logo

التعبد الالكتروني


بتاريخ : الأربعاء ، 8 رجب ، 1443 الموافق 09 فبراير 2022
بقلم : تيار الاصلاح
التعبد الالكتروني

يؤثر التقدم التكنولوجي بشكل كبير على جوانب كثيرة من حياتنا، وكلما ازداد هذا التقدم كلما أثر في تغيير نمط حياة بعض الأشخاص، ومع الاعتماد المتزايد على الشبكة العنكبوتية (الإنترنت)، أصبح استخدام منصات التواصل الاجتماعي جزءًا أساسيًا للتواصل اليومي واستقبال المعلومات لكثير من الأشخاص في العالم، فهناك من يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي كوسيلة للترفيه وتقضية الوقت، وربما لإضاعة الوقت، وآخرون أدركوا مدى قوة وسائل التواصل الاجتماعي، فاستخدموها بشكلها الفعال.

ومع الجدل المتكرر حول منصات التواصل الاجتماعي هل هي أمر جيد أم سيء، دعونا نتفق على أن لكل شيء مبتكر جانبًا سلبيًا وآخر إيجابي، وهذا يتوقف على كيفية استخدامنا لهذه الأدوات.

ومثلما يوجد نفاق إلكتروني، وإبتزاز إلكتروني، وتسول إلكتروني، هناك أيضًا عبادة إلكترونية، يستخدمها بعض مستخدمي مواقع التواصل الإجتماعي بالعديد من الأساليب المتنوعة، فيتم استخدامها إما على الصعيد الإيجابي، أو الصعيد السلبي.

بداية دعونا نتفق أن إظهار العبد أعماله الصالحة لا يعتبر رياء؛ إذا كان عمله خالصًا لله تعالى دون شيء آخر من تصنع للناس، أو قيام منزلته عندهم حتى يمدحوه، ويعظموه، ويقضوا حوائجه، أو ما شابه، سوى التقرب إلى الله تعالى.

قال ابن قدامة: وشوائب الرياء الخفي كثيرة، لا تنحصر، ومتى أدرك الإنسان من نفسه تفرقة بين أن يُطَّلَع على عبادته، أو لا يطلع، ففيه شعبة من الرياء، ولكن ليس كل شوب محبطًا للأجر، ومفسدًا للعمل، بل فيه تفصيل: فإن قيل: فما ترى أحدًا ينفك عن السرور إذا عُرِفت طاعته، فهل جميع ذلك مذموم؟

فالجواب: أن السرور ينقسم إلى محمود ومذموم، فالمحمود: أن يكون قصده إخفاء الطاعة، والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق، علم أن الله أطلعهم، وأظهر الجميل من أحواله، فيُسَرُّ بحسن صنع الله، ونظره له، ولطفه به، حيث كان يستر الطاعة والمعصية، فأظهر الله عليه الطاعة، وستر عليه المعصية، ولا لطف أعظم من ستر القبيح، وإظهار الجميل، فيكون فرحه بذلك، لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم، أو يستدل بإظهار الله الجميل، وستر القبيح في الدنيا، أنه كذلك يفعل به في الآخرة.

فَأَمَّا إن كان فرحه باطلاع الناس عليه؛ لقيام منزلته عندهم حتى يمدحوه، ويعظموه، ويقضوا حوائجه، فهذا مكروه مذموم، ... فَأَمَّا إذا أعجبه؛ ليعلم الناس فيه الخير، ويكرموه عليه، فهذا رياء (1).

وقد استحب أهل العلم إظهار الأعمال الصالحة؛ للتحريض عليها، وحث الناس على فعلها، والاقتداء بصاحبها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فَعُمِلَ بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجرهم شيء» (2).

الإخفاءُ في العبادات التي لا يلزم إظهارُها، ولم يسنَّ، كما في بعض النسخ، أفضل من الإظهار؛ لخلوه عن احتمال الرياء، ويكون معاملة خاصة بينه وبين مولاه، إلا عند التيقن، فلا يفيد الظن -فضلًا عن الشك- بقصد التعليم لمن لا يعلم، والاقتداءُ يشمل التعليم لمن يعلم، ولكن لا يعمل، فالإظهار حينئذ أفضل؛ لأنه عبادة متعدية، وفيه إيقاظ النائمين، وإرشاد الغافلين، وترغيب في الخير، فلا ينبغي أن يُسَدَّ بابُ إظهار الأعمال، والطباعُ مجبولةٌ على التشبه والاقتداء (3).

جاء في الزواجر: وبما تقرر: عُلِمَ أن في كتم العمل فائدةَ الإخلاص، والنجاةَ من الرياء، وفي إظهاره فائدةَ الاقتداء، وترغيبَ الناس في الخير، ولكن فيه آفة الرياء، وقد أثنى الله على القسمين فقال عز قائلًا: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]، لكنه مدح الإسرار؛ لسلامته من تلك الآفة العظيمة التي قل من يسلم منها، وقد يُمدَح الإظهار فيما يتعذر الإسرار فيه، كالغزو، والحج، والجمعة، والجماعة، فالإظهارُ المبادرةُ إليه، وإظهارُ الرغبة فيه؛ للتحريض، بشرط أن لا يكون فيه شائبة رياء (4).

والحاصل: أنه متى خَلَصَ العملُ من تلك الشوائب، ولم يكن في إظهاره إيذاء لأحد، فإن كان فيه حملٌ للناس على الاقتداء والتأسي به في فعله ذلك الخير، والمبادرة إليه؛ لكونه من العلماء، أو الصلحاء الذين تبادر الكافة إلى الاقتداء بهم؛ فالإظهار أفضل؛ لأنه مقام الأنبياء وَوُرَّاثُهُمْ، ولا يخصون إلا بالأكمل، ولأن نفعه متعد، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من يَعْمَلُ بها إلى يوم القيامة»، وإن اختل شرط من ذلك، فالإسرار أفضل، وعلى هذا التفصيل: يُحْمَلُ إطلاقُ من أطلق أفضلية الإسرار (5).

هذا بالنسبة للظهور الطبيعي الذي لا يتعمد العابد فيه إظهار العمل أو إخفائه، بل يتعبد بصورة طبيعية يتخللها الظهور أحيانًا دون قصد أو رياء.

أما عن خطر الرياء فيقول أبو حامد الغزالي، رحمه الله: اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية، والسُّمعة مشتقة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير؛ إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات، وتطلب بالعبادات.

واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها؛ فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائِي هو العابد والمراءَى هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمراءَى به هو الخصال التي قصدَ المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك.

والمراءَى به كثير وتجمعه خمسة أقسام، وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس؛ وهو: البدن، والزِّيُ والقول، والعمل والأتباع والأشياء الخارجة.

وكذلك أهل الدنيا يراؤون بهذه الأسباب الخمسة، إلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهونُ من الرياء بالطاعات (6).

الرياء ثلاثة أنواع:

الأول الرياء الديني: وهو المعروف في كتب الرقائق، أي أن يرائي المرء الناسَ بعبادته، ولا يفعلها خالصة لوجه الله.. وما أكثر المؤلفات التي سُطرِّت في ذلك!

الثاني: الرياء السياسي: أي نفاق الطبقة المحيطة بمن بيدهم الأمر، فلا يُشيرون بمشورة ولا يُدلون برأي إلا وأعينهم على عين الحاكم، لا على المصلحة العامة.

بل إنهم يزيّنون القبيح ويقبّحون الحسن، ولا يُسمعون الحاكم إلا ما يحب سماعه ولو كان على غير الحقيقة؛ حتى يحافظوا على مكانتهم وامتيازاتهم.. يقول الشيخ الغزالي: كما يَنبت الشرك فى أحضان الوثنية ينبت الرياء فى ظلال الكبر، وحيث يوجد السادة المستكبرون يوجد الأتباع المتملقون والأشياع المراءون.

وجو الحكم المطلق أحفل الأجواء بجماهير العبيد الراضخين للهون عن طواعية أو كراهية، وفى الحرب التى شنها القرآن الكريم على هذه المجتمعات المظلمة ترى الهجوم يتتابع على مبدأ السيادة والتبعية، وعلى ما يلحق هذا الجو إلغاء للعقول والضمائر (7).

وكم عاني التاريخ البشري في كل الأمم من هذا النوع الخطير من الرياء، الذي لا يعود على الأوطان إلا بالتراجع والخسران..!

النوع الثالث: الرياء الاجتماعي: أي أن يمارس الإنسان أمور حياته الاجتماعية وعينه على الناس، لا على مقاييس الجائز والممنوع أو الخير والشر، بل ولا على مصلحته الذاتية.. فما يُرضي الناسَ يفعله، ولو كان غير جائز، أو ولو حمَّله ما لا يطيق! وهذا أمر شائع خاصة في مراسم الزواج؛ من المغالاة في المهور أسوةً بالناس لا غير.. ومن التبذير في نفقات الأعراس والطعام المعَد لها، والأماكن التي تقام فيها.. بل تمتد مظاهر الرياء الاجتماعي لتشمل مراسم الموت والعزاء! فلا بد أن يُنشر نَعْي بالصحف، ويقام سرادق عزاء كبير في قاعات فخمة.. فضلًا عن المغالاة في تجهيز المقابر بما يليق باسم العائلة!

وكم أفسدت هذه المظاهر الجوفاء طمأنينة الأسر والبيوت، وجرَّت عيلهم الخراب، وحمَّلتهم ما لا يطيقون.. حتى نرى الأفراح وقد انقلبت إلى هموم وأحزان.. والمآتم صارت مضاعَفة الأعباء.. ورب الأسرة في حيرة لإرضاء الزوجة التي لا تكف عن النظر إلى من حولها، دون مراعاة للفوارق المالية -التي هي فوارق طبيعية في كل المجتمعات، وليس مطلوبًا أن يكون كل الناس أغنياء-، ودون نظر إلى طاقة الزوج ماليًّا، فيلجأ الرجل- حينئذ- إلى أساليب غير مشروعة لإرضاء نهم الزوجة، وتكون العاقبة غضبَ الله تعالى، والعقوبةَ في الدنيا بالحبس أو الفصل من العمل! ثم نسأل بعد ذلك: لماذا ذهبت السكينة من البيوت؟! ولماذا مُحقت البركة من الأرزاق؟!

وأما علاج الرياء فهو كما سجَّله أبو حامد الغزالي في رسالته لتلميذ طلب نصيتحه، وجعلها بعنوان (أيها الولد): واعلم أن الرياء يتولَّد من تعظيم الخلق؛ وعلاجه أن تراهم مسخَّرين للقدرة، وتحسبهم كالجامدات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة، لتخلص من مراياتهم. ومتي تحسبهم ذوي قدرة وإرادةٍ لن يبعد عنك الرياء، فالدواء أن تجعل نظرك مُعلَّقًا بالله تعالى وحده، وتدرك أن الناس مسخَّرين لقدر الله، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا.. فتجعل أوامر الله ونواهيه نصب عينيك.. وتفعل ما يعود عليك بالنفع، دون أن تتحمل ما لا تطيق.. وتربي نفسك ومَن تعول على القناعة والرضا، وعلى البساطة وعدم التكلف أو التصنع (8).

فإذا انتفى الرياء من القلب وتحقق فيه الإخلاص، فيمكن الاستفادة من هذه الوسائل (وسائل التواصل) في تعبيد الناس، وذلك من خلال تذكير الناس بربهم وبطاعاتهم، وتعليمهم وتشجيعهم لبعضهم البعض على قراءة القرآن والتذكير بالأدعية، وتسهيل وصول المعلومة والحكم الشرعي لهم.

وللاستفادة من هذه المنصات بالشكل الأمثل، وخصوصًا في الجانب المهني، يجب إدراك مزايا تلك المنصات وتجنب سلبياتها، وانتقاء المادة بعناية من المواقع الموثوقة، وعدم نقل أي معلومة دون أن نتأكد منها، واختيار المواد التي تعزز كرامة الأمة، والابتعاد عن الوعظ الأجوف، مع استشعار الأمانة الملقاة على عاتقنا في خدمة الدين، والأجر الذي سنناله من المطبقين لنصائحنا، وابتغاء وجه الله في عملنا، ونتذكر أنّ الشياطين وأعوانهم لا يملون عن نصر الباطل، فلا نملّ نحن عن نصرة الحق.

إننا في العصر الحديث -في ظل الانتشار الالكتروني والثورة المعلوماتية- نعاني من ظاهرة خطيرة ابتلى بها كثير من الناس ألا وهي ظاهرة الرياء التعبدي الالكتروني، هذا المرض  الذي أصبح  يدب بيننا كدبيب النمل ونحن لا نشعر به في غمرة الهوس الالكتروني، فقد  نقلنا حياتنا كلها حتى الأمور الشخصية، والتعبدية  بالصوت والصورة وبالتفاصيل الدقيقة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحنا لا نحمل هم  قبول العمل كحرصنا على إظهاره ونشره بين الناس؛ لنيل (الإعجابات)، والوصول  إلى عدد كبير من المشاركات، متناسيين الهدف الرئيس من نشر الخير وهو نفع الناس ابتغاء مرضات الله غير منتظرين الجزاء والشكر من أحد: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].

بالصوت والصورة ينقل أحدنا قيامه بين ربه، وعمرته وحجه، وإنفاقه وتفاصيل عبادته وكل أعماله...

وهذا قد يخالف الإخلاص أو يقدح فيه؛ لأن المخلص يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، وقد تواترت الأخبار التي تحكي لنا حال سلفنا الصالح وكيف أنهم كانوا حريصين أشد الحرص على إخفاء أعمالهم الصالحة خوفًا على أنفسهم من الرياء، يقول الحسن البصري: إن كان الرجل جمع القرآن وما يشعر به الناس.. وإن كان الرجل قد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس.. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به.. ولقد أدركت أقوامًا ما كانوا على عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا (9).  

وكان علي بن الحسين زين العابدين يحمل الصدقات والطعام ليلًا على ظهره، ويوصل ذلك إلى بيوت الأرامل والفقراء في المدينة، ولا يعلمون من وضعها، وكان لا يستعين بخادم ولا عبد أو غيره.. لئلا يطلع عليه أحد.. وبقي كذلك سنوات طويلة، وما كان الفقراء والأرامل يعلمون كيف جاءهم هذا الطعام.. فلما مات وجدوا على ظهره آثارًا من السواد، فعلموا أن ذلك بسبب ما كان يحمله على ظهره، فما انقطعت صدقة السر في المدينة حتى مات زين العابدين (10).

وصحب رجل محمد بن أسلم فقال: لا زمته أكثر من عشرين سنة لم أره يصلي -حيث أراه- ركعتين من التطوع في مكان يراه الناس إلا يوم الجمعة، وسمعته كذا وكذا مرة يحلف ويقول: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت خوفًا من الرياء (11).

ويقول أيوب السخيتاني لأبي مسعود الجريري: إني أخاف ألا تكون الشهرة قد أبقت لي عند الله حسنة، إني لأمر بالمجلس فأسلم عليهم وما أرى أن فيهم أحدًا يعرفني، فيردون علي السلام بقوة، ويسألونني مسألة كأن كلهم قد عرفني، فأي خيرٍ مع هذا (12)، إلى غير ذلك من الأخبار التي تؤكد على حرص سلفنا الصالح على إخفاء عملهم وخوفهم من الرياء.

قد يقول قائل: أنا متأكد من نفسي وإخلاصي ولا أخشى على نفسي من الرياء، فنقول له: إن من شاهد في إخلاصه الإخلاص، فإن إخلاصه يحتاج إلى إخلاص .

إن حياتنا وطاعتنا -إلا ما رحم ربي- بدلًا من أن تكون تجارة مع الخالق أصبحت تجارة مع الخلق طلبًا للشهرة والظهور ومدح الناس، وهذا الأمر يتطلب منا  تعديل مسار، تعديل مسار لحياتنا كلها؛ لتكون كما أرد الله منا لا كما نريد نحن، كما يتطلب منا أن نقف على خطر هذا المرض العضال وغيره من أمراض النفس البشرية، ونسارع في علاجها، وذلك عن طريق الالتجاء إلى الله وجعل حياتنا كلها له سبحانه والتحقق بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، بشروطها وضوابطها ومتطلباتها، يقول ابن القيم: فلا يكون العبد متحققًا بـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلا بأصلين: أحدهما متابعة الرسول والثاني: الإخلاص للمعبود.

ثم يبين أهل إياك نعبد بقوله: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة، وهم أهل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقيقة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهرًا وباطنًا لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاء ولا شكورًا، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، ولا هربًا من ذمهم، بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضرًا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا،... وكذلك أعمالهم كلها وعبادتهم موافقة لأمر الله، ولما يحبه ويرضاه، وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عامل سواه (13).

من يرغب بحماية قلبه فلينتبه فورًا، فالله وحده صاحب الفضل الأول والأخير في نجاته من الوقوع بالخطايا، وليذكّر نفسه بالآية الكريمة: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ} [النحل: 53]، وليسجد شكرًا بخضوع وخشوع للخالق عز وجل الوهاب الستار، وليدعُ للمخطئين بالتوبة وليذكر نفسه بمن يفضلونه بالتدين، وكما يسعى ليكون أفضل بالدنيا، فليهتم بزيادة نصيبه دينيًا، وليصُن قلبه ويتبرأ من حوله وقوته، ويتأدب مع الله فسبحانه وحده العاطي، ولا يقع في فخ قارون الذي سمح للعُجْب بافتراسه، وقال قولته الآثمة: إنما أوتيته على علم عندي.

ومن أمراض القلوب التي زادتها وسائل التواصل بضراوة مرض حب الظهور والإفراط بالوجود عليها مرة بالكلمة والصورة، وأحيانًا بالبث المباشر؛ وما يتبع ذلك من الحديث عن النفس وعن التفاصيل الشخصية واستباحتها للآخرين، والتورط فيما يقلل من شأن صاحبها من أقوال وأفعال للفوز بأكبر كم من الإعجاب والمتابعة، ولا يدرك أنه يشتري بنشر خصوصياته ثمنًا قليلًا من إعجاب ظاهري، وكثيرًا ما يخفي السخرية ويجعله مادة للنميمة وللقيل والقال.

يقضي الكثيرون -من الجنسين- أوقاتًا طويلة على وسائل التواصل، وفي ذلك خطر كثرة المخالطة والتعارف المرفوض بين الجنسين، وفتح الباب لأخطر أمراض القلوب؛ وهو الاستسلام للشهوات وتبريرها وزرع الشعور بالحرمان داخل العقول والقلوب؛ فيصعب على البعض حماية النفس من الوقوع بالخطأ، ونجد -من الجنسين- من يخدع نفسه بالقول: أستطيع التحكم بنفسي ولن أقع بالفتن أو التجاوز بالتعامل مع الجنس الآخر، ويتمادى فيوهم نفسه بأنه إذا وقع بالفتن فسيسارع بالخروج منها وهو أقوى، وهذا من خدع إبليس اللعين، فلا أحد يقول: سأهمل بالوقاية من الأمراض الجسدية ولن أمرض، أو سألقي نفسي بمكان موبوء وإذا مرضت سأتعالج وستكون صحتي أقوى، وأمراض القلوب أخطر لأنها -والعياذ بالله- تحرمنا من رضا الله وتسرق منا الفوز بالدارين، فلن يهنأ من يلقي بنفسه بها بالسلام والفلاح بالدنيا، وسيضع عذابه بالآخرة بيديه.

من الغفلة والنفاق كثرة كتابة المنشورات الدينية التي تدعو الناس للفضائل وتناسي أن صاحبها لا يفعلها، ويتقبل مديح الناس له وكأنه يداوم عليها، ويتمادى بظلم نفسه؛ فيتوقف عن مراقبة نفسه ليزيد من حسناته وليقلل من ذنوبه بمثابرة ويقظة ويمنع سيطرة الدنيا عليه، ولا يجعل نصب عينيه الفوز بإعجاب المتابعين له على حساب التفريط بدينه.

وكلنا نعرف البعض ممن تغيرت حياتهم للأسوأ بعد انهماكهم بإرضاء متابعيهم، ونوصي بترتيب أولوياتنا وملء قلوبنا بنور السعي لإرضاء الله عز وجل وحده، ونثق أن ما يخالف ذلك هو إلقاء بقلوبنا في التهلكة، فالخالق سبحانه وتعالى يطّلع على قلوبنا دومًا.

ونحذر من نشر تفاصيل العبادات وأعمال الخير على وسائل التواصل، فذلك يدخل بشبهة الرياء، ولا مجال للحديث أن ذلك سيشجع الغير على ذلك، فمن يريد التشجيع لا يحتاج لذكر ما يفعله شخصيًا، ويكفي تذكير الآخرين بفضل وأهمية هذه العبادات.

ولمنع القسوة وكل أمراض القلوب؛ فلنحدد أوقاتًا قليلة لوسائل التواصل ونمنع تأثيرها السلبي على العبادات ومتابعة خططنا لتحسين جوانب حياتنا، والسعي لتحويلها لواقع بعد الاستعانة بالله سبحانه، وطرد التكاسل والتنبه لأفعالنا وأقوالنا، فإذا اكتشفنا أننا أصبحنا نقبل ونفعل بما كنا نرفضه دينيًا فنسارع بالتوقف عنه ولا نبرره.

وسائل التواصل سلاح ذو حدين، وستكون لنا إن أخضعناها لتعاليم الدين وواظبنا على مراقبة قلوبنا وتطهيرها أولًا بأول، وستكون علينا إن خضعنا لها وسمحنا لها بإصابة قلوبنا بالأمراض، فلنستعن بالله دومًا ونحرص على اختيار النجاة والتمتع بمكاسب القلب السليم بالدارين، فوحده صاحب القلب السليم الذي يهنأ بالسلام وبالسكينة وبالرضا وبالنجاح والفلاح بالدنيا، ويهنأ برضا الله وبالجنة بالآخرة (14).

-----------

(1) مختصر منهاج القاصدين (ص: 220).

(2) أخرجه مسلم (1017).

(3) بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية (3 / 110).

(4) الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/ 118).

(5) إظهار الأعمال الصالحة/ طريق الإسلام.

(6) إحياء علوم الدين (5/ 383).

(7) الإسلام والاستبداد السياسي (ص: 38).

(8) الرياء ليس في العبادة وحدها/ إسلام أون لاين.

(9) الزهد، لابن المبارك (1/ 45).

(10) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (3/ 135- 136).

(11) سير أعلام النبلاء، للذهبي (12/ 200).

(12) التواضع والخمول، لابن أبي الدنيا (ص: 80).

(13) مدارج السالكين (1/ 83).

(14) وسائل التواصل الاجتماعي وأمراض القلوب.. خطوات واقعية للنجاة/ المجتمع.