logo

فهم طبيعة النفس


بتاريخ : الأحد ، 25 ربيع الآخر ، 1441 الموافق 22 ديسمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
فهم طبيعة النفس

إن الفوارق أصيلة في طبيعة الكون وفي طبيعة النفس، واختلاف طباع الناس واختلاف استقبالهم لدعوة الله أصيل أصالة الفوارق الكونية في البصر والعمى، والظل والحرور، والظلمات والنور، والحياة والموت، ووراء ذلك كله تقدير الله وحكمته.

ماهية النفس:

إن من أولى أولويات الباحث في النفس البشرية أن يعي هذه النفس كما يصورها خالقها، وإلا فأي نفس تلك التي يعلم بها ويدرسها إن لم يعيها من وجهة نظر خالقها وفاطرها، والتعامل معها كأرض تفلح لتلقي تعاليم الله فيكون أزكى غرس وأطيب محصول، فوز في الدنيا وفي الأخرى جنات علا، والاحاطة بخصائصها مع البعد عن التطرف، فالنفس روح وجسد، فيها من نورانية الروح نفخ سجدت له الملائكة، قال تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)} [ص: 71- 72].

إن النفس وماهيتها في ضوء الفكر الإسلامي تختلف بشكل حاد عن ماهيتها في ضوء الأقوال والآراء التي تمخضت عنها الدراسات الإنسانية، فالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يتجسد فيهما القول الفصل في هذا الموضوع الهام؛ فقد ورد لفظ النفس في القرآن الكريم مئات المرات في ألفاظ متعددة؛ وهي: النفس ونفسك، ونفسه، ونفسها، ونفسي، والنفوس، ونفوسكم، والأنفس، وأنفسكم، وأنفسنا، وأنفسهن، والمتأمل في جميع الآيات القرآنية الحكيمة يجد أنها تخاطب الإنسان وليست جزءًا منه كما اعتقد بعضهم (1).

ويوضح أحمد كرار الشنقيطي في كتابه "ماهية النفس"، أن الإنسان يتركَّب من ثلاثة أشياء: بدن، وروح، ونفس، معتمدًا في دراسته على القرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهَّرة.

والتصوُّر الذي يطرحه هو أن الإنسان عبارة عن بدن بمثابة الآلة، والروح هي التي تُعطي الحياةَ لهذا البدن، ولا يعلم كُنهَها إلا اللهُ، والنفس -وهي الفاعل الرئيسي في الإنسان- هي التي تسوق البدن إلى حيث تريد؛ فأمَّارةٌ ترتع في الشهوات والشبهات، أو مطمئنَّةٌ تسمو بالطاعات والقربات، أو لوَّامةٌ بين هذا وذاك.

التصوُّر والوعي والإدراك لحقيقة وطبيعة النفس البشرية، يُجلِّي لنا عددًا من الجوانب المعرفية والتربوية والدعوية:

١ -يُفسِّر لنا حقيقة النفس البشرية، وأنها مكوَّنة من روحٍ تسمو بالمرء للعلو والارتقاء، ونفسٍ تدنو بالفرد للنزول والانحدار، وبدنٍ يُصارع بين الإرادتين بحسب قوة وضعف البواعث والمثيرات {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9- 10].

٢ -يسمح لنا بفهم حالات القصور، وجوانب النقص التي تعتري المسلم، والتي قد تهبط به لدرَكاتٍ من الظلم أو الفجور أو الانحراف، وأن مردَّها لقوة النفس الأمَّارة بالسوء، مع ما يكتنفها من عواملَ خارجية كالصديق أو البيئة، كما يلهمنا بمعرفة السبب الرئيس للرجوع المفاجئ لعُتاة من المجرمين والمفسدين والملحدين، وهو اتِّقاد الفطرة الإيمانية، واستشعار الطُّمأنينة القلبية.

٣ -يُوضِّح لنا السُّنة الكونية بالتفاوت الإنسانيِّ في العلم والعمل بالفرائض والواجبات الدينية، فضلًا عن الفضائل والمستحبات {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ} [فاطر: 32].

٤ -يُحتِّم علينا استلهام الأنماط الفاعلة، والأساليب المؤثِّرة في كيفية التعامل، وأساليب التفاعل مع جميع الناس، وكافة البشر، على اختلاف أجناسهم وأديانهم، وأحوالهم وأخلاقهم، كما قال موسى عليه السلام: «عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة» (2).

٥ -يُجلِّي لنا جانبًا من حقائق الأسماء الحسنى والصفات العلى للمولى جل وعلا، التي تتناسب مع التعدُّد والتنوُّع الذي ينتاب النفسَ البشرية، كما يستوجب التعبُّد بكل اسم أو صفة بما يتوافق مع الحالة الإنسانية الطارئة، ومن أبرز الأسماء الحسنى في هذا الشأن: (الغفور، الرحيم، التواب، الجبار، الشديد، المنتقم) (3).

خصائص النفس الإنسانية:

النفس مصدر أساسي للسلوك الإنساني، وهي –في ضوء طاقتها– المسئولة عن تحديده، أن السلوك تتحكم فيه الملكات العقلية، التفكير والإدارة والتعلم والانتباه والتذكر والتحليل، وكذا الانفعالات الوجدانية؛ كالإحساس باللذة أو الألم أو الفرح أو الحزن أو الخوف أو الغضب، وما يرغب به أو ينفر منه.

والقرآن الكريم يشير الى أن النفس مستودع الكثير من الدوافع السلوكية والإنسان مسئول عن جميع سلوكاته، قال تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل: 111]، أي بما كسبت من أعمال إذ هي المسئولة، فهي لا غيرها التي تجادل عما عملت، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]، فالنفس تكسب عملها بمحض حريتها واختيارها، وإرادتها، إذ أنها رهينة عملها الذي سيحاسبها به الله عز وجل.

والمتأمل بالآيات القرآنية الكريمة يجد أن النفس الإنسانية قد اتصفت بالخصائص التالية:

الخاصية الأولى: النفس مفطورة على معرفة الله:

وهو ما يسمى بالشعور الديني الفطري في الإنسان، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172- 173].

وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]، وقوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم: 30].

الخاصية الثانية: التقلب والتطرف والخروج عن حد الاعتدال:

لقد أوضح الله تعالى أن الإنسان شديد الانفعال، متطرف العواطف، ما لم يرجع إلى نهج الله سبحانه، لأن الإيمان بالله، والعمل على نهجه، هو السبيل الذي يعيد الإنسان إلى حالة من التوازن، والاعتدال، يصبح سلوكه معها بعيدًا عن التعصب والتطرف.

إن الإنسان بحكم طبيعته البشرية إذا أحب شيئًا، أقبل عليه بكليته، وإذا كره شيئًا، ابتعد عنه بكليته، ولذا يريد الله أن نلزم جانب الاعتدال في حبنا، وفي بغضنا، وفي مأكلنا وفي مشربنا وفي أي عمل نقوم به (4).

قال تعالى: {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]، وأن الانسياق وراء العواطف لا يجدي نفعًا، ولا يحل لنا مشكله حتى ولو قتلنا أنفسنا حنقًا وغيظًا.

قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15]، وكذلك الحال عندما يصيبنا الفرح والسرور فقد يخرج الحال بنا عن حد الاعتدال الى حال الإعجاب بالنفس، والفخار بها والتباهي على الغير، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

وقد طلب الله منا سبحانه وتعالى أن نكظم غيظنا ونسيطر عليه ونتسامح مع من أساء إلينا ونعفو عنه، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].

وقد جعل الله سبحانه وتعالى من الصبر والقدرة على الاحتمال العلاج الواقي لنا في مثل هذه الحالات، قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22].

الخاصية الثالثة: في النفس معرفة الخير والشر:

قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10]، فالإنسان ألهم فطرة معرفة الخير، كما ألهم معرفة الشر، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].

الخاصية الرابعة: النفس شديدة الحرص على الخير وجزوعة من الضر:

فالإنسان يطلب الخير دائمًا، فإن أعطاه الله بطر وتعالى على الآخرين، حتى إذا مسه ضر قليل ضعف وتخاذل، ثم لا يلبث بعد كشف الضر أن يعود إلى استعلائه وغروره، حتى يصل به الحال إلى التوهم في هذه الدنيا، قال تعالى {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].

الخاصية الخامسة: العجلة والتسرع:

إن العجلة والتسرع دون تمحيص للأمور هو طبع متأصل في النفس الإنسانية، قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، إن الإنسان يريد من الله أن يهبه الخير، وبأسرع ما يمكن، ويبدو عليه القلق إزاء أي تأخير في ذلك، قال تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49].

وقال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]، وقال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، وقال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16], وقال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 54]، وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [العنكبوت: 53].

الخاصية السادسة: التردد والضعف:

قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، فالضعف خاصية من خصائص النفس الإنسانية، فالإنسان لا يكاد يستقر على شيء ولا يثبت على قاعدة؛ بل يستجيب للمؤثرات المتعارضة، ويتلون بألوان مختلفة، ويبدو بوجوه متعددة، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12]، وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10].

الخاصية السابعة: التمرد والمكابرة والعناد:

إن الإنسان ليتعامى عن الحق، ويتجاهل الأدلة الدافعة على وجوده تعالى، ومع أن الكافر يصل في قرارة نفسه إلى صدق الحق إلا أنه يأبى أن يتراجع عن عناده وخصومته لهذه الدعوة (5 (.

قال تعالى: {أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)} [سبأ: 34- 35] ، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 77 - 80]، وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206]، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل: 13], وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].

الخاصية الثامنة: الجحود:

قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] ، وقال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، ويقول تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 6 - 8], أي أن الإنسان جحود لنعم الله، فلا يعترف بفضله عليه، ولا يشكره حق شكره، قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9].

 الخاصية التاسعة: شدة الحرص والتكالب على جمع المال:

لقد قرر سبحانه وتعالى حب النفس الإنسانية للمال والحرص على جمعه في قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)} [الفجر: 19، 20]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6- 7].

إن الإنسان لا يدرك كنه حكمته تعالى من بسط الرزق له أو الضيق به عليه، وإنما هو دومًا ملهوف وفي عجلة من أمره؛ ليحصل على أكبر قدر مستطاع منه، قال تعالى : {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الروم: 37]، وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].

الخاصية العاشرة: أحكامها عاطفية تبعًا لانفعالاتها:

فالنفس الإنسانية فيها مجموعة من العواطف تدل عليها النصوص القرآنية؛ فمثلًا عاطفة الإشفاق والألم المعنوي، قال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، وقال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].

عاطفة الحزن: قال تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].

عاطفة الخوف: قال تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه: 67].

عاطفة الحب والميل النفسي، قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23].

الخاصية الحادية عشر: الشهوة والتذوق والاستمتاع:

قال تعالى: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32]، ففي النفس ميل جنسي كما إن فيها إباء وتساميًا، وفيها التذوق والاستمتاع للطعام والشراب والجمال الطبيعي والجمال المعنوي، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31]، وأن (ما تدعون) تشتمل الأخيلة والتصورات والأماني الإنسانية، ومع أن هذين النصين يخصان أهل الجنة إلا إن فيهما إشارة واضحة إلى أن النفس الإنسانية تتذوق وتشتهي وتستمتع، ولو لم تكن كذلك لما استشعرت بنعيمها المنشود في الجنة .

الخاصية الثانية عشر: الخوف والرجاء:

حيث يولد الإنسان وفيه هذان الاستعدادان متحاوران، يخاف الظلمة والوحدة ويخاف السقوط، ويخاف المناظر التي لم يألفها والأشخاص الذين لم يألفهم، وينمو الإنسان وينمو معه هذان الخطان المتقابلان، وتتنوع المخاوف، ويتنوع الرجاء، ولكن هذين الخطين هما في تقابلهما وازدواجهما يحددان له مشاعر الحياة واتجاهاتها.

إن الإسلام في كتابه القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاوم هذه الرغبة الانفعالية، وإنما ينظمها ويقوِّم مسارها ويحدد لها الاتجاه الصحيح في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 100].

الخاصية الثالثة عشره: الشح والبخل:

الشح والبخل من صفات الإنسان التي وردت في القرآن الكريم وهي صفة تقوى وتشتد كلما ضعف إيمان الإنسان بخالقه تعالى، وضعف اعتماده عليه في طلب رزقه، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [الإسراء: 100]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 37].

كيـف نستطيع التعامل مع أنفسنا؟

كي نتمكن من التعامل مع أنفسنا لابد من معرفة طبيعتها، وقد وصف الله سبحانه وتعالى ثلاثة أنواع للنفس الإنسانية.

النوع الأول: النفس الأمارة بالسوء:

كما في قوله تعالى {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، وهي النفس التي تحث وتحض على فعل السـوء، وتزينه في عين صاحبها حتى يظن أن فيه سعادته الحقيقية وما يعلم أن فيه شقاؤه.

العلاقة بين النفس الأمارة بالسـوء والعقــل.

إن النفس الأمارة بالسوء تتأثر بالعقل، والعقل يتأثر بالمدركات الحسيَّة؛ كالنظر والسمع واللمس والشم، وهذه المدركــات تتجمع في العقل وتكوِّن الرغبة التي تصل إلى النفس الأمارة بالســوء، فتبدأ بدفعك للوقوع في المنكرات، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه» (6).

فالقلب لم يقع في المعصية إلا بعد إثارة المقدمات الحسية؛ كالذي يشاهد الأفلام، وتظل تراوده الخواطر والأفكار السيئة حتى بعد أن يلتزم ويبتعد عنها؛ لأنه قد درَّب نفسه على السوء فتولدت منها نفسٌ خبيثة، أما الأشياء التي لم تعاينها حسيًا فلن تُحَدثك نفسك بها؛ كالسرقة مثلًا.

والفرق بين تسويــل النفس ووسوسة الشيطان؛ أن النفس تظل تسول لك نفس جنس المعصية، أما الشيطان فهو لص الإيمان يحاول أن يوقعك في أي معصية أيً كانت حتى يشغلك عن طاعة الله.

النوع الثاني: النفس اللوامة:

وهي التي كلما وقع العبد في محظور لامته عليه حتى يُســارع بالتوبة والاستغفـار، قال تعالى {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، ولا يُقسِم الباري بشيء إلا لعلو قدره ورفيع منزلته عند الله تعالى.

علاقة النفس اللوامة بالعقل:

والعلاقة بينهما أقوى من العلاقة بين العقل والنفس الأمارة بالسـوء، فتأثر العقل بالمدركات الحسية يكون أقل من تأثره في حالة النفس الأمارة بالسوء؛ لأنه إلى جانب المعاصي التي رأتها عيناه وأدركتها بقية حواسه فإنه قد قام ببعض الأعمال الصالحة من تلاوة قرآن واستماع للمواعظ، فصار لدى عقل جانبان؛ جانب يدعوه إلى الخيــر وتقوى الله، وآخر يدعوه إلى الشر بالوقوع في المعصية.

وتظل النفس اللوامة تلومه على أفعاله السيئة؛ فإن استجاب لتأنيب ضميره وأصْلَح من نفسه، كانت نفسه أقرب إلى النفس المطمئنة منها إلى النفس الخبيثة، أما إن تركها لتغرق، عادت النفس من مرحلة النفس اللوامة إلى مرحلة النفس الأمارة بالسوء.

النوع الثالث: النفس المطمئنة، وهي الهدف الأسمى:

قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27- 30].

هي نفسٌ قد لجأت إلى الله تعالى واطمأنت إليه ورضيت عنه، فأثابها الكريـــم سبحانه بأبلغ ثواب وأجزل عطاء بما تُغْبَط عليه في الدنيا والآخرة.

وهذه هي مرحلة الصدق مع النفس (الاطمئنـان)، التي يهفو إليها جميع البشر؛ وليس المسلمون منهم فحسب، ولا ينال النفس المطمئنة إلا المؤمن الموحد، ولا يحصل عليها كــافرٌ أو مجرمٌ بعيد عن الله سبحانه وتعالى؛ لأن دين الإسلام هو الدين الوحيـد الذي يمازج بين متطلبات العقل والروح.

أما البعيدون عن طريق الله سبحانه وتعالى فإنهم يقومون بإلهاء أنفسهم بشتى الطرق؛ حتى لا تصطدم نفسه بعقله الراكد في شهوات الحس ويحدث بينهما صراع.

كيفية الوصول إلى النفس المطمئنة:

إن الإنسان إذا وصل إلى مرحلة النفس المطمئنة لن يكون بمعزلٍ عن الخطايــا؛ لأن كل بني آدم يعتريهم النقص والخطأ، إنما إذا سعيت للتحلي بصفــات أصحاب النفس المطمئنة، ستنــال الاطمئنان النفسي في الدنيـا والراحة الأبدية في الآخـرة (7).

يقول السفاريني: حسن الخلق القيام بحقوق المسلمين، وهي كثيرة منها أن يحب لهم ما يحب لنفسه، وأن يتواضع لهم ولا يفخر عليهم ولا يختال، فإن الله لا يحب كل مختال فخور، ولا يتكبر ولا يعجب فإن ذلك من عظائم الأمور … وأن يوقر الشيخ الكبير, ويرحم الطفل الصغير، ويعرف لكل ذي حق حقه مع طلاقة الوجه وحسن التلقي ودوام البشر ولين الجانب وحسن المصاحبة وسهولة الكلمة، مع إصلاح ذات بين إخوانه وتفقد أقرانه وإخوانه، وأن لا يسمع كلام الناس بعضهم في بعض وأن يبذل معروفه لهم لوجه الله لا لأجل غرض مع ستر عوراتهم وإقالة عثراتهم وإجابة دعواتهم … وأن يحلم عن من جهل عليه ويعفوا عن من ظلم (8).

والنفس تجمع كثيرًا من الصفات والخصائص الإنسانية التي تؤثر بشكل ظاهر في السلوك الإنساني، فالنفس تهوى، ولها شهوات، وتشعر بالمشقات، وتصبر أو تضجر، وتجود وتبخل وتشح، وتفرح أو تحزن، وهي تعمل وتكسب أعمال الخير والشر عن وعي كامل، فهي صاحبة إرادة حرة مسئولة مكلفة لذلك فالجزاء هو ثمرة المسئولية وتوفى كل نفس ما كسبت يوم القيامة، وقد عالج القرآن الكريم بتربيته العظيمة كل خصائص النفس الإنسانية، وكل صفاتها، فهي تربية تهتم باستخدام العقل، وتقوية الجسم، وتزكية النفس، وتطهير القلب في تناسب وتناسق وانسجام بين قوى النفس وعلاقتها بالله سبحانه وتعالى والكون والحياة، وفي ضوء ذلك فإنه من المهم أن نراعي هذه الخصائص في جوانب حياتنا المختلفة، وأن تتعامل البرامج التربوية، والمناهج الدراسية والأنظمة التعليمية مع النفس البشرية في ضوء الخصائص التي بينها القرآن الكريم (9).

***

______________

(1) أصول التربية في ضوء المدارس الفكرية (ص: 40).

(2) أخرجه البخاري (3207).

(3) ماهية النفس، منتديات الألوكة.

(4) من خصائص النفس البشرية في القرآن الكريم (ص: 95).

(5) من خصائص النفس البشرية في القرآن الكريم (ص: 108).

(6) أخرجه البخاري (6243).

(7) فهم طبيعة النفس/ الكلم الطيب.

(8) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب (1/ 370).

(9) طبيعة النفس البشرية في مرحلة التكليف في ضوء القرآن الكريم (ص: 24).