الداعية وضوابط الأخذ بالأسباب
إن قانون السببية من السنن التي وضعها الله تعالى في هذه الأرض، وترك الأخذ بالأسباب عند أهل العلم منقصة، وقد قيل: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، فالشرع أمر بالأخذ بها، والعقل الصحيح يثبت اعتبارها، لكن من يعتمد عليها وينسى مسببها، ويظن سببًا ما يستقل بالتأثير فقد أشرك بالله العلي القدير.
وجماع قول أهل السنة فيها يدور على ثلاثة أصول:
أحدها: ألا يجعل المرء سببًا إلا ما ثبت أنه سبب شرعًا أو قدرًا بالتجربة أو العقل الصحيح.
ثانيها: ألا يعتمد العبد عليها، بل يعتمد على مسببها ومقدرها، مع قيامه بالمشروع منها، وحرصه على النافع منها.
ثالثها: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره لا خروج لها عنه، والله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء؛ إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته؛ ليقوم بها العباد ويعرفوا بذلك تمام حكمته، حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها، وإن شاء غيرها كيف يشاء لئلا يعتمد عليها العباد وليعلموا كمال قدرته، وأن التصرف المطلق والإرادة المطلقة لله وحده، فهذا هو الواجب على العبد في نظره وعمله بجميع الأسباب (1).
فالاعتماد عليها اغترار، والأخذ بها لازم يقتضيه الحزم، قال ابن الزيات الوزير: لا يتصوّر لك التواني بصورة التوكل فتخلد إليه وتضيع الحزم، فإن الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه أمر بذلك؛ قال الله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]، فجعل التوكل بعد العزم، والمشورة قبله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الناقة: «اعقلها وتوكّل»(2).
وهذا خبر مشهور من حديث أنس بن مالك، وفيه قال الراوي: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رجل يا رسول الله، أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل» (3).
قال بعضهم: فما وجه التوكل بعد العقل؟ قيل: لأنه يعقلها ولم يستغن عن حفظها، فقد يحل العقال من أراد وينجو؛ وإنما أراد عليه السلام ألا تبقى على صاحبها بقيةٌ من أسباب النّدم ولا حال تبعث اللائمة عليه، ولكن يبلي العذر، وينتظر القدر، ويتبع الأثر والخبر (4).
فالتوكل مطلوب وبذل الأسباب مطلوب فمن رام أمرًا من الأمور ليس الطريق في تحصيله أنه يغلق بابه عليه ويفوض أمره لربه، وينتظر حصول ذلك الأمر، بل الطريق أن يشرع في طلبه على الوجه الذي شرعه له فيه، وأسوته في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.
فقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين في بعض مغازيه، واتخذ خندقًا حول المدينة حين تحزبت عليه الأحزاب يحترس به من العدو، وأقام الرماة يوم أحد ليحفظوا الأمة من جيش المشركين، وكان يلبس لأْمَة الحرب، ويهيئ الجيوش ويأمرهم وينهاهم لما فيه من مصالحهم، وتداوى وأمر بالمداواة، وكل ذلك من جملة أخذه عليه الصلاة والسلام بالأسباب.
أمور يجب اعتبارها:
أولًا: الأخذ بالأسباب أمر رباني وفريضة شرعية:
إن الله عز وجل -وهو الذي لا يعجزه شيء- قد جعل لنا في الكون أشياء نراها بأعيننا لنستبين أنه أخذ بالأسباب، مع أنه ليس بحاجة إليها؛ وما كان ذلك إلا للتعليم والتدريب والتربية للبشـر؛ فقد قال تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32]، فالله تعالى جعل الماء سببًا لإخراج النبات وثمراته، وقد ارتبط الماء بمسألة الحياة لكل مخلوق كما ورد في القرآن الكريم.
وتلك عقيدة المسلم في قضية الأسباب، قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] ولقد جاءت النصوص القرآنية الكريمة واضحة في التأكيد على قانون الأخذ بالأسباب وعِظَمِ ثمراته اليانعة، ومنها قوله تعالى: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت: 58]، وقد قرّر عدد من المفسرين بأنّ العاملين هنا هم: الآخذون بالأسباب الذين لا يتوقفون عن العمل ولكن يعتمدون ويعملون وهم متوكلون على الله عز وجل، ويقول سبحانه: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وفيها ما يدلل بوضوح على أن العزم والحركة والسعي والتخطيط جزء من التوكل على الله.
وأنّ المتوكّل حقًّا هو من أخذ بالأسباب لا مَن تواكَل وانتظر الفرج والرزق بدون حركة؛ خاصة وأن الله تعالى قد ربط بين السعي وبين الرزق، فقال في سورة المُلْك: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].
وفي قصة ذي القرنين -عليه سحائب الرحمات- يلاحِظ القارئ للآيات تكرار الثناء عليه بأخذه بالأسباب، قال تعالى في بداية قصته: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)} [الكهف: 84- 85]، ثم أتبع ذلك بقوله -بعد تحركه وسعيه- {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 89، 92].
ومما يدل على عظيم تلك القيمة -من خلال القرآن الكريم والتشريع الإسلامي- أنّ الله أمر بها في كل الأحوال والعبادات والسلوكيات؛ ومنها ما يأتي:
1- الأخذ بالأسباب يكون في أمور العبادة والقرب من الله تعالى، قال عزّ وجلّ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
2- في مقام الدعوة إليه، قال عزّ مِن قائِل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 129].
3- في مقام الفصل والقضاء بين المتخاصميْن، قال عزّ وجلّ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10].
4- في مقام مواجهة الأعداء، قال سبحانه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)} [آل عمران: 121- 122].
5- في مقام طلب الرزق، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)} [الطلاق: 2- 3].
6- في مقام الحذر والحيطة من أذى الآخرين ومِن الحسد، لاحظنا ما أمر به يعقوب عليه السلام أبناءه حين أرادوا العودة لمصر، قال لهم -كما حكى القرآن المجيد-: {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [يوسف: 67].
7- في مقام إبرام الاتفاقات المادية -أن الأخذ بالأسباب كتابة يكون أفضل، بل هو الشـرع-، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282]، وفي قصة الرجل الصالح في مدين مع نبي الله موسى عليه السلام، قال تعالى -على لسان الرَّجُل الصالح-: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْـرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}، فكان ردّ نبي الله موسى عليه السلام، بقوله: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 27- 28].
ثانيًا: الأخذ بالأسباب سنّة الأنبياء وسلوك الصالحين المصلحين:
فهذا نبيّ الله نوح عليه السلام يصنع سفينة لحمل المؤمنين معه ومن كل زوجين اثنين كما أمره الله، وأخذ بالأسباب مع عدم وجود الماء؛ ثقة في قدرة من كلّفه بذلك وأمره، ونجاه الله ومن معه على السفينة وما آمن معه إلا قليل، وقال ربنا: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13].
وتلك العذراء البتول مريم -عليها سحائب الرحمة وكمال الرضوان- تُؤمر بهز جذع النخلة -وهي المحمّلة بأثقال نفسية على إثر حملها بلا زوج- ثم يُطعمها الله ويسقيها لأنها أخذت بالأسباب فتحركت وسعَت وعوّضها الله.
وهذا نبيّ الله موسى عليه السلام يضرب البحر بعصاه؛ استجابة لأمْرِ ربه حين أمره، وجعلها الله سببًا لنجاته ومن معه من قومه حين صدّقوه -ولو كان تصديقًا مؤقّتًا- كما سبق أنّه أُمِر بضـرب الحجر بالعصا؛ لتنفجر عيون لقومه من باطن الحجارة، فضرب بعصاه، قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْـرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْـرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60]، فقد جُعل الضـرب بالعصا سببًا في تفجّر الماء.
وقصة الخضر عليه السلام مع نبي الله موسى عليه السلام واضحة في الكتاب المجيد؛ في مسألة خرق السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار نرى بعيوننا أثر الأخذ بالأسباب كما بيّنت آيات القرآن الكريم.
وهذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم عاش حياته كلها متوكلًا على الله حقًّا مع أخذه بالأسباب في كل مرحلة من مراحل حياته وتاريخها؛ ففي يوم الهجرة علّمنا بخطته المحكمة كيف يكون الأخذ بالأسباب، وفي غزواته صلى الله عليه وسلم وجدناه يخطط ويأخذ بالأسباب ويحدّد المهام ويوزّع الأدوار؛ أخذًا بالأسباب.
ثالثًا: الأخذ بالأسباب ضرورة بشرية:
إنّ الأمم التي تترنّم بالشعارات وحدَها دون أن تأخذ بالأسباب لتحقيق ما تصبو إليه لا يُكتب لها الريادة والتقدم، فلا يُكتب التقدّم لإنسان لمجرد أنه يحب التقدم والتفوق والريادة، كما لا تُكتب الصحة لمريض لمجرد أنه يتمنى من قلبه أن يُشفى ويُعافَى؛ وإنما يلزم محب التقدم أن يأخذ بالأسباب التي توصله لذلك، كما يلزم المريض أن يذهب لطبيب بشريّ يحقق من خلاله العافية بإذن من يعطيها مَن يشاء من عباده.
كذا لا يأتي الرزق لطالبه إلا بعد الحركة والسعي، قال صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» (5)، وعلى هذا فالأخذ بالأسباب ضرورة حياتية لمن أراد أن يحيا حياة كريمة، يحقق من خلالها أمانيه ومطالبه ورغباته.
وإن عدم الأخذ بالأسباب -في ظني- سبب لكثرة الضوائق التي يمر بها الناس اليوم.. وهو سبب للاتهام بالجهل والخبل؛ فإن رجلًا يزعم أنه يريد الشبع ولا يضع لقمة في فمه وبطنه متهمٌ بالخبل والجنون.
وإن مثل ما سبق يؤكّد أنّ العبد إذا قصر في الأخذ بالأسباب عوقب بحرمان الثمرة من وراء ما يطلب وما يسعى إليه دون حركة وأخذ بالأسباب، مع تعلقه برب الأسباب لا بالأسباب المادية والبشـرية وحدها.
رابعًا: الأخذ بالأسباب فطرةٌ في الحيوان والطير والحشرات:
إنّ المتأمّل في عالَم النمل يراها كحشرة تفكّر بكافة أبناء مجتمعها -بقانون الأخذ بالأسباب- في تأمين طعامها كل موسم من مواسم العام.. وهكذا عالَم النّحل الذي يُحسِن الأخذ بالأسباب في توظيف الطاقات داخل الخلية، ويستبعد أي متكاسل عن الأخذ بالأسباب من الخلية؛ حتى لا يُفسد العاملين والمجتهدين منهم.. وهكذا كثير من الحيوانات تأخذ بالأسباب في معيشتها.. والعجب أنها حيوانات عجماوات لا عقل لها -كما نعلم- لكنها تُدرك غاية وجودها من العبودية والتسبيح والعمل الجاد المنضبط، مصداقًا لقول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44].
وإن الطيور في أعشاشها لا تبقى ساكنة جالسة ماكثة تنتظر أن يأتيها غذاؤها؛ وإنما تبكّر في الذهاب لالتقاط رزقها ورزق أبنائها. والحديث السابق في قوله عليه الصلاة والسلام: «.. لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» إشارة إلى أنّ هذا العالَم العجيب من الحيوانات والطيور والحشـرات يأخذ بالأسباب متوكلًا على الله في ذات الوقت..
خامسًا: من ضوابط الأخذ بالأسباب:
1- الإخلاص لله تعالى في الأخذ بالأسباب، مع اليقين بأن من وراء الأسباب مسببها وهو الله تعالى؛ فلا بد من اليقين بأنه صاحب الكون والمُلْك والتحكّم في هذا الكون كله. فيلزم اليقين قدرته سبحانه، قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].
2- مشروعية الأسباب التي تأخذ بها للوصول للنتائج؛ فالغايات الشـريفة لا يصلح إلا الأسباب والوسائل النبيلة الشريفة. فالذي يريد أن يبني لله مسجدًا، لا يحل له أن يبنيه بمال مسروق أو مُغتَصَب، وهذا الذي يريد أن يترقّى في عمله ووظيفته، لا يحل له أن ينافق ويداهن مَن علاه في المنصب ليتزلّف من أجل المنصب الذي يريد.. فمع شرف الغاية لا بد من شرف الوسيلة والسبب الذي يأخذ به المسلم.
3- عدم الركون إلى القضاء والقدر- وحده- دون حركة وسعي؛ فهذا من الجهل الذي أوردنا المهالك وأخرجنا من العز إلى المذلّة والهوان. ولذا كانت الأوامر الإلهية واضحة -كما تعلم أخي الكريم- في الانتشار والسعي؛ فقد ورد في سورة الجمعة قوله سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِـرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
4- الأخذ بالأسباب يكون على قدْر كلّ فعل وعمل؛ مع مراعاة فقه الأولويات في الأخذ بالأسباب، ومراعاة مآلات الأمور، كأخذه صلى الله عليه وسلّم بسبب كتابة المعاهدة بينه وبين المشـركين يوم الحُديبية لنظره إلى المستقبل القريب والبعيد، وقد جاء النصر والفتح الكبير من وراء ذلك.
5- البعد عن المعاصي المعطّلة لثمرات الأخذ بالأسباب؛ فتزوّد العبد بالأسباب يلزمه التقوى، قال عز وجلّ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197]، وكمثل الذي يعمل ويعمل ثم هو يأكل حراما، فيرفع يديه للسماء يدعو، فأنّى يُستجابُ له!! ومما يؤكّد على ذلك ما ورد عند مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟» (6) (7).
تنبيهات للدعاة:
والداعية إلى الله تعالى من أولى الناس أخذًا بالأسباب، وفي هذه العجالة تنبيهات أوجهها لإخوتي الدعاة فيما يتعلق بالأخذ بالأسباب، أسردها فيما يلي:
أولًا: على الداعية أن يأخذ بسنن الله الكونية، وأن يعمل بالأسباب، وأن يلتزمها في كافة شأنه، وهو بذلك يشارك سائر عقلاء الناس، لكن قربه من الشريعة التي تربي المؤمن على ذلك أبلغ في تكليفه به والتزامه له.. ويقبح به أن يرى متواكلًا يسير سبهللًا يخالف دينه ويخالف العقل ثم يُقال: داعية! فذلك السلوك المشين مما يزهد الناس في دعوته وإن كانت حقًا.
ثانيًا: الأعمال الدعوية يجب أن تبذل فيها الأسباب الممكنة، وألا تترك تسير بالبركة كما يقولون، فكما أن صاحب التجارة يحرص على أسباب ربح تجارته وعدم كسادها فالداعية أحق بالحرص على رواج دعوته والنأي عن أسباب كسادها، وقد يجب عليه ذلك ويتعين فالشروع في الدعوة مما قد يعينها، وبذل الأسباب والجهود في إنجاحها من جملة القيام بالواجب، والتفريط فيها من جملة التفريط بالواجب، وقبيح بالمرء أن يحرص على كسبه الدنيوي، ثم يفرط في دين الله.
ثالثًا: يجب ألا يغلو الداعية في الأسباب، وألا يتكل عليها، وأن يعلم أن لها مسببًا يقدر ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأن عليه بذل ما أطاق، والسعي بقدر جهده، والله بعد ذلك ييسر ويبارك في القليل الموافق لشرعه، فلا ييأس ولا يحزن ولا يضيق صدره بالواقع من حوله إذا بذل وسعه دون تجاوز لحدود الشرع أو تنازل عنه.
رابعًا: على الداعية ألا يغفل عن الأسباب المعنوية؛ بل يعنى بها عناية خاصة، فهي سر نجاحٍ وسبب فلاحٍ محقق مجرب، والدعاة من أجدر الناس عناية بالأسباب المعنوية.. من الحرص على أسباب تقوية الإيمان، والذكر والاستغفار، وقراءة القرآن، والدعاء والصدقة وتنمية العبادات القلبية؛ بل والتفاؤل والتشجيع والتحفيز، وذلك على النطاق الفردي وعلى نطاق المؤسسة الدعوية، وفرق بين العمل في بيئة تشجع وتحفز، وتبث التفاؤل، وتعين على الذكر ولا سيما في مواسمه، وبين العمل في مؤسسة تقرع وتؤنب وتخذل وتخوف وتضيق على العاملين في مواسم الذكر والطاعة بحجة الانشغال بشؤون العامة.. فالأولى حري أن يبارك الله في جهود العاملين بها.
وكذلك الشأن في عمل المؤسسة ينبغي ألا تغفل البذل المعنوي إذا عدمت البذل المادي المحسوس تجاه بعض الأحداث والنوازل، وقد قيل:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
خامسًا: كما أنكر عمر رضي الله عنه على الحجاج المتواكلين؛ الذين قدموا للفرض بغير الزاد الذي أمر الله به ثم زعموا أنهم المتوكلون! وأنكر رضي الله عنه على بعض أجلة الصحابة ترك الأخذ بالأسباب بالفرار من الطاعون، فكذلك ينبغي أن ننكر على بعضنا، وأن يتواصى الدعاة بالحق في شأن الأسباب، فإذا رأينا من يمشي سبهللًا في دعوته، ويترك الأخذ بأسباب ظهورها فعلينا أن نوجهه ونفس التوجيه من جملة الأخذ بالأسباب في شأن الدعوة (8).
سادسًا: الاعتقاد التام بأن الضّارّ والنّافع هو الله وحده، وهو خالق الأسباب والمسببات، وهو من جعلها بحكمته مترابطة فيما بينها، وبعد ذلك على المؤمن ألا يتعلّق بشيء من الأسباب، فلا يلتفت قلبه إليها، بل تتجه إليها جوارحه وحسب، وعليه أن يتوسط في الأمر فلا يهمل أي سبب من الأسباب، ولا يبالغ فيها أيضًا إلا بما تقتضيه حدود المنفعة.
سابعًا: أن يعطي المرء كل غاية بحسبها؛ فالأخذ بالأسباب في الرزق ليس كالأخذ بالسبب في اتقاء المرض، واتخاذ الأسباب في الشيء الغالي الثمين يختلف بالتأكيد عن اتخاذ الأسباب بشيء رخيص، وفي أمر الدنيا يختلف عن أمر الآخرة، وهذا ما يعين المرء على التفضيل بين الأشياء بحسب مقتضى الحال، ثم إنّ المؤمن لا ينسى أنّ اتخاذ الأسباب يجب أن ينحصر في حدود ما شرع الله على عباده، وأنّ عليه دائمًا مراقبة نفسه وأفعاله ليقيس الأمور ويوازن بين حسن التوكل وبين الأخذ بالأسباب (9).
ولا بد أن يوجد ارتباط حقيقي بين السبب والمسبب، ويعرف ذلك بالتجربة، أو العادة، أو الخبر الشرعي، ونحو ذلك.
ثم لا بد أن يكون السبب مشروعًا؛ فالغاية المحمودة المشروعة، لا بد أن تكون الوسيلة إليها أيضًا: جائزة مشروعة.
ثم على العبد أن يتوسط في أمره بين الأمرين: فلا هو بالذي يهمل الأسباب مطلقًا، ولا هو بالذي يتعلَّق قلبه بها، إنما يتوسل بها، كما يتوسل الناس، في عاداتهم، وأمور حياتهم، ثم لا يتعلق قلبه بالسبب، بل بالخالق جل جلاله، مالك الملك، ومدبر الأمر كله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الالتفات إلى السبب: هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والاستناد إليه، وليس في المخلوقات ما يستحق هذا، لأنه ليس مستقلًّا، ولا بد له من شركاء وأضداد، ومع هذا كله: فإن لم يسخره مسبب الأسباب، لم يسخر (10).
وأما ضابط الأخذ بالسبب في ذلك، فهو في كل شيء بحسبه، فالاحتياط للمرض الخفيف -مثلًا- ليس كالاحتياط للمرض الشديد، والاحتياط في المحافظة على الشيء الغالي القيمة، الثمين، ليس كالاحتياط في المحافظة على الشيء الزهيد القيمة، وهكذا.
والأخذ بالسبب في طلب الرزق، يختلف عن السبب لدفع المرض، والأخذ بالسبب للطعام والشراب، ليس هو كالأخذ بالسبب في حصول الولد، وصلاحه وتربيته، وهكذا فسبب كل شيء: هو بحسبه، ثم الضابط في تمييز حال المفرط المضيع، من حال الكيِّس الحريص: يختلف من أمر لأمر، ومن حال لحال، ومثل ذلك يعرفه الناس من أنفسهم، ومن معتاد أحوالهم (11).
-----------
(1) القول السديد شرح كتاب التوحيد ط النفائس (ص: 43).
(2) البصائر والذخائر (7/ 125).
(3) أخرجه الترمذي (2517).
(4) البصائر والذخائر (7/ 223).
(5) أخرجه أحمد (205).
(6) أخرجه مسلم (1015).
(7) الأخذ بالأسباب بين النظرية والتطبيق/ موقع الجمعية الشرعية الرئيسية.
(8) الداعية وأخذ الأسباب/ موقع مقالات إسلام ويب.
(9) هل الأخذ بالأسباب ينافي التوكل/ سطور.
(10) مجموع الفتاوى (8 /169).
(11) ضوابط الأخذ بالأسباب/ الإسلام سؤال وجواب.