظيفًا، وهي بهذا تشارك في خدمة هذا الدين، وفي النهاية رحلت من الأرض، ماتت في ساعة متأخرة من الليل، غسلها الصحابة ودفنوها ولم يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أنها ليست بذات الشأن، وفي الصباح دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مسجده فتلفّت فلم يرَ المرأة، فسأل عنها فأخبروه أنها ماتت، فقال: «أفلا آذنتموني؟!»، أي: أخبرتموني، قالوا: إنها ماتت في ساعة متأخرة، فيقوم صلى الله عليه وسلم متوجّهًا إلى المقبرة، ويتبعه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ويقف على قبرها ويصلي عليها، ثم يقول: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينوّرها بصلاتي عليهم» (19).

ولا يُعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تتبع جنازة امرأة غير هذه، ما يدلّك على عظمة صاحب المشروع.

وهذا رجل آخر كان له مشروعه الخاصّ به، فتح الله تعالى عليه ورزَقه مالًا، وأراد أن يكونَ شيئًا، فصار يداين الناس وييسّر عليهم في القضاء، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه، لعل الله يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه (20).

أيها المسلم: خذ سيرة أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، صحابي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ملأ الدنيا ذكرًا وصيتًا وحياة، وتأمل سيرته كاملة، لا تجد فيها سوى مشروع واحد كوّن له هذا الصيت في الأرض، لقد كان مشروعه حِفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يغادر الدنيا حتى تجاوزت محفوظاته خمسة آلاف حديث، ولا يكاد يذكر نبيّك صلى الله عليه وسلم اليوم في مجلس إلا وجدت لصيقه هذا الصحابي الجليل.

وهكذا هي المشاريع تجعل من أصحابها كبارًا لهذه الدرجة الكبيرة، لكن ينبغي أن تعلم أن هذا ما جاء من غفلة أو نوم أو انشغال بظروف خاصة، بل جاء من عمل وتعب نال به هذه المنزلة الرفيعة، يقول رضي الله عنه حاكيًا ذلك: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والله الموعد، وإن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يشغلهم عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينًا ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، وقال النبي صلى الله عليه وسلم يومًا: «لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه، ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا» فبسطت نمرة ليس علي ثوب غيرها، حتى قضى النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحق، ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا (21).

قف مع نفسك لحظات، فرّغ ذهنك من ضجيج الدنيا، وتأمل واسأل نفسك هذا السؤال: ما مشروعي الذي أدخل من خلاله إلى الجنة؟!

ما المشروع الذي يتناسب مع قدراتي وظروفي وحياتي لأكون رقمًا كبيرًا في ذاكرة هذا الدين في يوم من الأيام؟!

ثم إذا توصلت لذلك استخر ربك، وشاور صحبك، وجرّب، حاول، ثم ادع الله تعالى بالتوفيق. ولا يسعني هنا إلا أن أقول لك: هنيئًا فقد وضعت قدمك على بداية الطريق، والملتقى الجنان إن شاء الله تعالى.

عبد الرحمن السّميط طبيب كويتيّ، أراد أن يكون مشروعه الخاصّ الدعوة إلى الله تعالى، ولعلك تسأل: كيف بدأ؟! يقول: أردت أن أجمع لمشروعي ألف ريال من أجل البداية، وبقيت لمدة ثلاثة أشهر لم أتمكن من جمع ألف ريال.

أود هنا أن أنقلك إلى النهاية التي وصل إليها الرجل في مشروع الدعوة إلى الله تعالى، واصَل فذهب إلى إفريقيا يدعو إلى الله تعالى، واسمع إلى تلك النهايات: أسلم على يديه إلى الآن ما يزيد على مليونين ونصف مليون إنسان، وعلَّم ما يزيد على نصف مليون، ورسولك صلى الله عليه وسلم يقول: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم» (22).

لعلك تسأل: ما المشاريع التي يمكن أن يبدأ فيها الإنسان ويحقق بها أمثال هذه الأحلام؟! ولعل من نافلة القول أن أذكّرك بمشروع تربية الأبناء في البيت وجعلهم مشروع الإنسان الشخصيّ تعليمًا وتربية، وما يدريك أن يكون منهم علَم الأمة ومجدّدها في الأيام القادمة.

خدمة الناس وتفريج كروبهم وعونهم مشروع كبير يمكنك تحقيقه من خلال المشاركة في جمعيات البر، وهو مشروع فيه قول رسولك صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة، والساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله» (23).

تعليم الناس كتاب الله تعالى قراءة وحفظًا مشروع ضخم فيه قول رسولك صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (24)، ويمكنك تحقيق ذلك من خلال المشاركة في جمعيات تحفيظ القرآن الكريم.

الصلح بين المسلمين وجمع شمل المتخاصمين مشروع يمثل أهميته قول الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] (25).

______________

(2) المقاصد الحسنة (ص: 209).

(3) أخرجه مسلم (2664).

(4) سير أعلام النبلاء (5/ 74).

(5) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 331).

(6) انظر: موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (1/ 62)، ومرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 3041).

(7) أخرجه الطبراني في الأوسط (2940).

(8) أخرجه البخاري (1427)، ومسلم (1033).

(9) الوافي بالوفيات (16/ 101).

(10) أخرجه البخاري (2790).

(11) مشروعك الذي يلائمك (ص: 18).

(12) أخرجه أحمد (21618).

(13) أخرجه أحمد (21587).

(14) بطولات نادرة ترفع المعنويات/ من دروس للشيخ محمد المنجد.

(15) الطاقات والمواهب في خدمة الدين/ طريق الإسلام.

(16) أخرجه مسلم (1893).

(17) صحيح الجامع (3008).

(18) ماهو مشروعك في الحياة/ طريق الحياة.

(19) أخرجه مسلم (956).

(20) أخرجه البخاري (2078)، ومسلم (1562).

(21) أخرجه البخاري (2350).

(22) أخرجه البخاري (3009).

(23) أخرجه الطبراني (4742).

(24) أخرجه البخاري (5027).

(25) مشروع العمر/ ملتقى الخطباء.