الشباب وتجزئة التدين
لقد ذكر الله تعالى مرحلة الشباب في كتابه العزيز ووصفها بالفتوة، كما وصف أصحاب الكهف فقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، إنها مرحلة القوة أيضًا كما قال الله: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54]، هذه مرحلة بلوغ الأشد التي ذكرها الله بقوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]، إنها مرحلة الرشد أيضًا التي وصفها الله بقوله: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6].
هذه المرحلة العظيمة من مراحل العمر التي علق التكليف بها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رُفع القلم عن ثلاثة عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبّ، وعن المعتوه حتى يعقل» (1).
هذه المرحلة العظيمة التي تتجلى فيها قضية التكليف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تكليف العاجز الذي لا قدرة له على الفعل بحال غير واقع في الشريعة، بل قد تسقط الشريعةُ التكليفَ عمن تكمل فيه أداة العلم والقدرة تخفيفًا عنه، وضبطًا لمناط التكليف، وإن كان تكليفه ممكنًا، كما رُفع القلم عن الصبي حتى يحتلم، وإن كان له فهم وتمييز، لكن ذلك لأنه لم يتم فهمه؛ ولأن العقل يظهر في الناس شيئًا فشيئًا، وهم يختلفون فيه، فلما كانت الحكمة خفية ومنتشرة قُيِّدت بالبلوغ (2).
فإذن هو مرحلة الفهم والعقل، ولذلك كان التكليف منوطًا به ومرتبطًا به.
هذا السن اختلف أهل اللغة في أوله وآخره، فقال بعضهم: من البلوغ حتى بلوغ الأربعين، والله تعالى ذكر بأن الأشد الأربعين في قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15].
قال ابن كثير: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي: قوي وشب وارتجل {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحلمه (3).
فابتداء الأشد من البلوغ إذا كان معه رشد، ولا يزال يتدرج حتى يستكمل في الأربعين، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15]، فالأربعون هي سن الاستكمال، والاستواء، والتمام في القوى، وهي السن التي بعث الله فيها النبي صلى الله عليه وسلم للعالمين بشيرًا ونذيرًا (4).
إنها مرحلة وعي ديني:
القضية في هذا السن مرحلة وعي ديني، تتميز عبادة الفرد في طفولته وقبل بلوغه بالتقليد لوالديه، أما في مرحلة الشباب فيستيقظ الوعي فلا يكون عندئذ مقلدًا، وإنما يكون عاقلًا يفهم ويعقل العبادات، ولذلك فإن عند الشباب القدرة على فهم المصطلحات المجردة المتعلقة بالدين، مثل: التقوى، الاستقامة، ونحو ذلك، يوجد سرعة تغير، يوجد تغير في طبيعة النفس، يحدث فيها انتقال سريع في الطول في العقل في الجسم في الأعضاء، صحيح، هذا الانفجار الذي يحدث لدى الشخص وهذا التسارع في عمليات نمو العقل والجسم هذا شيء خلقه الله في نفس الإنسان، وإذا توجه التوجه الصحيح فإنه سينتج انتاجًا جميلًا وجيدًا.
لقد كان المجتمع الإسلامي فيه تقدُّم؛ بسبب إتاحة الفرص للنبغاء من الصغار أن يتبوءوا مكانتهم فيه، يُعطَون الفرصة ولذلك برزت شخصيات، حصل اهتمام بهم منذ سن مبكرة.
عندما نحدث الشباب الصغار عن قضية الدين وعن الله تعالى وصفاته وأسمائه وعظمته وسلطانه وقوته وجبروته، ونتحدث معهم عن اليوم الآخر، والجنة والنار والحساب، والصراط والميزان والحوض، والشفاعة، والقبر عذابه ونعيمه، ونتحدث معهم عن التكاليف الشرعية والعبادات التي أوجبها الله على عباده؛ من الصلاة والصيام وغيرها، والمحرمات التي نهى الله عنها، وعن أعمال البر والمستحبات، نحن نخاطب بهذا الكلام في هؤلاء الشباب فطرة فطرهم الله عليها، نخاطب أجهزة استقبال مستعدة للتلقي، هذا اسمه رصيد الفطرة، فالله تعالى أعان الدُّعاة بتركيب أشياء في نفوس المدعوين تستقبل كلام الدعاة استقبالًا صحيحًا وتتفاعل معه، فلو وجد شاب -والبيئة نظيفة ولا يوجد مؤثرات سلبية- وكلمته عن الحق يعرفه بالفطرة ويقبله بالفطرة، فعندنا شيء اسمه رصيد الفطرة، والفساد في الشباب ليس أصليًا، هذا طارئ مناقض للفطرة.
في المجتمع الأول الشاب يكبر فيرى أمامه أعلام وقدوات، ابن عمر يرد عن القتال؛ لأنه ما بلغ خمسة عشر عامًا، معاذ ومعوّذ شابان صغيران تفاعلا مع الكلام الذي سمعاه وعزما على الانتقام، ما أحد قال لهما: اقتلا أبا جهل، ولا خطّطا لقتله، ولا اعزما على ذلك، لكن من تلقاء نفسيهما، تفاعلا مع الكلام وعزما على الأمر وبيّتاه، وجاء في ميدان المعركة يسأل كل واحد منهما عبد الرحمن بن عوف عن أبي جهل أين هو؟ وما تفعل به يا ابن أخي؟ قال: أريد أن أقتله (5).
فإذن، متى صارت عند الشباب هذه المبادرات الذاتية للخير التي تصل إلى قضية التضحية بالأرواح؟ لما كان المجتمع نظيفًا، لما كانت البيئة نظيفة، لما كان القدوات حاضرين، لما كان الخير قائمًا مشرعًا ألويته، لما نصبت للخير أعلام اتجهوا إليها وبرزوا في ميادين العلم والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعبادة.
عبد الله بن عمر كان صغيرًا رد في معركة بدر، كان يبيت في المسجد، لما سمع عبارة: «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل» هو شاب، لكن جاءت الكلمة «نعم الرجل» ليس نعم الطفل، ولا نعم الصغير، «نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل»، قال: فما تركتُ قيام الليل بعدها (6)، مع أنه صغير في السن لكن التأثر يحدث في نفوس هؤلاء، عندما يكون هناك توجيه، قدوات، بيئة طيبة، هذا ما نريده اليوم للشباب أن يعيشوا في توجيه صحيح ومنهج سليم، يقول ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك -يعني توجه للدين صار عنده توجه ديني- أن يؤاخي صاحب سنّة يحمله عليها (7).
فأي شاب يحصل عنده توجُّه للخير، بداية استقامة، حب للتدين والعبادة، من أكبر النعم عليه أن يوفقه الله إلى رجل من أهل السنة عنده علم وعقيدة صحيحة.
إن الشاب يتجه إلى الله بفطرته، يحس على وجه الخصوص بالقرب من ربه في حالة الذنب والشدة والخطر، فيتوجّه إلى الله بالتوبة عند الذنب، ويتوجه إلى الله بالدعاء لفك الكربة وحل الأزمة، {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].
ولذلك فإن تفكير المراهق المتميز يدعوه للتساؤل عن القضايا الكونية والنفسية، وتتراكم عليه أسئلة كثيرة في هذا الباب، كما أن عواطفه جياشة، وأحاسيسه مرهفة، فهو كثير الخوف كثير الرجاء، سريع الشعور بالذنب والإحساس بالضعف، يتجه إلى المسجد، ويحافظ على الصلوات، ويكثر الدعاء والأوراد والأذكار، ويعطف على الفقير والمحتاج والمظلوم، ويتبنى المساعدة، ويتوق للعمل التطوعي، تستهويه ساحات الجهاد، وتجتذبه أخبار المجاهدين، وتأخذ بشغاف قلبه؛ لما فيها من إبراز القوة والبطولة والتضحية ونصر الحق، ورفع الظلم، والحركة والمغامرة، كل هذا يؤكد على أن أصول التدين موجودة في نفوس الشباب تحتاج القضية إلى توجيه قدوات وبيان المنهج.
الخطوات العملية لتديُّن الشاب:
أولًا: معرفة الله، وتوحيده، وأسماؤه وصفاته، وربط هذا بالواقع، ثم بعد العقيدة العبادة، لا بد أن يتعبّد الشاب، لا بد أن يمارس العبادات، أداء ما افترض الله عليه، «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه» (8).
فيؤدي الصلوات ويحافظ عليها في أوقاتها المحددة شرعًا بشروطها، ثم النوافل والرواتب، تلاوة القرآن والاستماع إلى القرآن، الاستماع أحيانًا تأثيره يكون أكثر من القراءة، الاستماع إليه من الغير، الأوراد والمحافظة على أذكار الصباح والمساء والمناسبات المختلفة التي جعل فيها الشارع أذكارًا، ارتياد مواطن الوعظ والذكرى والقصص الصادق المؤثر، مجالس الذكر، زيارة المرضى، زيارة المقابر، زيارة الصالحين، زيارة أهل العلم.
سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرة أصحابه: «من عاد منكم مريضًا؟» قال أبو بكر: أنا، «من تبع منكم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا، «من أطعم منكم مسكينًا؟» قال أبو بكر: أنا (9).
ثانيًا: الصحبة الطيبة:
ثم من الأمور المهمة في قضية التدين الصُّحبة الطيبة ولا شك، {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، {لِصَاحِبِهِ} صُحبة طيبة، ومن أكرم من النبي صلى الله عليه وسلم، فصحِبه الصديق فنال بصحبته إياه المنزلة العالية، فصار أفضل الناس بعده، فنعم الصحبة هي.
وكذلك فإن رفقة أصحاب الكهف لبعضهم البعض، أورثتهم هذه الصُّحبة متانة في الموقف، وقوة في العقيدة، استطاعوا أن يصمدوا بها أمام ظلم قومهم، ويتحملوا آلام الغُربة، ومشقة السفر، وخروجهم في هذا السن الصغير برغم المخاطر التي يمكن أن يتعرضوا لها، فرارًا بدينهم.
ولذلك فإن الصُّحبة تقوي الإنسان وتقيه الشرور، والشاب في أول أمره يميل إلى تكوين الصداقات والدخول في المجموعات، ويتعلم المحافظة على الأصول، مثل: قضية عدم إخلاف المواعيد، والوفاء للمجموعة، وعدم إفشاء أسرار المجموعة، ويمكن في هذه المرحلة أن يتدخل الأب لتكوين الصداقات لولده، ولا بد أن يكون التدخُّل حكيمًا لتكوين أصدقاء الولد.
وأولاد الزمان هذا لا يقبلون أن تُفرض عليهم أسماء معينة، فإذا كان عندنا حكمة في قضية إدخال الولد في صداقات من غير أن يحس أنها فُرضت عليه، فعملية زيارة الآباء لبعضهم أو الزيارات العائلية بين المتدينين، أو العوائل المتدينة، هذه العلاقات بين العوائل المتديِّنة تنشئ بطبيعتها تلقائيًا وسطًا وبيئة طيبة لولد كل واحد منهم، دون أن يحس الأولاد أن هناك أسماء فُرضت عليهم، وهذه قضية في غاية الأهمية.
ثالثًا: أثر البيئة في تديُّن الشاب: إن هناك تأثر في هؤلاء الشباب من زملاء الدراسة من رفقاء الشارع في البيت في الحارة، في أماكن متعددة يلتقون فيها، ولذلك كانت البيئات من أهم الأمور التي تؤثر في تكوين العلاقات في الأولاد، وبالتالي انحرافهم أو استقامتهم، يحتاج الواحد أحيانًا إلى غسيل مستمر، لأنه لا يمكن العزل الكلي، وإلا سيكون الولد فيما يشبه السجن، وإذا خرجنا للمجتمع الذي فيه كثير من الانحرافات تأثر الأولاد، لا بد أن يكون هناك عملية غسيل مستمرة.
الشاب يكون عنده انجذاب للاقتداء والإعجاب بشخص معين، طاقة الإعجاب بالشخصيات يجب أن توجه للإعجاب بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه والسلف والشخصيات الإسلامية الكبيرة، التي مرت عبر التاريخ ونحن أثرياء جدًا، عندنا رصيد هائل في هذا الموضوع، تاريخنًا حافل بشخصيات على مدى ألف وأربعمئة سنة، الأمة أنجبت شخصيات عظيمة، شخصيات صالحة للاقتداء، ويمكن أن ينجذب إليها هؤلاء الشباب، وبالتالي تعجبهم فيحبونها فيقتدون بها؛ وهذه قضية مهمة جدًا، توجيه طاقة الإعجاب والاستهواء إلى الشخصيات الإسلامية الكبيرة.
رابعًا: توجيه الطاقات الشابة لخدمة الإسلام: الشاب الذي يتفجر قوة وحيوية، وعنده طاقات هائلة في التعلم، اكتساب المعرفة، هذه من ألمع الطاقات الموجودة عند الشباب، السرعة في التعلم، السرعة في الحفظ، السرعة في اكتساب المعرفة، الفهم، طاقات تتفجر متوالية، حتى الطاقات البدنية والجسدية، الطاقات الفكرية العالية هذه إذا وجهت لخدمة الدين فإن هذا الشاب يكون تدينه قويًا، لقد حدثونا في التاريخ عن شخصيات من الشباب، كان لها أثر كبير في نصرة الدين؛ زيد بن ثابت، تعلّم لغة كاملة في سبعة عشر يومًا؛ لينصر دين الله، قال: ذكر له أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمن اليهود على كتابه، فتعلّم لغة يهود، فتعلّمها في سبعة عشر يومًا (10).
كانت عمليات توجيه الطاقات عمومًا في المجتمع الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، عملية محكمة، هذا صوت جميل يوجه للأذان، «قم فألقه على بلال فإنه أندى صوتًا منك» (11).
هذا صاحب قدرة قيادية، يوجه للقيادة، أسامة بن زيد، هذا صاحب موهبة شعرية حسان بن ثابت، قصائد، أشعار، قال: «اهجُهم روح القدس معك» (12).
وهكذا تكاملت الطاقات في خدمة الدين، فصوت جميل يوجه، قوة جسدية توجه لخدمة الدين، قدرة على الاختراع والابتكار توجه لخدمة الدين، في سيرة صلاح الدين الأيوبي في حرب الصليبين، كان من الاختراعات المهمة: إيجاد أبراج قاذفة توضع فيها كرات نفط مشتعلة وتُرمى، فابتكر أحد الشباب المسلمين بُرجًا قاذفًا كان له أثر كبير في تحقيق النصر (13).
خامسًا: أثر موضوع الشهوة على التدين: إذا كان المجتمع نظيفًا فإننا لن نعاني من الانحرافات، وإنما تحدث الانحرافات عند وجود مؤثرات خارجية سيئة، وقد تعلم بعض الشباب أمورًا من السوء في هذ الجانب -جانب الشهوة- كلهم عن طريق الأخذ عن الآخرين.
البلوغ بحدّ ذاته ليس مشكلة، والبلوغ بحد ذاته ليس شرًا، وإنما هو نقلة إلى مزيد من التعقل والفهم، ولكن هذه الجاهلية الحديثة التي تريد تحطيم رباط الزواج المقدس بإقامة العلاقات المحرمة، والتشجيع عليها، ونشر الرذيلة والفساد في كل مكان، فيريدون إفساد التصورات والعقائد أولًا، فيعقدون الاجتماعات العالمية للمرأة والأسرة والطفل، يقولون: مؤتمر الأسرة العالمي، مؤتمر المرأة العالمي، ونحو ذلك من الأطروحات.
لكي يكون هناك تديُّن جيد عند الشباب، لا بد أن يكونوا في بيئات إيمانية ومحاضن تربوية، والبيئات هذه هي: حلقات تحفيظ قرآن، مراكز طيبة، جمعيات إسلامية، التوعية الإسلامية في المدارس، في المكتبات الإسلامية، وغير ذلك من الأنشطة التي تحافظ عليهم وتوجههم وتعتني بهم، ولا شك أن هناك اختلاف في الحالات بين الأبناء، ولكننا نستطيع أن نوجد عناصر وشخصيات إسلامية قوية من خلال بيئات إسلامية قوية يتربى فيها هؤلاء الشباب تصقل شخصياتهم وتزيد تدينهم (14).
خصائص التدين عند الشباب:
تبرز لدى الإنسان عند دخوله مرحلة الشباب المشاعر الدينية بصورة قوية، ويتجلى ذلك من خلال حب الشباب للدين، والسعي من أجل فهم القضايا الدينية، والتفاعل مع كل ما يرمز إلى الفكر الديني بجدية، ويمكننا أن نحدد أهم خصائص التدين عند الشباب في النقاط التالية:
1- حب الدين:
يميل الشباب إلى حب الدين، والانجذاب نحو القيم الروحية والأخلاقية؛ وذلك بفعل شعور الشباب بالحاجة إلى الدين، كما أن الإنسان مفطور على اعتناق الدين، كما قال تعالى مشيرًا إلى هذه الحقيقة: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، فالإنسان مفطور على الانتماء إلى الدين، ولكنه قد ينحرف عن تلك الفطرة بفعل عوامل خارجية مؤثرة تدفعه نحو الانحراف والسقوط في هاوية الشهوات والغرائز.
إن حب الدين والانتماء إليه والشعور بالحاجة إليه تبدو عند الشباب بصورة قوية جدًا، وذلك لوجود «الغريزة الدينية» التي أودعها الله سبحانه وتعالى في شخصية الإنسان.
أما ما نلاحظه من انحراف بعض الشباب عن تعاليم الدين وقيمه ومفاهيمه فهو ناتج من اتباع الهوى، وضعف الإرادة مما يجعل بعض الشباب ينساق وراء غرائزه الشهوانية من دون ضوابط ولا قيود، ولكن حتى مثل هؤلاء الشباب سرعان ما يعودون إلى الدين بعد فترة من الطيش الشبابي، لأن الإنسان -أي إنسان- لا يمكنه أن يعيش بسعادة وراحة وصحة من دون دين.
2- الوعي الديني:
في مرحلة الشباب يتشكل ويتبلور وعي الإنسان وفكره في جميع الأمور، ومن أهمها: تبلور الوعي الديني؛ فعادة ما يكون عند الشباب اهتمام واسع وقوي لمعرفة القضايا الدينية، وفهم القيم الروحية والأخلاقية، واستيعابه المعارف الدينية، ففي حين لا يدرك الطفل أبعاد الدين، ولا فلسفة الأحكام الدينية يكون لدى الشاب القدرة على فهم ذلك واستيعابه نتيجة لارتفاع الفهم والإدراك في مرحلة الشباب، ونمو الحس الديني في هذه المرحلة المهمة من حياة الإنسان.
إن الانتماء إلى الدين هو أحد الرغبات الفطرية البشرية الذي يستيقظ بحلول البلوغ في ضمير الشاب حاله حال غيره من الميول الطبيعية، ويدفعه إلى السعي والتحرك، وللشباب رغبة طبيعية ماسة لفهم القضايا الدينية، ويصغي إلى الأحاديث الإيمانية بكل شوق وعن طيب خاطر (15).
ومن أجل بلورة الوعي الديني بصورة صحيحة عند الشباب ينبغي لهم قراءة أمهات الكتب الدينية، ومجالسة أهل العلم والرأي، وعمل حلقات لمناقشة القضايا الدينية بصورة عميقة، كما يجب على العلماء أن يقدموا أجوبة مقنعة على كل الشبهات والردود التي توجه ضد الإسلام والدين، كما يجب أن تقدم مفاهيم الدين وتعاليمه إلى الشباب بصورة عصرية بحيث يُقبل عليها، ويتفاعل معها، ويتأثر بها.
3- الحماس الديني:
ومن أهم خصائص التدين عند الشباب هو الحماس الديني، ويتأثر الحماس الديني بالخصائص الانفعالية للشباب، كما يتخذ أشكالًا مختلفة من العلامات والمظاهر، وقد يكون الحماس بشكل جماعي أو في صورة أفراد.
ومما يجب قوله هنا هو أنه يجب الاستفادة من الحماس الديني عند الشباب في توجيههم نحو مجالات وأفعال الخير والصلاح، وزيادة فاعليتهم العملية والإنتاجية، وتقوية إرادتهم وعزائمهم فيما يخدم قضايا المجتمع والأمة، كما يجب الاستفادة من الحماس الديني عند الشباب بدفعهم نحو الفهم الصحيح لقضايا الدين، والاطلاع الواسع والعميق على مفاهيم الدين، فالشباب عندما يكون متحمسًا يكون مهيئًا للتعليم والتربية والإصلاح، وممارسة العمل الديني بجد وإخلاص.
وقد يكون الحماس الديني عند بعض الشباب متوجهًا في الاتجاه السلبي، وذلك عندما يكون الحماس في عنفوانه مع فهم سطحي للدين، وادعاء الحقيقة المطلقة، ورفض الآخر من نفس الدائرة الإسلامية.
ولتلافي ذلك، يجب توجيه الشباب، والاستفادة من الحماس الديني الموجود عندهم في الاتجاه الإيجابي، وإلا قد يتحول إلى حالة من التطرف والغلو في الدين خصوصًا إذا لم يتلقَ الشباب تربية دينية واعية، ولم يوجد من ينمي لديهم الوعي الديني الصحيح.
ولذلك يتحمل العلماء والمصلحون والقادة مسؤولية عظيمة في توجيه الشباب وتربيتهم وإرشادهم نحو قيم وتعاليم الدين، وتنمية الوعي الديني الصحيح، والاستفادة من الاستعداد والتهيؤ النفسي الموجود عند الشباب بدفعهم نحو المزيد من العمل والعطاء والنشاط فيما يخدم المجتمع والأمة والحضارة (16).
ظاهرة تجزئة التدين:
إن البَوْن شاسع بين الأخذ القوي لما جاءت به الشريعة في الكتاب والسنة، وبين الإهمال شبه المتعمد لبعض ما جاء فيهما، مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208].
ولعل مرد تلك الظاهرة الخطيرة إلى أمور عدة، من أبرزها:
- عناية بعض الدعاة وطلبة العلم بمسألة العلم بأمر الله تعالى ونهيـه، مـع الضعف البيِّن فـي العنـاية بمسـألة العلـم بالله تعالى من خلال مطالعة أسمائه تعالى وصفاته، ومشاهدة آياته في الأنفُس والآفاق، مما ولَّد هشاشة في بواعث التدين؛ من محبةٍ لله تعالى وتعظيمٍ لأمره، وورعٍ في مقاربة حِماه، ومن إجلال الله تعالى ومهابته، ومخافة التعرض لسخطه وعقابه، ومن الطمع في ثوابه تعالى ورجاء الظفر بدقيق لُطْفه وعظيم إنعامه في الدنيا والآخرة.
- ارتباط مفهوم التدين لدى كثير من شباب الإسلام بالأعمال الظاهرة على حساب استصلاح القلوب والعناية بأعمالها، مع أن القلب إمام الجوارح وشريف الأعضاء؛ بصلاحه تصلح، وبفساده تفسد؛ {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]، فمتى كان القلب سليمًا ليس فيه إلا محبة الله تعالى ومحبة ما يحبه سبحانه وخشية الله عز وجل، وخشية الوقوع في ما يكرهه تقدست أسماؤه، فمتى كان القلب كذلك صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات وتَوَقِّي الشبهات؛ أما إذا كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتِّباع هواه، فسدت حركات جوارحه، وانبعث صاحبه إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب قوة اتِّباعه لهواه، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» (17).
يقول ابن القيم: من تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها عَلِمَ ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفْرَض على العبد من أعمال الجوارح؛ وهل يميَّز المؤمن عن المنافق إلا بما في قَلْب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟ وهل يتمكن أحدٌ من الدخول في الإسلام إلا بعمل قَلْبِه قبل جوارحه؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم؛ فهي واجبة في كل وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان؛ فمركب الإيمان القلب، ومركب الإسلام الجوارح (18).
فالعناية بالقلوب والحرص على سلامتها مدخل الفلاح ومفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، ومن تأمَّل في أحوال الناس اليوم شاهد بجلاء أن العناية بأعمال القلوب لا تتوازى مع جلالتها، وعلو منزلتها، وكونها شَرْط النجاة وركيزة التدين، والمحور الأعظم للإقبال على الله تعالى؛ بل إن عامة جوانب الاختلال اليوم في وسط أهل الإسلام بعامة ومعاشر المتدينين بخاصة مردُّها إلى قلة الفقه في هذا الباب.
- التعلق بالدنيا وطَلَبُ راحتها، والاشتغال بأعمالها عن الآخرة، وهو ما أدى إلى تشتُّت هموم القلب، وإلى عدم عكوفه على الله، وتفريغه لمحبته تعـالى، وهـو ما يجعل المرء يخلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا بحسب اختلاف عمق غفلته، ومدى قوى الهوى لديه نحو هذا العمل أو ذاك.
والداعي للوقوع في هذا الداء العضال هو: ضَعْف الوعي بطبيعة النفس البشرية ووظيفتها، ومحدوديةُ الإدراك العميق لحقيقة الدنيا والآخرة، وقلَّةُ البصيرة بعواقب الأشياء ونتائجها، وعدمُ التحرز مما يمكن أن يكون؛ وإلا فمن يدرك ذلك كيف لا يجمع همته على الله ولا ينصرف بكليته إليه سبحانه، وهو يعلم حقارة الدنيا وهوانها، وعلوَّ منزلة الآخرة وعظيم نعيمها وشديد عقابها وهول الخسارة فيها؟
إن الانغماس في الدنيا والوقوع في أَسْر ملذاتهـا من أعظم ما يسوِّغ للمرء الاستقامة على أجزاء من الدين والتفلت من بعضه الآخر، ويزيد من خطورة هذا الجانب غفلة عامة الخلق عن وقوعهم في إسار الغفلة وأوحالها.
- ضَعْف العزيمة ومحدودية الجدية في أَخْذ الكتاب بقوة؛ تعلُّمًا وتدبرًا وعملًا ودعوة، وكم فوَّتت دناءة الهمة على صاحبها من فرصة، وأورثته من تقاصُر ومعصية؟
إن التعبد بحسب الهوى، والعُجْب بالعمل، ورؤيةَ الطاعة اليسيرة، والوقوعَ في أَسْر الترف أو المعاناة من الفقر، والتسويفَ في الطاعة، وضَعْفَ التربية عن البِدار إلى تلقي أوامر الشرع كله للتنفيذ بحسب الاستطاعة، وضَعْف التواصي بالحق والتواصي بالصبر، هو ما أدى إلى الإخلاد إلى الأرض، والاشتغال بالسفاسف، واستمراء المعاصي والسيئات، والاجتراء على الوقوع في المهلكات، والتواني عن تَحَمُّل المسؤولية الشرعية نحو النفس والمجتمع، والرغبة في الدَّعَة والراحة وإن كان في ذلك مفارقة للشرع.
فلا بد للخلاص من ذلك من التشبث بركائز التدين، والمداومة على متابعة الشرع واستهدائه، والاستعانة بالله تعالى على تلافيه، والعناية بمحاسبة النفس، والقيام بمفارقة البطالين وأرباب الغفلة، وملازمة علماء الأمة الربانيين والأخذ عنهم، وتقوية قنوات التناصح وجسور الاحتساب في أوساط الدعاة والمصلحين متى أردنا التعبد لله بحق ومتانة، والظفر بسعادة الدنيا والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم (19).
-----------
(1) أخرجه الترمذي (1423).
(2) مجموع الفتاوى (10/ 345).
(3) تفسير ابن كثير (7/ 280).
(4) تفسير ابن باديس (ص: 94).
(5) أخرجه البخاري (3988)، ومسلم (1800).
(6) أخرجه البخاري (1122)، ومسلم (2479).
(7) تلبيس إبليس (ص: 11).
(8) أخرجه البخاري (6502).
(9) أخرجه مسلم (1028).
(10) أخرجه أحمد (21587)، وابن حبان (7136).
(11) أخرجه أحمد (16478).
(12) أخرجه البخاري (6153)، ومسلم (2486).
(13) النوادر السلطانية (ص: 282).
(14) الشباب والتدين/ موقع الشيخ محمد صالح المنجد.
(15) الشاب بين العقل والعاطفة (1/ 309).
(16) خصائص التدين عند الشباب/ شبكة النبأ.
(17) أخرجه البخاري (52).
(18) بدائع الفوائد (3/ 193).
(19) ركائز التدين/ إسلام ويب.