الداعية وحسن المظهر
تكتسب هيئة الداعية ومظهره العام أهمية واضحة بين صفات الداعية، في أنها رسالة من الداعية إلى كل من يراه، لا سيما وأن ما يتعلق بأذهان الناس ليس مصدره السمع أو القراءة فقط؛ بل عن طريق المشاهدة أحيانًا، فهناك أغلبية من المجتمع تنظر إلى مظهر الداعية وهيئته، وقد يتأثر بها ويحكم على دعوته من خلال المظهر العام.
فنظافة الداعية وحُسن سمته ومظهره وذوقه الرفيع جزء أساس من واجبه في الدعوة، وقد رأينا في الناس مَنْ يَعْرض بضاعته الجيدة في مكان ليس حَسَنًا، لا تَرُوجُ فيه بضاعته، على جودتها؛ لأنه أساء إليها بوضعها في المكان غير المناسب.
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة»(1)، والمراد بالهدي هنا السيرة والهيئة والطريقة.
أهمية المظهر الحسن للداعية:
وتظهر أهمية ظهور الداعية بمظهر وهيئة حسنة فيما يلي:
أولًا:إن مظهر الداعية هو أول ما يواجه المدعوين، فأول ما ينطبع في الذهن شكل الداعية، حيث إن هيئة الداعية وجمال مظهره تجذب المدعوين؛ لأن النفوس جبلت على حب الجمال والمظهر الحسن.
ثانيًا: إن كثيرًا من المدعوين عندما يحدثهم الداعية عن مخالفات يقعون فيها يفتشون مباشرة في مظهره، وما يمكن أن يكون منه لأمر من أوامر الشرع، فمثلًا ينظرون إلى لباسه ومظهره العام، ومدى اتباعه لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا أنوه إلى أهمية صدق الداعية، الذي يظهر بوضوح في التزامه التام بتعاليم الإسلام في المظهر العام؛ لأن التزامه بمظهر حسن أدعى إلى قبول قوله.
ثالثًا: أدعى لقبول دعوته والاستجابة لها.
رابعًا: أن هذا كان حال إمام الدعاة وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الناس ريحًا، وأبهاهم منظرًا، قال أنس رضي الله عنه: ما مسست حريرًا ولا ديباجًا ألْين من كف النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شممت ريحًا قط أو عرفًا قط أطيب من ريح أو عرف النبي صلى الله عليه وسلم(2)، وأمر بتهذيب الشَّعْر فقال: «من كان له شعر فليكرمه»(3).
أي: يتعهده بالتسريح والترجيل والدهن، ولا يتركه حتى يتشعث ويتلبد؛ لكنه لا يُفْرِط في ذلك للنهي عن الترجل إلا غِبًا.
خامسًا: أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلًا يجد من نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع.
سادسًا: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين(4).
لقد كان الإمام مالك إذا أتاه الناس خرجت إليهم الجارية فتقول لهم: يقول الشيخ: أتريدون الحديث أم المسائل، فإن قالوا المسائل خرج إليهم فأفتاهم، وإن قالوا الحديث قال لهم: اجلسوا، ودخل فاغتسل، وتطيب، ولبس ثيابًا، وتلقى له المنصة، فيخرج إليهم وعليه الخشوع.
وهذا الفعل يعلمنا أن الداعية إذا كان رث الثياب قبيح الصورة فإن ذلك مما ينفر الناس منه، ولا يكون لكلامه أثر، وما أجمل أن يلتزم الداعية بالزي الذي يتميز به الدعاة عن غيرهم؛ فإن أثر ذلك فاعل ومشاهد، وهذا ما جاء الشرع بطلبه من تحسين الهيئة أو الشكل والنظافة، وسائر الأفعال التي تؤدي إلى التآلف بين الناس، ولا تنفر بعضهم عن بعض.
لذا فإحسان المظهر العام، في الملبس والشعر والرائحة والنظافة، عندما يحتسبها الداعية إلى الله، ويريد بها رفعة هذا الدين، وتمثيل الإسلام التمثيل التام، وإغاظة الأعداء الذين لا يسرهم رؤية المسلمين إلا أذلة، وقد هانت عليهم أنفسهم، وهان عليهم مظهرهم، فإذا قصد هذا القصد فهو مثاب عند الله، داع إلى الله بثوبه ورائحته وحسن شعره وحسن مظهره العام، والوسائل لها أحكام المقاصد، فكما أن القصد عال شريف، وهو الدعوة إلى الله، فكذلك الوسيلة هنا ترتفع لتلحق بالقصد(5).
فهل يُدْرِك هؤلاء الدعاة، وهم مُتلبّسون بعدم النظافة أو حسن المظهر أو الذوق الطيب الرفيع، هل يُدْرك هؤلاء كم يسيئون للدين بعملهم هذا؟ ألا يعلمون أن الناس إذا رأوا الداعية إلى الله المتصدّي لذلك أَحسنوا به الظن؛ حتى يتصوروا أن كل ما يأتيه فهو من الدين، وأنّ الناس إذا دُعُوا إلى شيءٍ نظروا له في شخص الداعي إليه؟! ومن هنا تأتي أهمية القدوة العملية والأسوة الحسنة.
إن هذا الصِّنف من الناس يحملون، في آن واحد، بعضَ ما ينفع الآخرين وبعض ما يؤذيهم، يحملون للناس شيئًا يهديهم، وهو الدين، هذا إن أصابوا فهمه، ويحملون شيئًا آخر ينفرهم من تلك الهداية، أو يدعوهم إلى الضلالة، وهو سلوكهم وأخلاقهم وأفهامهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا دخل المسجد ثائر شعر الرأس واللحية، فأشار إليه بيده الشريفة أن اخرج؛ أي: لإصلاح الشعر، ففعل الرجل ثم رجع، فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا خير من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان»(6).
ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا رث الثياب، فقال له: «هل لك مال؟»، قال: نعم، قال: «من أي المال؟»، قال: من كل المال أعطاني الله، فقال له صلى الله عليه وسلم: «فإذا آتاك الله مالًا فليُر أثر نعمة الله عليك وكرامته»(7)، إذًا: تحدث بنعمة الله سبحانه وتعالى، وأظهر هذه النعمة بأن تحسن ثيابك.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي، فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا»(8).
أما القول بأن الإسلام طلب من أهله أن يلبسوا الرث والمرقع والمقطع والمهلهل من الثياب، وأن ذلك من الإسلام فهذا افتراء على الدين، وتشويه حقيقي لصورة الإسلام، وإلحاق النقيصة به، في حين أنه دين يدعو إلى الطهارة والنظافة، ويربط الإيمان بالذوق والجمال.
بعض الناس يرى أن على الداعية أن يلبس لباس الفقراء! أو يلبس لباسًا من أوضع اللباس! وهذا ليس بصحيح، فإن الله عز وجل قد أحل الطيبات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى التجمل بقوله: «إن الله جميل يحب الجمال»(9).
فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما على أحدكم إن وجد أو ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته»(10).
وقد أمر صلى الله عليه وسلم بلبس البيض من الثياب، وكانت أحب الثياب إليه، وقال: «البسوا الثياب البيض؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم»(11).
وهذا كله يؤكد اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعتنى المسلمون عمومًا بالمظهر الخارجي، ولكن ينبغي أن يكون ذلك من غير إسراف أيضًا، حتى يصير اهتمامه الأكبر وهمه الأعظم الأناقة وحسن المظهر، وصدق من قال:
كن في أمورك كلها متوسطًا عدلًا بلا نقص ولا رجحان
عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعًا، وقد رأيته في حلة حمراء، ما رأيت شيئًا أحسن منه(12).
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر في طريق من طرق المدينة وجدوا منه رائحة الطيب وقالوا: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق(13).
وكان مصعب رضي الله عنه زهرة شباب قريش، وسيد الفتيان في مكة، وكان يضع على بدنه وثيابه أرقى أنواع العطور، فلما كان يمشي في طريق يقولون: مر من هذا الطريق مصعب بن عمير.
فالرسول صلى الله عليه وسلم علمنا النظافة، ومن ذلك أنه علمنا أن نستاك فقال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»(14)، وكان يستاك حتى في مرض موته عليه الصلاة والسلام، فقبل أن يتوفى بقليل كان يستاك عليه الصلاة والسلام، وعلمنا صلى الله عليه وسلم النظافة في كل شيء.
قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما القصد، والتؤدة، وحسن السمت، جزء من خمسة وعشرين جزءًا من النبوة(15).
الطهارة ضرورة دينية وحياتية:
قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، والطهارة هي الحالة المناسبة للتلقي من الملأ الأعلى، كما أنها ألصق شيء بطبيعة هذه الرسالة، وهي بعد هذا وذلك ضرورية لملابسة الإنذار والتبليغ، ومزاولة الدعوة في وسط التيارات والأهواء والمداخل والدروب، وما يصاحب هذا ويلابسه من أدران ومقاذر وأخلاط وشوائب، تحتاج من الداعية إلى الطهارة الكاملة؛ كي يملك استنقاذ الملوثين دون أن يتلوث، وملابسة المدنسين من غير أن يتدنس(16).
وقالصلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاثة: البراز في المورد، وقارعة الطريق، وفي الظل»(17).
يقول ابن الجوزي رحمه الله: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنظف الناس وأطيبهم، وكان لا يفارقه السواك، ويكره أن تشم منه ريح ليست طيبة، فهو عليه الصلاة والسلام كامل في العلم والعمل، فيه يكون الاقتداء، وهو الحجة على الخلق؛ بل إن بعض محترفي التدين يحسبون فوضى اللباس، وإهمال الهيئة، والتبذذ المستكره ضربًا من العبادة، وربما ارتدوا المرقعات والثياب المهملات، وهم على خير منها قادرون، ليظهروا زهدهم في الدنيا وحبهم للأخرى، وهذا جهل وخروج عن الجادة.
إنه لا يطيق الروائح الكريهة والأقذار المستنكرة إلا ناقص الفطرة وجمال الأدب، وإنما لبس المرقع من لبسه من السلف الصالحين لاستدامة الانتفاع بها، يوضح ذلك ويجليه الإمام أبو بكر بن العربي رحمه الله حين يقول: وما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه كان يرقع ثيابه إنما يفعله لاستدامة الانتفاع به، وذلك شعار الصالحين، حتى اتخذه المتصوفة شعارًا فجعلته في الجديد وليس بسنة؛ بل هو بدعة عظيمة، وإنما المقصود من الرقع هو الانتفاع بالثوب(18).
والدعاة إلى الله أولى الناس بامتثال واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هديه الظاهر وحسن المظهر، ومع هذا فإذا لم يكن باستطاعة الداعية فعل ذلك، فلا ينبغي له أن يكتم علمه ويتوقف عن الدعوة إلى الله؛ بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بعلم وبصيرة، وكم من داعية يعتبره كثير من الناس ليس أنيقًا، ولكنه أسر قلوبهم بعلمه ودعوته وحسن أخلاقه ومواعظه.
وقد يكون من المطلوب أن يكون الداعية متجملًا، متطيبًا، ويكون مجلسه وسيعًا، يستقبل فيه الأخيار البررة، وأن يكون له مركب طيب، فإن هذا لا يعارض سنة الله عز وجل، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بل عليه كذلك أن يكون له في كل حالة بما يناسبها.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتني بذلك، في صلاة الاستسقاء خرج في لباس متبذل قديم، يظهر الخشية والخشوع والفقر أمام الله عز وجل، ولكنه في الأعياد لبس بردة تساوي ألف دينار، خرج بها أمام الناس، أهديت له، قيمتها مائة ناقة.
ولكن على الداعية ألا يتشاغل بالدنيا تشاغلًا يثنيه عن طريقه، فإنه من الحسرة أن تجد كثيرًا من الدعاة، أو بعض المشايخ، أو بعض طلبة العلم، غارقًا إلى أذنيه؛ له من المؤسسات، وله من الشركات، وله من الدور، ما يشغله عن الدعوة!
التلازم بين طهارة الباطن والظاهر:
ومن دقق النظر في طبائع النفوس وأخلاق البشر رأى بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن، وطهارة الجسد واللباس، وطهارة النفس وكرامتها ارتباطًا وثيقًا وتلازمًا بينًا.
نعم، إن هناك تلازمًا بين شرع الله في اللباس والستر والزينة، وبين تقوى الله عز وجل في النفوس، فكلاهما لباس؛ فالتقوى لباس يستر عورات القلوب ويزينها، والثياب تستر عورات الجسم وتزينها.
من تقوى الله ينبع الحياء، الذي ينبت الشعور باستقباح عري الجسد والحياء منه، ومن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يكترث أن يتعرى أو يدعو إلى التعري.
ومن أجل هذا فإن ستر الجسد ليس مجرد أعراف وتقاليد، كما يزعم الماديون الهادمون لأسوار العفة والفضيلة، ولكنها فطرة الله التي فطر الخلق عليها، وشريعته التي أنزلها وكرم بها بني آدم.
فعناية الإسلام بالنظافة والتجمل والصحة والتطهر جزء من العناية بقوة المسلمين، إن المطلوب أجسامٌ تجري في عروقها دماء العافية، وتمتلئ أبدان أصحابها قوة وفتوة، فالأجسام المهزولة لا تطيق حملًا، والأيدي القذرة غير المتوضئة لا تقدم خيرًا، ورسالة الإسلام أوسع في أهدافها، وأصلب في كيانها من أن تحيا في أمة مريضة موبوءة عاجزة: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(32)} [الأعراف:31-32].
وهكذا يجب أن يهتم الداعية بمظهره الشخصي، وأن تكون حليته إيمانية، وأن يظهر الوقار والسكينة، وأن يلبس لباس أهل الخير، وأهل العلم، فإن لكل قوم لباسًا، ويمشي مشية أهل العلم، ويكون مظهره جميلًا، ويعتني بخصال الفطرة، كالسواك وتقليم الأظافر، وإعفاء اللحية، وأخذ الشارب، ويتعاهد باقي خصال الفطرة، وأن يكون متطيبًا، محافظًا على الغسل، يحافظ على مظهره، حتى يمثل الدعوة تمثيلًا طيبًا أمام الناس(19).
الفوائد الذاتية للطهارة الحسية:
أولًا:يفيد صاحبه نشاطًا وهمة، ويزيل ما يعرض لجسده من الفتور والاسترخاء بسبب الحدث، أو بغير ذلك من الأعمال التي تنتهي بمثل تأثيره، فيكون جديرًا بأن يقيم الصلاة على وجهها، ويعطيها حقها من الخشوع ومراقبة الله تعالى، ويعسر هذا في حال الفتور والكسل، والاسترخاء والملل، أو الحر والبرد.
ثانيًا: أن الوسخ والقذارة مجلبة الأمراض والأدواء الكثيرة، كما هو ثابت في الطب; ولذلك نرى الأطباء ورجال الحكومات الحضرية، يشددون في أيام الأوبئة والأمراض المعدية، بحسب سنة الله تعالى في الأسباب، في الأمر بالمبالغة في النظافة، وجدير بالمسلمين أن يكونوا أصلح الناس أجسادًا، وأقلهم أدواءً وأمراضًا; لأن دينهم مبني على المبالغة في نظافة الأبدان والثياب والأمكنة; فإزالة النجاسات والأقذار التي تولد الأمراض من فروض دينهم.
ثالثًا: تكريم المسلم نفسه في نفسه، وفي أهله وقومه الذين يعيش معهم، كما يكرمها ويزينها لأجل غشيان بيوت الله تعالى للعبادة، بهداية قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، ومن كان نظيف البدن والثياب كان أهلًا لحضور كل اجتماع، وللقاء فضلاء الناس وشرفائهم، ويتبع ذلك أنه يرى نفسه أهلًا لكل كرامة يكرم بها الناس، وأما من يعتاد الوسخ والقذارة فإنه يكون محتقرًا عند كرام الناس، لا يعدونه أهلًا لأن يلقاهم ويحضر مجالسهم، ويشعر هو في نفسه بالضعة والهوان.
والطهارة في الآية تشمل الأمرين معًا، كما تقدم، وكل منهما يكون عونًا للآخر، كما أن التنطع والإسراف في أي واحدة منهما يشغل عن الأخرى؛ وهذا هو سبب عدم عناية بعض الزهاد والعباد بنظافة الظاهر، وعدم عناية الموسوسين المتنطعين في نظافة الظاهر بنظافة الباطن، والإسلام وسط بينهما، يأمر بالجمع بين الأمرين منهما، وإن اشتبه ذلك على بعض المحققين حتى هونوا أمر نظافة الظاهر في بعض كتبهم، مع ذكرهم لأدلتها في تلك الكتب، ولأجل هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان»(20)، وذلك أن الإنسان مركب من جسد ونفس، وكماله إنما يكون بنظافة بدنه، وتزكية نفسه; فالطهور الحسي هو الشطر الأول الخاص بالجسد، وتزكية النفس بسائر العبادات هو الشطر الثاني، وبكلتيهما يكمل الإيمان بالأعمال المترتبة عليه(21).
قال ابن عبد البر:
فالتمس العلم وأجمل في الطلب والعلم لا يحـسن إلا بالأدب
والأدب النافـع حسن السـمت وفي كثير القول بعض المقت
فكن لحـسن السمت ما حـييتا مقـارفًا تحـمد ما بقيـتا(22).
تعلم السمت الصالح في العلم أفضل من تعلم العلم نفسه, فالسلف كانوا يتعلمون من شيوخهم هديهم قبل أن يأخذوا عنهم علمهم.
روى الخلال في أخلاق الإمام أحمد عن إبراهيم قال: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى صلاته
وإلى سمته وإلى هيئته، ثم يأخذون عنه.
وعن الأعمش قال: كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيء، حتى لباسه ونعليه(23).
______________________________________________________
(1) رواه البخاري في الأدب المفرد (791).
(2) رواه البخاري (3561).
(3) رواه أبو داود (4163).
(4) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية (1/92-93).
(5) مظهر الداعية، موقع هدي الإسلام.
(6) موطأ مالك (3494).
(7) رواه الترمذي (4063).
(8) رواه البخاري (902)، ومسلم (847).
(9) رواه مسلم (91).
(10) رواه أبو داود (1078).
(11) رواه أحمد ( 20152).
(12) رواه البخاري (5848).
(13) رواه البزار (7118).
(14) رواه البخاري (7240).
(15) رواه مالك في الموطأ (3508).
(16) في ظلال القرآن (المدثر: 4).
(17) رواه أبو داود (26).
(18) النظافة والزينة والتجمل، للشيخ صالح بن حميد، موقع: الشبكة الإسلامية.
(19) محاضرة فن الدعوة، عائض القرني.
(20) رواه مسلم (223)، من حديث أبي مالك الأشعري.
(21) تفسير المنار (المائدة: 6).
(22) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر القرطبي (1/146-147).
(23) الآداب الشرعية والمنح المرعية، لابن مفلح (2/149).