logo

خافوا عليهم فليتقوا الله


بتاريخ : الخميس ، 24 محرّم ، 1440 الموافق 04 أكتوبر 2018
بقلم : تيار الاصلاح
خافوا عليهم فليتقوا الله

قال أبو المعالي محمد بن الحسن بن حمدون: «قال المنصور لعمرو بن عُبيد: عظني، قال: بما رأيتُ أو بما سمعتُ؟ قال: بل عظني بما رأيتَ، فقال له: مات عمر بن عبد العزيز فخلّف أحد عشر ابنًا، وبلغت تركته سبعة عشر دينارًا؛ كُفّن منها بخمسة دنانير، واشترى موضعًا لقبره بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهمًا، ومات هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابنًا، وأصاب كلّ واحد من ولده ألف ألف دينار، فرأيت رجلًا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله، ورأيت رجلًا من ولد هشام يسأل ليُتصدّق عليه»(1).

ترى كثيرًا من الناس يسعى ويكد ويتعب ليُؤَمِّن مُستقبل أولاده؛ ظنًا منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم، وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه، قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافًا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9].

عن ابن عباس: «هذا في الرجل يحضره الموت، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تضر بورثته، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله، ويوفقه ويسدده للصواب، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة».

وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده قال: «يا رسول الله، إني ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة، أفأتصدق بثلثي مالي؟»، قال: «لا»، قال: «فالشطر؟»، قال: «لا»، قال: «فالثلث؟»، قال: «الثلث، والثلث كثير»، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس»(2).

قال ابن عباس: «لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الثلث، والثلث كثير».

قال الفقهاء: «إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي الثلث في وصيته، وإن كانوا فقراء استحب أن يَنْقُص الثلث»(3).

وروي عن ابن عباس أنه قال: «يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة [أي الفقر] والضيعة، ويخاف بعده ألا يحسن إليهم من يليهم، يقول: فإن ولي مثل ذريته ضعافًا يتامى فليحسن إليهم، ولا يأكل أموالهم إسرافًا وبدارًا خشية أن يكبروا، فليتقوا الله وليقولوا قولًا سديدًا» يكفيهم أمر ذريتهم بعدهم.

وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب، قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار، بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح، لا راحم لهم ولا عاصم؛ كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم، بعد أن فقدوا الآباء، فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غدًا موكولة إلى من بعدهم من الأحياء، كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء، مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولاهم الله عليهم من الصغار، لعل الله أن يهيئ لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان، وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولًا سديدًا، وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم(4).

قال ابن عاشور: «وقوله: {فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]، فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين؛ لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل، فَصَحَّ التفريع عليه، والمعنى: فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول»(5).

ومن لطائف القشيري في الآية: «بَيَّن في هذه الآية أن الذي ينبغي للمسلم أن يدخره لعياله التقوى والصلاح لا المال؛ لأنه لم يقل فليجمعوا المال وليكثروا لهم العقار وليخلفوا الأثاث؛ بل قال: {فَلْيَتَّقُوا اللهَ} فإنه يتولى الصالحين»(6).

من فوائد الشعراوي في الآية: «والإنسان حين يترك ذرية ضعيفة يتركها وهو خائف عليهم أن يضيعهم الزمان، فإن كان عندك، أيها المؤمن، ذرية ضعيفة وتخاف عليها فساعة ترى ذرية ضعيفة تركها غيرك فلتعطف عليها؛ وذلك حتى يعطف الغير على ذريتك الضعيفة إن تركتها، واعلم أن ربنا رقيب وقيوم، ولا يترك الخير الذي فعلته دون أن يرده إلى ذريتك، وقلنا ذات مرة: إن معاوية وعمرو بن العاص اجتمعا في أواخر حياتهما، فقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين، ماذا بقي لك من حظ الدنيا؟ وكان معاوية قد صار أميرًا للمؤمنين ورئيس دولة قوية غنية، فقال معاوية: «أما الطعام فقد مللت أطيبه، وأما اللباس فقد سئمت ألينه، وحظي الآن في شربة ماء بارد في ظل شجرة في يوم صائف».

وصمت معاوية قليلًا وسأل عمرًا: «وأنت يا عمرو، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟»

وكان سيدنا عمرو بن العاص صاحب عبقرية تجارية فقال: «أنا حظي عين خرارة في أرض خوارة، تدر عليّ حياتي ولولدي بعد مماتي».

إنه يطلب عين ماء مستمر في أرض فيها أنعام وزروع تعطي الخير.

وكان هناك خادم يخدمهما، يقدم لهما المشروبات، فنظر معاوية إلى الخادم وأحب أن يداعبه ليشركه معهما في الحديث، فقال للخادم: «وأنت يا وردان، ماذا بقي لك من متاع الدنيا؟»، أجاب الخادم: «بقي لي من متع الدنيا، يا أمير المؤمنين، صنيعة معروف أضعها في أعناق قوم كرام، لا يؤدونها إليّ طول حياتي حتى تكون لعقبي في عقبهم»، لقد فهم الخادم عن الله قوله: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]، فالذين يتقون الله في الذرية الضعيفة يضمنون أن الله سيرزقهم بمن يتقي الله في ذريتهم الضعيفة.

وفي قصة العبد الصالح الذي ذهب إليه موسى عليه السلام: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)} [الكهف:66-71]، لقد جرب العبد الصالح موسى في خرق السفينة، كما توضح الآيات، فقال العبد الصالح: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)} [الكهف:72-73]، ثم ما كان من أمر الغلام الذي قتله العبد الصالح وقول موسى له: {لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا} [الكهف:74].

ثم جاءا إلى أهل قرية فطلبا منهم الطعام، وحين يطلب منك ابن السبيل طعامًا فاعلم أنها الحاجة الملحة؛ لأنه لو طلب منك مالًا فقد تظن أنه يكتنز المال، ولكن إن طلب لقمة يأكلها فهذا أمر واجب عليك.

فماذا فعل أهل القرية حين طلب العبد الصالح وموسى طعامًا لهما؟

يقول الحق: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، إنها قرية لئيمة، ووجد العبد الصالح في القرية جدارًا يريد أن يسقط وينقض فأقامه، واعترض موسى؛ لأن عنده حفيظة على أهل القرية، فقد طلبا منهم طعامًا فلم يطعموهما، وقال سيدنا موسى: إنك لو شئت لاتخذت عليه أجرًا؛ لأن أهل القرية لئام، وما كان يصح أن تقيم لهم الجدار إلا إذا أخذت منهم أجرًا.

لقد غاب عن موسى ما لم يغيّب الله سبحانه عن العبد الصالح، فبالله، لو أن الجدار وقع وهم لئام لا يطعمون من استطعمهم، ثم رأوا الكنز المتروك لليتامى المساكين، فلا بد أنهم سيغتصبون الكنز، إذن فعندما رأيت الجدار سيقع أقمته حتى أواري الكنز عن هؤلاء اللئام، ويقول الحق سبحانه: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82].

إذن فالعلة في هذه العملية هي الحماية لليتيمين، ولنلق بالًا ولنهتم بملاحظ النص، لا بد أن العبد الصالح قد أقام الجدار بأسلوب جدَّد عُمْرًا افتراضيًا للجدار بحيث إذا بلغ اليتيمان الرشد وقع الجدار أمامهما؛ ليرى كلاهما الكنز، لقد تم بناء الجدار على مثال القنبلة الموقوتة؛ بحيث إذا بلغا الرشد ينهار الجدار ليأخذا الكنز، إنه توقيت إلهي أراده الله؛ لأن والد اليتيمين كان صالحًا، اتقى الله فيما تحت يده فأرسل الله له جنودًا، لا يعلمهم ولم يرتبهم؛ ليحموا الكنز لولديه اليتيمين.

لذلك فلنفهم جيدًا في معاملتنا قول الحق: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9]، لماذا؟ لأن الإنسان عندما يكون شابًا فذاتيته تكون هي الموجودة، لكن كلما تقدم الإنسان في السن تقدمت ذاتية أولاده عنده، ويحرم نفسه ليعطي أولاده، وعندما يرى أن عياله ما زالوا ضعافًا، وجاءت له مقدمات الموت فهو يحزن على مفارقة هؤلاء الضعاف، فيوضح الحق لكل عبد طريق الأمان؛ إنك تستطيع وأنت موجود أن تعطي للضعاف قوة، قوة مستمدة من الالتحام بمنهج الله، وخاصة رعاية ما تحت يدك من يتامى، بذلك تؤمن حياة أولادك من بعدك وتموت وأنت مطمئن عليهم.

والقول السديد من الأوصياء: ألَّا يؤذوا اليتامى، وأن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب، ويدعوهم بقولهم: يا بني، ويا ولدي.

وحين يتقي المؤمن الله فيما بين يديه يرزقه الله بمن يتقي الله في أولاده(7).

قال الشيباني: «كنا على قسطنطينية في عسكر مسلمة بن عبد الملك، فجلسنا يومًا في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي، فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان، فقلت له: يا أبا بشر، ودي ألا يكون لي ولد، فقال لي: ما عليك! ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت، أحب أو كره، ولكن إذا أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا الآية، وفي رواية: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه، وإن تركت ولدًا من بعدك حفظهم الله فيك؟ فقلت: بلى، فتلا هذه الآية: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ} إلى آخرها(8).

الإنسان لا يضمن، ولو كان في عز شبابه واكتمال صحته وعافيته، أن ينزل به أمر الله في ليل أو نهار، ولذلك من وُلِد له فليتق الله في مولوده ولو كان صغيرًا؛ لأنه لا يضمن أن يعيش له، فأَمَرَ الله تبارك وتعالى من خشي على ذريته من بعده: {وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ} [النساء:9]، فوصف الذرية بأنها ضعيفة، ووصف الشخص بأنه يخاف، إذًا؛ تكون الذرية ضعيفة إذا كانت من اليتامى، سواء كانوا ذكورًا أو كانوا إناثًا، واليتم في الأنثى أشد منه في الذكر؛ فلذلك قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِين لَوْ تَرَكُوا مِن خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّة ضِعَافًا} [النساء:9]؛ أي: أولادًا ضعافًا، بخلاف ما إذا كان هؤلاء الأولاد عندهم إخوة كبار، وهم بالغون وفيهم أمانة، فيمكنهم أن يقوموا مقام الآباء، ويسدوا مسده في رعاية إخوانهم القصّار واليتامى.

فأولًا: أن تكون الذرية ضعيفة لا تملك لنفسها حولًا ولا قوة.

ثانيًا: أن يخشى هذا الرجل على هذه الذرية، وفي بعض الأحيان تكون الخشية بسبب عدم وجود قريب يقوم عليهم، فيخشى على أموالهم أن تُؤكل، ويخشى على حقوقهم أن تَضيع؛ بل ربما خشي على أعراضهم أن تنتهك، وهذا لا شك أنه يتأكد خاصة عند فساد الزمان وتغيُّر الناس.

بل قد يخشى الإنسان من أقرب الناس منه، فكم من عم وكم من أخ أكل أموال قرابته! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء أعمامهم على أموالهم! وكم من أيتام ضاعوا بسبب اعتداء إخوانهم على تلك الأموال! فإذا كان الأب يعلم أن ابنه الأكبر أو أن أبناءه الكبار فيهم قسوة، وفيهم جُرأة على حدود الله عز وجل، أو كراهية لإخوانهم القصار؛ فعليه أن ينتقل حتى ولو لشخص أجنبي غريب يأمنه(9).

إن اليقين بهذه القاعدة من قواعد نظام الكون لَيَمْنَح وقودًا إيمانيًا عجيبًا لمن سلك سبيل الله تعالى، فوجد عقبات أو منغصات أو اضطهادات أو ظلمًا واستضعافًا، فيؤزه هذا اليقين بتلكم القاعدة على الصبر والثبات، وثوقًا بموعود الله الذي يمهل ولا يهمل، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، كما في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لَيملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ} [هود:102]».

إن الجزاء من جنس العمل سنة ثابتة من سنن الله في خلقه لا تتغير ولا تتبدل، ولهذا أخبرنا ربنا تبارك وتعالى في كثير من الآيات القرآنية أنه يعامل خلقه بجنس عملهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فقال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء:123].

وقال تعالى وتقدس: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7-8].

وقال الحق جل في علاه: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44](10).

يقول محمد بن المنكدر: «إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ الله وستره».

ومِن أجمل مَن استشعر هذا المعنى سعيد بن المُسيب حيث قال: «يا بني، إني لأزيد في صلاتي من أجلك؛ رجاء أن أُحفَظ فيك»، وتلا الآية: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، يريد بذلك أن يصل إلى مرتبة الصالحين، فينال بصلاحه صلاح أبنائه من بعده.

طبعًا هو يصلي لله، وابن المسيب أفقه من أن يرجو على عمله فقط ثوابًا دنيويًا، ولكنه يرجو تبعًا للثواب الأخروي أمرًا في الدنيا، والله تعالى كريم؛ يعطي أمورًا في الدنيا والآخرة على العبادات(11).

إن التقوى هي التأمين الرباني الحلال، الذي جعله الله عز وجل لعباده المتقين، ليس بالمتاجرة بعقول الناس وأموالهم، وبمص دماء الناس بدعوى التأمين على الحياة، فالتأمين ربًا وقمار، أما التقوى فتأمين رباني شرعه الله عز وجل لمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته في الدنيا والآخرة، فقال عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [النساء:9].

فمن أراد أن يحفظ الله عز وجل ذريته، وأن يبارك له في ذريته فعليه بتقوى الله عز وجل.

لكن الملاحظ أن كثيرًا من الآباء يركن إلى بعض الأسباب المادية الظاهرية، ويغفل عن كثير من الأسباب الخفية غير المباشرة، التي قد يكون لها أثر عظيم في صلاح الأبناء؛ مثل: الدعاء، والكسب الحلال، والأمانة، وبر الوالدين، وغيرها.

فلنتأمل قوله تعالى: {وَأَما الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}، يقول ابن كثير في تفسيره: «فيه دليل على أن الرجل الصالح يُحفظ في ذريته، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة؛ لتقر عينه بهم»(12).

إن عزل سلوكياتنا الخاطئة وأخلاقنا السيئة وذنوبنا ومعاصينا، حتى لو كانت خفية، عن تربية أبنائنا، وعدم استشعار أثر هذه السلوكيات على صلاح أبنائنا، فيه نوع من القصور في مفهوم التكامل التربوي، فقد نُحْرم صلاح الأبناء بسبب ذنب خفي داومنا عليه، أو كسب حرام أصررنا على كسبه، أو عقوق للوالدين؛ أو غيرها من الذنوب، يقول أحد التابعين: «إني لأذنب الذنب فأرى أثر ذلك الذنب على ولدي».

إن صلاح الأبناء وحسن تربيتهم ليس وليد تميز في التلقين والتعليم فقط، أو تميز في اختيار المدارس والمحاضن التربوية المناسبة، أو بذل للجهد والمال فقط؛ إنما هناك أسباب عبادية عظيمة يقوم بها الأب نفسه، من أهمها: الخوف من الله ومراقبته سبحانه وتعالى، أو بذل واسع، أو عمل صالح خفي، أو بر والدين، أو قيام الليل.

والشواهد على امتداد أثر صلاح الآباء للأبناء ومشاهده معروفة سابقًا ولاحقًا، ومما يُذكر في امتداد أثر صلاح الآباء على الأبناء ما يذكره الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) فيقول: «رُويَ أن الإمام الشافعي لما مرض مَرَض موته قال: مروا فلانًا يُغسلني، فلما بلغه خبر وفاة الإمام الشافعي حضر هذا الرجل، وقال ائتوني بوصيته، فإذا فيها: على الشافعي سبعون ألف درهم دَيْنًا، فقضاها عنه، وقال: هذا غسلي إياه.

وقال أبو سعيد الواعظ: لما قدِمتُ مصر بسنين طلبتُ منزل ذلك الرجل، فدلوني عليه، فرأيتُ جماعة من أحفاده، وزرتهم، فرأيت عليهم سيما الخير وآثار الفضل، فقلت: بلغ أثر الخير إليهم، وظهرت بركته عليهم»(13).

فعليك أيها الأب، وأنتِ أيتها الأم، بتَقوى الله، عليك أيها الأب أن تطيب مطعمك ومشربك وملبسك؛ حتى ترفع يديك بالدعاء إلى الله بأيد طاهرة ونفسٍ زكية؛ فيتقبل منك لأولادك، ويُصلحهم الله ويبارك لك فيهم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، فإذا كان الرجل دائم البر لأبويه، قائمًا بالدعاء والاستغفار لهما، يتفقد أحوال والديه، ويطمئن عليهما، ويسد حاجتيهما، ويكثر من قول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَي}، ويقول دائمًا: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، ويكثر من الصدقة عنهما، ويَصِلْ مَن كان الأبوان يصلانه، ويعطي مَن كان الأبوان يعطيانه، فإذا رأى الابن من أبويه هذه الأخلاق فإنه بإذن الله يَقتبس من هذه الأخلاق، ويستغفر هو الآخر لأبويه بعد موتهما، ويفعل بهما ما رآهما يفعلان مع الآباء.

وليَحذر الآباء أشد الحذر من التقصير في تعليم فلذات أكبادهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم؛ لأن مآل ذلك خطير وضرره كبير، يقول الإمام ابن القيم: «فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا»(14).

وليَعلم كل مَن قصر في ذلك أن وبال هذا الأمر وعاقبته السيئة ستعود عليه أيضًا في الدنيا والآخرة، يقول الإمام ابن القيم: «فما أفسد الأبناء مثل تَغفُّل الآباء وإهمالهم، واستسهالهم شَرر النار بين الثياب، فكم من والد حَرَم ولده خير الدنيا والآخرة، وعَرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله، وإضاعتهم لها، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح، حَرَمهم الانتفاع بأولادهم وحَرَم الأولاد خيرهم ونفعهم لهم، وهو من عقوبة الآباء»(15).

***

________________

(1) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز الخليفة الزاهد، ص338.

(2) أخرجه البخاري (1295).

(3) تفسير ابن كثير (2/ 222).

(4) في ظلال القرآن (1/ 588).

(5) التحرير والتنوير (4/ 253).

(6) لطائف الإشارات (1/ 316).

(7) تفسير الشعراوي (4/ 2021).

(8) تفسير القرطبي (5/ 51).

(9) شرح زاد المستقنع للشنقيطي، المكتبة الشاملة (265/ 2).

(10) فصل الخطاب (3/ 456).

(11) المصدر السابق (5/ 35).

(12) تفسير ابن كثير (5/ 187).

(13) إحياء علوم الدين (3/ 251).

(14) تحفة المودود بأحكام المولود، ص229.

(15) المصدر السابق، ص243.