فن التهرب من المسؤولية
ذو الهمة العالية يخوض معركة الحياة بعزم وإيمان؛ فلا ينتحل الأعذار للتخلص من الواجب، ولا يختلق الأسباب للتنصل من المسئولية؛ بل لقد روض نفسه على تحمل المسئوليات، والنهوض بالواجبات، من غير ما تردد أو إحجام؛ ذلك أن المسئولية في الإسلام عامة، تشمل كل فرد من المسلمين؛ فهم جميعًا داخلون في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «كُلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته»؛ فالمسئولية مشتركة، كل امرئ بحسبه، هذا بعلمه وكلامه، وهذا بوعظه وإرشاده، وهذا بقُوَّته وماله، وهذا بجاهه وتوجيهه إلى السبيل النافع، وهكذا.
فاستشعار المسئولية مما يبعث الهمة، ويقود إلى التنافس في الخير، وبه تستجلب الخيرات، وتنال الهداية والبركات، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)} [النساء: 66- 68].
عن ابن عمر قال: قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن بن عوف: هل لك أن نحرسهم الليلة من السرق؟ فبات يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبي، فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاء، فعاد إلى أمه، فقال لها ذلك، ثم عاد إلى مكانه، فلما كان عن آخر الليل سمع بكاء، فقال: ويحك؟ إني أراك أم سوء، مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة، قالت: يا عبد الله؛ أني أربعته عن الفطام فيأبى علي، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم، قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، قال لها: ويحك لا تعجليه، فصلى الفجر وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء، فلما سلم، قال: يا بؤسًا لعمر كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر مناديًا فنادى: أن لا تعجلوا وليدًا لكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام (1).
وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عمر يصوم الدهر، وكان زمان الرمادة إذا أمسى أتي بخبز قد ثرد في الزيت، إلى أن نحروا يومًا من الأيام جزورًا فأطعمها الناس، وغرفوا له طيبها فأتى به فإذا قدر من سنام ومن كبد، فقال: أنى هذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، من الجزور التي نحرنا اليوم، قال: بخ بخ، بئس الوالي أنا إن أكلت أطيبها وأطعمت الناس كراديسها، ارفع هذه الجفنة، هات لنا غير هذا الطعام، فأتى بخبز وزيت، فجعل يكسر بيده ويثرد ذلك الخبز، ثم قال: ويحك يا يرفأ، ارفع هذه الجفنة حتى تأتي بها أهل بيت بثمغ، فإني لم أتهم منذ ثلاثة أيام واحسبهم مقفرين فضعها بين أيديهم (2).
لم يبحث لنفسه عن مخرج أو مبرر ليفضل نفسه على الرعية؛ بل على العكس يتحمل مسئولية كل شيء حتى خطأ القوم في تعاملاتهم وتحايلهم للوصول للعطاء -لأن عمر لا يفرض إلا للفطيم- فهل تنصل من المسئولية؟ رغم أنه لم يأمر بذلك، أم أنه تحمل تبعات الأمر ونتائجه؟
غالبًا ما يجد الانسان في المجتمع المتخلف، تبريرًا يتيح له التهرّب من مسؤولياته، وهذا التبرير أو مجموعة التبريرات، تتمثل بمنظومة من القيم المتخلفة، يحتمي بها الفرد، حتى لا يتصدى لمسؤولياته في البناء والتطوير الذاتي والجمعي في وقت واحد، فهذا الإنسان غالبًا ما يكون مستعدًّا لبيئة التخلف ومستأنسًا بها، وربما يتطيّر من قيم التقدم وكل ما يمت لها بصلة، والسبب واضح تمامًا، أنه غير مستعد لبذل أي مجهود كي يتصدى لمسؤولياته؛ لأنها تتطلب نوعًا من الالتزام والجهد والجدية على الصعيدين الفكري والعملي.
لكن الإنسان في المجتمع المتخلف يفتقر للإرادة، ولا يجد نفسه في العمل والانتاج والتطور، بل على العكس يجد نفسه في الخمول والكسل والتشتت في مساحة الفراغ الواسعة التي يتسكع فيها، إنه الضياع بعينه.
والأسباب التي تكمن وراء هذا السلوك الذرائعي، هو منظومة التربية التي يعيشها المجتمعي المتأخر، فالطفل يفتح عينه وحواسه على محيط عائلي هو نفسه متأخر، ومتمسك بقيم بالية، لهذا تُبنى شخصية الطفل بزرع قيم التخلف في نفسه، ونموها معه، وعندما يعي الأشياء ويكبر، سوف يجد نفسه مكبلًا بمنظومة من القيم والتقاليد والعادات، التي تحد من قدراته وتطلعاته، وتمنعه من الارتقاء إلى مصاف الوعي الجاد واكتشاف الجديد دائمًا، والاستعداد للتغيير والتجديد الدائم، كما هو الحال في المجتمعات المتطورة.
وعندما ينتقل الطفل إلى محيط أوسع من العائلة، أي إلى المحيط المدرسي، سوف يعايش منظومة قيم التخلف نفسها، فالأطفال الذين يتواجد معهم يحملون نفس ما يجمله الطفل من قيم متراجعة، وكذلك بالنسبة للكادر التدريسي، كونهم نتاج المجتمع نفسه، فيبدأ الطفل رحلة جديدة مع القيم والعادات المتخلفة، فتنمو معه حالة التهرّب من المسؤولية، وضعف الارادة والخمول والعجز، الأمر الذي يشل من قدراته ويحد من خياله وطموحاته، ليكتفي بما هو عليه من اوضاع مزرية، ينقلها معه إلى العائلة وإلى أقرانه.
فيصبح الشعب كله متهرّبًا من المسؤولية التي تقع على عاتقه، لذا نجد الجميع (3).
الأحداث والأزمات التي تمر على الأمة من خير أو شر لا بد أن تحمل في طياتها فوائد ودروس وعبر؛ ليعيد الإنسان حساباته ويراجع المسار الذي يسير عليه، فإن كان ثمة خطأ أو زلة تاب واستغفر وأقلع مع اعتراف وتحمل مسؤولية ذلك، ومن ثم يسلك جادة الصواب أياً كان موقعه، وليس هذا عيبًا بذاته، وإنما العيب كل العيب التمادي فيه، وإقناع النفس، والآخرين بصوابه وسلامته، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون» (4).
صور وأشكال التهرب من المسؤولية:
وللتهرب من المسؤولية والتملص منها صورًا وأشكالًا، ولدهاء محترفيها وذكائهم استطاعوا أن يتفننوا في ذلك، وأن يخففوا تبعاتها على أنفسهم، وأن يجعلوا آخرين شركاء لهم في ذلك.
والله سبحانه ذكر صورًا لذلك، وذلك يوم القيامة عندما ينكشف المخبوء، ويعظم الهول والكرب، حينها لا يستطيع المرء تحمل جريرة عمله فضلًا عن أعمال غيره، قال الله جل جلاله: {وَبَرَزُواْ للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)} [إبراهيم: 21- 22].
وقال عز من قال: {أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ (12)} .... إلى قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 10- 16].
والتاريخ مليء بالصور من هذا القبيل، فالأحداث والأزمات السابقة شاهدة على ذلك، حين بدايتها كان هناك سراب من الأمل والخير، وجوانب مشرقة، وسلبيات وأضرار تلك الأحداث والأزمات لم تبرز بعد، فكان البعض يفتخر بها، ولا يريد أن تنسب لغيره لكن سرعان ما تملص منها، وسحب بساطه منها، وانزوى جانبًا ليتوارى من القوم لعظم الكرب.
أما زمننا هذا ففيه من العجب العجاب، تملص وانسحاب مما جنته الأيادي على مستوى المجتمع بدءًا من رب الأسرة، فما كان من خير فلا يريد أن ينسب لغيره، وما كان سوى ذلك فاللوم على الغير من مدرسة، وحي ومجتمع.
يرمي الأنَام بدائه ويَزِنُّهمْ بَهَناتِه ويَصُدُّ أو يتسلَّلُ
مع أن كل فرد من المجتمع يتحمل عبء المسؤولية، كل بحسبه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر: «كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته: الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته» (5).
ويعد فهم الأسباب المؤدية لهذه الظاهرة من أهم الركائز للتعامل مع الأشخاص الذين يعانون منها، حيث تفيد مواجهة الشخص بالأسباب الحقيقية التي دفعته إلى إلقاء اللوم على الآخرين في مساعدته على إدراك حقيقة تصرفاته الخاطئة ووجوب التوقف عن الهروب من المسؤولية وعدم إيذاء الآخرين بكلامه وتصرفاته.
إلا أن التخلي عن المسؤولية أحيانًا يكون حالة صحية متى ما كان للمسؤولية حظ من حظوظ النفس ووجد من يسد الحاجة ويقوم بالمهمة، فقد رفض كثير من أهل العلم القضاء خوفًا من تبعاته وإشفاقًا من أمانته وتجنبًا للوقوف بين يدي الله تعالى للسؤال عنه ولكن بعد علمهم أن هنالك من يكفيهم من المسلمين هذا الواجب فلو تعين لما صح أن يهرب المسلم منه أو يتخلى عنه.
ومثل هذا هربهم من الفتيا، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه (6).
ولكن كل هذا إذا لم تتعين المسؤولية عليهم فإن السائل في زمانهم كان يجد من يجيبه.
بعض مظاهر التخلي عن المسؤولية:
1- المشردون والمتشردون، إن كثيرًا من بلاد المسلمين تعاني مشكلة المتشردين، وهذه الظاهرة تتفاقم يومًا بعد يوم، بل صارت أمرًا ملحوظًا يلحظه المار على الطرقات، ولم تستطع دور الرعاية أن تحتوي هذه المشكلة وآثارها.
إن وراء كل مشرد كما يؤكد الباحثون الاجتماعيون قصةً غالبًا ما يكون بطلَها أب مستهتر أو أم عاجزة أو غير مسؤولة، وصدق شوقي رحمه الله:
ليس اليتيم من انتهى أبواه مِنْ هم الحياة وخلَّفاه ذليلًا
إن اليتيمَ هو الذي تلقى له أُمًّا تخلت أو أبًا مشغولًا
2- اختلاط الأعمال بين النساء والرجال، في كثير من مجتمعات المسلمين تجد المرأة تخرج باكرة لتعمل وتكدح، وتشارك الرجل في ميدان عمله، فمن لتربية الأبناء؟ ومن للقيام على سكينة البيت وطمأنينته؟ ومن يراقب سلوك الأولاد؟ الرجل خرج لعمله وكذا المرأة خرجت للعمل، فمن يقوم بعمل المرأة وأعبائها؟ إنه التخلي عن المسؤولية، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].
3- التردي الأكاديمي، كثير من كبار السن خاصة ممن نال حظًا من التعليم ينقمون على جيل اليوم ضحالة المعرفة وقلة التجربة وعدم الكفاءة، وهذا التردي أمر ملاحظ، فإنك تجد المتخرج من الجامعة اليوم بمستوى طالب الثانوي قديمًا، لقد تخلى بعض المعلمين عن مسؤولياتهم وكثير من الطلاب كذلك.
4- ارتفاع نسبة الطلاق، وهذا من مظاهر التقصير في تحمل المسؤولية، إن قيام وتأسيس أسرة يحتاج إلى قدر كبير من المسؤولية، ولما كانت هذه المسؤولية لا يتمتع بها كثير من شبابنا المقبلين على الزواج كانت نسبة الطلاق بين المتزوجين حديثًا مرتفعة؛ لأن الشاب لم يعود نفسه تحمل ما يجب عليه من أعباء، والتفكير الجاد في تخطي العقبات والصبر على المتاعب والمشاق، فعمد إلى رفع الحمل عن كاهله معلنا عجزه واستسلامه.
5- العزوف عن الزواج، فكثير من شبابنا لا ينقصه شيء مما يجب لتكوين أسرة، ولا يحول بينه وبين الزواج إلا أنه لا يريد لنفسه أن يلتزم بمسؤوليات ولا أن يقوم بأعمال تكلفه بعض الالتزامات، فكثرت العنوسة وتعاظمت مشاكلها.
6- المخدرات: وهي من أبرز مظاهر التخلي عن المسؤولية، فكثيرون هم الذين يعتقدون أن أنجع وسيلة لحل المشاكل هي الهرب منها إلى عالم المجهول، لقد تفاقمت مشكلة المخدرات وكثر مدمنيها حتى بين المتزوجين، والسبب هو التخلي عن المسؤولية والهرب منها.
7- الزواج (الزنا) العرفي، هذا النوع من الزواج الذي لا يقره شرع ولا يرضاه عرف هو عين التهرب من المسؤولية، فبدلًا من أن يأتي أحدهم الأمرَ من بابه يذهب لهذه المداخل غير المأمونة هربًا من تبعات الزواج ومسؤولياته.
8- عقوق الوالدين والانشغال عنهما بالزوجة والأولاد، فهل يرضى أولئك الذين تخلوا عن والديهم أن يتخلى عنهم أبناؤهم ويتركوا واجبهم تجاههم منشغلين بزوجاتهم؟بل بعضهم قد تخلى عن والديه لدور المسنين والعجزة، فهل يا ترى يوجد في تلك الدور من يقوم بالمسؤولية ويعطف على الوالدين ويسعى في حاجاتهم أكثر من أولادهم؟ بالطبع لا، ومتى وجدت هذه الدور علم أن من أسباب وجودها تخلي بعض أفراد المجتمع عن المسؤولية.
9- الانتكاسة، تجد الشاب وقد علته أنوار الهداية، فحافظ على الصلاة وطلب العلا وأدى الشعائر وتمسك بالسنة، ثم لا تلبث أن تسمع عن تخليه عن الالتزام أو تراه يتراجع عما كان عليه من الخير والصلاح، والسبب هو الهرب من المسؤولية الشرعية.
فهذه بعض مظاهر التخلي عن المسؤولية لا كلها وهي للأسف كثيرة وتزداد يوما بعد يوم والله المستعان.
ومن أسباب التهرب من المسؤولية:
1- ضعف الوازع الديني: فمن عمر الإيمان قلبه، وتمكنت مراقبة الله من نفسه، علم أنه غدا موقوف أمام الله تعالى وسيسأله عما كلفه من تكاليف، ولا نجاة له إلا بالقيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه، وأداء الأمانات المؤتمن عليها، والوفاء بما يجب عليه من الواجبات، فيكون المعين الأول له خوفه من الله تعالى وسعيه في مرضاته.
2- ضعف الهمة: إن مسؤوليات يسيرة يعجز عنها كثير من الغلاظ الشداد، وما ذلك إلا لأن الهمم قد ماتت والعزائم قد خارت، فتجد الصغار وقد اجتازوا العقبات وحققوا النجاحات وتحملوا المسؤوليات، وغيرهم ممن أوتي أكثر مما أوتوا يقوى على أكثر مما تحملوا وقد خذله الكسل الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.
3- التربية غير الرشيدة: فتعليم الطفل منذ صغره تحمل ما يستطيع من المهام، والقيام بما يجب عليه من واجبات مدرسية أمر له بالغ الأثر في شخصيته، ومن الأخطاء الشائعة قيام بعض أولياء الأمور بحل الواجبات الدراسية لأبنائهم، مما يدفعهم للتسيب ويبعدهم عن الاستعداد لتحمل المسؤوليات في كبرهم.
4- الاتكالية: فكل واحد منا مسؤول مسؤولية مباشرة عن كثير مما وقعت فيه الأمة في الحاضر من تخلف مادي وفكري، ولكنا نتكل على بعضنا في تغيير هذا الواقع، فالعامة يلقون بالمسؤولية على النخبة والعلماء، والعلماء يلقون باللائمة على الحكام، والحقيقة أن الكل له مسؤوليته التي يلزمه القيام بها.
5- الإحباط: الإحباط من أبرز أسباب القعود عن العمل وترك المهام والتقصير في المسؤوليات، وما جنى محبط غير الخسران والإخفاق، والتفاؤل هو روح الإنجاز، فالمسؤوليات لا يقوى عليها المحبطون لأن نظراتهم المتشائمة تمثل حجابا يمنعهم من الإقدام ويحجبهم عن التقدم وإنجاز ما هو من واجباتهم.
6- عدم وضوح الرؤية، فكثير من الناس لا يعرف المسؤوليات الموكلة له أصلًا حتى يقوم بها، فمن الآباء من يظن أن مسؤوليته تجاه أولاده تنتهي بتوفير المأكل والمشرب والمسكن، وأن التوجيه والإرشاد ليس من مهمته ولا مسؤوليته، وكثير من المسلمين لا يعرف أن عليه مسؤولية تجاه أمته ودينه.
7- تعاظم المسؤوليات، نعم لقد صار الجميع يصارع في كل الأصعدة، وقديمًا قيل: إذا عظم المطلوب قل المساعد، لقد كان الناس في السابق لا يعانون كثيرا مما يعانيه أهل زماننا؛ فمثلًا مسؤولية تربية الأبناء ومتابعتهم كانت في السابق أسهل بكثير منها في هذا الزمان الذي كثرت فيه وسائل الإفساد، ولكن هذا ليس مسوغًا لعدم القيام بما يجب القيام به من المسؤوليات، وعلى المرء أن يبذل وسعه، وأن يؤدي ما يستطيع، وإذا أديت ما عليك فلا عليك، وبقدر البذل تحصل النتائج، وبقدر الاستعداد يكون الإمداد.
8- الغزو الفكري، الذي صور لكثير من شرائح المجتمع أن خروج المرأة ضرورة لا بد منها، وأنها لن تحصل على حقوقها وهي قابعة في بيتها، فتخلت بعض نساء المسلمين من أجل هذه الدعوى عن مسؤولياتها في البيت وخرجت لتتسلم مسؤولية غيرها. كما زين هذا الغزو المسموم لكثير من النساء التخلي عن المسؤوليات الشرعية كالحجاب وغيره، واصفًا هذه التكاليف الشرعية بالتخلف والرجعية، وبالقدر نفسه حبب إلى الرجال والنساء على حد سواء الخلاعة والمجون، وهذا الغزو قامت عليه كثير من وسائل الإعلام ودعمته.
9- عدم وجود المحاسبة الجادة في كثير من المرافق والمؤسسات، فمن الناس من لا رقيب عليه من داخله ولا ضمير يؤنبه إذا تخلى عن مسؤولياته الموكلة له، فلا بد من وجود المحاسبة الخارجية من رؤسائه ومديريه، ومتى وجدت هذه المحاسبة اضطر المتسكع للقيام بمسؤولياته الوظيفية على أتم وجه وأكمله.
10- عدم تقدير من يقوم بمسؤولياته: إن المساواة بين الذين يعملون والذين لا يعملون ميزان مختل، قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وهو من عوامل التقصير في أداء المهمة والقيام بالمسؤولية، فمثلًا المعلم الذي لا يتوفر له من الكسب المادي ما يتناسب مع أمانته ومسؤوليته يشعره ذلك بالدونية ويصرفه عن تحمل المسؤولية.
سبل علاج التهرب من تحمل المسؤولية:
1- التبصير بالمسؤوليات والتعريف بالتكاليف: إن المرحلة الأولى من مراحل تحمل المسؤولية أن يعرف المرء ما يجب عليه؛ لأنه لا يمكنه القيام بما يجب عليه إذا جهله، وحتى التكاليف الشرعية لا بد من معرفتها ووضوحها ليسهل بعد ذلك على المكلف تطبيقها، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «كف عليك هذا» وأخذذ بلسان نفسه، قال: فقلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناسَ في النارر على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم» (7).
فمعاذ بن جبل رضي الله عنه مع أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، إلا أنه احتاج لبيان أن الكلمة مسؤولية.
2- التحريض على تحمل المسؤوليات، فإن التحريض يؤدي إلى علو الهمة ويرفع الإحباط ولذا فهو نهج تربوي قويم في تحمل المسؤوليات، وقد استخدمه أبو سفيان يوم أحد ليرفع من همة جنوده، وإن كان قد استعمله في باطل إلا أنه يبقى وسيلة نافعة، قال ابن إسحاق: وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار: قد وليتم لواءناا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه، فهموا به وتواعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا، ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع؟ وذلك الذي أراد أبو سفيان (8).
وقد استبسل حملة اللواء وكانت لكلمات أبي سفيان دورها في تحملهم ما أوكل إليهم.
3- مواجهة الغزو الفكري وبيان تفوق الإسلام الحضاري، وملاءمة تعاليمه السمحة لفطرة الإنسان، وفضح الواقع المرير الذي يعيشه غير المسلمين من انحلال وتفكك، وهو ما يحاولون جهدهم جر المسلمين إلى مستنقعه.
4- العناية ببرامج التزكية التي تدفع إلى تحمل التكاليف الشرعية بانشراح صدر وقبول ورغبة وبيان الثواب الجزيل الذي ينتظر الملتزم القائم بمسؤولياته الشرعية في الدنيا والآخرة.
5- المحاسبة والرقابة لمن يتخلى عن مسؤولياته ويقصر فيما يجب عليه تجاه المجتمع والضرب على أيدي العابثين بالوظائف العامة.
6- تقدير من يقومون بالمهام والمسؤوليات والتنويه بدورهم وتقديم الجزاء الأوفى لهم الذي يستحقونه.
7- تعويد الأطفال منذ الصغر تحمل المسؤولية والقيام بمهامهم الصغيرة التي تتناسب مع أعمارهم، وتبغيض الاتكالية إليهم فإنها داء خطير.
8- بث روح التفاؤل وإشاعة الأمل بانقضاء زمن الضعف الذي يعيشه المسلمون، وبزوغ فجر الإسلام من جديد، وأن المستقبل لهذا الدين، وما علينا إلا أن نسعى لخير أمتنا بالقيام بمهامنا فيتحقق لنا النصر المنشود.
9- إبراز النماذج المعاصرة التي تخطت العقبات، وقامت برغم العوائق بالمسؤوليات، فسعدت ونجحت وصارت مثلًا يحتذى وقدوة تؤتسى، فإن للأمثلة العملية تأثيرًا كبيرًا على النفوس.
10- ترسيخ مفهوم السعادة في القيام بالمهام والنهوض بالمسؤوليات؛ ليقدم المقدم على المسؤولية إقدام المتشوق الذي يطلب فيها السعادة والراحة (9).
نماذج مشرقة:
لم ينضب معين الأمة ولم تزل أرحام نسائها تخرج الأفذاذ رجال ونساء من الذين يعرفون للمسؤولية قدرها ويؤدونها على أحسن وجه وأتمه، ومن أولئك من حكى عنها أنس رضي الله عنه فقال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم، فقالت لأهلها لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، قال: فجاء فقربت إليه عشاء فأكل وشرب، فقال: ثم تصنعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب، وقال: تركتني حتى تلطخت ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بارك الله لكما في غابر ليلتكما»، قال: فحملت.
قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وهي معه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طروقًا، فدنوا من المدينة فضربها المخاض، فاحتبس عليها أبو طلحة، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب إنه ليعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج وأدخل معه إذا دخل، وقد احتبست بما ترى.
قال: تقول: أم سليم يا أبا طلحة، ما أجد الذي كنت أجد انطلق فانطلقنا، قال: وضربها المخاض حين قدما فولدت غلامًا، فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فصادفته ومعه ميسم، فلما رآني قال: لعل أم سليم ولدت؟ قلت: نعم، فوضع الميسم، قال: وجئت به فوضعته في حجره، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعجوة من عجوة المدينة فلاكها في فيه حتى ذابت، ثم قذفها في في الصبي، فجعل الصبي يتلمظها، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انظروا إلى حب الأنصار للتمر»، قال: فمسح وجهه وسماه عبد الله (10).
فانظر إلى حرصها على القيام بمسؤوليتها في إسعاد زوجها وتخفيف أحزانه في أحلك الأزمات وأشد الابتلاءات.
ومن النماذج الحية لتحمل المسؤولية؛ تحمل خديجة رضي الله عنها لواجباتها وقيامها بمسؤولياتها خير قيام؛ من نصرة زوجها صلى الله عليه وسلم وتثبيته، وقد كانت كلماتها الخالدة لزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عائد من غار حراء يرتجف فؤاده كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق (11).
خير معين له في ذلك الموقف الحرج، ولم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يذكر لها قيامها بحقه فعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغرت يومًا، فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق قد أبدلك الله عز وجل بها خيرًا منها، قال: «ما أبدلني الله عز وجل خيرًا منها، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء» (12).
________________
(1) صفة الصفوة (1/ 106).
(2) المصدر نفسه.
(3) قيم التخلف: التهرّب من المسؤولية/ وكالة العمل للأنباء.
(4) أخرجه الترمذي (2499).
(5) أخرجه البخاري (893).
(6) إعلام الموقعين عن رب العالمين (4/ 168).
(7) أخرجه الترمذي (2616).
(8) البداية والنهاية (4/ 15).
(9) كلمات في مفهوم المسؤولية/ طريق الإسلام.
(10) أخرجه مسلم (2144).
(11) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160).
(12) أخرجه أحمد (24908).