الدعوة الصامتة
لقد كان من أسباب انتشار الإسلام المعاملة الحسنة التي يتميز بها المسلمون، الذين تربوا على تعاليم القرآن الكريم، وعلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث وصل الدين الإسلامي إلى مناطق كثيرة، في الشرق والغرب؛ نتيجة المعاملة الحسنة، عن طريق التجار المسلمين، الذين كانوا دعاة خير وسلام، كما يذكر لنا المؤرخون أن التجار هم الدعاة، وما كانت التجارة لديهم إلا وسيلة للسفر والاتصال بالناس؛ كي يدعوهم إلى عبادة الله.
فإن كنت لا تستطيع التواصل مع الناس والحديث بلغتهم، فإن دعوتك لهم تكون باستقامتك في خاصة نفسك، فلا يرونك مخالفًا لشريعة الإسلام التي تدعو إليها، وكم من داعية صامت دخل الناس في الإسلام بسببه.
قال الإمام الشافعي: من وعظ أخاه بفعله كان هاديًا.
فالدعاة الصامتون أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم ناطقة بما يدعون إليه؛ بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أي كلمة وأي بيان.
ومن الناس من دخل في الإسلام، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه، والسيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام، وأعلنوا متابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوه من المواقف.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا رءوسهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا بدنهم، وما كان أولئك الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بالذين هم يتلكئون عن الاستجابة لأمره، وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم وطاعته، لكن لم يكن ذلك الأمر أبلغ من حاله صلى الله عليه وسلم حين خرج وحلق شعره صلى الله عليه وسلم، ونحر بُدنه أمام الناس، فكان ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم رسالة للناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم.
وها هم جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أهل مكة برسالة مع عروة بن مسعود، فيرجع مشدوهًا إلى أصحابه يحدثهم بما رأى، وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان، يرجع إلى أصحابه يقول: لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله، إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدًا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيمًا له.
من مزايا الدعوة الصامتة أنها أعظم إجابة على شبه المضلين والمفسدين، وهي أيضًا أعظم إجابة كانت على تلك الفرية التي أطلقها كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بأنه صابئ وأنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، واتهموه بما اتهموه به صلى الله عليه وسلم، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم، فحين تكون حال هؤلاء حالًا صادقة للناس، وحالًا واضحة للناس تكون هذه أعظم إجابة على كذب أولئك وإفكهم(1).
نعوت الداعية الصامت:
1-البصيرة في الدين:
إن الداعية إلى الله سبحانه بدون بصيرة كحاطب ليل، وقد يفسد أكثر مما يصلح؛ لذلك كانت الدعوة إلى الله على بصيرة هي شعار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومن سار على دربه، يقول الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
إن الداعية إلى الله سبحانه على غير بصيرة كمن يريد أن يقيم ظلًا أعوجَ لأصل معوج، أو يحرث في صخر أو يكتب في بحر؛ لأنه لا يدري بماذا يدعو، ولا من يدعو، ولا إلام يدعو، وقد ينفع الله سبحانه بطائفة من هؤلاء الدعاة إن أخلصوا، واقتصروا على ما علموا.
إن الداعية إلى الله سبحانه، المتلفع بجلباب العلم النافع، هو الذي يترك أثرًا لا تمحوه الأيام، يترك آثارًا بارزة للعيان في نفوس مخالطيه ومعاشريه؛ لأنهم يرون الإسلام متمثلًا في صورة بشر، يخالطهم ويؤاكلهم ويشاربهم!
وهذه هي صفة الداعية الأول عليه الصلاة والسلام، فقد كان قرآنًا يمشي على وجه الأرض، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن»(2).
فالداعية صاحب البصيرة يستفيد الناس من معاشرته، وإن لم يقصد إفادتهم، فما يصدر عنه من تصرف ذي بال إلا وفي قرارة نفوسهم أنه لم يفعل ذلك إلا لشرع أمره أو نهاه، بخلاف الداعية الجاهل؛ فالناس يعرفون المدى الذي يصل إليه، وأنه لا يسبر أفعاله بمسبار الشرع.
ولا نعني بـ(البصيرة في الدين) أن يبلغ مرتبة الشافعي مثلًا، وإنما القدر الذي يعرف به ما يسوغ له فعله وما لا يسوغ من أمور حياته.
2- الزهد فيما أيدي الناس:
إن الزهد فيما في أيدي الخلق وعدم التطلع له من أعظم ما يؤثر في المدعوين؛ فهم يوقنون أن هذا الداعية لا يبغ الدنيا وزخارفها، فهي أحقر وأهون عنده من أن يبذل الدين، بتصنعه إياه، لنيل لعاعة منها؛ فحينها ينصب عليه القبول من الخلق، وقبلهم من الخالق سبحانه، فيؤثر في المدعوين تأثيرًا لا يبلغه من أشحب صوته أمرًا ونهيًا، أو قضى يومه نصحًا وزجرًا، إلا أن يشاء الله.
وهذا الخلق السامق قد أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته الجامعة لأحد أصحابه بقوله: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس»(3).
قال المناوي رحمه الله في شرح هذا الحديث: «وازهد فيما عند الناس» منها «يحبك الناس»؛ لأنّ طباعهم جبلت على حب الدنيا، ومن نازع إنسانًا في محبوبه قلاه، ومن تركه له أحبه واصطفاه(4).
وهذا كلام في غاية الروعة؛ فإن الناس قد عشقوا الدنيا إلا من رحم الله، ومن رحمهم الله ليسوا محلًا لدعوة الداعية إلا نادرًا، وإنما المقصودون بها أصالة هم أولئك الذين خالطت الدنيا شغاف قلوبهم، وامتزجت بدمائهم، وتعلقت بها أفراحهم وأتراحهم، وولاؤهم وبراؤهم.
فالحاصل: أن التطلع إلى ما في أيدي الخلق ينفرهم عادة من المتطلع، بغض النظر عما يحمل بين أروقته من مفاهيم وأفكار؛ فالداعية المتميز ينأى بنفسه عن ذلك.
3- التحلي بمحاسن الأخلاق:
الداعية بلا خلق كالشجر بلا ثمر، والضرع بلا لبن، فهل منهما يا ترى من نفع؟ وذلك أنه قد يحمل علمًا وهمة وحماسًا لكن ينقصه حسن الخلق، فيعكس صورة سلبية قاتمة عن دين الله سبحانه لدى من يرجى هدايته واستقامته، ويكون نفعه محصورًا غير متعد.
ومحاسن الأخلاق وإن كانت مطلوبة شرعًا من كل مسلم، إلا أنها تزداد تأكيدًا في حق من نصب نفسه داعية إلى دين الله، أو موقعًا عنه أحكامه، وكم ينفطر الفؤاد كمدًا، وتدمع العين حزنًا، عندما نعاشر قومًا من أهل العلم، قد انتصبوا للفتيا وتعليم الناس الخير، ثم يبدو منهم قصور باد للعيان في هذه القضية.
وما أحسن ما قاله ابن القيم عليه رحمة الله: ليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار؛ فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس(5).
وقد كان إمام الدعاة وقدوتهم صلى الله عليه وسلم أحسن الناس أخلاقًا، أَسَرَ أقوامًا من الكفار بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، فليكن لنا فيه أسوة حسنة.
والدلالات على هذا الأمر في سيرته صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، أبرزها، فيما يبدو لي، ما رواه أنس رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فجبذه أعرابي بردائه جبذة شديدة؛ حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد، احمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك؛ فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «المال مال الله، وأنا عبده»، ثم قال: «ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟»قال: لا، قال «لم؟»، قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير وعلى الآخر تمر(6).
وقالت عائشة رضى الله عنها: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من مظلمة ظلمها قط، ما لم تكن حرمة من محارم الله، وما ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادمًا ولا امرأة.
وجيء إليه برجل، فقيل: هذا أراد أن يقتلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لن تراع، لن تراع، ولو أردتَ ذلك لم تسلط علي»(7).
فليكن لك، أيها الداعية، فيه صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، وكن هينًا لينًا مع إخوانك المسلمين، تستقبلهم بالبشاشة والبشر، تحب لهم الهداية والاستقامة كما تحبها لنفسك، تنظر إلى عاصيهم ومقصرهم فيزداد قربك منه، وتوددك إليه؛ إشفاقًا عليه أن تدركه المنية وهو على ما يغضب ربه سبحانه.
مر أبو الدرداء رضي الله عنه برجل قد أصاب ذنبًا وكانوا يسبونه، فقال لهم: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي(8).
4- الترفع عن مواطن التهم:
ينبغي للداعية إلى الله سبحانه أن ينأى بنفسه عن مواطن التهم، فلا يجعل عرضه مرتعًا لكل سفيه ومتكلم، يعبث به كيف شاء؛ بل يدفع عن نفسه التهمة أو ما يظن تهمة بكل ما يستطيع؛ لأن اتهامه بالسوء معناه إحراق لشخصيته الدعوية، فلا يقبل منه نصح؛ فيكون مهما أتعب نفسه كصائح في واد أو نافخ في رماد، إلا أن يشاء رب العباد.
وقد كان إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الناس وأنزههم، ينأى بنفسه عن ذلك؛ فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المسجد وعنده أزواجه فَرُحْن، فقال لصفية بنت حيي: «لا تعجلي حتى أنصرف معك»، وكان بيتها في دار أسامة، فخرج النبي صلى الله عليه و سلم معها، فلقيه رجلان من الأنصار، فنظرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجازا، وقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: «تعاليا، [ولمسلم: على رسلكما] إنها صفية بنت حيي»، قالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: «إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم، وإني خشيت أن يلقي في أنفسكما شيئًا»(9).
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في شرح الحديث: وفيه دليل على التحرز مما يقع في الوهم نسبة الإنسان إليه مما لا ينبغي، وقد قال بعض العلماء: إنه لو وقع ببالهما شيء لكفرا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد تعليم أمته، وهذا متأكد في حق العلماء ومن يقتدى بهم؛ فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلًا يوجب ظن السوء بهم، وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك تسبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم(10).
5- تفقد أحوال المدعوين وقضاء حوائجهم:
مما لا شك فيه أن المرء عندما يجد من يشاركه أفراحه وأتراحه تزداد رقعة القبول له في القلب، وهذه سنة ماضية في الخلق.
فالداعية الساعي في تفريج هموم الناس، وقضاء حوائجهم، يريدون عادة مقابلته بالمثل، وأعظم حاجة عند الداعية تقضى هي هداية الخلق إلى دين الله سبحانه؛ حتى يكتبوا في رصيده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، غير أنه لا ينقص من أجورهم شيئًا»(11).
فكن أيها الداعية مسارعًا في قضاء حوائج الخلق، وكن في عونهم حتى يكون الله في عونك، فإن فعلت فقد سلكت أخصر الطرق الموصلة إلى قلوبهم، فتأسرها، وتلقمها ما شئت، فاتق الله فيها(12).
مجالات الدعوة الصامتة:
المجال الأول: القدوة والأسوة الحسنة:
وقد مر معنا نماذج كثيرة من ذلك، أظن أننا لسنا بحاجة إلى إعادتها.
المجال الثاني: التفوق في مجالات الحياة المختلفة:
حين يكون المتدينون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة، هم المتفوقون في دراستهم، وهم المتفوقون في ميادين العمل، وهم العاملون الصادقون المخلصون، ويرى الناس أنهم حين يدخلون ميدانًا من الميادين فهم المتفوقون فيه، وهم البارزون فيه، إن هذا يعطي الناس دلالة على صدق هؤلاء، وأن حال هؤلاء وإخلاصهم وصدقهم ليس قاصرًا على ميدان من الميادين؛ بل ها هم يثبتون للناس أنهم ومع انشغالهم بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومع انشغالهم بتعلم العلم الشرعي، مع انشغالهم بواجبات شرعية لم يشغل بها غيرهم، فهم مع ذلك كله قد تفوقوا في سائر ميادين الحياة.
إن الأعداء اليوم يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لمشكلات اقتصادية، أو عقد نفسية واجتماعية، يعاني منها أولئك المتدينون، أما حين يكون هؤلاء المتدينون هم المتفوقون في ميادين الحياة ومجالاتها، وحين تمتد هذه الصحوة لتشمل طبقات الأثرياء والمثقفين ثقافة حديثة معاصرة، كما يقول البعض، فإن هذا يمثل أعظم رد للمتدينين يبين كذب ما يدعيه أولئك الأعداء.
المجال الثالث: الإحسان إلى الناس:
وتقديم الخير لهم، وتبني قضاياهم.
لقد كان صلى الله عليه وسلم، كما حكت عنه زوجه خديجة رضي الله عنها، يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان صلى الله عليه وسلم يكسب المعدوم، ويشفع للناس، ويحسن إليهم.
جاء صلى الله عليه وسلم إلى بريرة يسألها أن تعود إلى زوجها، فتسأله صلى الله عليه وسلم: أهو آمر صلى الله عليه وسلم أم شافع؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إنه شافع، فتقول: لا حاجة لي فيه.
لقد اتسع هذا القلب الرحيم صلى الله عليه وسلم ليشفع في هذه القضية الزوجية، وليشفع لهذا الرجل الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الشفاعة، فيشفع صلى الله عليه وسلم لدى امرأة، كانت أمة من الإماء، أن تعود إلى زوجها.
إن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأسوة الحسنة للناس من بعده، يرسم لنا هذه القدوة والأسوة أن نحسن إلى الناس، وأن نسعى في تبني قضايا الناس، أيًا كانت هذه القضايا، وهذا الهدي لم يكن خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ بل كان هديًا للأنبياء من قبله، فها هو يوسف عليه السلام يقول له صاحباه في السجن: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]، فقد رأيا فيه صلى الله عليه وسلم الإحسان إليهما.
إن تبني الصالحين والدعاة إلى الله عز وجل الإحسان إلى الناس، وتقديم الخير لهم هو تأسٍ بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو أيضًا تعرف إلى الناس، فيعرف الناس أن هؤلاء جادون صادقون مخلصون، وأن هؤلاء خير لهم من أولئك الذين يتاجرون بقضاياهم.
المجال الرابع: كظم الغيظ:
والتنازل عن الحظوظ والحقوق الشخصية، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ويقول تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، ويقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:39-40]، ثم يقول تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، ويقول تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، ثم يقول تبارك وتعالى في أوصافهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
وها هو أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم يقول: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبيًا من الأنبياء آذاه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(13).
المجال الخامس: الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح:
في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفدًا من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له»، فبعثت له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يُصدوا عن البيت(14).
حين رأى هؤلاء يلبون، ورأى البدن شعر أن هؤلاء إنما جاءوا عمارًا لبيت الله تبارك وتعالى، وأنهم لم يأتوا محاربين لقريش، فرجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.
المجال السادس: العاطفة الصادقة المتوقدة في نفس الداعية:
وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه، ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع في سلوكه وفي قسمات وجهه، فيقرؤها كل من يراه لتترك في نفسه أثرًا يفوق ألف خطبة وألف محاضرة، ويشعر الناس وهم يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم والنقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص للمرء أن يقال فيه: إنه عاطفي أو متحمس، وربما صار ذم هذا النوع من الناس مهربًا للبعض، الذي قد تبلد حسه تجاه المنكرات، وتجاه مصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو يشكى إليه الحال يتنهد قائلًا: إن الأمور لا تعالج بالعواطف، ولا تعالج بالحماس.
نعم، إن الإغراق في العواطف مرفوض، والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر.
ولعل سائلًا يتساءل: هل خلق الله تبارك وتعالى هذه العواطف الجياشة عند الناس عبثًا؟ لم يعد يقبل أهل الطب والعلم اليوم أن يكون هناك عضو من أعضاء الإنسان لا يؤدي دورًا، فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى عامة الناس، والتي تمثل وقودًا لأعمال ومواقف شتى يقوم بها المرء، كيف يكون ذلك كله عبثًا لا فائدة منه، ويذم المرء حين يتصف به؟ إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون فيعملون أعمالًا لم يحسبوا لها حسابًا، والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنضبط، فإننا لا نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم، وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تنحر، ويرون الكفر يعلن صراحًا في هذه الأمة، ويرون الأمة يسعى إلى إخراجها من دين الله كما كانت تدخل في دين الله أفواجًا، إن أولئك الذين يرضون بالسكوت والقعود، ولا يزيدون على الحوقلة، أولئك أيضًا قد ارتكبوا منكرًا آخر لا يقل عن منكر أولئك؛ ألا وهو منكر السكوت والقعود عن الحق.
إن الصادق أيها الإخوة الذي يغضب لله عز وجل، والذي يغار على حرمات الله تبارك وتعالى، والذي تكون حاله كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يتناشدون الشعر، فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه، فكانت حالهم كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يغضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.
إن هذه الأحوال أيها الإخوة أعظم قدوة وأسوة لنا؛ لأن نتأسى بها فنملك العاطفة المنضبطة، والحماس لدين الله تبارك وتعالى، وتلك العاطفة أيضًا التي يملكها أولئك الذين ترق أفئدتهم ويحزنون حينما يرون فقيرًا معوزًا يتيمًا، أو أولئك الذين يرون مسلمًا يظلم، أو يموت جوعًا، أو يقتله البرد ولم يجد ما يكفيه، إن أولئك الذين يتفاعلون مع هذه العاطفة أو تلك، ويرى الناس هذا الواقع على أحوالهم وعلى قسمات أوجههم، إنهم يتركون أثرًا أعظم بكثير من أثر أولئك الخطباء.
المجال السابع: المواقف المتميزة:
التي تشكل صدى لدى معاصريها ومعايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة وضياءً للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة، فستجد عبارات الأمر بالصبر والوصية به، والأمر بالثبات على المبدأ وعلو شأن القضية عند أصحابها، لكن ذلك لن يكون مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم في الصبر على البلاء ومواجهة الأذى والمضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمعين ما يردده الخطباء والمتحدثون من صور صبر بلال وعمار، وتضحية ياسر وسمية، وتحمل خباب وصهيب، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور لأولئك الذين صبروا على الفتنة والمحنة، إنك تجد أقوالًا لأولئك في الأمر بالعبادة والاجتهاد في طاعة الله تبارك وتعالى، لكن هذه الأقوال لن تترك في نفسك أثرًا أعظم من أثر سير القوم حين تقرؤها وتتمعنها.
وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرؤها المعاصرون، فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم(15).
كان سليمان الندوي، أحد العلماء المعروفين في الأوساط العلمية بالهند، مسافرًا يومًا عن طريق القطار، فتفاجأ أن التقى بالجناح نفسه بالكاتب والشاعر الهندي المعروف تيكور، وبينما كانا يتحاوران أمام ثلة من كبار الشخصيات من غير المسلمين، عندها طرح أحد المشارکین في الحوار سؤالًا إلى السيد سليمان الندوي: لماذا لا ينتشر الإسلام حاليًا بقدر ما انتشر في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين؟ نظر السيد سليمان الندوي إلى تيكور وكلفه الإجابة على هذا السؤال: فأجاب هذا الشاعر الهندي المعروف بإجابة تجدر أن تكتب بماء الذهب، قال: كانوا ليسوا بحاجة إلى مراجعة المكتبات الإسلامية للتعرف على صدق الإسلام عندئذ؛ بل كانوا يعتنقون الإسلام بالنظر إلى المسلمين وحياتهم(16).
جاء في كتاب أحكام الذمة لابن القيم أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كتب إلى عدي بن أرطأة: «أما بعد: فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام، واختار الكفر عتيًا وخسرانًا مبينًا، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحًا لمعاشر المسلمين وقوة على عدوهم، ثم انظر مَن قبلك من أهل الذمة قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه.
فلو أن رجلًا من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق؟ وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم ضيعناك في كبرك، قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه»(17).
كن أنت ما تدعو إليه, اجعل من يراك يتمنى أن يكون مثلك, لا تحدثه عن الإيمان، اجعله يستشعره من النور الذى يضيء وجهك, لا تحدثه عن العقيدة واجعله يعتنقها بثباتك, لا تحدثه عن العبادة واجعله يراها أمام عينيه, لا تحدثه عن الأخلاق واجعله يحبها منك .
***
______________
(1) الدعاة الصامتون، محمد الدويش.
(2)رواه أحمد (24601).
(3) رواه ابن ماجه (4102).
(4) التيسير بشرح الجامع الصغير، للمناوي (1/287).
(5) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (4/200).
(6) الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض (1/225).
(7) المصدر السابق (1/226).
(8) التبصرة، لابن الجوزي (2/286).
(9) رواه البخاري (2038).
(10) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام، لابن دقيق العيد (1/296(.
(11) شرح النووي على مسلم (16/227).
(12) الداعية الصامت، موقع: رسالة الإسلام.
(13) رواه البخاري (3477)، ومسلم (1792).
(14) رواه البخاري (2731).
(15) الدعاة الصامتون، محمد الدويش.
(16) الدين المعاملة، موقع: كن داعيًا.
(17) الأموال، لابن زنجويه، ص169.