logo

التربية بالأحداث


بتاريخ : الأربعاء ، 13 جمادى الأول ، 1436 الموافق 04 مارس 2015
بقلم : تيار الاصلاح
التربية بالأحداث

حياة البشر هي مجموعة من الحوادث، وعلى الرغم من ذلك فإن قلة من الناس هم الذين يستطيعون الاستفادة من هذه الأحداث في تربية الذات، وأخذ العبرة والعظة من الحوادث وتوظيفها في تربية وتوجيه الآخرين.

ولقد بعث الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم معلمًا لأمته، ومربيًا لهم، ومزكيًا لأخلاقهم، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} [آل عمران:164].

"إن الله الجليل غني عن العالمين؛ وإن الإنسان الضئيل لهو الفقير المحووج، ولكن الجليل هو الذي يحفل هذا الضئيل، ويتلمسه بعنايته، ويتابعه بدعوته! والغني هو الذي يخاطب الفقير ويدعوه ويكرر دعوته! فيا للكرم! ويا للمنة! ويا للفضل والعطاء الذي لا كفاء له من الشكر والوفاء! {وَيُزَكِّيهِمْ}، يطهرهم، ويرفعهم، وينقيهم.

يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم، ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم، ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم.. يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة، مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته.. ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم.

وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها.

من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة، في مواجهة رسولي قريش إليه، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده.. يقول جعفر: «أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف.. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..»"(1).

وتنوعت أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتربية، وكان من أفضل أساليب التربية النبوية (التربية بالأحداث)، هذا الأسلوب الذي ربى به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فصاروا مثلًا يحتذى به على مر الزمان والعصور؛ بل لقد كان هذا منهج القرآن في تناول الأحداث.

"إن التربية بالأحداث منهج أصيل في التربية الإسلامية؛ حيث يستغل الحدث في ترسخ القيم المطلوبة، حيث يكون هناك توافق بينها وبين الحديث الواقع؛ فيحدث من جراء ذلك فهم عميق وتأثر كبير"(2).

والتربية بالأحداث هي من أفضل الوسائل التربوية وأعمقها أثرًا؛ لذلك فقد شهد العصر الإسلامي الأول العديد من نماذج تربيته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حيث زخرت السنة النبوية بالكثير من النماذج لتربيته صلى الله عليه وسلم، أهله وأصحابه وأمته بالمواقف والأحداث.

والأحداث التي استخدمها القرآن الكريم في تربية العصبة المؤمنة لا تكاد تحصى من كثرتها، منها: تربيتهم من خلال أحداث غزوة بدر، وغزوة أحد، وغزوة حنين، وحادثة الإفك، وغيرها من الحوادث.

"ولقد جاء هذا القرآن ليربي أمة, وينشئ مجتمعًا, ويقيم نظامًا، والتربية تحتاج إلى زمن وإلى تأثر وانفعال بالكلمة, وإلى حركة تترجم التأثر والانفعال إلى واقع، والنفس البشرية لا تتحول تحولًا كاملًا شاملًا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد، إنما تتأثر يومًا بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج في مراقيه رويدًا رويدًا, وتعتاد على حمل تكاليفه شيئًا فشيئًا, فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخمًا ثقيلًا عسيرًا، وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية؛ فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادًا للانتفاع بالوجبة التالية, وأشد قابلية لها والتذاذًا بها.

ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها، وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية عن علم بها من خالقها، فجاء لذلك منجمًا وفق الحاجات الحية للجماعة المسلمة, وهي في طريق نشأتها ونموها, ووفق استعدادها الذي ينمو يومًا بعد يوم، في ظل المنهج التربوي الإلهي الدقيق، جاء ليكون منهج تربية، ومنهاج حياة، لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة، جاء لينفذ حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة, وتكليفًا تكليفًا.

جاء لتكون آياته هي (الأوامر اليومية) التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها, كما يتلقى الجندي في ثكنته أو في الميدان "الأمر اليومي" مع التأثر والفهم والرغبة في التنفيذ; ومع الانطباع والتكيف وفق ما يتلقاه"(3).

فقد روى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام؛ مخافةَ السآمة علينا»(4).

قال ابن حجر: التخول: التربية والتعهد.

ويقول علي رضي الله عنه: «إنَّ للقلوب شهواتٍ وإقبالًا وإدبارًا، فأتوها من قِبل شهواتها، فإن القلب إذا كَرِهَ عمي»(5).

"والحياة الدنيا كد وكدح ونصب، وتفاعل دائم مع الأحداث، وما دام الناس أحياءً فهم عرضة على الدوام للأحداث، تقع بسبب تصرفاتهم الخاصة، أو لأسباب خارجة عن تقديرهم وخارجة عن إرادتهم، والمربي البارع لا يترك الأحداث تذهب سدًى بغير عبرة وبغير توجيه، وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها، فلا يكون أثرها موقوتًا لا يلبث أن يضيع.

ومزية الأحداث على غيرها من وسائل التربية أنها تحدث في النفس حالة خاصة، هي أقرب للانصهار.

إن الحادثة تثير النفس بكاملها، وترسل فيها قدرًا من حرارة التفاعل والانفعال يكفي لصهرها أحيانًا، أو الوصول بها إلى قرب الانصهار، وتلك حالة لا تحدث كل يوم في النفس، وليس من اليسير الوصول إليها والنفس في راحتها وأمنها وطمأنينتها، مسترخية، أو منطلقة في تأمل رخي.

والمثل يقول: اضرب والحديد ساخن! لأن الضرب حينئذ يسهل الطرق والتشكيل، أما إذا تركته يبرد فهيهات أن تشكل منها شيئًا ولو بذلت أكبر الجهود.

لذلك كان استغلال الحادثة و(الحديد الساخن) مهمة كبيرة من مهام التربية، لينطبع على النفس في حالة انصهارها ما يريد المربي أن يطبعه من التوجيهات والتهذيبات، فلا يزول أثرها أبدًا، أو لا يزول من قريب.

ولقد قام القرآن، وهو يربي الأمة الإسلامية في منشئها، باستغلال الأحداث في تربية النفوس استغلالًا عجيبًا عميق الأثر، كان من نتيجته تلك الأمة العجيبة الفريدة في التاريخ كله، الأمة التي شهد لها خالقها فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].

{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].

لقد كان الدرس هنا قاسيًا عنيفًا يوم اعتز المسلمون بكثرتهم وأعجبتهم قوتهم فقالوا: لن نغلب اليوم من قلة! كان الدرس هو ردهم إلى الله، ليعتزوا به وحده، ويستمدوا منه القوة وحده، ولا ينظروا لأية قوة أرضية، معهم أو عليهم، على أنها العامل الحاسم في المعركة، أو أنها هي التي تقرر شيئًا على الإطلاق من مصائر الأمور، لقد كانت القوة الأرضية في مكة ضدهم، فرباهم هناك على أنها لا تعني شيئًا في حقيقة الأمر.

وأنها ليست هي التي تقرر مصير الدعوة، وإنما الذي يقررها هو الله، وهم مدعوون أن يلجئوا إلى الله وحده، ويعتزوا به وبقوته، ثم كانت القوة الأرضية في المدينة معهم، فرباهم كذلك على أنها لا تعني شيئًا في حقيقة الأمر، وأنها ليست هي التي تقرر مصير الدعوة، وإنما الذي يقررها هو الله، ودعاهم، كما دعاهم هناك، أن يلجئوا إلى الله ويعتزوا به وبقوته: {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(27)}[التوبة:26-27].

وكذلك في سبيل هذا التجرد ذاته كانت التربية بالأحداث في سورة آل عمران، للذين فتنتهم أسلاب المعركة في أحد فنسوا هدفها الأصيل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:152].

وفي سورة التوبة كانت التربية بالأحداث للذين تخلفوا عن القتال في وقعة تبوك: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ(81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ(83)}[التوبة:81-83].

وقد كان أعظم ابتلاء بإعلان الجهاد في وقت الحر الشديد، ووقت ضائقة مالية، إلا أن الاستجابة كانت عظيمة، باستثناء الثلاثة الذين كان لهم درس خاص من دروس التربية.

قال تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ(117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(121)} [التوبة:117-121].

هذه الطرقات العنيفة كلها و(الحديد ساخن) لينطبع في النفوس الأثر المطلوب، ولا يتخلف الناس عن الجهاد في سبيل الله... وقد كان... لم يتخلف بعد ذلك أحد من المؤمنين ولا من الأعراب!

إنما المقصود هو حكمة التربية بالأحداث، المقصود هو الطرق والحديد ساخن، حتى لا تفلت الحادثة بلا عبرة مستفادة، ولا أثر ينطبع في النفس ويبقى.

والهدف هو ربط القلوب دائمًا بالله، في كل حادثة وفي كل شعور، والمجال دائمًا مفتوح أمام كل مُرَبٍّ, له عين مفتوحة وقلب واعٍ وإدراك بصير، إنه يستطيع أن يدرك اللحظة المناسبة للتوجيه، اللحظة التي تبلغ فيها حرارة الانفعال درجة الانصهار، وعندئذ يعقد العقدة الوثيقة التي لا تنحل، ويطبع الطابع العميق الذي لا يزول"(6).

عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابيًا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء، أو سجلًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»(7).

فهذا حدث أزعج الصحابة رضي الله عنهم، فقاموا لتغيير هذا المنكر العظيم، الذي حدث في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم استغل هذا الحدث في تربية الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فأراد أن يعلمهم الأسلوب الأمثل في تغيير المنكرات، وهو ألا يغير المنكر بمنكر أكبر منه، فهذا الأعرابي بال في مساحة محددة من المسجد، فلما همُّوا بضربه همّ أن يقوم من مكانه فتقع النجاسة في مساحة أكبر، وفي ذلك إنزال الضرر به كذلك، وتنفير لقلبه، فهو يجهل الحكم كونه أعرابيًا.

فكان هذا الحدث وسيلة لتعليم وتربية الصحابة على حسن الأسلوب في الدعوة وتغيير المنكر.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلًا من بعض العالية والناس كنفته، فمر بجدي أسك ميت؛ فتناوله، فأخذ بأذنه ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟»، فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء،وما نصنع به، قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسك؛ فكيف وهو ميت،فقال: «فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»(8).

عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: «يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعو حكيمًا ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئًا، ثم إن عمر دعاه ليعطيه، فيأبى أن يقبله، فقال: يا معشر المسلمين، إني أعرض عليه حقه، الذي قسم الله له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي رحمه الله(9).

فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الحرص الشديد على المال من حكيم بن حزام، استغل هذا الحدث بإعطائه نصيحة يربيه فيها، فكانت هذه النصيحة مؤثرة فيه غاية التأثير، وينظر أنه عليه الصلاة والسلام لم يعظه في المرة الأولى ولا في الثانية؛ بل أعطاه هذه النصيحة في المرة الثالثة لما وجد الحرص شديدًا، وفي نفس الوقت وجد القلب مفتوحًا.

هذه كلها مواقف وأحداث استغلها النبي عليه الصلاة والسلام في تربية أصحابه الكرام، رضوان الله عليهم، ونحن في هذه الآونة بأمس الحاجة إلى إعمال هذا المنهج النبوي الرشيد، خاصة إذا عرفنا أنه تمرُّ على القلب لحظات يكون أكثر تقبُّلًا للوعظ فيها من غيرها؛ لأن حال القلب التقلب، والداعية الصادق يحمل في حنايا قلبه الكثيرَ من تعاليم الإسلام؛ يريد أن يُبلغها غيره ليعمل بها، والداعية الناجح هو الذي يعلم أن التعليم الذي لا يُنسَى هو التعليم المقترن بموقف، أو بحدث؛ فهو يستغل كل مناسبة، ويقتنص كل فرصة، فيتحدث والقلب مفتوح، ويضرب والحديد ساخن(10).

فمن التربية بالأحداث: تربية النفوس المؤمنة بالتوجيه والتحذير والعتاب، حيث كانت تجيء التوجيهات الربانية إلى النبي والذين معه وهم في مكة، تدعوهم إلى السماحة واليسر والحلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199]، لما في ذلك من تربية للنفس على الصبر والحلم والأناة، وإعدادها لحمل أعباء وتبعات الدعوة مستقبلًا.

ومن التربية بالأحداث: ربط العلم بالعمل، فمن ذلك لما اشتد الإيذاء بالمسلمين في مكة أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى أرض الحبشة.

يقول ابن القيم: «مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقضي وقوع الفعل»(11).

وهنا يتبادر سؤال: لماذا هاجر إلى الحبشة أشراف القوم الذين لم يتعرضوا للأذى؛ كعثمان، والزبير، وجعفر، ولم يهاجر المستضعفون؛ كبلال، وعمار، وصهيب، وخباب، وأمثالهم؟

والظاهر أنها كانت توطئة نفسية وعملية لهؤلاء على مغادرة وطنهم، بينما لم يكن للمستضعفين حاجة لذلك؛ فليسوا من أهل مكة، وليس لهم ارتباط بالأرض، فاجتمع للأشراف أمران: الارتباط بالقوم والقبيلة، والارتباط بالأرض، وهما يزاحمان في النفس معاني التوحيد، وكان لا بد من التخلص عمليًا، وليس قولًا، من ذلك، وكان إعلان الإيمان تخلصًا من العصبية القبلية، أما الارتباط بالأرض فقد اجتمع في مكة ما لم يجتمع في غيرها من مزايا نفسية واجتماعية تربطهم بها، فكانت الهجرة هي التطبيق العملي لأولوية العقيدة وترك الأرض.

خصائص التربية بالأحداث:

-1 الاستفادة من تجارب السابقين التي تدور بين موقفين: إيجابي يؤتسى به، وسلبي يبتعد عنه، فالإيجابي يشد العزائم؛ كقصة أصحاب الأخدود، التي كانت تشد من أزر المسلمين ولا زالت، وكما في حديث خباب، حين جاء يشتكي للرسول فذكره بأحوال الأمم السابقة.

-2 أنها تحول المفاهيم إلى حركة؛ وهذا ما يخيف الجاهلية، وقريش لم تقف في وجه الحنفاء الذين كانوا على التوحيد قبل بعثة النبي؛ لعلمها أن فكرهم شعور فردي لم يتحول إلى حركة.

هناك علاقة عضوية ما بين الفكرة والممارسة, فالأفكار تنمى وتدفع للممارسة، والممارسة بدورها تخصب الأفكار وتعدلها، وتعطيها معناها، فحركة التطور للأمام تبدأ إذن بالفكرة، وتتعمق بالحركة والممارسة، ومن ثم فإن الممارسة والسلوك ينبغي أن تنبثق انبثاقًا تلقائيًا من الفكرة.

قال صاحب الروضتين، واصفًا صلاح الدين وأثر الفكرة في سلوكه: "وقد كان يقوم بنفسه بإعمار سور بيت المقدس، ولو رأيته وهو يحمل حجرًا في حجره لعلمت أن له قلبًا قد حمل جبلًا في فكره" هذا هو الترتيب الطبيعي لكي تولد الأفكار، وتنمو نموًا صحيحًا.

-3 أنها بطيئة وئيدة؛ ذلك أن مهمة الإصلاح وتغيير النفوس ليست سهلة، تحتاج إلى جهد يرتقي بهم من حال إلى حال.

-4 أنها تربط النفس بالعمل لا بالنتيجة، وهذا يستمد قيمته من الإخلاص وإصلاح النية، وله أيضًا نتائج عظيمة في واقع الحياة، فأمر النتيجة يوكل إلى علام الغيوب؛ فهو أعلم بحكمته الوقتَ المناسبَ لقطف الثمرة، وفي حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: أقبلت مع رسول الله آخذًا بيدي نتمشى بالبطحاء، حتى أتى على آل عمار بن ياسر، فقال أبو عمار: يا رسول الله، الدهر هكذا؟! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «اصبر»، ثم قال: «اللهم اغفر لآل ياسر، وقد فعلت»(12).

وقد مات آل ياسر ولم يشعروا أنهما وصلا إلى نتيجة؛ لأن التربية النبوية علمت المؤمنين أن يعطوا في هذه الدنيا ولا يأخذوا فيها شيئًا، فهي علّقت قلوبهم بالآخرة؛ بالجنة والرضوان.

لقد كان من آفاق هذه التربية أن كانت الغزوة بمثابة تمحيص نهائي، واستئصال جذري للطفيليات المحسوبة عليها وليست منها(13).

5- الاستفادة القصوى من القرآن، لقد حقق القرآن بمنهجه ذاك في التربية بالأحداث خوارق في تكييف تلك النفوس، التي تلقته مرتلًا متتابعًا, وتأثرت به يومًا يومًا, وانطبعت به أثرًا أثرًا، فلما غفل المسلمون عن هذا المنهج, واتخذوا القرآن كتاب متاع للثقافة, وكتاب تعبد للتلاوة فحسب, لا منهج تربية للانطباع والتكيف، ومنهج حياة للعمل والتنفيذ، لم ينتفعوا من القرآن بشيء؛ لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير(14).

6-يسهل ويقلل من جهد العملية التربوية، ويؤتي نتائج تربوية أفضل.

7- تربط النفس بالعمل لا بالنتيجة، وهذا يستمد قيمته من الإخلاص وإصلاح النية، وله أيضًا نتائج عظيمة في واقع الحياة.

8- ربط الوجدان بالأحداث يعمق الأثر في النفس والروح، فالثبات في الحياة يسهل على الحس أن يتعود عليه فيتبلد، ولا يعود المشهد يثيره، أما الأحداث والمواقف المتغيرة فلا يمكن للحس أن يتبلد إزاءها، ولا بد أن يلتفت ويتيقظ(15).

يقول الشيخ محمد الغزالي: «ولأمرٍ نزل القرآن منجمًا على ثلاث وعشرين سنة؛ فقد تجاوب مع الأحداث، وأصاب مواقع التوجيه إصابة رائعة»(16).

«لا يصح للداعية أن يطاوع نفسه في العزلة؛ فإن الله يتجلَّى على العاملين في ميادينهم بأفضل مما يتجلى على العابدين في محاريبهم، وما أبعد الفرق بين مَن ينهض إلى الله يوم القيامة ومعه أمة، ومَن ينهض إلى الله يوم القيامة وليس معه أحد!»(17).

_________________________________

(1) في ظلال القرآن (آل عمران: 164).

(2) التربية بالأحداث، موقع بناء الأجيال.

(3) في ظلال القرآن (الفرقان: 32).

(4) رواه البخاري (70)، ومسلم (2821).

(5) زهرة التفاسير (2/ 803).

(6) منهج التربية الإسلامية، محمد قطب (1/ 207-215)، باختصار شديد.

(7) رواه البخاري (6128).

(8) رواه مسلم (2957).

(9) رواه البخاري (2750)، ومسلم (1035).

(10) السيرة النبوية والتربية بالأحداث، موقع فضيلة الشيخ الدكتور عقيل بن محمد المقطري.

(11) الفوائد، لابن القيم، ص173.

(12) رواه أحمد (440).

(13) التربية النبوية بالأحداث، د. محمد أمحزون، موقع: المسلم.

(14) في ظلال القرآن (الفرقان: 33).

(15) التربية بالأحداث.. نماذج وآثار، طارق السيد، موقع: لها أون لاين.

(16) خطب الشيخ محمد الغزالي (1/21).

(17) الرسالة، عدد 16، (ص: 50).