logo

الداعية المهاجر


بتاريخ : الأحد ، 5 ذو الحجة ، 1438 الموافق 27 أغسطس 2017
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية المهاجر

ارحل بنفسك من أرض تضام بها       ولا تكن من فراق الأهل في حرق

فالعنبر الخـــــــام روث في مـــواطنه       وفي التغرب محمـــــول على العنــــق

والكحل نوع من الأحجـــــار تنظره       في أرضه وهو مرمي على الطرق

لما تغرب حــــــــاز الفضل أجمعـــه       فصـــــــــــار يحمل بين الجفن والحــدق

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أعرابيًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الهجرة، فقال: «ويحك، إن شأنها شديد، فهل لك من إبل تؤدي صدقتها؟»، قال: نعم، قال: «فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يَتِرك من عملك شيئًا»(1).

الهجرة في اللغة: الخروج من أرض إلى أرض، ومفارقة الوطن والأهل، مشتقة من الهجر وهو ضد الوصل، وشرعًا: هي مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوف الفتنة، وقصدًا لإقامة شعائر الدين.

وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين، وفي تاريخ المسيرة الإنسانية في الطريق الالهي هجرات كثيرة؛ كهجرة ابراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وهجرة فتية الكهف، وهجرات كثيرة غيرها.

قال تعالى: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت:26]، إنه لم يهاجر للنجاة، ولم يهاجر إلى أرض أو كسب أو تجارة، إنما هاجر إلى ربه، هاجر متقربًا له ملتجئًا إلى حماه، هاجر إليه بقلبه وعقيدته قبل أن يهاجر بلحمه ودمه، هاجر إليه ليخلص له عبادته، ويخلص له قلبه، ويخلص له كيانه كله في مهجره، بعيدًا عن موطن الكفر والضلال، بعد أن لم يبق رجاء في أن يفيء القوم إلى الهدى والإيمان بحال(2).

وهاجر موسى عليه السلام بقومه، وهاجر محمد صلى الله عليه وسلم، وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة يثرب، ولما استقر المسلمون من أهل مكة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مقام التفضيل: «لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار»(3).

قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99]، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (٢٢)} [القصص:20-22].

{فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:21].

{وَإِذْ يَمْكُرُ‌ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ‌ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ‌ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

{وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ‌ لَهُمْ} [محمد:13].

فقد تعرض النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضغوط من أهله وأقاربه، وعروض للإغواء من عشيرته وإيذاء من قومه، حتى اضطر للخروج إلى الطائف، وهناك تضاعف الإيذاء، وعاد لا يجد حيلة في الدخول إلى بلده مكة، التي تؤوي أي إنسان ولو كان مجرمًا يتحصن بمكة فيأمن على نفسه، حتى اضطر أن يدع بلده مكة مع هذا الدعاء، الذي يدل على جرح وألم شديدين غائرين في قلبه ووجدانه، وهو يودع بلده وأولاده وأهله بقوله: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك»(4).

وابتدأَ النبي صلى الله عليه وسلم صفحة جديدة في نشر الدعوة؛ طابعها التشريع والتخطيط البديع، وأملُها أن يدفَعَ عنها كَيْد الكائدين وبَطْش الحاقدين، ومن هنا كانت الهجرة بداية للكفاح الشاق.

لم تكن الهجرة فرارًا؛ بل انتصارًا، فقد كانت نقلًا لساحة الجهاد من مكة إلى المدينة؛ حتى لا تتجمد مسيرة الحق، ويستشري طغيان الباطل، وضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المثل والأسوة الحسنة في التضحية بالنفس والنفيس من أجل نصرة دين الله وإيصاله إلينا، ولتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى .

كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم دَحْرًا للفساد في العقائد، والضلال في الأفكار، كما كانت فتحًا جديدًا في تاريخ الإنسانية.

وتعلمنا من الهجرة أن الحق لا بد له من وطنٍ ودارٍ وأنصارٍ، وأن الباطل لا يسلم القيادة للحق في يسر وسهولة؛ بل يقف عنيدًا شديدًا في وجه الحق، يأخذ عليه الطريق، ويسد في وجهه المنافذ، ويتربص به الدوائر، وحينئذ يحتاج الحق إلى أن يلجأ بدعوته إلى تربة خصبة، ودار آمنة، وأنصار مؤمنين.

وتعلمنا الهجرة أن أعمالنا يجب أن تكون لله وفي سبيل الله، لا لغرض أو تحقيق مطمع؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»(5).

الفرق بين هجرة الدعاة وهجرة الرعاة:

سألت نفسي عن دوافع الهجرة من مكة إلى الحبشة والمدينة ومنها إلى كل الأمصار، فلم أجد إلا رغبة صادقة في نقل هذا الدين العظيم من الاستضعاف إلى التمكين، وإخراج العالم من وهدة الشرك إلى قمة الإيمان، ومن الذل لغير الله إلى العزة بالإسلام، ومن الفقر إلى العباد إلى الغنى برب العباد، واستبان لي جليًا الفرق الهائل بين هجرتنا وهجرتهم، بين سفرنا وسفرهم، حركتنا وحركتهم، بين هجرة الدعاة والرعاة.

هجرة الدعاة نظرهم إلى رحمات السماء، وهجرة الرعاة نظرهم إلى خشاش الأرض.

هجرة الدعاة يرجو صاحبها رضا ربه وعفوه ومغفرته ورضوانه، وهجرة الرعاة يرجو إشباع رغباته ونزواته.

هجرة الدعاة تزرع الأرض الصحراء لتكون واحة غَنَّاء، وهجرة الرعاة يأكلون كل خضراء، ويتركونها صحراء جرداء.

هجرة الدعاة تعمير، وهجرة الرعاة تدمير.

هجرة الدعاة تمكين للإسلام وفعل الخير ونفع الغير، وهجرة الرعاة تمكين للنفس، وأنانية في جلب الخير، وإن تضرر الغير.

هجرة الدعاة تضحية لأجل رضا الله سبحانه وتعالى ونشر الإسلام، وإن ترك الإنسان العيش الرغيد، وهجرة الرعاة تضحية بالواجبات والقيم والمُثل من أجل لقمة طرية، وزوجة بهية، وعيشة هنية.

هجرة الدعاة لا تفرق بين أرض ذات ثراء، وفقر وشقاء، فالأرض لله سبحانه وتعالى يورثها من يشاء، والدعوة واجبة في جميع الأرجاء، وهجرة الرعاة بحث عن كل أرض فيها غنى وثراء، وغرس ونماء، كي يقطف الثمار، ويلتقط الأزهار، وإن غفل عن العودة إلى العزيز الغفار.

هجرة الدعاة نهم على العلم الذي يرفعه في السماء، ويُمَكِّن لدينه في الأرض، وهجرة الرعاة {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7].

هجرة الدعاة تحفها أخلاق ذوي المكارم والمروءات، لا يغير جلده مهما اشتدت الأزمات، وهجرة الرعاة تبدل الأخلاق وفقًا للمغانم، ولا تكترث بالمكارم، وقد تجترئ على المحارم.

هجرة الدعاة تقبل المغارم مع قوة العزائم، وهجرة الرعاة تسعى إلى المغانم، مع انهيار العزائم.

هجرة الدعاة نور يمشي به الدعاة بين الناس من كل لون وجنس، وهجرة الرعاة معاص وذنوب ورجس.

هجرة الدعاة عفة عن السفاسف والشبهات والنجاسات، وهجرة الرعاة خسة ووحل وتخبط في ظلمات المحرمات.

هجرة الدعاة يبحثون عن هداية الناس إلى طريق الله سبحانه وتعالى، ويسعدون بأن يكونوا سببًا في سجود الناس لله الواحد الغفار، وهجرة الرعاة يبحثون في الأماكن السياحية الراقية؛ لاسترخاء يطول أو يقصر في سفوح الجبال، وضفاف الأنهار، وشواطئ البحار، وملاهي الأطفال والكبار، ناسيًا هموم أمة عدا عليها كل عنيد جبار، وظلوم كفار، من الصهاينة والصليبين الأشرار، وعملائهم المنافقين في كل دار(6).

بين هجرة الدعاة والبغاة:

هجرة الدعاة رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وهجرة البغاة لعنة على أهل الأرض أجمعين: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة:205].

هجرة الدعاة إحياء لموات القلوب: {اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وهجرة البغاة قتل الشرفاء، وهتك الأعراض، وسلب الأراضي.

هجرة الدعاة قيادة الناس من عقولهم وقلوبهم نحو الهداية والرشاد، أما هجرة البغاة فقيادة الناس بالسلاسل والحديد والنار والسيف البتار نحو الغواية والفساد والقهر والاستعباد.

الدعاة يهاجرون من أرضهم ليعمروا أرضًا أخرى بنور الله تعالى، يحركهم قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122]، أما البغاة فيهاجرون من أرضهم كي يلتهموا أرضًا أخرى، يحركهم الشيطان والهوى، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:23-24].

الدعاة أينما تحركوا يخافون الله، ويلتزمون الأخلاق الراقية، عاملين بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»(7)، أما البغاة فيلتزمون قِيم مجتمعهم، فإذا خرجوا لغيره عاثوا في الأرض فسادًا؛ مثل الفويسقة تضرم على أهل البيت بيتهم، وهي الفأرة لا تخرج من جحرها إلا للإفساد.

حركة الدعاة هي ترويض عباد الله ليعبدوا ربهم، ويحسنوا إلى خلقه، ويعمروا دنياهم، ويصلحوا آخرتهم، أما حركة البغاة فهي إذلال عباد الله تعالى، وتخريب أخلاقهم، وتدمير منشآتهم، وإفساد آخرتهم.

أرقى مثال لهجرة الدعاة ما تحرك به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى المدينة، ثم إلى الشام ومصر والعراق والهند والسند وبلاد ما وراء النهر وبلاد المغرب العربي والأندلس والقسطنطينية.

ولو وقفنا أمام هجرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتقديره لأبناء يثرب بكل طوائفهم، فآخى بين الأوس والخزرج والمهاجرين والأنصار، وعاهد يهود بني قينقاع والنضير وقريظة، فلما نقضت بنو قينقاع عهدها حاربها وحدها لبغيها، ولم يمس بقية قبائل اليهود، حتى إذا عاود يهود بني النضير نزقهم وبغيهم، وهَمُّوا باغتيال النبي صلى الله عليه وسلم حاربهم وحدهم، دون مساس ببني قريظة أبناء ملتهم، فلما غدرت بنو قريظة بالمسلمين وتحالفوا مع المشركين قتلهم على بكرة أبيهم، فكان العدل ميزان الحكم، والفضل خُلق الدولة الإسلامية، أما صهاينة اليهود فقد قذف بهم الغرب بين أحشاء العرب ليصنعوا مغصًا دائمًا، وسرطانًا قاتلًا، ووباءً ماحقًا؛ فقتلوا وجرحوا وأسروا ودمروا ونهبوا، ويسعون بكل حماقة وجدية إلى تهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى، وطرد العائلات من بيوتهم في وضح النهار وظلمة الليل في بغي منقطع النظير، ومساندة مفتوحة ومفضوحة من صاحب جائزة نوبل للسلام، وصمت مشوب بالعمالة من أنظمة عديدة، وخيانات بالجملة ممن باعوا الأوطان للبغاة وحاربوا الأبطال الدعاة(8).

{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ‌ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ‌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)} [النحل:41-42].

فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم، وتعروا عما يملكون وعما يحبون، وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم، هؤلاء يرجون في الآخرة عوضًا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا، وقد عانوا الظلم وفارقوه(9).

{وَمَنْ يُهَاجِرْ‌ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [النساء:100].

هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب، وبيان ما فيها من المصالح، فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته، أنه يجد مراغمًا في الأرض وسعة، فالمراغم مشتمل على مصالح الدين، والسعة على مصالح الدنيا.

وذلك أن كثيرًا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتًا بعد الألفة، وفقرًا بعد الغنى، وذلًا بعد العز، وشدة بعد الرخاء.

والأمر ليس كذلك؛ فإن المؤمن إذا كان في نقص، في العبادات القاصرة عليه؛ كالصلاة ونحوها، أو في العبادات المتعدية؛ كالجهاد بالقول والفعل، وتوابع ذلك، لعدم تمكنه من ذلك، وهو بصدد أن يفتن عن دينه، خصوصًا إن كان مستضعفًا؛ فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله ومراغمتهم؛ فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله من قول وفعل، وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه، وقد وقع كما أخبر الله تعالى.

واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم؛ فإنهم لمَّا هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم وأولادهم وأموالهم لله كمل بذلك إيمانهم، وحصل لهم من الإيمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله، ما كانوا به أئمة لمن بعدهم، وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم ما كانوا به أغنى الناس، وهكذا كل من فعل فعلهم، حصل له ما حصل لهم إلى يوم القيامة(10).

{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ‌ حِسَابٍ} [الزمر:10].

فلا يقعد بكم حب الأرض، وإلف المكان، وأواصر النسب والقربى والصحبة في دار عن الهجرة منها، إذا ضاقت بكم في دينكم، وأعجزكم فيها الإحسان، فإن الالتصاق بالأرض في هذه الحالة مدخل من مداخل الشيطان، ولون من اتخاذ الأنداد لله في قلب الإنسان.

وهي لفتة قرآنية لطيفة إلى مداخل الشرك الخفية في القلب البشري، في معرض الحديث عن توحيد الله وتقواه، تنبئ عن مصدر هذا القرآن، فما يعالج القلب البشري هذا العلاج إلا خالقه البصير به، العليم بخفاياه.

والله، خالق الناس، يعلم أن الهجرة من الأرض عسيرة على النفس، وأن التجرد من تلك الوشائج أمر شاق، وأن ترك مألوف الحياة ووسائل الرزق واستقبال الحياة في أرض جديدة تكليف صعب على بني الإنسان؛ ومن ثم يشير في هذا الموضع إلى الصبر وجزائه المطلق عند الله بلا حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}، فيأخذ قلوبهم بهذه اللمسة في موضعها المناسب، ويعالج ما يشق على تلك القلوب الضعيفة العلاج الشافي، وينسم عليها في موقف الشدة نسمة القرب والرحمة، ويفتح لها أبواب العوض عن الوطن والأرض والأهل والإلف عطاء من عنده بغير حساب، فسبحان العليم بهذه القلوب، الخبير بمداخلها ومساربها، المطلع فيها على خفي الدبيب(11).

إن اضطهاد العاملين في سبيل الإسلام له أثران:

الأثر الأول: انتباه الأمة إلى الحركة الجديدة، والتعرف على أعمالها وأهدافها، وعطف كثير من أبناء الأمة عليها، وتأييد بعضهم لها، وبالنتيجة فإن المحيط الشعبي الذي يحيط بالدعوة يصبح أكثر ملاءمة للعمل، كما تصبح الدعوة بعد خروجها من المحنة أكثر قدرة وخبرة بالعمل.

والأثر الثاني: مضايقة الدعاة وإصابتهم بالأذى ونقص في الأنفس والأموال وضيق في مجال العيش، واضطهاد العاملين في سبيل الله من الأمور الطبيعية المتوقعة التي يعرفها كل من شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، وقد علمنا رب العالمين كيف نستقبل هذه الحالات:

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ‌ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (١٥٦) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)} [البقرة:155-157].

{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12].

حقيقة الهجرة:

إن طريق الجنة محفوف بالمكاره، ومن جملة المكاره أن يضطر الداعية في حياته إلى الهجرة، ويصادف في غربته ضغط الحاجة، وضغط الوحدة والوحشة، إنه طريق ذات الشوكة، فلا يفتّ في عضده مواجهة الصعاب وتراكمها، {وَاصْبِرْ‌ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}‌ [لقمان:17].

الهجرة غربة مضاعفة، غربة عن المجتمع، وغربة عن الأهل والأصدقاء والأرحام، وعن البيئة المحلية، وعن مرابع الصبا والذكريات.

إن في النفس هوى لما ألفته من أوضاع وأمور كثيرة، تمتد بامتداد العمر، ابتداءً من الطفولة المبكرة يجدها المهاجر؛ لأنه غريب عن مجتمعه يعمل لتغييره، فيقف له القيمون على الأوضاع السيئة، أوضاع التخلف والجهل والتميع وفقدان الشخصية، القيمون على أوضاع الخضوع للمستعمر الكافر يقفون له بالمرصاد، ولا يتمكن المجتمع من حمايته، فيضطر الغريب للهجرة ليعيش في غربته «وطوبى للغرباء».

ويعاني المهاجر في مهجره العديد من المصاعب والآلام المادية والنفسية، ابتداءً من الفقر والعوز، ومرورًا بمشكلة السكن والعمل، وعقبات التكيف مع الجو الجديد، خاصة حينما يضطر إلى تقديم مبرر يفسر هجرته للناس من حوله، والحصول على هوية أو جواز سفر دائم الصلاحية، وما يصاحب ذلك من مضايقات متكررة وضغوط متنوعة، تنبعث من ارتباطه بأهله وعائلته، الذين ربما لم يترك لهم من يرعى شئونهم، وما ربما يصاب به البعض من مرض الوحشة والحنين إلى الأهل والوطن.

آثار الهجرة:

للهجرة آثار هامة على الداعية والدعوة، ينبغي أن تكون موضع دراسة واستفادة، منها الآثار السلبية التي تضر، ومنها الآثار الإيجابية التي تنفع.

من الآثار السلبية فراغ موقع الدعاة المهاجرين، وخسارة الدعوة لنشاطهم في وطنهم، وإذا توسعت الهجرة وشملت العديد من الدعاة القياديين فإن ذلك يؤدي إلى ضعف الدعوة بصورة عامة في تلك المنطقة.

ومن الآثار السلبية ما يلاقيه الداعية في هجرته من مصاعب وعقبات وآلام تنعكس على شخصيته بالضجر واليأس والاستسلام، وقد يتحول ذلك إلى عقدة نفسية تَصْرِف الداعية عن الاهتمام بأمر الدعوة.

ومن الآثار الإيجابية للهجرة شعور الأمة بمظلومية الدعوة حينما تتعرض للإرهاب والتنكيل والتشريد، وعطفها على الدعوة وعلى الدعاة الذين لاقوا الأذى في سبيل الله، هذا العطف الذي يولد ويتنامى في نفس الأمة، سواء في المنطقة التي لاقت الدعوة فيها الإرهاب أو في المناطق الأخرى، وإن كان الخوف يمنع الأمة، في الغالب، من احتضان المهاجرين وتقديم الخدمات اللازمة لهم.

ومن الآثار الإيجابية تأثير الدعاة المهاجرين في دار هجرتهم، خاصة إذا انتشروا في مناطق متعددة، واستطاعوا أن يقوموا بالدعوة إلى الإسلام بأساليب حكيمة فعالة، إن تأثير الداعية في دار هجرته، وإن بدا صغيرًا وبسيطًا، لكنه قد يكون نواة لدعوة كبيرة في تلك المنطقة.

ومن الآثار الإيجابية:

- الارتفاع في مستوى شخصية الداعية المهاجر حينما يستطيع التغلب على مشاق الهجرة وآلامها.

- إحساسه بقضية الدعوة التي تحمَّل الأذى من أجلها وهاجر في سبيلها.

- تعوده على تحمل المشاق والمتاعب في سبيل الدعوة.

- ارتفاع مستوى إيمانه ووعيه، فالخبرات المختلفة التي يكتسبها من هجرته، كل ذلك يؤهل الداعية للقيام بدور أكبر في الدعوة(12).

إن كنت ممن يهجر السفاسف، ويسعى للمكارم، يحنو على الفقير المعدم والضعيف المنهك، واليتيم المرهق، والمسكين المهموم، وتصلهم بما رزقك الله سبحانه وتعالى من أصل وفضل المال والجاه؛ فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت ترى كل فرصة مغنمًا لأخذ ما بأيدي الناس، حلالًا أو حرامًا، وتحقد على غنيهم وتحتقر فقيرهم، وتهين عالمهم وتلعن سادتهم فأنت من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تتحرك بهمة نحو إصلاح أُمة فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت تتحرك بهمة نحو هموم أَمة من طعام متنوع، وشراب بارد وساخن، ومركب مريح، ومسكن فسيح، وصداقات فارغات، فأنت من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تستضيف القوم من غني وفقير، تصل بطونهم بالطعام، وعقولهم بالأفكار، وقلوبهم بالحب والوداد، وترتقي معهم في مدارج السالكين إلى الله سبحانه وتعالى؛ فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت تستضيف فقط الأغنياء، أو ذوي المصالح لك والحاجات، لتختال بأنواع المطعومات والمشروبات فأنت من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تربي نفسك وأهلك وأولادك على أنكم أصحاب رسالة وحملة أمانة، وتحرصون على فعل الخير، ونفع الغير، وإدخال السرور إلى كل بيت فأنتم من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كان البيت كالقبر؛ يخلو من الحنان، ولا يقرأ فيه القرآن، ولا يقومون للصلاة، ولا يجتمعون للأذكار، ولا تلتفتون إلى حاجات ذوي البأس من الناس، فأنتم من أصحاب هجرة الرعاة.

إن كنت تحلم بالإسلام عزيزًا في الأرض، عاليًا في كل صوب، حاكمًا في كل درب، وتسعى لنصرته وتمكينه في نفسك ومجتمعك؛ فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت تحلم فقط بوظيفة زاهية، ورواتب عالية، ومراكب فانية فأنت من أصحاب هجرة الرعاة .

إذا كنت تؤثر راحة غيرك وأمتك على نفسك، وتحول طاقاتك وإمكاناتك لخدمة دينك وإعزاز بلدك، ورفعة أمتك، فأنت من أصحاب هجرة الدعاة، وإن كنت ممن يستأثر بالأرزاق، يدور حول شخصه ونفسه، وتدور عينه وراء كل غنيمة، ولا يلوي على شيء حوله فأنت من أصحاب هجرة الرعاة(13).

***

________________

(1) أخرجه البخاري (1452).

(2) في ظلال القرآن (5/ 2732).

(3) أخرجه البخاري (3779).

(4) أخرجه الترمذي (3926).

(5) أخرجه البخاري (1).

(6) هجرة الدعاة أم الرعاة، موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

(7) أخرجه الترمذي (1987).

(8) هجرة الدعاة والبغاة، رابطة العلماء السوريين.

(9) في ظلال القرآن (4/ 2172).

(10) تفسير السعدي، ص196.

(11) في ظلال القرآن (5/ 3043).

(12) المهاجرون، ثقافة الدعوة الإسلامية.

(13) هجرة الدعاة أم الرعاة، صلاح سلطان.