logo

فماذا بعد الحق إلا الضلال


بتاريخ : الأحد ، 30 محرّم ، 1441 الموافق 29 سبتمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
فماذا بعد الحق إلا الضلال

الضلال في لغة العرب: مصدر قولهم: ضل يضل، وهو مأخوذ من مادة (ض ل ل) التي تدل على ضياع الشيء وذهابه في غير حقه، وكل جائر عن القصد ضال.

وأما إطلاق الضلال في الشرع فيكون بمعنى الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر، وعن طريق الحق إلى الباطل، وعن طريق الجنة إلى النار، ومنه قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، ومنه قوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ} [الواقعة:92].

والإضلال في القرآن على وجوه كثيرة لأدلة دلت عليه، فورد والمراد به الإغواء في قوله تعالى إخبارًا عن إبليس: {لأُضِلَّنَّهُمْ}؛ أي: لأصرفنَّهم عن طريق الهدى(1)، وكذلك في قوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس:62] يعني أغواهم، ومثله: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} [الصافات:71] يعني غوى.

وورد والمراد به الصد في قوله تعالى: {لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوك} [النساء:113] أي يصدونك، ومثله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} [ص:26] أي يصدك، وورد والمراد به الخسارة، وهو قوله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25]؛ أي في خسارة، ومثله قوله: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:24]، يعني في خسارة، ومثله {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8]؛ أي في حبه ليوسف وتقديمه علينا، ولم ينسبوه إلى الضلال عن الدين، وورد في القرآن والمراد به الشقاء والعناء، وهو قوله تعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} [الملك:9] يعني في شقاء وعناء.

وورد والمراد به الخطأ، وهو قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44]، ومثله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:42] يعني أخطأ طريقًا.

وورد والمراد به النسيان، وهو قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282]؛ أي تنس إحداهما.

وورد والمراد به إبطال العمل، وهو قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] أي أبطل أعمالهم، ومثله قوله: {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:4] ومثله قوله: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:104] يعني بطل عملهم في الحياة الدنيا.

فإذا تقرر هذا فلا يجوز أن يحمل كل إضلال للعباد ورد في القرآن على غير ضلال عن الدين بغير دليل؛ لا سيما الإضلال المقابل بالهدى.

ولفظ الضلال إذا أطلق تناول من ضل عن الهدى، سواء كان عمدًا أو جهلًا، ولزم أن يكون معذبًا كقوله: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)} [الصافات:69-70]، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67- 68]، وقوله: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه:123]، ثم قد يقرن بالغي والغضب، كما في قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]، وفي قوله: {غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7]، وقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47].

النصارى أخص بالضلال من اليهود:

ما وجه تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى، مع تلازم وصفي الغضب والضلال؟

فالجواب أن يقال: هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى، فإن كل مغضوب عليه ضال، وكل ضال مغضوب عليه، لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها، وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما، وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن، والنصارى بالضلال، فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع.

أما اليهود فقال تعالى في حقهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [البقرة:90]، وفي تكرار هذا الغضب هنا أقوال:

أحدها: أنه غضب متكرر في مقابلة تكرر كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، والبغي عليه ومحاربته، فاستحقوا بكفرهم غضبًا، وبالبغي والصد عنه غضبًا آخر، ونظيره قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل:88]، فالعذاب الأول بكفرهم، والعذاب الذي زادهم إياه بصدهم الناس عن سبيله.

القول الثاني: أن الغضب الأول بتحريفهم وتبديلهم وقتلهم الأنبياء، والغضب الثاني بكفرهم بالمسيح.

القول الثالث: أن الغضب الأول بكفرهم بالمسيح، والغضب الثاني بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

والصحيح في الآية: أن التكرار هنا ليس المراد به التثنية التي تشفع الواحد؛ بل المراد غضب بعد غضب، بحسب تكرر كفرهم وإفسادهم، وقتلهم الأنبياء وكفرهم بالمسيح وبمحمد صلى الله عليه وسلم، ومعاداتهم لرسل الله، إلى غير ذلك من الأعمال التي كل عمل منها يقتضي غضبًا على حدته، وهذا كما في قوله: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ (4)} [الملك:3-4]؛ أي كرة بعد كرة لا مرتين فقط.

وقصد التعدد في قوله: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} أظهر، ولا ريب أن تعطيلهم ما عطلوه من شرائع التوراة وتحريفهم وتبديلهم يستدعي غضبًا، وتكذيبهم الأنبياء يستدعي غضبًا آخر، وقتلهم إياهم يستدعي غضبًا آخر، وتكذيبهم المسيح وطلبهم قتله، ورميهم أمه بالبهتان العظيم يستدعي غضبًا، وتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم يستدعي غضبًا، ومحاربتهم له وأذاهم لأتباعه يقتضي غضبًا، وصدهم من أراد الدخول في دينه عنه يقتضي غضبًا، فهم الأمة الغضبية، أعاذنا الله من غضبه، فهي الأمة التي باءت بغضب الله المضاعف المتكرر، وكانوا أحق بهذا الاسم والوصف من النصارى، وقال تعالى في شأنهم: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة:60]، فهذا غضب مشفوع باللعنة والمسخ، وهو أشد ما يكون من الغضب.

وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)} [المائدة:78-80].

وأما وصف النصارى بالضلال ففي قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فهذا خطاب للنصارى؛ لأنه في سياق خطابه معهم بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} إلى قوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} فوصفهم بأنهم قد ضلوا أولًا ثم أضلوا كثيرًا، وهم أتباعهم، فهذا قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث ضلوا في أمر المسيح وأضلوا أتباعهم، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ازدادوا ضلالًا آخر بتكذيبهم له وكفرهم به، فتضاعف الضلال في حقهم.

وإنما سر الآية أنها اقتضت تكرار الضلال في النصارى ضلالًا بعد ضلال؛ لفرط جهلهم بالحق، وهي نظير الآية التي تقدمت في تكرار الغضب في حق اليهود، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال من اليهود، ووجه تكرار هذا الضلال أن الضلال قد أخطأ نفس مقصوده فيكون ضالًا فيه، فيقصد ما لا ينبغي أن يقصده، ويعبد من لا ينبغي أن يعبده، وقد يصيب مقصودًا حقًا لكن يضل في طريق طلبه والسبيل الموصلة إليه.

فالأول ضلال في الغاية، والثاني ضلال في الوسيلة، ثم إذا دعا غيره إلى ذلك فقد أضله، وأسلاف النصارى اجتمعت لهم الأنواع الثلاثة، فضلوا عن مقصودهم حيث لم يصيبوه، وزعموا أن إلههم بشر، يأكل ويشرب ويبكي، وأنه قُتِل وصُلِب وصفع؛ فهذا ضلال في نفس المقصود، حيث لم يظفروا به.

وضلوا عن السبيل الموصلة إليه، فلا اهتدوا إلى المطلوب ولا إلى الطريق الموصل إليه، ودعوا أتباعهم إلى ذلك فضلوا عن الحق وعن طريقه، وأضلوا كثيرًا فكانوا أدخل في الضلال من اليهود، فوصفوا بأخص الوصفين.

والذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد، وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة، فخافوا أن يذهب بالإسلام، فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق، فإنهم كانوا يعرفون أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد، وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء.

ووبخ النصارى بالضلال والجهل، الذي هو عدم العلم بالحق، فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة، ومن عدم إرادته والعمل به أخرى، فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به، وإيثار غيره عليه بعد معرفته، فلم يكن ضلالًا محضًا، وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه، فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية، وبقوا مغضوبًا عليهم ضالين.

ثم لما كان الهدى والفلاح والسعادة لا سبيل إلى نيله إلا بمعرفة الحق وإيثاره على غيره، وكان الجهل يمنع العبد من معرفته بالحق، والبغي يمنعه من إرادته؛ كان العبد أحوج شيء إلى أن يسأل الله تعالى، كل وقت، أن يهديه الصراط المستقيم، تعريفًا وبيانًا وإرشادًا وإلهامًا وتوفيقًا وإعانة، فيعلمه ويعرفه، ثم يجعله مريدًا له قاصدًا لاتباعه، فيخرج بذلك عن طريقة المغضوب عليهم، الذين عدلوا عنه على عمد وعلم، والضالين الذين عدلوا عنه عن جهل وضلال.

كان السلف يقولون: مَن فسد مِن علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى، وهذا كما قالوا، فإن من فسد من العلماء فاستعمل أخلاق اليهود، من تحريف الكلم عن مواضعه، وكتمان ما أنزل الله؛ إذا كان فيه فوات غرضه وحسد من آتاه الله من فضله وطلب قتله، وقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، ويدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، إلى غير ذلك من الأخلاق التي ذم بها اليهود من الكفر، واللي والكتمان والتحريف والتحيل على المحارم، وتلبيس الحق بالباطل، فهذا شبهه باليهود ظاهر.

وأما من فسد من العباد فعبد الله بمقتضى هواه، لا بما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وغلا في الشيوخ فأنزلهم منزلة الربوبية، وجاوز ذلك إلى نوع من الحلول أو الاتحاد؛ فشبهه بالنصارى ظاهر.

فعلى المسلم أن يَبْعد من هذين الشبهين غاية البعد، ومن تصور الشبهين والوصفين وعلم أحوال الخلق علم ضرورته وفاقته إلى هذا الدعاء، الذي ليس للعبد دعاء أنفع منه ولا أوجب منه عليه، وأن حاجته إليه أعظم من حاجته إلى الحياة والنفس؛ لأن غاية ما يقدر بفوتهما موته، وهذا يحصل له بفوته شقاوة الأبد، فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آمين إنه قريب مجيب.

أسباب الضلال:

قال شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى، في الكلام على رد شبه النصارى وما يحتجون به على باطلهم: «أسباب الضلال الذي عرض لهؤلاء وأشباههم ثلاثة أمور:

إما نصوص متشابهة مجملة، لم يفهموها ولم يفقهوا ما دلت عليه، ويحتجون بها ويوردونها من غير فهم لمعناها، ولا معرفة لما دلت عليه.

أو أمور مكذوبة مردودة، من الموضوعات التي لا يحتج بها، ويرجع إليها في أمر دينه إلا جهال لم يعرفوا ما جاءت به الرسل من الدين والشرائع.

والثالث: احتجاجهم بخوارق العادة، وما يجريه الله لأصحاب الخوارق أو على أيديهم؛ كمخاطبة الشياطين من الأصنام أو القبور أو غيرهما مما عبد مع الله، وقد يتراءى الشيطان لبعضهم في صورة من يعتقد فيه، أو ينتسب إلى رجل صالح ويتسمى باسمه؛ كالخِضْر وعبد القادر، وقد تخاطب هؤلاء الشياطين من استغاث بغير الله أو دعاه، وينسب ذلك إلى هذا المدعو أو المستغاث به، ويقول أحدهم: رأيت فلانًا وخاطبني فلان أو نحو هذا(2).

وللضلال أسباب كثيرة وعوامل حسبما تجري به سنة الله في عباده، من ترتيب النتائج على مقدماتها، واتباع المسببات لأسبابها، وقد تكون هذه الأسباب والعوامل فكرية، أو نفسية، أو أخلاقية، وقد ترجع إلى التأثر بالوراثة، أو البيئة، أو النشأة، أو طبيعة الحياة التي يحياها صاحبها، أو غير ذلك من الأسباب والعوامل، والتي من أهمها:

1- عدم استخدام الإنسان مواهبه في التفكر في آيات الله:

قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171].

فهم صم لا يسمعون الحق، وعمي لا ينظرون إلى آيات الله في أنفسهم وفي الآفاق حتى يتبين لهم الحق(3).

وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44].

فشبه أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له، وجعل الأكثرين أضل سبيلًا من الأنعام؛ لأن البهيمة يهديها سائقها فتهتدي وتتبع الطريق فلا تحيد عنها يمينًا ولا شمالًا، والأكثرون يدعوهم الرسل ويهدونهم السبيل فلا يستجيبون، ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تفرق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره، والله تعالى لم يخلق للأنعام قلوبًا تعقل بها، ولا ألسنة تنطق بها، وأعطى ذلك لهؤلاء ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار، فهم أضل من البهائم؛ فإن من لا يهتدي إلى الرشد وإلى الطريق، مع الدليل إليه، أضل وأسوأ حالًا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه(4).

2- الذنوب والمعاصي:

إن من أسباب الضلال، حسب سنته سبحانه وتعالى، ارتكاب الذنوب والمعاصي، وذلك أن الذنوب سبب في صدأ القلب وتكون الران عليه، الذي يمنع من دخول الإيمان إلى قلب صاحبه، قال تعالى: {إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين:12-14]؛ أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما قالوا: إن هذا القرآن أساطير الأولين؛ بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الران الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا(5)، ثم إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله عز وجل والطبع، فلا يكون للإيمان إليه مسلك، ولا للكفر منها مخلص، فذلك هو الطبع والختم الذي ذكره الله تعالى في قوله: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7].

وجاء قوله تعالى مهددًا للذين يقترفون الذنوب والمعاصي بأن يطبع على قلوبهم فلا يدخلها الإيمان.

قال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100].

3- اتباع الشيطان:

ومن أسباب الضلال الخطيرة، والتي ضل بها كثير من الخلق، اتباع الشيطان الذي نذر نفسه وبذل عمره لإغواء بني آدم.

قال تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف:14-17].

وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} [الحجر:36-40].

4- الجهل واتباع الظن:

قال تعالى، مبينًا ضلال قوم ثمود: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23)} [الأحقاف:22-23].

وقال تعالى مبينًا ضلال من اتبع جهله، ونسب إليه سبحانه الولد، قال تعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)} [الكهف:4-5].

وأما اتباع الظن، والذي هو مجرد حدس وخرص وأوهام والذي لا ينبني على علم، فإنه ولا شك سبب من أسباب الضلال، حسب سنته سبحانه وتعالى، فقد سجل القرآن الكريم في كثير من الآيات على كفار قريش ضلالهم بسبب اتباعهم الظن؛ كسابقيهم من الكافرين، وذلك بجعل الأصنام شركاء لله، وبعبادتهم لها وزعمهم أنهم مجبورون في ضلالهم هذا وغيهم(6).

قال سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ للهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [يونس:66].

وقال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [يونس:36].

5- الجدال في الله وآياته بغير علم:

ومن أعظم أسباب الضلال الجدال في توحيد الله وصفاته، وشرعه، وقدره، وكتابه، واليوم الآخر بغير علم، يدفعهم لذلك الكبر، والجهل، والحسد، والتعصب، ويزعمون للناس ولأنفسهم أنهم إنما يناقشون ويجادلون؛ لأنهم لم يقتنعوا بالحق، وأنهم غير مستيقنين فيه.

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر:56].

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35)} [غافر:34-35].

وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)} [الحج:8-9].

6- الغفلة:

من أسباب الضلال غفلة الناس عن الأدلة الموصلة إلى الحق والهدى، وعدم النظر فيها، قال تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8)} [يونس:6-8].

وقال سبحانه وتعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1-3].

وقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف:146].

7- التعصب:

إن التعصب للباطل من أسباب الضلال، قال تعالى مبينًا أثر التعصب في ضلال اليهود، وعدم إيمانهم واتباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة:91].

وقال تعالى مبينًا تعصب كل من طائفتي اليهود والنصارى لنفسها، وزعم كل طائفة منهما أنها على الحق دون غيرها، فكفر اليهود بعيسى عليه السلام رغم أنه منهم، وقد كانوا ينتظرونه لإعادة مجدهم وعزهم تعصبًا، وقالت النصارى أن اليهود ليسوا على شيء حقيقي من الدين؛ لإنكارهم المسيح المتمم لشريعتهم(7).

قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(113)} [البقرة:111-113].

8- الشك والريبة:

ومن الأسباب التي يستحق بها بعض العباد الضلال مرضُ القلوب، وهو خروج القلب عن صحته، فإن صحته أن يكون عارفًا بالله، محبًا له، مُؤْثِرًا له على غيره، ومرض القلب هو شكه، فمرض المنافقين هو مرض شك(8).

وقد جعل الله عز وجل ذلك سببًا في زيادة المرض في قلوبهم، وعدم إيمانهم، فالمرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيرًا ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة، سنة لا تتخلف(9).

قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10].

وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125)} [التوبة:124-125].

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ} [غافر:34].

8- التقليد:

إن من أسباب الضلال عند الكافرين، من الأولين والآخرين، التقليد للآباء دون نظر أو فكر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف:23].

***

__________________

(1) تفسير القرطبي (5/ 389).

(2) بدائع الفوائد (2/ 29-33).

(3) السنن الإلهية في الحياة الاجتماعية (1/ 114).

(4) إعلام الموقعين (1/ 159).

(5) تفسير ابن كثير (4/ 485).

(6) في ظلال القرآن (3/ 1227).

(7) تفسير المنار (1/ 429).

(8) شفاء العليل، ص211.

(9) في ظلال القرآن (1/ 43).