المسئولية الدعوية
يقرر الإسلام أن الله عز وجل خلق الإنسان كامل المسئولية، وكلفه بالتكاليف الشرعية، ورتب عليها الثواب والعقاب على أساس من إرادته واختياره، ولا يملك أحد من البشر تقييد هذه الإرادة أو سلب ذلك الاختيار بغير حق، ومن اجترأ على ذلك فهو ظالم جائر.
إنه لا يكفي أن أكون مسلمًا وحدي دونما اهتمام بمن حولي، ذلك أن من الآثار التي يبعثها الإسلام ويسكبها في النفس البشرية، إن هي آمنت وأحسنت، الاهتمام بالآخرين، ودعوتهم، والنصح لهم، والغيرة عليهم.
ومن هنا تترتب علي مسئولية جديدة، هي مسئولية إقامة المجتمع المسلم، ومسئولية حمل الإسلام إلى المجتمع(1).
ولكل منا بالضرورة بعض العلاقات، وهو يشغل مكانًا معينًا، ويمارس بعض الوظائف في جهاز المجتمع؛ فالأب مسئول عن رفاهية أولاده المادية والأخلاقية، والمربي مسئول عن الثقافة الأخلاقية والعقلية للشباب، والعامل عن تنفيذ عمله وكماله، والقاضي عن توزيع العدالة، والشرطي عن الأمن العام، والجندي عن حفظ الوطن.
كذلك نحن، فرادى، مسئولون عن طهارة قلوبنا، واستقامة أفكارنا، كما أننا مسئولون عن حماية صحتنا وحياتنا.
وعندما نخاطب الناس على اختلاف طبقاتهم نجد التهرب من المسئولية، والتخلي عنها، وإلقائها على الآخرين، ومحاولة اكتشاف أعذار ومبررات تخلص المرء من أن يتحمل هذه المسئولية ليلقيها على غيره.
إن الإسلام ليحترم الإنسان، ويرفع قدره، ويُعلي منزلته، ويخرج به عن دائرة الطفولة إلى مجال الرشد، وحمل المسئولية، وقد أمده الإسلام بأمداد الرعاية والهداية، بما بعث من رسول كريم، يحمل بين يديه آيات الله وكلماته وضيئة مشرقة، تجلو غياهب الريب، وتكشف وجوه المنكر، فالحلال بيّن والحرام بيّن، وما على الإنسان إلا أن يجمع رأيه، ويحزم أمره على اختيار الطريق السوي، طريق الخير والحق والإحسان، واجتناب الطرق المليئة بالمعاثر والمهالك، طرق الشر والبغي والعدوان.
أما التحكك بالمماحكات والسفسطات، فجدل عقيم لا يلد إلا البوار والهلاك، والعاقل من دان نفسه قبل أن يدان، وتوقّى الشر قبل أن يقع فيه(2).
أحيانًا يكون المرء لديه شبهة، فيرى أنه لا ينبغي له أن يأمر وينهى لقلة علمه، أو لأنه وقع في معصية أو لغير ذلك، فهو يعتقد أصلًا أنه غير مخاطب بهذا الأمر، وأن واقع المسلمين واقع مؤلم، وأنه يجب إعادة الأمة إلى مكانها الطبيعي، ولكن يرى أن الأمر يُخاطب به غيره، وأنه غير مخاطب.
ومنهج الدعوة منهج صعب؛ لأن الدعوة إلى الله تتطلب أن يأخذ الداعي يد الذين ينحرفون عن منهج السماء اتباعًا لشهوات الأرض، وشهوات الأرض جاذبة دائمًا للخلق؛ لأنها تحقق العاجل من متع النفس.
ولو أردنا أن نصوغ قولة تلخص هذه الصفة الشمولية في جانبيها فلن نجد خيرًا من تلك الكلمة المعروفة، التي شبه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كل فرد من بعض وجوهه بالحارس أو المدير المسئول عن خير العاملين معه: «كلكم راعٍ، وكلكم مسئول عن رعيته؛ الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته»(3)، فكل فرد في مجاله مسئول عن حسن سير الأمور، العامة والخاصة، التي وُكِّلت إليه.
معنى المسئولية:
المسئولية حمل ثقيل، وشعور بالواجب، يوجه تفكير الشخص كما يوجه سلوكه وأقواله ومواقفه، بحيث يصير كل ما يصدر عنه ذا معنى وذا مقصد، ومن ثمة يكتسب قوته التي تجعله قادرًا على كسب الرهان، وبلوغ المقاصد التي قصدها، وتحقيق المطالب التي طلبها.
بهذا يكون جميع ما يتحمله الإنسان، فردًا وجماعة، مسئولية تستوجب النهوض بالواجب اتجاهها.
فحياة الإنسان أمانة تتطلب المسئولية، والدين أمانة يتطلب المسئولية، والأبناء أمانة يتطلبون المسئولية، والحِرفة أمانة تتطلب المسئولية، وإن من أنواع المسئولية أيضًا: المسئولية الدعوية، المسئولية الأسرية، المسئولية السياسية، المسئولية الأمنية، المسئولية القانونية...، فالوجود كله مسئولية.
خطوات تعزيز المسئولية الشخصية:
الشعور بالمسئولية هو الوقود الذي يحركك نحو هدفك، فالمسئولية الشخصية هي عنصر لا غنى عنه من أجل تقدير الذات الإيجابي، والاعتماد على النفس، ولكنه يحتاج منك إلى بذل الأسباب، والتوفيق دائمًا وأبدًا بيد الله عز وجل، وهذا يعني أن تبدأ بخطوات عملية لتعزيز المسئولية في ذاتك، وهي كالآتي:
- تحديد أدوارك ومسئولياتك.
- تنفيذ التزاماتك ومسئولياتك المنوطة بك، وأداء أدوارك بأمانة.
- الحرص على فهم الأمور وحقيقتها قبل الحكم عليها.
- التعرف على التحديات والمشاكل المتوقعة، ووضع الحلول المناسبة لها.
- اتخاذ القرارات المهمة، وتحديد خطة زمنية محددة لتنفيذها.
- اتخاذ موقف إيجابي تجاه الظروف الحياتية الصعبة.
- وضع الأولويات، وتحديد الأعمال والمهمات المطلوب تنفيذها.
- التحلي بالمرونة اللازمة للتعامل مع المتغيرات المختلفة.
إن الأمة ينقصها الكثير بسبب تهرب أفرادها من المسئولية، بعكس ما ينبغي أن تكون عليه، من وجود أفراد يُعتمَد عليهم حتى تتقدم وتستعيد مكانتها بين الأمم، فالشخصية المسئولة هي الشخصية الصالحة في تربيتها، المُصلحة في محيطها، الواعية بمهمتها، والحكيمة في سلوكها، المنفتحة في علاقاتها، التي تقبل النصح، وتعمل بالشورى، وتنزل الناس منازلهم(4).
وأول خطوة في هذا المجال، وهي الخطوة الطبيعية، أن يكون بيتي مسلمًا، أن أحمل رسالة الإسلام إلى مجتمعي الصغير؛ إلى أهلي، إلى زوجتي، إلى أولادي، ثم الأقرب فالأقرب، وهو ما انتهجه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة؛ {فَلَا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} [الشعراء:213-215].
ومن هنا كانت أول مهمة تعهد إلى المسلم بعد نفسه مباشرة هي مسئوليته تجاه أهله وبيته وأولاده، بدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته، فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»(5)، فهذا الحديث المتفق عليه يعطينا أهمية هذه الرعاية، حيث بدأها بعموم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»، وختمها بالعموم: «فكلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته»، وفصل فيما بين ذلك بذكر أربعة: بذكر الإمام، والرجل على أهل بيته، والمرأة في بيت زوجها، والرجل في مال أبيه، وهذا كنموذج أو مثال لمن عليه رعاية، فيبين صلى الله عليه وسلم هذه الرعاية التي لها أهميتها.
«والرجل راع على أهل بيته، وهو مسئول عن رعيته»، أهل بيته: فأولاده من رعيته، ونساؤه وزوجاته من رعيته، وإخوته الذين تحت ولايته من رعيته، وكذلك من في ولايته من خدم أو نحوهم، كلهم داخلون تحت رعيته، وهو مسئول عنهم كلهم، وهؤلاء هم أسرة كل مؤمن غالبًا، ومسئوليته أنه يسأل: هل أهملهم أو أدبهم؟ الإهمال: هو الاشتغال بشهواته وبلهوه وسهوه، والإعراض عمن تحت يده، وعدم الاهتمام بإصلاحهم، وعدم تربيتهم التربية الصالحة، فإنه في هذه الحال إذا سئل لم يجد جوابًا؛ وذلك لأن كثيرًا من الناس لم يهتموا بهذه المسئولية، فنحب أن نفصل في هذه المسئولية؛ لعظم خطرها، فنقول: إن الناس تجاه المسئولية انقسموا إلى ثلاثة أقسام:
1- القائمون على أولادهم حق القيام:
القسم الأول: اهتموا بمن ولاهم الله تعالى، من أولاد ونساء ونحوهم، وأولوهم عناية تامة، وقاموا بما يجب عليهم، فعلموهم العلم النافع، ولم يتكلوا على المعلمين الذين يعلمونهم في مدارسهم، ابتدائية أو ما بعدها، عرفوا أن أولئك يعلمونهم القول، وأنهم بحاجة إلى التعليم بالفعل، فعلموهم بالفعل؛ وذلك لأن التعليم بالفعل قد يكون أبلغ من التعليم بالقول.
2- المنشغلون عن أولادهم، المهملون لرعايتهم:
أما القسم الثاني: فهم أهل الإهمال، وهم أناس اشتغلوا بدنياهم، وانشغلوا بملاهيهم وبسهوهم وغفلتهم، ولم يهتموا بأولادهم ذكورًا وإناثًا، ولم يشعروا بما يكون فيه الأولاد وما يحتاجونه، فهم معرضون عنهم، ولا شك أن هذا الإعراض يسبب ضررًا كبيرًا؛ وذلك لأن هؤلاء الأولاد إذا أُهمِلوا، ولم يكن هناك من يراقبهم، ولا من يحفظهم ويتولى أمرهم، فإنهم يدخلون في طريق الفساد؛ وذلك لكثرة المفسدين، وكثرة أهل الغواية الذين يجتذبون كل من وجدوه مُهْمَلًا إلى صفهم وإلى جانبهم.
3- الذين يجلبون الشر والفساد لأبنائهم :
القسم الثالث: الذين جلبوا لأولادهم الفساد بدلًا من أن يجلبوا لهم أسباب الصلاح، تنزلًا على رغبة السفهاء، والله تعالى قد نهى أن يؤتى السفهاء الأموال، فقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]؛ أي: لا تسلطوهم عليها فيفسدونها، فأهل هذا القسم جلبوا لهم ما يفسدهم، فإن الكثير والكثير قد جلبوا لأولادهم أشرطة الغناء الماجن، وكذلك امتلأت كثير من البيوت بهذه الأجهزة التي تتلقى القنوات الفضائية التي تبث الشرور، وتمثل الفواحش والمنكرات أمام الشباب والشابات، فكيف تكون حالتهم؟(6).
والحقيقة أن الثمرة المرجوة لنشأة البيت المسلم هي إيجاد الذرية الصالحة؛ {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] .
والولد يولد على الفطرة، فإن تهيأت له التربية السليمة كان صالحًا، وإن نشأ بين أبوين متناقضين أو منحرفين غدا بحسب ذلك، مصداقًا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»(7).
لهذا شدد الاسلام وأكد على حسن تربية الأولاد، وعلى توفير كل الأسباب والمقومات والأجواء والمناخات التي تحقق حسن التربية، فقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: من صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»(8).
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: «وشاب نشأ في عبادة الله»(9)، أي: نشأ في طاعة الله، حيث تولى تربيته والد صالح مصلح، يحب أن ينشأ أولاده على الخير، وأن ينشئوا على محبة الله وعلى محبة عبادته، فالوالد الذي يربي أولاده على الصلاة والزكاة، وعلى العبادات المحمودة التي يحبها الله تعالى، ينشأ ولده صالحًا، ويكون قرة عين لوالديه.
وإن من المؤسف أن نجد الكثير منا قد قصر في هذ المهمة عظيمة، التي قل فيها عطاؤنا، ولا ينقصنا العلم فيها، ولا تعوزنا الوسيلة المناسبة، لكن العجز، والتراخي، والتسويف، والكسل، والتذرع وراء المعاذير.
إنها إنذار العشيرة، ودعوة الأقربين، جاء القرآن داعيًا لها، وحاثًا عليها، وفي نصوص السنة النبوية، وأحداث السيرة النبوية ما يجليها ويؤكد أهميتها، لقد كانت ضمن أولويات دعوة المرسلين عليهم السلام .
إن مما يعيب الداعية أن يتحدث بالأمر من أمور الخير، وتكون عشيرته الأقربون أحوج الناس إليه، وأقل تطبيقًا له، أو يحذر عن شر قد تكون عائلته أكثر وقوعًا فيه، وكم رُزِئ الدعاة بأبناء، أو بنات، أو إخوة وأخوات، أو أهل لم يكونوا بمستوى التزام الآخرين، فضلًا عن أن يكونوا بمستوى ما يريده الدعاة للناس من حولهم.
إن اللوم على الداعية إذا انشغل بهداية الآخرين وأهمل الأقربين.
وكذلك المعلمون الذين يتولون تعليم الأطفال ونحوهم، هم مسئولون عن رعيتهم، فلا يكون هَمُّ أحدهم أن يمضي عدة ساعات في التطبيق أو في التدريس، ولا يشعر بما وراء ذلك؛ بل عليه أن ينصح لمن استرعاه الله تعالى، وهكذا يقال في المدراء ورؤساء المكاتب، ويقال أيضًا في المسئولين والأئمة والمعلمين، وكل من كان له ولاية على أمر فإنه مسئول عن ولايته، فعليه أن يحرص على أدائها كما أمره الله تعالى؛ حتى لا يكون مسئولًا سؤالًا لا يجد له جوابًا، أو لا يكون جوابه صوابًا.
إن المسئولية الملقاة على عواتقكم وعواتق الجميع مسئولية عظيمة، فاسعوا إلى التفقه في دينكم، ومعرفة كل ما يمكن معرفته؛ لتكونوا مسلحين بسلاح العلم، وسلاح الفقه، وسلاح المعرفة؛ حتى تكونوا مستعدين لما يجابهكم من صعاب، ومن دعوات مضللة، ومن مجهودات يرغب ويأمل أصحابها أن يأخذوا من هذا الدين، وأن يحطوا من قدره، وأن يهاجموه بكل ما أوتوا من قوة(10).
_____________
(1) ماذا يعني انتمائي للإسلام، فتحي يكن.
(2) التفسير القرآني للقرآن، عبد الكريم يونس الخطيب (9/896).
(3) أخرجه البخاري (2409)، ومسلم (1829).
(4) كيف نعزز المسئولية الشخصية في أنفسنا، موقع: معهد التنمية البشرية.
(5) رواه البخاري (2409)، ومسلم (1829).
(6) بتصرف من محاضرة: شرح حديث: «كلكم راع»، للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين.
(7) رواه البخاري (1385).
(8) رواه مسلم (1631).
(9) رواه البخاري (1423).
(10) دعائم التمكين، حمد بن حمدي الصاعدي، ص13.