logo

تجديد الخطاب الدعوي


بتاريخ : الخميس ، 23 صفر ، 1435 الموافق 26 ديسمبر 2013
بقلم : تيار الاصلاح
تجديد الخطاب الدعوي

إن الناظر إلى واقع الدعوة يجد رتابة في الأساليب، وعدم تفاعل عامة الناس، فضلًا عن خاصتهم، مع الخطاب الدعوي الذي يقوم به بعض الدعاة؛ ولذلك قَلَّت المشاريع الدعوية، وملَّ كثير من الشباب من رتابة الأساليب، وفقدت الثقة في كثير من العلماء والدعاة إلى الله عز وجل بسبب هذه الرتابة.

«إن تجديد هذا الخطاب ضرورة فطرية وبشرية؛ لأن هذا الخطاب الديني الحالي مفكك وفردي؛ بينما يشهد العالم تجمعات وتطورات هائلة في مجال التقنية والمعلومات والاختراعات، وأعتقد بأن أية نهضة أو تنمية في العالم الإسلامي، التي ينادي بها المخلصون من دعاة الإصلاح، إن لم تصدر من مفهوم ديني فهي محكوم عليها بالفشل، فلا بد من خطاب ديني واع ومعاصر ومنضبط، يستطيع أن يضع هذه النهضة ويساعد عليها، ويدفعها لإخراج الأمة من هذا التيه والدوران الذي تدور فيه حول نفسها»(1).

إن فكرة التجديد في الخطاب الدعوي ليست أمرًا مرفوضًا في الدين؛ فالقرآن الكريم لا يرفض قضية التجديد في مسائل الدعوة إطلاقًا؛ بل المتتبع لنصوص القرآن بحسب نزوله يجد أن القرآن  المكي غير القرآن المدني.

لكن ينبغي أن نفرق بين النص الشرعي والفعل البشري؛ فالنصوص الشرعية متناهية؛ أي: ثابتة لا مجال للخوض فيها، والأفعال البشرية، التي هي اجتهادات مجموعة من العلماء، متغيرة تبعًا لتغيرات الزمان والمكان والقدرة والأشخاص، ففتوى المريض تختلف عن فتوى الصحيح، وفتوى المسافر تختلف عن فتوى الحاضر، وفتوى الجاد تختلف عن فتوى المستهتر.

قال الإمام البخاري في صحيحه (في كتاب: العلم، باب: من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا): وقال علي: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله»، وروى مسلم عن ابن مسعود: «ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»(2).

قال ابن حجر: «وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنهعند من يُخشَى عليه الأخذ بظاهره مطلوب، والله أعلم»(3).

قال ابن القيم: «ولا تجمد على المنقول في الكتب طول عمرك؛ بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتك لا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، قالوا: فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين...»

ثم بَيَّن أثر ذلك وضرره فقال: «من أفتي الناس بمجرد المنقول في الكتب، على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم، على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم، بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم؛ بل هذا الطبيب وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم»(4).

بعض الدعاة لا يعترف بضرورة التجديد؛ بل يريد أن يبقى كل شيء كما كان يعهد، فليس في الإمكان أفضل مما كان، إيثارًا للإلف، وتوجسًا وارتيابًا من كل حديث وجديد، فهو يفضل أن يبقى فكره وخطابه ولغته وطريقته وعلمه متكلسًا مترهلًا ألف مرة على أن تناله يد التجديد، أو تطاوله بواعث التحديث.

وهذا مظهر من مظاهر الضعف والخور، والهزيمة النفسية، كما أن الارتماء في أحضان كل جديد هزيمة نفسية، فلا بد إذن من التجديد، وإذا لم نؤمن بذلك فأمامنا خياران:

الأول: الجمود؛ ويعني ذلك الإطاحة بحق الحياة وسحقها في عصر تكتنفه الحركة الثائرة من كل جهة.

الثاني: الذوبان؛ وذلك معناه الإطاحة بحق الدين والشريعة والثقافة والتراث.

إن هذا التجديد يجب أن يكون بأيدي رجالات الإسلام، وعن طريق المتخصصين الإسلاميين، ولا أقول بالضرورة: الفقهاء، وإنما المختصون على العموم، ويجب أن تكون أدوات هذا التجديد ووسائله داخلية، تلمس مشاعره، وتتحدث من داخل إطاره، وعلينا أن نتفق على الضرورات والقواعد الشرعية، والمحكمات الدينية الثابتة، كما يسميها ابن تيمية (الدين الجامع)(5).

لذا كان لا بد لهذا الخطاب الدعوي من أسس لضبط قضية التجديد، فلا نلهث وراء كل جديد، ولا نتجمد خلف ما فني وبلي؛ لذلك كان لا بد لهذا الخطاب من أسس يقوم عليها.

أسس الخطاب الدعوي المعاصر:

الأصالة المنهجية الشرعية:

يقصد بالأصالةِ المحافظةُ على جوهر الدعوة؛ باستنادها إلى الأصول والأدلة الشرعية، والتمسك بمبادئها الأساسية، والمعاصرة هي: تكافؤ الدعوة مع العصر الذي تعيش فيه، بحيث تعالج واقعه، وتلبي متطلباته.

ومن هذا التعريف يتضح أن وصف الدعوة بالأصالة وصف صالح لكل زمان ومكان، ووصف الدعوة بالمعاصَرة أيضًا صالح لكل زمان ومكان، وليس وصفًا خاصًّا بالعصر الحديث كما قد يتوهم؛ فدعوة الناس بلسانهم ولغتهم معاصَرة، واختيار الأسلوب الدعوي المناسب لموقف من المواقف معاصَرة، واستخدام الوسائل المتوفرة في عصر من العصور لنشر الدعوة معاصَرة.

وسيرته صلى الله عليه وسلم في تمسكه بأصالة دعوته لا يحيد عنها، ولا يقبل مساومةً فيها، وفي ذات الوقت معالجته واقع عصره، وتخيّره الأساليبَ النافعةَ لدعوته، واستخدام جميع أنواع الوسائل المشروعة المتوفرة في عصره، غيرَ زاهد بشيء منها، أمرٌ لا يخفى على من اطلع على سنته صلى الله عليه وسلم.

ومما تجدر الإشارة إليه التمييز بين المناهج الدعوية الثابتة، وبين الأساليب والوسائل المتطورة، فمن المناهج ما هو رباني ثابت، لا يجوز أن يطرأ عليه تحويل أو تغيير، قال تعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].

ومنها ما هو بشري متطور، يضعه الدعاة بما يتناسب مع المدعوين، مجتهدين في ذلك، مقتبسين له من منهج الله تعالى، وهذا النوع من المناهج يتطور ويتغير بحسب المدعوين، وتبعًا لظروفهم وأحوالهم ومستوياتهم.

وإذا كان الأصل في المناهج الربانية الثبوت والاستمرار وعدم التحول، فإن الأصل في الأساليب والوسائل والمناهج البشرية التطور والتحول إلى ما يناسب كل عصر وبيئة(6).

الشمول التكاملي المؤثر:

بعض الدعاة انشغلوا ببعض قضايا الدين عن البعض الآخر، فأهملوا من العلوم ما الحاجة ماسة إليه، وبالغوا فيما يمكن التخفف منه، فأقحموا أنفسهم في شرنقة منغلقين على أنفسهم، ولا نعيب أن يتميز الداعية بالتخصص في جانب من جوانب الدعوة؛ ولكن الذي يؤسف أن يتهم غيره بالتقصير إن لم يسلك مسلكه ويسير على دربه، أو يهمل الجوانب الأخرى من الدين، ويحتقر من يتكلم فيها.

إن دين الله تعالى دين شامل لكافة جوانب الحياة العلمية والعملية، ولا ينبغي على الداعية بحال أن يهمش شيئًا من جوانب هذه الحياة بحجة أو بغير حجة.

»الإسلام رسالة شاملة، وقد يعبر عنه بنظام شامل، هناك من يسعون إلى تفكيك الإسلام وتجزئة الإسلام، من يريد أن يحذف من الإسلام الكثير من تعاليمه، فيريدونه سلامًا بلا جهاد، زواجًا بلا طلاق، عقيدة بلا شريعة، عبادة بلا معاملة، حقًا بلا قوة، مصحفًا بلا سيف، يريدون أن يأخذوا من الإسلام ما يحلو لهم، ويحذفوا منه ما لا يروق لهم، والإسلام كما أراده الله تبارك وتعالى، وكما أنزله الله في كتابه، وكما دعا إليه رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكما فهمه الصحابة وتابعوهم بإحسان في خير قرون هذه الأمة رسالة تجمع بين الدنيا والآخرة، بين الروحانية والمادية، بين المثالية والواقعية، تشمل شئون الفرد، وشئون الأسرة، وشئون المجتمع، وشئون الأمة، وشئون الدولة، وشئون العلاقات الدولية، هذه رسالة الإسلام، ولذلك القرآن الكريم يقول: {ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، تبيانًا لكل شيء من رب كل شيء»(7).

»من الملاحظ عند بعض الدعاة في هذه الأيام، وخاصة الذين يتحدثون من خلال الخطب أو الأحاديث في القنوات الفضائية، من الملاحظ أن هؤلاء إما أن يركز أحدهم على الإعجاز العلمي في القرآن، ويأتي بالآيات التي يؤيدها العلم الحديث، مع مبالغات أحيانًا، وتكلف وتنزيل للآيات على نتائج بعض المكتشفات الحديثة، وقد تكون نظريات تحتمل الخطأ والصواب، والتوسع في هذا المجال والاكتفاء به يبعد الناس عن أهداف القرآن الأساسية؛ وهو هداية البشرية لما فيه سعادتها في الدنيا والآخرة.

وإما أن يركز البعض على توحيد العبودية باعتبار أنه الغاية من توحيد الربوبية، وهو المطلوب من العباد، وأيضًا بسبب ما يقع فيه الناس من الجهل بأنواع الشرك أو الخروج عن ربقة الخضوع للدين.

ونحن إذا تدبرنا القرآن نجد أنه في السورة الواحدة يذكر أحوالًا تتعلق بخلق الإنسان، وأمورًا تتعلق بالجزاء على العمل، وأمورًا تتعلق بالحياة المعاشة؛ من اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية؛ أي أن القرآن لا يفصل بين النظر في آياته الكونية، التي تستثير النفس إلى النظر في بديع خلق الله؛ مما يجعلها تطامن من غرورها، وتفكر في الخالق، وبين الدعوة لِأَن يكون الإنسان عبدًا لله في كل شئون حياته»(8).

التوازن النسبي الملائم:

ويقصد به التوازن النسبي بين قدرات الداعية والعمل المسند إليه، والصلاحيات المخولة له، وهذا أمر جدير بالاهتمام، فكيف يوضع في مكان من لا يجيد فيه، ثم بعد ذلك ننتظر منه نتيجة طيبة؛ هذا أمر مخالف للواقع.

إن إسناد الأمور إلى غير أهلها مصيبة عظيمة، وتضييع للأمانة، وإهدار للحقوق، وتعطيل للقدرات والطاقات، فعن أبي هريرة قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم، جاءه أعرابي فقال: متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه قال: «أين، أراه، السائل عن الساعة»، قال: ها أنا يا رسول الله، قال: «فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال: كيف إضاعتها؟ قال: «إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة»(9).

«أي: إذا أُسنِدت الأمور الهامة التي ترتبط بها مصالح المسلمين، من إمارة وقضاء وحسبة وشرطة، إلى غير أصحاب الكفاءات الشرعية والإِدارية والعلمية والفنية، وسلمت لغير ذوي الاختصاص فقد ضاعت الأمانة، وأوشكت الساعة أن تقوم؛ لأن الولاية أمانة ومسئولية لا يمكن أن يؤديها إلّا من كان عالمًا بها ناصحًا فيها، مقدرًا لمسئوليته نحوها، فإذا وليها غير أهلها من الجهلة أو الخونة لم يقوموا بأدائها، فتضيع مصالح الناس، وتنتشر الفوضى، ويعم الظلم، وتتفشى العداوة والبغضاء، فينهار كيان المجتمع، ويؤدي ذلك إلى القضاء على الأمة، وعند ذلك انتظر الساعة، إما ساعة تلك الأمة، خاصة إذا كان ضياع الأمانة في نطاقها، أو ساعة العالم كله إذا ارتفعت الأمانة من الدنيا كلها، فإنه صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى»(10).

الإقناع العقلي:

لقد دعا الإسلام إلى استعمال العقل والتفكير المنطقي السليم في فهم حقائق الأشياء، والتمييز بين الصواب والخطأ، والحسن والقبيح، والحق والباطل، بالحجة والبرهان والاقتناع، وليس بالتقليد الأعمى أو بالقسر والإكراه.

عن أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه، مه، فقال: »ادنه»، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟«، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم«، قال: «أفتحبه لابنتك؟«، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك؟»، قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه»، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء(11).

ولذا يتضح جليًا أهمية الإقناع العقلي للمدعوين، بما يسهم في تربيتهم، وتنمية القيم لديهم، وأن لا تقتصر الدعوة فقط على مجرد سرد للحقائق بدون مناقشة لها، وبدون إعطاء حرية التعبير، وإبداء الرأي من الطرف المقابل، حتى لو كان صغير السن، فبدون القناعة الشخصية لن نصل إلى حلول مع المدعوين، وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

الحوار الهادف:

الحوار من أكثر طرق التدريس ملائمة لتعليم القيم وبيانها وتعزيزها، فالحوار يفتح الفرصة أمام المدعو للتعبير عن أفكاره وتصوراته المختلفة حول القضايا القيمية المعروضة للنقاش، وهو بذلك يكتشف صحتها وخطأها، ويعمل على نقدها وتقويمها بمنهج صحيح، ويطلع على آراء وتوجهات وأفكار أخرى نحوها، ويكشف المدفون من مشاعرهم وقيمهم ومخاوفهم وآمالهم، ويجعل المعلم معهم أكثر قربًا منهم ، وشعورًا بهم، وتفهمًا لأفكارهم وسلوكياتهم، ومن ثم يكون أكثر تحديدًا لمنهج التخاطب معهم، واختيار أساليب التعليم والتوجيه المتبادل بينهم وبينه، فيشعرون بالقرب منه والمودة له، فتنشأ الثقة التي هي أساس التوجيه القيمي(12).

والقرآن الكريم مليء بالآيات التي قامت على المحاورة والمناقشة؛ كقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40].

ولقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار في كثير من تعليماته لإثارة انتباه المتعلمين، وتشويقهم إلى معرفة الجواب، وحضهم على إعمال الفكر لمعرفة الجواب، وكان في حواره يدعم رأيه بالأدلة القاطعة، والبراهين الساطعة على صدق كلامه.

وقد تنوعت أسئلة الرسول صلى الله عليه وسلم بين التشويق، والإغراء، والتحذير، والتعجب، والتقرير، والتعليم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون من المفلس؟»، قالوا: المفلس من لا درهم له ولا متاع، قال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»(13)، فسؤال النبي صلى الله عليه وسلم كان سؤالًا تشويقيًا، وكانت إجابته مخالفة لما فهموه من السؤال، مما يؤكد المعنى الجديد في نفوسهم.

التيسير الشرعي المرغب:

لقد اتسمت الشريعة الإسلامية بسمة اليسر والتيسير، قال جل شأنه: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].

عن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وهريقوا على بوله سجلًا من ماء، أو ذنوبًا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»(14).

فماذا كان من أمر ذلك الأعرابي، الذي قارن بين معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملة الصحابة، ما كان منه إلا أن قال كما جاء عن أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: «لقد حَجَّرْتَ واسعًا»، يريد رحمة الله(15).

فالتيسير مطلب شرعي، ومقصد من مقاصد الحنيفية السمحة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم، فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه، والله ما انتقم لنفسه في شيء يؤتى إليه قط، حتى تنتهك حرمات الله، فينتقم لله»(16).

عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده قال: لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل قال لهما: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا»، قال أبو موسى: يا رسول الله، إنا بأرض يصنع فيها شراب من العسل، يقال له البتع، وشراب من الشعير، يقال له المزر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام»(17).

فوصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهما بالتيسير لم تحملهما على تحليل المسكر الحرام، وهو تيسير في نظر المستدلين بحديث عائشة رضي الله عنها على التيسير في الفتاوى، ولو بالعدول عن العمل بالنصوص الشرعية.

ماهية التجديد:

أما ماهية هذا التجديد فترتيبٌ لسلّم الأوليات، وتنظيم للأهم والمقاصد الكبرى للعلم والدعوة والإصلاح، واتفاق على ذلك، وتسهيل تطبيق ذلك وتوجيهه في أرض الواقع، وإبراز لجانب القيم والأخلاق الإسلامية الإنسانية العامة التي يحتاج إليها الناس كلهم دون استثناء، وتطبيع قيم العدل التي يأمرنا بها الإسلام تجاه الخلق كلهم، ومعاملة الناس كلهم بالحسنى، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة:83]، قال ابن عباس: «اليهودي والنصراني».

والتجديد يعني العناية بالنظريات العامة في الإسلام؛ مثل النظريات السياسية والاجتماعية والفقهية الفرعية والأصولية، ودعم المشاريع العلمية التي تصل تراث الأمة بهذا العصر، وتضيف إليها تراكمًا علميًا ومعرفيًا.

إن على دعاة التجديد أن ينتقلوا من ضيق الرأي والمذهب والجماعة إلى سعة الشريعة، مع أهمية هذه كلها في العلم الإسلامي والديني، ولكنني أدعو إلى الاعتصام بسعة الشريعة وبحبوحتها لتجديد الاجتهاد الإسلامي وتيسيره، يقول جل وعلا: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ} [النساء:83](18).

إن تجديد الخطاب هو العودة بالإسلام إلى منهج الوسطية والسمو الروحي، استجابة لنداء الله؛ فالعودة بالإسلام إلى عهده الماضي لا تعني الجمود، ولكن تعني الانطلاق والسعة؛ فقد كان الإسلام أوسع ما يكون، وأكثر تيسيرًا في عهد النبوة والصحابة، ثم أضاف كل عصر إلى الدين بعض التحوطات والتشديدات، حتى أصبح الدين، حاليًا، مجموعة من التحوطات البعيدة عن جوهر الدين، وهو التيسير.

حاجة الخطاب الدعوي للتجديد:

من المعلوم أن الدين به ثوابت لا مساس بها، ولكن تتغير في أسلوب عرضها، ومن هنا فعرض الثوابت في الخطاب الديني يختلف من زمن لزمن آخر، ومن بيئة لأخرى، ومن قوم لغيرهم، كما يتضمن الدين متغيرات تقبل التجديد والاجتهاد.

وانطلاقًا من هذه الطبيعة للدين ففكرة التجديد ليست مرفوضة إسلاميًّا؛ فالقرآن الكريم قد غيّر من أسلوب خطابه الديني من مكان لمكان، ومن وقت لوقت، ودلل على ذلك بالاستشهاد باختلاف الخطاب الديني في الموضوعات والأسلوب ما بين القرآن المكي والقرآن المدني.

الخطاب الإسلامي يتميز بالتجدد في إطار أسس العقيدة الإسلامية وأحكام الشريعة، وترتبط مضامينه بحاجات المسلمين وفق أولوياتها، وتتصل مقاصده لمعالجة التحديات التي تواجهها الأمة، وليس بخاف أثر المعركة الثقافية التي تريدها ضد الإسلام والمسلمين مؤسساتٌ معاديةٌ، يقف وراء حملاتها فكر مضاد يستهدف كيان الأمة، يشن علي أُسسها وقيمها ومبادئها، وينسب إلي دينها منها مقولات الإرهاب الإسلامي والتخلف؛ بهدف إيجاد فاصل من التمييز بين أمة الإسلام والأمم الأخرى(19).

والتجديد في الخطاب الدعوي مشروع، يدل على هذا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يسيروا على وتيرة واحدة في الدعوة، ولكنهم غيروا من الأساليب والوسائل.

فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم استخدم الرسم؛ رَسَم للناس خطًا طويلًا، وعلى جنبيه من اليمين والشمال خطوطًا معترضة، ثم تلا قول الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

واستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد الحية الموجودة لغرض الدعوة، كما في حديث جابر بن عبد الله: أن رسول الله صل