logo

طريقة القرآن الكريم في تناول انحرافات المنافقين


بتاريخ : الخميس ، 8 جمادى الآخر ، 1442 الموافق 21 يناير 2021
بقلم : تيار الاصلاح
طريقة القرآن الكريم في تناول انحرافات المنافقين

النفاق: كلمة قبيحة، ولِقُبحها هرب الناس منها كلفظٍ، واستبدلوها بكلمات جذابة؛ مثل: المجاملة، والتعامل الدبلوماسي، والمرونة، وغير ذلك من الكلمات التي نسمعها كل يوم، وهي في الحقيقة ليست سوى أغلفة برَّاقة للنفاق تستر عورته، وتُبرِّر للناس التعامل به، لكنها في الوقت ذاته تحمل دلالات عدة عن مدى استشراء النفاق في تعامُلاتنا، وتَغلغُله في مجتمعاتنا.

والنفاق: هو إظهارُ الإسلام والخير، وإبطانُ الكفر والشر، سُمِّي بذلك؛ لأنه يدخل في الشرع من باب، ويخرج منه من باب آخر، وعلى ذلك نبَّه الله تعالى بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]؛ أي: الخارجون من الشرع.

إنه أكبر خطر هدد الأمة الإسلامية على مر العصور، ولهذا كان مصيرهم يوم القيامة أسوأ مصير في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم شر من الكفار الصُّرَح، فبلية المؤمنين بهم أعظم من بليتهم بالكفار المُعادين؛ لأنهم لا يظهرون ما يعتقدون، يعملون في الخفاء، ويظهرون لباس الإخوان والأصدقاء، فهم مستأمنون لا يحسب لهم حساب، ولا يراقبون، ولا يحترز منهم إلا القليل من المؤمنين، والعدو المخالط المداخل المساكن أخطر وأشد كيدًا من العدو الظاهر البعيد، فهم أخطر من الجيوش العسكرية، والانحرافات الفكرية؛ لأن أصحابها أعداء معروفون واضحون لا يقبل كثير من الناس أقوالهم.  

وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إن أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان» (1).

قال المناوي: أي كثير علم اللسان جاهل القلب والعمل اتخذ العلم حرفة يتأكل بها وأبهة يتعزز بها يدعو الناس إلى الله ويفر هو منه (2).

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخطر المصائب في تاريخ الأمة الإسلامية قديمًا وحديثًا كانت عن طريق المنافقين، ولا نكاد نرى عصرًا من عصور تاريخ المسلمين إلا ونجد للمنافقين فيه دورًا خطيرًا، فقد أفسدوا عقائد كثير من الناس.

والمتتبع لجذور الانحراف العقدي في تاريخ المسلمين يجد المنافقين وراءه، ومن أبرز الأمثلة في ذلك فرقة السبئيّة التي وضع أسسها المنافق اليهودي عبد الله بن سبأ، الذي أظهر الإسلام في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأخذ يطوف البلاد الإسلامية ينشر معتقده، وقد لبَّس على العامة في زمن كان فيه كثير من الصحابة، حتى إن بعض أتباعه هددهم علي رضي الله عنه بالموت حرقًا إن لم يرجعوا عن هذه العقيدة الضالة، فأصروا وفضلوا الموت على الرجوع عن ضلالهم، وقد كان من نتيجة فتنة عبد الله بن سبأ مقتل الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وكان سقوط بغداد مركز الخلافة الإسلامية العباسية عام (65ه) على يد المنافق الخبيث ابن العلقمي الرافضي الذي تعاون مع التتار الذين قتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والشبان حتى بلغوا مليون قتيل، وقد كان ابن العلقمي وزيرًا عند الخليفة المستعصم يظهر الولاء والنصرة، له فضل في الإنشاء والأدب لكنه كان منافقًا يضمر الحقد على الإسلام وأهله، كاتب التتار وزين لهم اجتياح بغداد، وكان ذلك بعد أن سرح الجند وصرف الجيوش عن بغداد، حتى لم يبق منهم إلا عشرة آلاف، ثم أرسل إلى التتار يسهل عليهم أمر اجتياح المدينة فقدموا وحدث ما حدث.

والأمثلة كثيرة جدًا؛ ولهذا كان الواجب التحذير من النفاق، وبيان صفات أهله، وكشف جهودهم في هدم الإسلام وخدمة أعدائه وموالاتهم وتنفيذ مخططاتهم .

ظهور النفاق في المدينة:

عَرَّف الإمام ابن كثير النفاق: هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع: اعتقادي: وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وعملي: وهو من أكبر الذنوب.. وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه (3).

وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية؛ لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مستكرهًا وهو في الباطن مؤمن، فلما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.

وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام على طريقة مشركي العرب، وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل؛ بنو قينقاع حلفاء الأوس والخزرج، وبنو النضير وبنو قريظة، وقَلَّ من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضًا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان عليه الصلاة والسلام وَادَعَ اليهود، وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة، فلما كانت وقعة بدر العظمى، وأظهر الله كلمته، وأعز الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبي بن سلول – وكان رأسًا في المدينة وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر– قال:  هذا أمر قد توجه (يعني انقضى)!.

فأظهر الدخول في الإسلام، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثم وُجد النفاق في أهل المدينة، ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد يهاجر مكرهًا، بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة (4).

حديث القرآن عن المنافقين وفضح ألاعيبهم:

ونعني بهذا: طريقة القرآن الكريم في تناول المنافقين والمنافقات في آيات متتابعة، تبلغ عشر آيات فصاعدًا في السياق الواحد من سورة بعينها، وقد تتعدد المجموعات في السورة الواحدة لإفادة معلومات جديدة في الموضوع، ولتغطية ما أراد الله تعالى من جوانبه المتعددة، ومن أغراضه المتنوعة.

والنظر في الآيات المجموعة والتأمل في سياقها القرآني المعجز يعطي فيضًا من المعاني والدلالات القرآنية، يضاف إلى ما يعطيه النظر في الآيات المفردة، أي أنه إعجاز فوق الإعجاز، أو بيان مضاعف الفوائد والإشارات؛ ليجلّي الموضوع الذي يتناوله من جميع أبعاده وزواياه؛ ليكون فرقانًا بين الحق والباطل، أو كما وصفه الله تعالى: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، خاصة في هذه القضية الخطيرة التي تتعلق بمصالح الناس ومصائرهم في الدنيا والآخرة.

نماذج قرآنية لهذه المجموعات:

وهي نماذج متعددة السور، متنوعة المعالجة والتناول للموضوع، شاملة للعهد المدني من أوله إلى آخره، وقد اخترناها من أربع سور حسب ترتيب النزول، ابتداء من سورة البقرة - وهي أول سورة نزلت بالمدينة المنورة بعد الهجرة- ثم سورة النساء -وهي سادس سورة نزلت بالمدينة على الراجح - ثم سورة المنافقون - وقد نزلت في أواسط العهد المدني، في أواخر السنة الخامسة من الهجرة - ثم انتهاء بسورة التوبة التي نزلت معظم آياتها المتعلقة بالمنافقين في السنة التاسعة من الهجرة، بمناسبة غزوة تبوك التي كانت في شهر رجب من هذا العام.

النموذج الأول:

قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ...} إلى قوله تعالى: {.. وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 8 - 20].

فهذه ثلاث عشرة آية نزلت في المنافقين، وقد نفت عنهم الإيمان صراحة رغم نطقهم به؛ لأنه خداع منهم وكذب، ولا يكون الإيمان أبدًا ممن في قلوبهم مرض الشك والتحير، والإنكار والاستكبار، بل ذلك يزيدهم مرضًا، ويدَّعون أنهم مصلحون، ويشهد الله أنهم مفسدون في كل شيء.

وينصحهم المؤمنون ليؤمنوا الإيمان الصحيح فيردوا بما جاء به القرآن على الوجه الذي قاله الله تعالى وفصله، وهم يكفرون بالله وباليوم الآخر معًا، وبالبعث والجزاء… وغير ذلك من أصول الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبالقرآن والملائكة، وهذا هو الإيمان الذي دخل فيه سائر المسلمين والمؤمنين إيمانًا صحيحًا، حينئذ لما نصحهم المؤمنون بذلك رد المنافقون في استهتار عقيم واستكبار لئيم، مستنكرين أن يؤمنوا مثل عامة الناس؛ لأنهم في زعمهم سفهاء قليلو العقل والفهم.

وقد رد الله تعالى عليهم فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} أي: أنهم هم أهل الطيش وخفة العقل، وقلة الفهم ثم هم جهال يجادلون بالباطل، ولا يعلمون سوء حالهم، وهذا أفدح من مرضهم وأشنع من علتهم.

ثم كشف الله تعالى تلونهم بين الطوائف فقال: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} فهم يدعون الإيمان كذبًا إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم أو المؤمنين، ثم إذا انفردوا بزعمائهم أو انفرد زعماؤهم بأساتذتهم من اليهود أظهروا حقيقة صدورهم بأنهم مع الكفر وأهله، وبأنهم يقولون ذلك للمؤمنين استهزاءً بهم فقط، وسخرية من سذاجتهم في تصور المنافقين الفاسد.

ومن الملاحظ: وصف القرآن لزعماء المنافقين ولزعماء اليهود بأنهم شياطين، والشيطان المتمرد من الإنس والجن، وهو مأخوذ من شطن: إذا بعد عن الحق والصواب، أو من شاط إذا احترق وهلك، وزعماؤهم جميعًا أخلق الناس بهذا الوصف بمعنييه؛ لبعدهم عن الحق والخير تمامًا؛ ولأنهم أولى الناس بالاحتراق والهلاك.

والآية الكريمة تفيد أن المنافقين يمثلون حركة كفر وخيانة معًا، وأن جمهورهم من الدهماء سفهاء ذوو خفة وطيش، وأن زعماءهم شياطين يتحالفون مع مثلهم من اليهود؛ لخداع المؤمنين ولطعن الإسلام وأهله في مقاتلهم، وهؤلاء وزعماؤهم شر من الكفار الذين ظلوا على كفرهم؛ لأن المنافقين واليهود عرفوا الحق وتبين لهم الهدى؛ فتركوا ذلك وأخذوا الضلالة؛ فخسروا وضلوا الطريق، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}.

ثم ضرب الله تعالى لهم مثلين: مثلًا ناريًّا، ومثلًا مائيًّا:

ضرب لهم مثلًا برجل استوقد نارًا عظيمة في ظلمات بهيمة، فأضاءت النار ما حولها، وانتفع بها الناس، إلا فريقًا سقط في قاع الظلمات، وتعطلت حواسهم فهم (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، وهم المنافقون واليهود.

ثم ضرب لهم مثلًا بمطر عظيم ينزل على أرض قاحلة، ويصاحبه ظلمات الجو ورعد وبرق، ومن خلال هذا ينتفع الناس بآثار المطر، إلا الذين عطلوا قلوبهم وعقولهم، وهم المنافقون وحلفاؤهم من اليهود.

فالإسلام نور يضيء الظلمات، وصيب نافع يحي الموات، وهم أعرضوا عن ذلك وكفروا به. فانتفع الناس وحرم هؤلاء أنفسهم من رحمة الله عز وجل، ولنتدبر كم من وصف شنيع وصفهم الله به في هذه الآيات المعدودات، وكم من حكم صارم دمغهم به، وكم من تنديد ووعيد وتهديد لهم، وأي قدر من الحرمان والخسران جلبوه على أنفسهم بشؤم معصيتهم وكفرهم، نسأل الله تبارك وتعالى العافية ونعوذ به من الخذلان.

النموذج الثاني: آيات من سورة النساء:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا..} إلى قوله تعالى: {... مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 137- 147].

فهذه الآيات الكريمة من أجمع الآيات لبيان أحوال المنافقين، وتحديد الحكم عليهم عقيدةً ومآلًا، وتحذير المؤمنين من خطرهم الداهم، وتحذير المنافقين أنفسهم من التمادي في كفرهم، أو في موالاة الكفار.

ثم تختم بفتح باب الأمل في رحمة الله عز وجل بشروط: إن تابوا وأصلحوا لينالوا رضوان الله تعالى، وليكونوا في معية المؤمنين في الدنيا والآخرة.

تبدأ الآيات الكريمة مصرحة بحكم المنافقين، وأنهم كفار، ارتكبوا كفرًا يخرج من ملة الإسلام، التي نطقوا كلمتها بألسنتهم، وأبت قلوبهم، والتي قالوها خداعًا وكذبًا كما مر في النموذج الأول، والمنافقون أصناف وأنواع متفاوتة، فمنهم الكافر الراسخ في كفره، مثل رؤسائهم أو شياطينهم من العرب واليهود، وهم أسلموا ظاهرًا ليعصموا أموالهم ودماءهم؛ وليستطيعوا الكيد للإسلام من داخل صفوف المسلمين مع استقرارهم على دين الجاهلية في قلوبهم، وإصرارهم عليه من أول الطريق إلى نهايته.

وهؤلاء هم الذين حكم الله عليهم بالكفر الثابت المستقر كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]، ومثلهم أتباعهم المقربون الذين أطاعوهم طاعة عمياء، واستحبوا العمى على الهدى عن قصد واختيار.

أما جمهور المنافقين من الدهماء والغوغاء الذين لا مطمع لهم في الرياسات، فكان وصف الواحد منهم كما جاء في الأثر: خنع الأخلاق، يصدق بلسانه وينكر بقلبه، ويخالف بعمله، ويصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفؤ السفينة كلما هبت ريح هبت معها (5).

وإلى مثل هؤلاء تشير الآية الكريمة في سورة النساء، وتصف تقلبهم بين الإيمان والكفر، فإما أن يتداركهم الله تعالى برحمته فيتوبوا، أو يصروا على كفرهم كما قال تعالى: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا}، فيكونوا مع الهالكين من عتاتهم؛ ولذلك جاءت الآية التالية ساخرة منهم جميعًا حين يقول الله تعالى: {بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، ثم استنكر الله تبارك وتعالى عليهم خصلة لازمة من لوازم نفاقهم الاعتقادي أو العملي، حين يتخذون أولياء من اليهود والمشركين؛ ليتقووا بهم على المؤمنين، وليتعززوا بهم في النوازل، ويقرر لهم أصلًا اعتقاديًّا من بدهيات الإيمان الصحيح، هو أن العزة لله جميعًا؛ لأنه الخالق المالك المدبر القوي الذي بيديه ملكوت كل شيء.

وهم بمعزل عن هذه الحقائق الإيمانية العليا بنفاقهم؛ لذلك يبتغون العزة من غير مصدرها، وهم وأولياؤهم مخلوقات عاجزة مربوبة لله الواحد القهار.

وتؤكد الآيات التالية على المؤمنين ألا يتهاونوا في مخالطة المنافقين، بحكم القرابة أو لإسلامهم الظاهري، وقد نزل عليكم قاعدة ذلك في المشركين في مكة حين قال تعالى في سورة الأنعام: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].

وكذلك الحال في المدينة، حيث حل المنافقون واليهود محل المشركين في مكة، وهم أكثر خداعًا من المشركين الظاهرين؛ لذلك كان النهي حازمًا جازمًا حين قال تعالى في هذه المجموعة التي نفسرها: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا وهذه قاعدة تربوية عميقة المعاني والتأثير ليكون المسلم إيجابيًّا عمليًّا؛ لأن المسلم الصادق يترفع عن مجالس الإفك في الدنيا، ولا يحب أبدًا أن يكون مثل المنافقين واليهود في الدنيا ولا في الآخرة، حيث سيجمع الله تعالى المنافقين وأضرابهم من الكفار في عذاب جهنم -والعياذ بالله تعالى.

ثم حثت الآية التالية المؤمنين على الحذر الدائم من المنافقين حينما حذّرتهم من خصلة المنافقين الثابتة، وهي التربص بالمؤمنين وانتظار وقوع هزيمة لهم، أو التزلف النفعي للمؤمنين إن نصرهم الله تعالى، يقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ الله قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 141]، وهذا القول الأخير كَشْفٌ من الله تعالى لدخائل المنافقين الذين يعينون الكافرين من اليهود وغيرهم على المؤمنين.

وبعد بيان هذا التربص النفعي المجرد من الدين والأخلاق عددت الآيات الكريمة بعض صفاتهم الثابتة، ومنها:

أولًا: مخادعة الله تعالى في زعمهم.

ثانيًا: القيام إلى الصلاة للرياء والسمعة، أو في فتور وانقباض لعدم إيمانهم بالله وعبادته.

ثالثًا: قلة ذكر الله تعالى؛ لأن قلوبهم وألسنتهم وعواطفهم معلقة بالماديات الفانية، والنفعيات الدنيوية العاجلة.

رابعًا: الذبذبة والتحير بين الفريقين المؤمنين والكافرين؛ لشدة شراهتهم في الانتفاع من أحد الفريقين؛ ولغلبة التردد والشك عليهم، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ الله إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلْ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)}.

ثم تتجه الآية الكريمة إلى المؤمنين الصادقين مرة أخرى؛ لتقرر لهم القاعدة الشرعية في تحريم اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين؛ لأن من يفعل ذلك فقد جعل لله تعالى الحجة المبينة؛ لتعذيبه وإهلاكه، وهذا شيء لا يفعله المؤمنون الصادقون لكن المراد تقرير القاعدة الشرعية ابتداء، ثم إلزام المنافقين بها؛ لأنهم ادعوا الإيمان وقالوا كلمة الإسلام، وإلا كانت لله الحجة البالغة في تعذيبهم، وياله من عذاب مر مدمر حين يوضعون في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم ضلوا بعد علم، وكفروا بعد إسلامهم.

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)}، وهذه أشد آيات في كتاب الله تعالى من حيث الجزاء المنتظر لفرق المشركين جميعًا، والجنة عالية عالية، وهي درجات بعضها فوق بعض في الإحسان -جعلنا الله تعالى من أهلها- ثم في الناحية الأخرى النار هاوية مظلمة وهي دركات لا درجات.

وهي دركات بعضها تحت بعض في الذل والهوان - أعاذنا الله تعالى جميعًا منها - والمنافقون في الدرك الأسفل منها حيث لا نصير لهم ولا شفيع، قال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للهِ} [الانفطار: 19]، وهذا حكم إلهي صارم يخلع القلوب ويصدع الجبال؛ لذلك عقب الله تعالى على هذا بدعوة المنافقين إلى التوبة النصوح عن النفاق، وإلى إصلاح قلوبهم وواقع حياتهم، وإلى الاعتصام بالله والاستمساك به وحده؛ ليحفظهم وليعينهم على التوبة والإصلاح؛ فإنه لا يقدر على هذا إلا الله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.

وكذلك دعاهم الله تعالى إلى إخلاص الدين والطاعة له وحده لا شريك له قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِالله وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِرًا عَلِيمًا (147)} [النساء: 146- 147]، إنهم إن فعلوا هذه الأربعة: التوبة والإصلاح والاعتصام بالله وإخلاص الدين لله؛ فإن الله تعالى يجازيهم بأن يكونوا مع المؤمنين، وهذه المعية منزلة عليا لا يفقهها المنافقون؛ لأنهم يستكبرون عن معية المؤمنين في الدنيا، بل يحتقرون المؤمنين إذا دعوا إلى هذه المعية، ويبتغون العزة والنصرة والصحبة من موالاة أعداء الله.

ولا سبيل إلى معية المؤمنين الشاملة إلا إذا فعلوا هذه الأربعة، وبذلك يدخلون في معية المؤمنين: إيمانًا وأخلاقًا وجهادًا وولاءً خالصًا لله وللرسول في هذه الدنيا، وإلا سيمتد حرمانهم من معية المؤمنين في موقف الحشر والحساب ثم في دار الجزاء: الجنة.

ولأن المنافقين كفروا في الباطن، وكادوا للمسلمين من داخلهم، فكانوا أشد أذى من الكفار، لذلك يجمع الله الصنفين في النار كما قال تعالى: {إِنَّ الله جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}، بل حكم الله أن النار مرجعهم جميعًا وهي أولى بهم من غيرها من الأماكن؛ لأنها أعدت لهم، بل سيكون المنافقون في الدرك الأسفل منها.

ومن أعجب العجب أن يسمع المنافقون هذا الحق يتلى عليهم في الصلوات وفي خطب الجمعة، وفي مواعظ النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ثم يصرون مستكبرين؛ كأنهم لم يسمعوا ولم يفهموا، ومع أن القرآن الكريم كرر لهم هذه المعاني مرارًا بشتى الأساليب.

ومع أن القصد من زجرهم وتأنيبهم والتنديد بهم وقص مشاهد القيامة عليهم أن يتوبوا، ويعودوا إلى الحق وينقذوا أنفسهم من عذاب الدنيا والآخرة؛ لأن هذا أحب إلى الله الرحمن الرحيم، وأرضى له سبحانه وتعالى، وما أجل الله وما أعظم كلماته حين يقول لهم: {مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ الله شَاكِرًا عَلِيمًا} أي: يقابل شكركم له بشكره لكم، بأن يقبل منكم العمل اليسير وبأن يثيبكم عليه جزاء دائمًا لا ينفد ولا ينقطع، فما أعظم شكره لعباده، وهو الغني عنهم، وما أقل شكر الناس له سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يكافئ نعمة واحدة من نعم الله علينا، ونحن الفقراء إليه في كل حين.

النموذج الثالث: سورة المنافقون:

وتعرض السورة الكريمة ألوانًا من تناقضهم من حيث: جمال الظاهر وبراعة المنطق، ثم انطماس الفهم عن الله ورسوله، حتى كأنهم أجسام خشبية مسنودة بدعامات حتى لا تسقط على جنوبها، ثم هم من الشك والريبة في أنفسهم يخافون من كل حركة حولهم، ويحسبون كل صيحة تصدر من غيرهم هي تحذير منهم، أو فضح لسرائرهم، ثم يحكم الله تعالى عليهم حكمًا قاصمًا حينما وصفهم بأنهم هم العدو، أي: أنهم أعداء بالغو العداوة، وقد تهون أمام عداوتهم أحقاد الكفار الظاهرين، ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالحذر منهم فقال: {فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ الله} مع أنهم مسلمون في الظاهر.

ويحلفون بالله على إيمانهم برسالته صلى الله عليه وسلم وهذا الستار الظاهري الذي يخادعون به هو عين البلاء؛ لأن من خلاله يتسللون إلى كل منكر كالثعبان الناعم الملمس، من انخدع به ذاق الآلام والحتوف في لدغه، والسورة طويلة وتحمل معاني جمة كثيرة لا يتسع الوقت لعرضها جميعًا، فمن أراد أن يتتبعها فليرجع إلى التفاسير المعتمدة، فقد بين العلماء كل ذلك بوضوح وجلاء.

رفض المنافقين التحاكم إلى شريعة الله:

لقد رفض المنافقون التحاكم إلى شريعة الله، وهذه قضية من أخطر وأعظم القضايا التي استفاض فيها القرآن الكريم، وقد تمرد عليها المنافقون اعتقادًا وتطبيقًا، وتولى الله تبارك وتعالى الرد عليهم في كتابه الكريم تأصيلًا وتفصيلًا؛ ليكون ذلك تأسيسًا لحكمه تعالى في هذه القضية، حكمًا له صفة الدوام وله صفة الامتداد، تعليمًا للمسلمين إلى يوم القيامة، وردًّا على أمثال المنافقين فيما يستقبل من الزمان، لما علمه تعالى من منازعات الناس حولها في كل العصور.

ولذلك ينبغي ابتداء الانتباه إلى أن ردود القرآن على المنافقين القدماء ليست ذات طبيعة مرحلية خاصة، وإنما هي ردود اعتقاد وامتداد تقتضي استمرار الحكم وعمومه وشموله، والعبرة كما قال العلماء: بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ونعني بشريعة الله: معناها العام الشامل، أي: كل حكم أنزله الله تعالى على رسوله تكليفًا للعباد، ابتداء من الإيمان والعقائد العليا، ثم الأخلاق والفضائل، وانتهاء بالعبادات، والمعاملات، وما يلحق بها من أحكام الحدود والقصاص ونحو ذلك، قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية: 18]، وهذه آية مكية تسمي ما نزل من الدين يومئذ باسم الشريعة وقال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، وهي آية مدنية بعد نزول الأحكام التفصيلية في العبادات والمعاملات.

وقد جعل الله التشريع حقًّا مطلقًا له سبحانه، وصفة يختص بها وحده، وألزم كل من يؤمن بالله أن يسلم وجهه لله الواحد القهار، وأن يقبل حكمه وشرعه، وهذا معنى تسمية الدين باسم: الإسلام، فمن دخل الإسلام وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ وجب عليه بعقد الإيمان أن يلتزم بأحكام الله تعالى، وهذا أمر بدهي ملزم لكل مسلم بمقتضى عقد الإيمان، ونصوص القرآن.

ولما دخل المنافقون الإسلام ظاهرًا كان ذلك لمنافع أرادوها لا بسبب إيمانهم بالله تعالى، أو بسبب تسليمهم بهذه البديهية الإيمانية؛ لذلك كانت قضية الحكم بشرعة الله والتحاكم إليها معضلة ثقيلة على المنافقين والمنافقات؛ لأنهم كفار في الحقيقة، ولا يؤمنون بالله إيمانًا صحيحًا، ولا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولا بالقرآن الذي نزل بهذه التقريرات، فكيف يلتزمون بالشريعة؟ والأصل لديهم معدوم أو مهدوم أو فيه خلل خطير عندهم.

وقد كانت هذه القضية من أسباب شقاقهم وخلافهم؛ لأن فيها أحكامًا كثيرة ظاهرة تقتضي التطبيق؛ ولأن فيها أحكامًا كثيرة وقتية أو يومية أو أسبوعية مثل: صلاة الجمعة مثلًا، ونحو ذلك تقتضي الالتزام.

ولما كان عقدهم الإيماني مهدومًا منقوضًا ثقلت عليهم التكاليف، وكثرت منهم المخالفات، واندلعت بينهم وبين المؤمنين الخلافات، وكان ذلك من أبرز العلامات التي تكشف نفاقهم، وتباعد بينهم وبين المجتمع الذي يعيشون فيه بأجسادهم بينما بواطنهم وأرواحهم تهيم في الظلمات.

ومن هنا استفاض القرآن في متابعة هذه القضية الكبرى، من جهة الأصول التي تقوم عليها، وهي الجوانب الإيمانية الاعتقادية، أو من جهة التفصيلات التي خالفوها، أو الأحكام المخصوصة التي رفضوا تحكيم الشريعة فيها؛ لأنها تقوم على الحق والعدل، وهم لا يريدون ذلك بسبب علتهم الخفية: النفاق ومرض القلوب، أو بسبب النفعية الأنانية البغيضة، التي يقدمونها على حكم الله. وإن يكن لهم الحق أذعنوا للشريعة بسبب مصلحتهم، لا بسبب عقيدتهم.

ولقد كان اليهود هم أسوأ مثل في التاريخ الديني كله -نقول عن اليهود ليس عن المنافقين؛ لأن اليهود هم أساتذة المنافقين- وقد كان اليهود هم أسوأ مثل في التاريخ الديني كله، حيث قالوا لأنبيائهم كلمتهم النكراء: (سمعنا وعصينا)، كما قال الله في كتابه مرات، والمنافقون حلفاء اليهود أئمة النفاق من قديم؛ لذلك كانوا مثلهم تمامًا في هذا الجانب كما سنرى في النصوص القرآنية الجليلة.

قال تعالى آمرًا وشارعًا ومنظمًا حياة المسلمين على أساس العدل والرد إلى شريعته سبحانه عند التنازع، قال تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، ثم يقول سبحانه عقب ذلك: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ}، ولما كان المنافقون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إيمانًا صحيحًا -كما قال الله في كتابه مرات عديدة- كان المتوقع أن يخالفوا هذا، ويتمردوا على كل ما يخالف أهواءهم من حيث المبدأ، ومن حيث العموم، حتى ولو كانت الآيات قد نزلت بسبب خاص، ردًّا على تصرف منافق بعينه، أو جماعة محدودة من المنافقين.

ولذلك نجد الآيات الكريمة تأتي بصيغة الجمع العام، وتندد بكافة المنافقين في قوة بالغة وحسم شديد، قال الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة النساء: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء: 60]، والاستفهام هنا للإنكار، والزعم بمعنى: الكذب، وهذا تكذيب للمنافقين في دعواهم الإيمان. وبيان للسبب الأصلي في تخبطهم وعقدهم العزم في التحاكم إلى الطاغوت، وهو: كل متجاوز الحد في الطغيان حيث يتصدى للحكم بين الناس بهواه أو بأعراف الجاهلية، وبترك حكم الله المنزل في واقعة ما، وهذا لا يحل للمؤمنين أن يتحاكموا إليه ابتداء بموجب إيمانهم، فكيف وقد أمروا أن يكفروا به؟ وهذا تكليف إضافي يوجب عليهم ألا يتحاكموا إليه.

ولكن المنافقين يخالفون هذا كله؛ لعدم إيمانهم ابتداء، ولغرامهم بمخالفة شرائع الله انتهاء، ثم لهيمنة الشيطان عليهم، أضلهم إضلالًا لا حدود له، ولا نهاية ينتهي إليها -كما صرحت بذلك الآية التالية مباشرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ الله وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61]، أي: يعرضون عنك إعراضًا متعمدًا مؤكدًا، ويقاومون كل دعوة تدعوهم إلى التحاكم إلى ما أنزل الله عز وجل على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.

ثم تشير الآيات إلى عادة المنافقين الراسخة في اتخاذ الأيمان الباطلة وسيلة للاعتذار، ولتبرير مواقفهم الفاسدة، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِالله إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقًا} [النساء: 62]، أي: أنهم يحلفون كذبًا ما أردنا بترك التحاكم إلى الشريعة إلا الإحسان والتوفيق بين اليهود والمسلمين، وهذا غاية في قلب الحقائق، واعتذار عن السيئات بأسوأ منها، وهو كما قيل: عذر أقبح من ذنب. فإن رفض التحاكم إلى الشريعة ذنب عظيم، وكفر مبين؛ ولكن الاعتذار عنه يمثل سلسلة من الكبائر، فهم كاذبون في الاعتذار، ويحلفون على الكذب أيمانًا باطلة، ثم هم يسمون الشر بغير اسمه خداعًا ثم يخادعون بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أن الله تعالى سيكشف له كذبهم وبهتانهم، فأي جرأة على الباطل يمثلها هؤلاء الضالون؟

ولذلك عقب الله تعالى على قولهم هذا بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} أي: أن الله تعالى يعلم ما في قلوبهم من الكفر والاستهزاء بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: فلا تشغل نفسك بلغوهم، وانصحهم أن يتوبوا، وقل لهم قولًا بليغًا حاسمًا عن أنفسهم، وعن حقيقة أمرهم، وأنك تعرف تمامًا أباطيلهم، وأنك لا تنخدع بهم بعد ما علمك الله تعالى أسرارهم؛ فعسى أن تؤثر فيهم هذه المكاشفة الحادة؛ ليصلحوا أنفسهم قبل فوات الأوان.

ثم بين الله تعالى لهم وللناس جميعًا أصلًا من أصول دينه في كل العصور، وهو أن كل رسول يجب أن يطاع بإذن الله، وأن اعتذارات المنافقين الفارغة لا تغني شيئًا إلا بشرطين:

الأول: أن يأتي المنافقون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مستغفرين الله من ذنوبهم مستشفعين باستغفار الرسول لهم، وليس كما يفعلون من الكذب، والحلف الباطل، وقلب الحقائق.

الثاني: أن تحكيم الرسول فيما يقع بينهم من خلاف ليحكم فيه بشرع الله هو شرط للإيمان، ولا يكفي هذا التحاكم الظاهر، بل لا بد أن يكون القلب والنية متواطئين عليه، وأن يسلم له المتحاكمون تسليمًا تامًّا كما هو شأن الإيمان الصحيح قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا الله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا الله تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلا وَرَبِّكَ} هذا هو القسم المخيف {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 64- 65].

يقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية الكريمة: يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكّم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد إليه ظاهرًا وباطنًا، ويجب التسليم له تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة (6).

وهذا حكم ينطبق على كل مسلم وليس مخصوصًا بالمنافقين، فإن المسلم المخلص قد تعرض له مصلحة شخصية، فيقدم هواه على حكم الشريعة والرسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل حينئذ في حكم القسم الإلهي الجليل، ويقع في عداد مَنْ نفي عنهم الإيمان حتى يفيء إلى أمر الله عز وجل وإلى حكم رسوله صلى الله عليه وسلم.

وفي روايات عديدة ثبت أن الآية الكريمة: {فَلَا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} نزلت في مسلم صالح من الأنصار اختلف مع الزبير بن العوام في شراج الحرة، حول سقيا زرع كلّ منهما.

فالآية الكريمة عامة في إلزام كل مسلم بهذا الحكم القطعي، تذكيرًا للمؤمنين، وإنذارًا وتحذيرًا للمنافقين الذين ادعوا الإسلام؛ لأن قبول الشريعة وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم من موجبات الإيمان، ومن بدهيات الإسلام.

وقد أكد القرآن الكريم هذا الحكم وما يتعلق به في سور شتى، وبأساليب متنوعة، منها قوله تعالى، في سورة النور: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِالله وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} نفي الإيمان عنهم {وَإِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(51)} [النور: 47- 51]، والآيات الكريمة تتحدث عن قضية جماعية وليست فردية، حيث شاع في المنافقين عند الخصومات أن يرفضوا التحاكم إلى الله ورسوله إذا كانت دعواهم باطلة، وأن يسارعوا إلى ذلك إذا كانت دعواهم صحيحة.

وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره: كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة فدُعِي إلي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو محق، أذعن؛ لعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي له بالحق (7).

وإذا أراد أن يظلم فدُعِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أعرض، وقال: انطلق بنا إلى فلان، يعني من اليهود أو من الكهان حكام الجاهلية أو من غيرهم، وقد نفي الله تعالى الإيمان عن فاعل هذا وأمثاله فقال: {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (8).

____________

(1) أخرجه الحاكم (8392).

(2) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 309).

(3) تفسير ابن كثير (1/ 176).

(4) من صفات المنافقين/ إسلام ويب.

(5) تفسير ابن كثير (1/ 178).

(6) تفسير ابن كثير (2/ 349).

(7) تفسير ابن أبي حاتم (8/ 2622).

(8) بيان القرآن لانحرافات المنافقين/ عبد الستار فتح الله سعيد، موقع منارات.