ضوابط العمل الدعوي
لقد بليت الأمة الإسلامية بألوان وألوان من التفرق والاختلاف، وأصابها ما أصابها من الانحراف والبعد عن دين الله تعالى، ولم يسلم من ذلك بعض الدعاة والمصلحين؛ حيث راح بعضهم يُشرّق ويغرّب، ويتقلب في متاهات علمية وعملية، بلا ضابط علمي أو منهجي، وأصبحت الأوليات الدعوية تُحدَّد في كثير من الأحيان بناءً على الاجتهادات والأهواء الشخصية، أو بناءً على تجارب ورؤى قاصرة ضيقة الأفق، فرأينا من يقدم ما حقه التأخير، ويؤخر ما حقه التقديم، وانعكس ذلك على كثير من الأنشطة والبرامج.
لذا أصبح من الضروري إعادة النظر في العمل الدعوي، وتحديد ضوابط العمل؛ ليتقدم العمل، ويرقى إداريًا ومهنيًا وميدانيًا.
وتتنوع الضوابط الدعوية التي يجب أن نأخذ بها ونراعيها ونحن نمارس الدعوة بمختلف ميادينها ومجالاتها مع المجتمع، ضوابط في كيف نعلن عن برامجنا وأنشطتنا، ونُسَوِّق لمشاريعنا وفعالياتنا الدعوية؟ وكيف نظهرها للناس؟ وكلها ضوابط تتعلق بدوافع هذه الأعمال، ومقاصد الإعلان للناس عنها، وعلاقة أنشطتنا بأعمال غيرنا ممن يعملون في الساحة بالعمل العام.
ومن أهم هذه الضوابط:
1- ضرورة استحضار النية وإخلاصها لله تبارك وتعالى، وحسن القصد في الأعمال، بأن نتوجه بها إلى الله وحده، قاصدين وجهه سبحانه، راغبين في عفوه ورضاه، ولا نبغي من وراءها إلا طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل.
2- أن من يتصدر العمل العام لا بد أن يكون ممن يتمتعون بالسمعة الطيبة وحسن السيرة والمسيرة، ممن يتميزون بتقواهم، ويتحلون بحسن أخلاقهم، ويؤثرون في المجتمع العام ولا يتأثرون بأمراضه وسلوكياته، وممن يحسنون تمثيل دعوتهم أمام الناس.
3- ألَّا تؤدي هذه الأعمال الدعوية والاجتماعية والدعاية لها إلى خصومة حادة أو صداقة ضارة، فينتج عن كليهما تعويق السير، أو تعطيل وتأخير الوصول للغاية.
4- التجرد التام في أعمالنا الدعوية، فلا تكون برامجنا ودعايتنا ردًا على دعاية اتجاه آخر، أو فيها تقليل من شأن غيرنا، هيئات أو أشخاص، أو تظهر فيها رغبتنا فقط في البروز بأننا الأحسن والأقوى والأفضل وغيرنا غير ذلك، ولكن يكون هدفنا منها دائمًا نشر الدعوة، وإشاعة الخير في الأمة، والخدمة والإصلاح، وبعد هذا كله نقصد من وراءها تحقيق العبودية الحقة لله تبارك وتعالى.
5- أن نحسن عرض دعوتنا على الناس، وأن نتقن فنون التواصل بهم، ومن الحكمة أن نكون قدوة فيما ندعو الناس إليه، فلا ندعوهم لشيء حسن ولا يرونه فينا واقعًا حيًا، ومن الحكمة أن نتقدم الناس فيما ندعوهم إليه، إذا كنت إمامي فكن أمامي، ومن الحسنى أن نشعر أننا حملة خير ورسل هداية لأمتنا وللناس أجمعين، فلا تعالي ولا غلظة، ولا شعور بالفوقية، مع الحرص على الناس: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، والرفق بهم واللين وسعة الصدر معهم، ورحم الله من قال: «من آثر الصدر فلا بد أن يكون واسع الصدر»؛ أي: من قبل أن يتصدر دعوة الناس والعمل العام بالمجتمع فلا بد من أن يكون أوسعهم صدرًا، وأكثرهم تحملًا.
6- أن نقف مع أنفسنا دائمًا لنحاسبها؛ ما العائد على دعوتنا من هذا العمل؟ وما الذي عاد علينا نحن كأفراد من هذا العمل؟ هل اقتربنا من ربنا بعد هذا العمل؟ هل قدمنا شيئًا مفيدًا لمجتمعنا وأمتنا؟ ما أثر هذه الأعمال في تكويننا وتربيتنا؟ هل أضافت لنا شيئًا من مهارة أو خبرة نستفيدها في أعمالنا القادمة؟ وغيرها كثير من الأسئلة التي تبرز أهمية البحث عن المردود الدعوي والتربوي لأعمالنا العامة(1).
7- على الداعية أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وهذه يفتقدها بعض الدعاة، تجد عنده من الغيرة والحماس والاندفاع شيئًا كثيرًا، لا يستطيع معه أن يمنع نفسه مما يريد أن ينفذه، فيدعو إلى الله بغير حكمة، فتجد هذا الداعية الطيب، الذي ملأ الله قلبه غيرة على دينه، لا يملك نفسه؛ يجد المنكر فيهجم عليه هجوم الأسد على الفريسة، ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك، لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق؛ لأننا نعلم أن للحق أعداءً؛ لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج، ويقيس الأمور، فقد يكون في تلك الساعة ما يطفئ لهيب غيرته فيما صنع، لكن بالتأني والحكمة سيخمد هذا الفعل نار غيرته وغيرة غيره في المستقبل، وقد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لذا أحث إخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني.
8- تأكيد منهج سلف هذه الأمة، المتمثل في منهج أهل السنة والجماعة، وتعميقه، والمعروف بوسطيته وشموليته واعتداله، وبعده عن الإفراط والتفريط.
والانطلاق من منطلق العلم الشرعي، الملتزم بالكتاب والسنة الصحيحة، هو الحافظ بفضل الله من السقوط، والنور لمن عزم على المسير في طريق الأنبياء.
9- الحرص على إيجاد جماعة المسلمين ووحدة كلمتهم على الحق؛ أخذًا بالمنهج القائل: «كلمة التوحيد أساس توحيد الكلمة»، مع الابتعاد عما يمزق الجماعات الإسلامية اليوم من التحزب المذموم الذي فرق المسلمين، وباعد بين قلوبهم، والفهم الصحيح لكل تجمُّع في الدعوة إلى الله: جماعة من المسلمين لا جماعة المسلمين.
10- يجب أن يكون الولاء للدين لا للأشخاص؛ فالحق باق والأشخاص زائلون، واعرف الحق تعرف أهله.
11- الدعوة إلى التعاون وإلى كل ما يوصل إليه، والبعد عن مواطن الخلاف وكل ما يؤدي إليه، وأن يعين بعضنا بعضًا، وينصح بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه، مما يسع فيه الخلاف، مع عدم التباغض.
فالأصل بين الجماعات الإسلامية المعتدلة التعامل والوحدة، فإن تعذر ذلك فالتعاون، فإن تعذر ذلك فالتعايش، وإلا فالرابعة الهلاك.
12- البعد عن التعميم في الحكم، والحذر من آفاته، والعدل في الحكم على الأشخاص، ومن الإنصاف الحكم على المعاني دون المباني.
13- التمييز بين الغاية والوسيلة؛ مثلًا: الدعوة هدف، لكن الحركة والجماعة والمركز وغيرها هي من الوسائل.
14- الثبات في الأهداف، والمرونة في الوسائل؛ بحسب ما يسمح به الشرع.
15- مراعاة قضية الأولويات، وترتيب الأمور حسب أهميتها، وإذا كان لا بدَّ من قضية فرعية أو جزئية فينبغي أن تأتي في مكانها، وزمانها، وظرفها المناسب.
16- تبادل الخبرات بين الدعاة أمر مهم، والبناء على تجارب من سبق، والداعية لا يبدأ من فراغ، وليس هو أول من تصدى لخدمة هذا الدين ولا يكون آخر المتصدِّين، ولأنه لم يوجد ولن يوجد من هو فوق النصح والإرشاد، أو من يحتكر الصواب كله وبالعكس.
17- احترام علماء الأمة المعروفين بتمسكهم بالسنَّة وحسن المعتقد، وأخذ العلم عنهم، وتوقيرهم وعدم التطاول عليهم، والكف عن أعراضهم، وإثارة التشكيك في نياتهم، وإلصاق التهم بهم، دون التعصب لهم أيضًا؛ إذ كل عالم يخطئ ويصيب، والخطأ مردود على صاحبه مع بقاء فضله وقدره ما دام مجتهدًا.
18- إحسان الظن بالمسلمين، وحمل كلامهم على أحسن محامله، وستر عيوبهم، مع عدم الغفلة عن بيانها لصاحبها، إذا غلبت محاسن الرجل لم تذكر مساوئه إلا لمصلحة، وإذا غلبت مساوئ الرجل لم تذكر محاسنه خشية أن يلتبس الأمر على العوام.
19- استعمال الألفاظ الشرعية لدقتها وانضباطها، وتجنب الألفاظ الدخيلة والملتوية، مثلًا: الشورى لا الديمقراطية.
20- تحديد الموقف الصحيح من الغرب وحضارته؛ بحيث نستفيد من علومهم التجريبية بضوابط ديننا العظيم وقواعده.
21- المنهج الأفضل في الدعوة هو تقديم حقائق الإسلام ومناهجه ابتداءً، وليس إيراد الشبهات والرد عليها، وإعطاء الناس ميزان الحق، ودعوتهم إلى أصول الدين، ومخاطبتهم على قدر عقولهم، والتعرف على مداخل نفوسهم وسيلة لهدايتهم.
22- تمسك الدعاة والحركات الإسلامية بدوام الاعتصام بالله تعالى، وتقديم الجهد البشري وطلب العون من الله تعالى، واليقين بأن الله هو الذي يقود، ويوجه مسيرة الدعوة، ويسدد الدعاة، وأن الدين والأمر كله لله سبحانه وتعالى(2).
23- التيسير والتدرج في الدعوة، وتلك وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لرسوليه إلى اليمن، معاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، إذ قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا»(3)؛ لذلك يجب التخفيف على المدعو، وعدم الإثقال عليه والتنفير، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
24– عدم التأثر بضعف استجابة الناس، فعلى الداعية أن يدعو بما يناسب من وسائل، ثم يتوكل على الله تعالى، ولا يهمه عدم التجاوب معه، قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} [آل عمران:20]، والنتيجة على الله تعالى.
25– التفاؤل مهما اشتدت الأزمات، وعدم اليأس مهما كانت النتائج؛ لأن التفاؤل يبعث على الهمة والنشاط، واليأس يؤدي إلى التكاسل وعدم العمل.
ضوابط الوسائل الدعوية:
كثير من الخلاف الحاصل في استخدام الوسائل الدعوية سببها عدم معرفة ضوابطها، فينتج من ذلك بعض الأخطاء التي يقابل البعض الآخر هذه الوسيلة بالرفض عمومًا، وقد يرفض الوسائل الدعوية كلها بسبب أخطاء في استخدام بعض الوسائل.
ومع أن الأصل في الوسائل الدعوية الإباحة؛ لكن ينبغي أن تكون ضمن ضوابط وإلا خرجت عن مقاصدها، وقد يقع الداعية في بعض المحاذير الشرعية؛ لذا ينبغي التعرف على هذه الضوابط الخاصة بالوسائل الدعوية، وهي:
1- أن تكون الوسيلة مباحة في نفسها.
2- ألا يرى الداعية أن العبادة في الوسائل ذاتها أو وقتها أو مكانها أو مقدارها.
3- أن تكون معقولة المعنى (معروفة الحكمة من عملها)، فمن خصائص العبادة المحضة ألا يزيد فيها ولا ينقص، فُهِم معناها أم لم يفهم، وذلك في صفتها أو مكانها أو الزمان أو المقدار، وليس ذلك في الوسائل الدعوية.
4- عدم التكرار والمداومة عليها في أوضاع معينة، حتى لا تتحول إلى بدعة.
5- ألا تعود الوسيلة على مقصدها بالإبطال.
6- المتابعة والإخلاص فيها وفي مقصدها.
7- ألا يكون في الوسيلة تشبه باليهود والنصارى، ويقصد بالتشبه الأمور التي اختصوا بها.
8- ألا تكون الوسيلة ذريعة إلى محرم، كما قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].
9- أن يراعى النظر في المصالح والمفاسد، فلا تفوت مصلحة أكبر منها.
10- لزوم الأفضلية في الوسيلة.
وقد ذُكِر عن ابن تيمية أن من منهج الصحابة ترك بعض المستحبات حتى لا يعتقد أنها واجبة.
ضوابط عمل المرأة الدعوي:
الدعوة الموجهة إلى المرأة ينبغي ألَّا تخرجها عن فطرتها وأنوثتها؛ وهناك ضوابط مهمة في هذا الباب يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الأصل قرار المرأة في البيت، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، وقال: «المرأة عورة، فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان حتى ترجع»(4).
2- للمرأة أحكام خاصة، لا بد من مراعاتها في أي نشاط دعوي يوجه إليها، أو تقوم به، ومن ذلك:
أ- التزام الحجاب الشرعي بشروطه، مع تغطية الوجه والكفين، فالوجه موضع الزينة، ومكان المعرفة، والأدلة على وجوب ستره كثيرة.
ب- تحريم سفرها دون محرم، قال: «لا تسافر المرأة إلا مع ذي رحم محرم»(5).
ج- تحريم خلوتها بالأجانب، لقوله: «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا ومعها ذي محرم»(6)، وفي رواية: «إلا كان الشيطان ثالثهما»(7).
د- تحريم اختلاطها بالرجال الأجانب، فقد قال للنساء: «استأخرن؛ فإنه ليس لَكُنّ أن تَحْقُقْن الطريق، عليكن بحافات الطريق»(8)، فكانت المرأة تلتصق بالجدار، حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به(9).
هـ- تحريم خروجها من بيتها إلا بإذن وليها.
3- يضرب أعداء الإسلام على هذا الوتر الحسّاس، ويجعلون مثل هذه الأحكام مدخلًا لوصفهم الإسلام بإهانته المرأة، فتأثر بذلك بعض دعاة الإسلام، فحصل لديهم تفلّت في هذا الباب، فيتأكد في حق دعاة أهل السنة ضرورة الانضباط في ذلك، وعدم التأثر والانصياع لشهوات المجتمع ورغباته.
4- الأصل في الدعوة والتصدر للميادين العامة أنها للرجال، كما كان الحال عليه في عصر الرسول والقرون المفضلة، وما رواه التاريخ من النماذج النسائية الفذة لا يقارن أبدًا بما روي عن الرجال؛ وذلك مصداق قول النبي: «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»(10)، فطلبُ مساواة المرأة بالرجل في أمور الدعوة ينافي روح الدعوة أصلًا.
5- ولا يعني هذا الكلام إلغاء دور المرأة وتهميشه وإهماله؛ بل دورها لا ينكر، وشأنها له أهميته، لكن مع التزام ما سبق من ضوابط(11).
***
____________
(1) ضوابط تربوية في أعمال الدعوة العامة، موقع: المختار الإسلامي.
(2) ضوابط في الدعوة إلى الله تعالى، مجلة البيان، العدد:161.
(3) أخرجه البخاري (3038).
(4) رواه أبو داود (5272).
(5) رواه البخاري (3411).
(6) أخرجه مسلم (1341).
(7) أخرجه الترمذي (1171).
(8) أخرجه أبو داود (5272).
(9) مقابلة مع الأستاذة خولة درويش، مجلة البيان، العدد:40.
(10) رواه البخاري (101).
(11) صفة الصفوة (4/ 30).