logo

فن إعداد الخطبة


بتاريخ : الاثنين ، 10 ذو القعدة ، 1439 الموافق 23 يوليو 2018
بقلم : تيار الاصلاح
فن إعداد الخطبة

خطبة الجمعة لها مكانة عظيمة في الإسلام، كشف عنها أمر الله عز وجل لعباده المؤمنين بالسعي إليها، وترك أمور الدنيا لأجلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة:9]، كما سميت سورة من سور القرآن باسمها، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبكير بالذهاب إليها وبين فضل ذلك، حتى إنه يُندَب أن يذهب الناس إلى المسجد قبل موعد النداء لها بوقت كبير، ولأهمية الخطبة يجب الارتقاء بها، واستثمارها الاستثمار الأمثل في بناء الوعي وتعليم الناس.

والخطبة توقيع عن الله، والخطيب متحدث باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك يؤكد أهمية الخطبة، ويعاظم من مسئولية الخطيب.

وتستقي خطبة الجمعة أهميتها من الجمعة ذاتها، التي دعا الله تعالى المؤمنين إليها، وسمى سورة في القرآن باسمها.

خطبة الجمعة درس أسبوعي يزيد في الإيمان، ويهذب الأخلاق، ويهدي لأحسن الآداب، ويحذر من منكرات الأخلاق والأعمال، إنها حلقة من حلقات وعي الأمة؛ بل هي أحد المؤشرات لوعيها.

وإذا كانت هذه أهميتها فإن الواجب على الخطيب أن يخطب خطبة مؤثرة نافعة؛ تعالج ما كان الناس عليه، وذلك يختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فليراع الخطيب ما تقتضيه المصلحة فيما يلقيه من الخطب التي يعالج بها ما كان الناس عليه.

والخطيب ليس مجرد موظف؛ بل صاحب رسالة عظيمة، والخطبة ليست سدًا للفراغ، ولا حديثًا يلقى كيفما اتفق؛ بل هي أمانة ومسئولية ينبغي أن يتصدر لها أولو العزم من الرجال، وأن يصبروا ويصابروا على لأوائها، ويتحملوا مسئوليتها.

الخطبة وعاء نظيف لحمل هموم الأمة، ولطرح قضاياها؛ بل وللتبصير بالمخارج من أزماتها.

الخطيب مؤتمن على التبصير والتفاعل والمساهمة الفعالة في رسم الداء وتشخيص العلاج.

إن خطبة الجمعة رسالة تستحق العناية والاهتمام، هي تقوى بقوة الخطيب، ويضعفها ضعفه أو قلة اهتمامه.

كيف يعد الخطيب الخطبة:

إعداد الخطيب أو المتكلم لما يريد أن يتكلم به أمر معهود، حتى عند بلغاء الصحابة وأقحاحهم؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه البليغ المفوَّه يقول، في قصة البيعة في سقيفة بني ساعدة: «وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر رضي الله عنه»(1)، وفي رواية عائشة: قال عمر: «والله، ما أردتُ لذلك إلا أني قد هيأت كلامًا قد أعجبني خشيت ألا يبلغه أبو بكر»(2)؛ فهذا دليل على أهمية الإعداد والتهيؤ للخطيب.

وللأسف أن الملاحظ على كَمٍّ غير قليل من الخطباء أنهم لا يقيمون للخطبة وزنًا، ولا يُعِدُّون لها إعدادًا كافيًا؛ بعضهم لا يعد للخطبة إلا صبح الجمعة أو قبل دخوله بسويعات، فتأتي الخطبة مهترئة منقوصة غير مؤثرة، وهذا القدر غير الكافي في الإعداد إن كان قليلًا وعلى سبيل الندرة، وبسبب ظرف أو ضرورة فلا لوم على الخطيب فيه؛ لأنه قد لا يسلم من ذلك أحد.

أما إن كان ذلك على سبيل الديمومة، وديدن الخطيب فيها عدم الاكتراث بالإعداد، وعادته اقتلاع إحدى الخطب من بعض الدواوين أو مواقع الإنترنت، دون النظر في ماهية الخطبة، ومدى مناسبتها لوقتها ولجمهوره، فيلقيها من على المنبر من باب الأداء الوظيفي فحسب، من غير مراعاة لأحوال الناس ومتطلبات الزمن؛ فهذا في الحقيقة لم يؤد رسالة المنبر على وجهها الذي ينبغي، وإنما اتخذ المنبر عادة أو تكسُّبًا.

وعلى الخطيب أن يحترم عقول الناس، ويقدم لهم الجديد والبديع الهادف، وهذا، بلا شك، لا يتم إلا بالتهيؤ والاستعداد، واستشعار أن من بين السامعين طبقة ناقدة تتسقط هفواته، وتتتبع سقطاته، وتحصيها عليه إحصاءً.

من المعين للخطيب في إعداد الخطبة ألا يغيب عن ذهنه أنه حين يعتلي المنبر كالخائض غمار معركة؛ عليه أن يتدرع بدروعها، ويتترس بتروسها، ويلبس لأَمَتها، ويستعد لمواقفها.

إن أول ما ينتظم في سلك الإعداد للخطبة ابتكار الموضوع، وحسن اختياره، ولعل هذا من أشق ما يواجه الخطيب، كما يصرح به فحول الخطباء؛ حيث إن بواعث الاختيار متعددة، والظروف متبانية ومختلفة، وحاجات الجمهور كثيرة ومتعددة، ولكن كلما كان الخطيب صادقًا في قصده، جادًا في طرحه، عارفًا بظرف زمانه، مهتمًا بجمهوره، فسيحسن الاختيار، وسيقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار.

كما أن حصافة الخطيب وألمعيته ستدله على تقديم ما يستحق التقديم، وتأخير ما حقه التأخير؛ وذلك بالنظر إلى الظروف والمناسبات، والزمان، والجمهور.

ثم بعدما يزمع الخطيب على الموضوع، وينتقيه انتقاءً جيدًا مناسبًا لزمانه وظروفه ولجمهوره؛ فلا بد أن يبنيه على أمور ثلاثة:

الأول: المقدمة التي يستهلها الخطيب بعبارات يشد فيها الانتباه، ويهيئ فيها النفوس لأهمية الموضوع.

وللمقدمة أهمية بالغة إذا أحسن فيها الخطيب الدخول إلى قلوب السامعين، وأجاد في طريقة جذبهم واستمالة قلوبهم.

وللخطيب أسوة في افتتاحيات بعض سور القرآن التي تثير في النفس الشوق والرغبة في المتابعة، والتلهف لما سيذكر بعدها.

قال أبو هلال العسكري رحمه الله: «إذا كان الابتداء حسنًا بديعًا ومليحًا ورشيقًا كان داعية للاستماع لما يجيء بعده من الكلام؛ ولهذا المعنى يقول الله عز وجل: (الم)، و(حم) و(طس)، و(طسم)، و(كهيعص)، فيقرع أسماعهم بشيء بديع، ليس لهم بمثله عهد؛ ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده»(3).

ثانيًا: الموضوع، وهو مقصود الخطبة الأعظم، والأجمل للخطيب أن يدخل إليه دخولًا متدرجًا، بحيث يتناوله تناولًا غير مباشر؛ ليأخذ السامعين بتسلسل منطقي، ويصل إلى مبتغاه بعد ذلك بعرض شامل واف، فيعطي الموضوع حقه، ويستوفي أجزاءه.

واستيفاء الموضوع واكتمال عناصره من مهمات الخطيب التي قد يشرد الذهن عنها حين الإعداد للخطبة، وقد امتدح حسان رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الصفة حين قال:

إذا قــــــــال لـــــــــــم يتــــــرك مقـــــــــالًا لقائل       بملتقـــــــــطات لا تـــــرى بينها فضــــــــلًا

كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع       لذي إربة في القول جدًّا ولا هزلًا(4)

ثم إن من الأسس الهامة لعرض الموضوع، والتي لا بد من العناية بها عند الإعداد، تدعيمه بالأدلة، والحجج والبراهين، والشواهد، وهي عادة ما تكون من الكتاب والسنة، ومن أقوال السلف، وأيضًا إيراد بعض الوقائع والأحداث التي يستلهم منها الدروس والعبر، ولا بأس من الاستفادة في هذا المضمار ممن ألَّف في الخطب، والاستفادة أيضًا من الصحف، ومن المجلات، والشبكات العنكبوتية، ونحو ذلك مما يمكن أن يستفيد منه.

وبخصوص الموضوعات الاجتماعية لا بد للخطيب فيها من معرفة واقع الناس، والقرب منهم، ومعرفة أحوالهم عن كثب؛ كي يتحدث الخطيب عن هذه الجوانب ببصيرة ودراية واطلاع.

وينبغي أن يراعي ما يلي:

أ- ترتيب الأفكار وتسلسلها: بحيث لا ينتهي من فكرة إلا وقد أعطاها حقها من الاستدلال والإقناع، سواء كان الاستدلال لها بالنقل أم بالعقل، ولا يقفز إلى فكرة أخرى، ثم يعود إلى الأولى مرة أخرى؛ فإن ذلك يُربك السامع ويشوش عليه، ولا يتأتى ذلك للخطيب إلا إذا جمع مادة الخطبة من نصوص واستدلالات ونقولات وأفكار، ثم سلسلها ورتبها قبل أن يبدأ بصياغتها.

ب- التوازن بين الأفكار: فلا يُشبِع فكرة ويطيل فيها على حساب الأخريات، ومما يلاحظ عند كثير من الخطباء عدم التوازن في ذلك؛ فتراه في أول الخطبة يُشبِع كل فكرة ويطيل فيها، ويحشد النصوص لها، ثم لما يحسّ بأنه تعب وأتعب السامعين وأطال عليهم سرد الأفكار الباقية سردًا بلا استشهاد ولا إقناع، رغم أهميتها، وربما تكون أهم مما طرحه في الأول، وسبب ذلك أن الخطيب ليس عنده تصور كامل لخطبته وما فيها من مادة، وكم تستغرق من وقت؟

ثالثًا: في خاتمة المطاف بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه، وسَوْق أدلته، وضرب أمثلته يحسن أن ينهي خطبته بخاتمة مناسبة؛ تجمع شتات أفكاره، وتلخص موضوعه بعبارات قوية موجزة، وبطريقة مختصرة مؤثرة مقنعة؛ لأنها آخر ما يطرق سمع السامع، وكأنه يُشعر جمهوره في هذه الخاتمة بأنه انتهى إلى رأي لا يقبل الجدل ولا يحتمل النظر.

ما ينبغي أن تتضمنه خطبة الجمعة:

مضمون الخطبة هو الجانب الأهم فيها، هو الذي عليه مدار إصلاح القلوب، والأعمال، والأخلاق، والسلوك؛ تثبيتًا للصواب وتكثيرًا له، وتحذيرًا من الخطأ وتقليلًا له، وفي هذه القضية عدة معالم وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها، وهي ست قضايا أو معالم:

القضية الأولى: تقرير الأصول: فلا بد أن يكون عامة مضمون الخطبة تقرير الأصول والأركان؛ حيث يكون للخطيب عناية خاصة بمسائل الإيمان والعقيدة، ولا يأنف من ذكرها والتأكيد عليها بين الفينة والأخرى، ولا يستبد به الولع بالمستجدات أيًا كانت، فيستغرق فيها كثيرًا ويهمل تلك الجوانب العظيمة.

ولربما تركها أو تساهل فيها بعض الخطباء اعتمادًا على سبق معرفة المستمعين لها أو دراستهم إياها، وهذا على فرض ثبوته فإن لغة الخطيب، وقدسية المكان، وعبودية الاستماع تختلف عن لغة التعليم والدراسة فهمًا وتأثرًا وتطبيقًا، إضافة إلى أن في المستمعين ربما من لم يتعلم في التعليم النظامي، أو تعلم ولكن هذه القضايا ليست من ضمن فقرات ومفردات المنهج، ولهذا كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على هذه القضايا الأساسية، كما حكى ذلك ابن القيم رحمه الله بقوله: «كانت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان: من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبه إيمانًا وتوحيدًا، ومعرفة بالله وأيامه»(5).

ويؤكد ابن القيم في خطبته صلى الله عليه وسلم وخطبة الصحابة على دور هذا المضمون في تقريب السامعين إلى الله وتحبيبهم إليه، يقول: «ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب أصحابه وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون [أي: الخطباء] من عظمة الله وصفاته ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون بطاعته وذكره وشكره وما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم»(6).

القضية الثانية: التنويع في مضمون الخطبة: الخطبة النافعة الناجحة هي التي ينوع الخطيب في موضوعاتها، كل خطبة بما يناسب مقامها وظروفها الزمانية والمكانية؛ بحيث لا يكرر ولا يعيد؛ بل يرسم لنفسه خطًا بيانيًا علميًا يحاول أن يأتي عليه جميعًا في فترة معينة يحددها؛ بحيث إن المستمع الذي لا يكاد يفارق هذا الخطيب وهذا الجامع يطمئن إلى أنه استوعب واستمع إلى جميع ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه وأخراه، ولم يفته شيء من ذلك، وقد يعيد بعض الموضوعات التي تتأكد الحاجة إليها، ولكن بأسلوب مغاير وعرض مختلف.

وتهيئة الخطيب نفسه على تنويع الموضوعات، حسب ما تقتضيه المناسبات أو الظروف والأزمات، يقضي على الرتابة عنده والتكرار الذي ربما لا يحس به، كمن يأسره مثلًا موضوع معين أو أكثر، أو تخصص معين، فتجده أبدًا لا ينفك عن طرحه في خطبه إلا قليلًا، وكان سيد الخطباء صلى الله عليه وسلم يراعي مقتضى الحال في خطبه، ولهذا يذكر عنه ابن القيم رحمه الله، كما في الزاد، يقول: «وكان صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطَبين ومصلحتهم».

ومن هنا فإن على الخطيب أن يتناول في خطبه القضايا الإيمانية والعبادية والمعاملات والأخلاق وما يتعلق بالأحداث أو المناسبات.

القضية الثالثة: العلمية: فالخطبة الناجحة المؤثرة هي التي يعتمد الخطيب في موضوعها على التأصيل العلمي؛ لأنه يتحدث من منبر شرعي يحضره الناس لتلقي الطرح الشرعي المؤصل، وليس المنبر موقعًا خاصًا أو ديوانية أو وسيلة إعلامية تنسب للشخص ذاته.

على الخطيب أن يتقي الله فيما يطرح، ولا يخوض في القضايا بغير تأصيل وعلم وسبق تحرٍّ وبحث، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنيًا على وجهة نظر شخصية عارية عن التنقيح أو التحقيق، ومهما بلغ الخطيب فصاحة وبلاغة وثقافة فلا يغنيه ذلك عن التأصيل العلمي، والرجوع إلى المحكمات دون المشتبهات، وإلى اليقينيات دون الظنيات، وإلى ما تثبَّت منه دون ما ظنه واشتبه عليه.

يقول أحد السلف: «من أُعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل».

وأعجبني بهذه المناسبة كلام للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، وهو يتحدث عن عيوب الخطبة في زمانه، حيث يقول: «ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو أو خطرات ذهنه...»، إلى أن يقول: «ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسلَّمة عند أهل العلم، يفتي بها على المنبر ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافيات لمجالس العلماء لكان أحسن».

القضية الرابعة: تتعلق بمضمون الخطبة الاستدلالية؛ فالخطبة المؤثرة هي التي يزينها الخطيب بكثرة الأدلة، من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ ليربط السامعين بمصادر التلقي الشرعية أولًا، وليثبت القضية المطروحة ثانيًا.

ويحسن أن يكون الاستدلال بعد عرض المسألة وطرحها؛ لتتهيأ النفوس لسماع ما يثبت ذلك من آية أو حديث؛ فإذا سمعته بعد ذلك وعته وعقلته، وأحسنت ربط القضية بدليلها كما فعل الخطيب.

والدليل القرآني هو وشاح الخطبة وحِلْية الموعظة، ومهما كانت بلاغة الخطيب إذا عريت خطبته عن كثرة الاستدلال ضعفت ووهنت.

يقول عمران بن حطان: «خطبت عند زياد خطبة عصماء، ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لقائل أن يقول علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخًا يقول: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن»(7).

وفي قضية الاستدلال يجب على الخطيب أن يتحرى الأحاديث التي يلقيها في خطبه، فيتقي الله أن يأتي بأحاديث موضوعة أو منكرة أو ضعيفة، أو يتبع فيها غيره ممن يتساهل من مؤلفي دواوين الخطب القديمة أو الحديثة.

ووسائل التخريج وتمييز الصحيح من غيره أصبحت متيسرة جدًا، بحمد الله، بأكثر من طريقه وأسلوب.

لا بد من اشتمال الخطبة الناجحة على عنصر الوعظ كما كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الوعظ قسيمًا للعلم، أو مقابلًا له، كما قد يتصور الكثيرون ممن يقصرون معنى الوعظ على الجانب التخويفي أو الترغيبي فقط، وهذا فهم قاصر؛ إذ الوعظ في اصطلاح القرآن أعم من مجرد الترغيب والترهيب، ولهذا جاء وصف القرآن كله بأنه موعظة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [يونس:57]، وفي الأحكام قال تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ} [البقرة:232].

من هنا يتضح أن الموعظة وعاء ومركب وقالب لجميع الموضوعات الإيمانية أو العبادية أو الأخلاقية أو الاجتماعية؛ فلا تكون الخطبة مجرد عرض بارد أو تقرير هادئ أو أخبار مسرودة، وإنما لا بد أن تساق بسياق وعظي، من ندب للفعل إن كان الموضوع علميًا، والتحذير منه إن كان يتعلق بمحرم ومعصية، والتحفيز على ما وراء الخبر إن كان الموضوع خبرًا وقصصًا قرآنيًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرَّ وجهه، وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: «صبَّحكم ومسَّاكم»(8)، وهكذا مفهوم اللغة الوعظية في الخطبة لا يُتصور أن ينفصل عنها أي مضمون.

القضية الأخيرة وهي السادسة: الاستباقية:

لا بد لكي تكون الخطبة ناجحة ومؤثرة أيضًا أن تناقش، إضافة إلى القضايا الحاضرة الراهنة وما يحتاجه المسلمون في كافة أمورهم ومسائلهم، أن تناقش أيضًا القضايا التي يتوقع وقوعها وحدوثها، أو الأحداث والفتن التي يُخشى وقوعها؛ وذلك توضيحًا لأحكامها إن كانت مناسبات ومواسم، أو تحذيرًا من أسبابها إن كانت مصائب وفتنًا ومنكرات.

وهنا قاعدة شرعية تقول: (الدفع أوْلى من الرفع)؛ لأن مدافعة الشيء قبل وقوعه تكون من حيث السهولة وقلة المئونة وضآلة المفسدة ما لا تكون بعد وقوع الشيء ورجحان مفسدته، وإذا تأملنا بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم وجدناها على هذا النسق في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب من شر قد اقترب»(9)، هذا بيان استباقي قبل أن يقع، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»(10)، وقوله: «والله، ما الفقر أخشى عليكم»(11)، إلى آخر هذا النوع من حديثه صلى الله عليه وسلم الذي يبين فيه شيئًا مما سيكون، فيأخذ المسلمون أُهبتهم لذلك.

والأسلوب الخطابي المؤثر هو ما اجتمع فيه ثلاث خلال:

الأولى: الوضوح وعدم الغموض، بألفاظ منتقاة في غير إغراب، وببيان سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا يجفو عنه الأكفاء.

الكلمات في الأسلوب الخطابي ينبغي ألا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها، فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد، وأما السجع فلا يحمل منه إلا ما لم يكن متكلَّفًا، وكان قصير الفقرات، خفيفًا على السمع، يحرك المشاعر بحسن جرسه، والألفاظ فيه تابعة للمعنى، وليس المعنى تابعًا للألفاظ؛ ذلك أن السجع حلية، والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم تكن قليلة غير متكلفة، حسنة التوزيع، تبرز المحاسن ولا تغطيها، وتظهر المعاني ولا تخفيها.

الثانية: مراعاة اللغة العربية ومجانبة اللحن: فينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية، فينطق بلغة عربية صحيحة فصيحة؛ إذ اللحن يُفسد المعنى، ويقلب المقصود أحيانًا، وإذا فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحسن موقعها، وقد كان السلف والأئمة يعيبون اللحن من طالب العلم والخطيب والمتحدث.

قال ابن شبرمة: «إن الرجل ليتكلم فيلحن فكأن عليه أسمالًا» وهي الثياب البالية، ثم قال: «إن أحببت أن يصغر في عينك الكبير، ويكبر في عينك الصغير فتعلم النحو».

الثالثة: أن يشتمل على تحريك المشاعر، وهز الوجدان، وإثارة الشعور، وإذا فقدت الخطابة هذا العنصر فإنها تفقد أكبر خصائصها، ولا شك أن الهدف الأجَلَّ من الخطبة التأثير في السامعين تأثيرًا إيجابيًا يقودهم إلى تصحيح مفهوم، أو مبادرة بعمل، أو إقناع برأي، وهذا لا يتم إلا بتوافر صفة التأثير التي تعتمد كثيرًا على ما لدى الخطيب من ثروة لغوية ثرَّة، وعلى قدرته على تنويع الأساليب، واختيار الألفاظ التي تثير خيال النفس، وتحرك الوجدان، ويكون ذلك بأن يأخذ الخطيب سامعيه بالكلمات الساحرة، والصوت العذب المتردد، انخفاضًا وارتفاعًا، وإثارة وهدوءًا، وبالتفنن في التعبير، والمغايرة في التصوير، بالتقرير مرة، وبالاستفهام أخرى، وبالاستنكار ثالثة، والتهكم رابعة، وهكذا، وهذا التنويع في الأسلوب والتصوير من أروع وأبدع طرائق التأثير في الجمهور.

ويحسن بالخطيب أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار السامعين وأقدار الظروف والأحوال، فيجعل لكل طبقة كلامًا، ولكل حال مقامًا؛ فالحديث إلى طبقة أهل العلم والمتعلمين يختلف عن الحديث إلى العامة، كما أن الحديث إلى المثقفين يختلف عن الحديث إلى الأميين، وأيضًا الكلام في حال الخوف يختلف عنه في حال الأمن، ومخاطبة الثائرين غير مخاطبة الفاترين؛ فالثائر يُقمَع، والفاتر يستثار، وهكذا.

ومن حَذْق الخطيب وألمعيته أن يدرك أن خطب الحماسة غير خطب التفتير، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، ومن حذقه أيضًا أن يدرك الفرق بين أسلوب التفاؤل وبث الأمل وبين أسلوب التخويف والتقريع، وألا ينصرف وراء نوع منها بسبب إملاءات وظروف معينة.

والخطيب البارع المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه.

وقد عتب ابن القيم رحمه الله على نوع من خطباء عصره غلَّبوا أسلوب التخويف والنوْح على الحياة، وقال رحمه الله: «ليت شعري! أي إيمان حصل بهذا؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟».

وأقول: إنا لنجد في زماننا هذا قومًا أمعنوا في بث روح اليأس في الناس، وقَنّطوهم من صلاح الحال والمآل؛ وهذا بلا شك مخالف لهدي القرآن الذي قال الله تعالى فيه: {وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ} [يوسف:87]، ومخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يبث روح التفاؤل في أحلك الظروف وأقساها.

فينبغي للخطيب أن يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه، وقد عقد ابن القيم رحمه الله في الزاد فصلًا خاصًا بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبه يحسن بالخطيب أن يرجع إليه؛ ففيه كلام ماتع جميل.

وأشير في نهاية الكلام عن الأسلوب أنه يجمُلُ بالخطيب إذا أراد أن يَنهَى جمهوره عن شيء أو يحاسبهم على شيء ألا يوجه اللوم إليهم مباشرة؛ وإنما ينكر على نفسه تصريحًا وهو يعني السامع تلميحًا، كأن يقول: ما لنا لا نتقي الله؟ ما لنا لا نأمر بالمعروف، ولا ننهى عن المنكر؟ وهكذا.

يشير إلى هذا الأسلوب المؤدب قوله تعالى عن الرجل الذي دعا قومه إلى الإيمان بالله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22]؛ فإنه أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئًا، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه تلطفًا في الخطاب، وإظهارًا لصدق النصيحة؛ حيث اختار لهم ما اختار لنفسه.

مصداقية الخطبة:

فيما يتعلق بمصداقية الخطبة هناك عدة قضايا تؤكد هذا الجانب:

القضية الأولى: أن يكون مبتغى الخطيب رضا الله تعالى وحده، فيقول الحق لوجه الله، لا ينظر فيه إلى أهواء الجمهور ولا غيرهم.

والخطيب قد يعتريه حالتان:

- إما أن يُرضي جمهوره ومستمعيه بخطبة فيها نوع من القوة في النقد، والمبالغة في التشخيص والتوصيف، دون روية أو نظر في المقاصد والمآلات، أو في حسن التوقيت.

- وإما أن يُرضي طرفًا آخر غير الجمهور؛ كمسئول مثلًا.

وكِلا الأمرين فيه مخاطرة غير محمودة، ووقوع في شراك التبعية، ولا منجى من ذلك إلا بصدق التجرد، وتمام الإخلاص، وتقليب النظر في الأمر المراد، وتغليب درء المفسدة أيًا كانت جهتها، والسعي لتحصيل المصلحة وتكميلها، ولو بالتدرج إن لم يمكن جملة واحدة.

والقضية الثانية: الاعتدال بالطرح، ومجالات الاعتدال كثيرة جدًا، فيحسن أن أشير إلى بعض هذه الحالات.

الاعتدال مثلًا في تأثير الخطبة بين الإقناع العقلي والجذب العاطفي؛ بحيث لا يطغى الجانب العقلي في الطرح، فتبقى الأرواح والعزائم فاترة، ولا يطغى الجانب العاطفي فتتعطل مدارك العقل، ويُحرَم ذوو الألباب والعقول الكبيرة؛ بحيث لا يستمر وهج العاطفة مع صاحبه حتى أبواب المسجد إلا ويبدأ بالتلاشي والاضمحلال.

كذلك الاعتدال في الأسلوب؛ فلا يبالغ في الألفاظ والأساليب البلاغية الغريبة، فيحرم جمهور المستمعين الفهم والاستفادة.

كذلك ولا التنزّل الزائد واستعمال الألفاظ السوقية والعامية أو الصحفية، فينفر أهل الذوق والبيان، وطبقة المتعلمين والمثقفين.

القضية الثالثة: في هذه المصداقية مندوحة الإمساك خشية الافتتان أو الالتباس؛ فالأصل في الخطبة هو العدل وقول الحق، ودلالة الناس على الصواب؛ فإن لم يستطع الخطيب ذلك، خاصة في النوازل والأحداث العامة التي ينتظر فيها جمهور الناس ما يقوله الخطيب، فإن سكوته خير، وعدم خوضه فيما لا يمكن العدل فيه أنفع له من التحدث بالخطأ أو بما لا يستيقنه؛ بل يكون بعضها من الفتن التي يكون الماشي فيها خيرًا من الساعي، والقاعد خيرًا من الماشي، والساكت خيرًا من المتحدث.

فعلى الخطيب أن يقول الحق إن استطاع، ومن لم يستطع أن يقول الحق فلا يقولن الباطل، وبينهما برزخ من السكوت وإيثار السلامة وتجنب موارد الفتن.

ومن جهة أخرى قد يكون إمساك الخطيب عن بعض القضايا وترك بعض المسائل خيرًا لأجل جمهور المستمعين، الذين فيهم العالم، والجاهل، والعامي، والصغير، والكبير؛ فلربما نفروا من قضايا لم تطرق مسامعهم قبل هذه المرة.

وربما كان الخطيب حَدَثًا متحمسًا يريد أن يقول جميع ما يعرفه دفعة واحدة، وهو بعدُ لم يتمكن علمًا وسنًا ومنزلة في قلوب مستمعيه.

عن هشام بن عروة قال: «قال لي أبي: (ما حدثتَ أحدًا بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالًا عليه)».

ولابن الجوزي رحمه الله كلام جميل في ذلك في صيد الخاطر إذ يقول: «ومن المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده...، فالمخاطب بهذا مخاطر بنفسه...، فاللهَ اللهَ أن تحدِّث مخلوقًا من العوام بما لا يحتمله دون احتيال وتلطف».

ويقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: «وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه»(12).

التنويع في المواضيع:

ويمكن تقسيم الموضوعات إلى أقسام كثيرة، يختار في كل جمعة منها قسمًا للحديث عن موضوع من موضوعاته، ومن تلك الأقسام:

1- العقيدة وما يتعلق بها: وفيها موضوعات كثيرة، وكل موضوع منها يمكن استخراج عدد من الخطب فيه، ومن طالع المطولات من كتب العقيدة تبين له ذلك.

2- العبادات: وهي أيضًا باب واسع، وليس المعنى سرد الأحكام أو الإفتاء، ولكن المقصود تصحيح بعض الأخطاء فيها، وبيان فضائلها، والحث على المهجور منها...، وهكذا.

3- المعاملات: وفيها موضوعات كثيرة أيضًا، ولا سيما أن كثيرًا من صورها يتجدد.

4- نص من الكتاب أو السنة: فيختار آية أو سورة قصيرة أو حديثًا، ويذكر ما فيه من الفوائد مع ربطه بواقع الناس ومعاشهم، ولا يكون مجرد سرد للفوائد، وقد لاحظت أن لذلك أثرًا عظيمًا، حتى كأن الناس لأول مرة يستمعون إلى هذه السورة أو الآية، أو لأول مرة يسمعون هذا الحديث مع أنه مشهور، ولكن لأن فهمهم له كان خاطئًا، أو لأن الخطيب عرض لهم استنباطات جديدة، ومعان مفيدة لم يعلموها من قبل.

5- الأخلاق والآداب: وهي باب طويل عريض، وفيه كتب متخصصة كثيرة، متقدمة ومتأخرة.

6- من قصص القرآن والسنة: وهذا يمكن أن يلحق بفقرة (4)، ويمكن أن ينفصل عنها، ويكون هنا خاصًا بالقصص، وما سبق ذكره في غير القصص.

7- السِّيَر والتراجم: يختار شخصية بارزة، ويلقي الضوء على صاحبها، وأسباب بروزه واشتهاره، والاستفادة من أقواله وسيرته، سواء كان من الصحابة رضي الله عنهم أم من التابعين لهم بإحسان، أم من العلماء المشاهير قديمًا وحديثًا.

8- السيرة النبوية ومعارك الإسلام: يختار حديثًا أو معركة يتحدث عنها أو عن جانب منها، ويستخرج من ذلك الدروس والعبر.

9- موضوعات فكرية: ويذكر فيه المستجدات من الأفكار والمصطلحات والأحداث وموقف الشرع منها؛ كالديمقراطية، والعلمانية، والحداثة، والحضارة الغربية وموقف المسلم منها.

10- الفتن والملاحم وأشراط الساعة: وكل فتنة أو ملحمة أو علامة من علامات الساعة الكبرى صالحة لأن تكون خطبة مستقلة؛ بل ربما أكثر من خطبة، لغزارة ما فيها من نصوص ومعلومات شرعية.

11- القيامة وأحوالها: وفيها من الموضوعات شيء كثير: الصراط، الميزان، البعث، الحساب، القنطرة، الحشر، الديوان...، كذلك: الجنة والنار، وفيهما موضوعات كثيرة: وصفهما، وصف أهلهما، أعمال أهلهما، الطريق الموصلة إليهما.

12- المواعظ والرقائق: وهو باب واسع أيضًا.

هذه بعض الموضوعات الكلية، ويمكن تقسيم كل موضوع منها إلى موضوعات جزئية، في كل موضوع منها خطب كثيرة.

فالخطيب إذا عمل هذا التقسيم، ورتّبه في خطة محكمة؛ بحيث يتعرض في كل جمعة لموضوع من هذه الموضوعات استفاد الفوائد التي ذكرتها آنفًا، إضافة إلى أنه يعلِّم الناس مجمل الشريعة، ويطلعهم على ما يحتاجون إليه في معادهم ومعاشهم، ويريح نفسه بحصر ذهنه عن الاختيار في موضوع واحد بدل التشتت في موضوعات كثيرة.

والملاحظ أن كثيرًا من الخطباء، ممن لا يراعون مثل هذا التقسيم والتنظيم، تنحصر خطبهم في موضوعات قليلة، ولربما أن بعضهم لم يتعرض لموضوع من هذه الموضوعات الكلية المهمة طيلة حياته الخطابية التي قد تمتد إلى عشرات السنوات، والسبب أن كثيرًا من الموضوعات قد تغيب عن باله إذا لم يكن لديه خطة مكتوبة يسير عليها.

ومن الملاحظ أيضًا: أن كثيرًا من الخطباء يطرح موضوعات عامة، لا يتأثر بها المصلون، ولا يتفاعلون معها، ولربما كانت معلوماتهم فيها أثرى من معلومات الخطيب؛ فمثلًا في الحديث عن القيامة وأحوالها تجد أن كثيرًا من الخطباء يريدون استيعاب يوم القيامة بأحواله، وما يجري فيه في خطبة واحدة، وهذا غير ممكن، ويؤدي إلى التطويل والتشعب والمشقة على السامعين، كما يؤدي إلى العمومية والسطحية في الطرح، وضعف المعالجة، كما هو مشاهد، فيوم القيامة كألف سنة مما تعدون، كما هو نص القرآن؛ فكيف يريد الخطيب أن يختزل الحديث عن أحداث ألف سنة في نصف ساعة أو أقل؟! لكن لو قسم أحواله وأهواله، وخصّ كل حال منها بخطبة، لكان أعمق في طرحه ومعالجته، وأوسع في معلوماته، وأكثر فائدة وتأثيرًا في السامعين، وهكذا يقال في بقية الموضوعات(13).

وهناك أمور ينبغي التنبه لها أثناء الصياغة، منها:

أ- الإخلاص لله تعالى في كتابته، واستحضار النية الخالصة، ومجاهدة النفس في ذلك؛ فلا تعجبه نفسه أثناء الكتابة، أو يتذكر مدح المصلين له، وماذا سيقولون عن خطبته؛ فإنه إن أخلص لله تعالى بارك الله في كتابته وجهده، ونفع به الأمة.

ب- أن يعيش مع الخطبة بقلبه، ويضع نفسه محل السامع؛ أي كأنه المخاطَب بهذه الخطبة؛ لأن ذلك سيجعله يختار العبارات التي يرضاها ويحبها وتقنعه؛ فمثلًا لو كان يوجه نصيحة لواقعٍ في معصية معينة؛ فليضع نفسه مكان صاحب هذه المعصية، وكأنه المخاطَب بهذا الخطاب؛ فذلك أدعى للتأثر، وأجود في انتقاء الألفاظ المناسبة.

وبعض الخطباء الذين لا يراعون هذه الناحية تجدهم يترفعون على صاحب المعصية، ويخاطبونه من علو؛ فيكون عتابهم عنيفًا، وربما لا يقبله صاحب المعصية، لكنه لو وضع نفسه مكان صاحب المعصية، وبدأ بالعتاب فسيكون عتابًا رقيقًا، تقبله النفوس وتتأثر به.

ج- إنْ أحسّ الخطيب أن القلم لا يجاريه في الكتابة، وأن أفكاره مشتتة، وذهنه مشوَّش فليتوقف عن الكتابة حتى يزيل ما يشغله أو ينساه، ثم يعود إليها مرة أخرى.

د- إذا أشكلت عليه بعض الكلمات أو الجمل من جهة إعرابها، أو صرفها، أو دلالتها على المعنى الذي يريده، أو كونها غير فصيحة فله خياران:

1- الرجوع إلى المعاجم اللغوية للتأكد من صحة الكلمة، ومناسبتها للمعنى الذي أراده، أو سؤال من يعلم ذلك من أهل اللغة والنحو.

2- استبدال الكلمة أو الجملة التي يشك فيها بكلمة أو جملة أخرى يعلم صحتها، واللغة العربية غنية بالمترادفات من الكلمات والجمل.

وإن كنتُ أستحسن الطريقة الأولى؛ لكي ينمِّي الخطيب مهاراته اللغوية، وتزداد حصيلته من الكلمات والجمل.

ويلاحظ أن كثيرًا من الخطباء يجتهدون في جمع مادة الموضوع، وحشد النصوص له، وحسن الصياغة، وهذا يُقنع المستمع بما أُلقي عليه؛ لكنهم لا يذكرون واجب المستمع تجاه ما أُلقي؛ حتى كأن الخطبة لم توجَّه للمستمع؛ ومن ثم لا تؤدي النتيجة المرجوة منها، وتجد أن الناس خرجوا من عند الخطيب متأثرين، مثنين على خطبته وجمالها وقوتها، وأهمية موضوعها؛ لكنهم لم يدركوا ما هو المطلوب منهم تجاه الموضوع المطروح.

وربما أن بعضهم، لفطنته، فهم أنه معنيٌّ بهذا الموضوع، ومخاطَب به، وعليه واجب تجاهه، لكنه لا يدري ماذا يفعل؟ أو ربما اجتهد فأخطأ؛ فينبغي للخطيب أن يلخص واجب كل مسلم تجاه الموضوع الذي أُلقي، سواء على وجه الإجمال، أو بشيء من التفصيل والبيان؛ إذ إن هذا هو مقصود الخطبة، وهو أن يخرج الناس من المسجد وهم متشوقون لأداء ما يجب عليهم تجاه ما ألقاه الخطيب.

وبهذه المقومات الضرورية يستطيع الخطيب أن يجد لخطابه آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، تتفاعل مع رسالة الخطابة التي تستهدف الإنسان المسلم، عقيدة وفكرًا وخلقًا(14).

***

________________

(1) أخرجه البخاري (6830).

(2) أخرجه البخاري (3667).

(3) أدب الموعظة، ص67.

(4) المعجم الكبير للطبراني (4/ 42).

(5) الإحكام شرح أصول الأحكام (1/ 450).

(6) الملخص الفقهي (1/ 260).

(7) البيان والتبيين (1/ 116).

(8) أخرجه مسلم (867).

(9) أخرجه البخاري (3346).

(10) أخرجه أحمد (23630).

(11) أخرجه البخاري (4015).

(12) دور الخطباء في الارتقاء بخطبة الجمعة، مجلة البيان (العدد:203).

(13) كيف تختار موضوع الخطبة؟ مجلة البيان (العدد:209).

(14) الخطيب وعلاقة التأثير والتأثر، مجلة البيان (العدد:227).