logo

النفس التواقة


بتاريخ : الاثنين ، 26 ربيع الأول ، 1443 الموافق 01 نوفمبر 2021
بقلم : تيار الاصلاح
النفس التواقة

النفس التواقة هي النفس التي لا تبقى على حالة واحدة جامدة، وإنما تجدد آمالها وتواصل مسيرها، وكلما قطعت مرحلة ارتقت إلى ما بعدها وهمتها عالية فاعلة، حتى تلقى الله.

الدرجات العلى في الدنيا والآخرة مطلب كل نفس تواقة للخير لا تؤمن بحدود الواقع مادامت قادرة على التمام، وقد قال الله تعالى ترغيبًا في المسارعة إلى الخير: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11].

لكن من المؤسف حقًا أن يجعل بعض الناس من الارتفاع في المناصب -أيًا كانت- سبيلًا للتعالي على خلق الله؛ بل ويصل الحال ببعضهم إلى غمط الناس، والتفريط في منصبه الموكل أصلًا لخدمة الناس والقيام على شؤونهم.

وهذا الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يقف ويواجه فتنة كادت تعصف بالأمة وقبلهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم جميعًا، في حياتهم كانت الانجازات والبصمات التي غيرت مجرى التاريخ.

عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عمر بن الخطاب قال لأصحابه: تمنوا، فقال أحد: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم فأنفقها في سبيل الله، فقال: تمنوا، قال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا فأنفقها في سبيل الله، قال: تمنوا، قال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جوهرًا أو نحوه فأنفقه في سبيل الله، فقال عمر: تمنوا، فقالوا: ما تمنينا بعد هذا، قال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله، قال: ثم بعث بمال إلى حذيفة، قال: انظر ما يصنع، قال: فلما أتاه قسمه، ثم بعث بمال إلى معاذ بن جبل فقسمه، ثم بعث بمال يعني إلى أبي عبيدة، قال: انظر ما يصنع، فقال عمر: قد قلت لكم، أو كما قال (1).

كيف لا، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل أمة أمينًا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح» (2).

لاقى أباه مع صف المشركين في بدر فنازله وقتله، شارك في معركة اليرموك، وقد أمره الخليفة عمر بن الخطاب على الجيش بدلًا من خالد بن الوليد، ولكنه أخفى أمر الأمارة عن خالد إلى أن انتهى خالد من المعركة، مُحرزًا النصر، ثم أعلمه بأمر عمر، فسأله خالد: يرحمك الله أبا عبيدة، ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب؟

فأجاب أبو عبيدة: إني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله أخوة (3).

وإذ كانت النفوس كبارًا        تعبت في مرادها الأجسام

قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه: لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت، فإن سئلت عنه قلت: استخلفت أمين الله وأمين رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).

نفوس عظيمة تاقت للأمور العظيمة فكانت بفضل الله من أهلها.

وتعظم في عين الصغير صغارها       وتصغر في عين العظيم العظائم

اجتمع في الحجر بالمسجد الحرام عبد الله، ومصعب، وعروة، بنو الزُّبير بن العوام، وابن عمر، فقال: تمنُّوا، فقال عبد الله: أتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة، وسكينة بنت الحسين، فقال ابن عمر: أما أنا فأتمنى المغفرة، فنالوا ما تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له (5).

ولا بد للشاب أن تكون نفسه توَّاقًة تسعى للمعالي؛ قال عمر بن عبد العزيز: إن نفسي هذه تواقة لم تعط من الدنيا شيئًا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلما أعطيت الخلافة التي لا شيء أفضل منها تاقت إلى ما هو أفضل منها، قال سعيد: الجنة أفضل من الخلافة (6).

قال رجاء بن حيوة (وزير عمر): كنت مع عمر بن عبد العزيز لما كان واليًا على المدينة فأرسلني لأشتري له ثوبًا: فاشتريته له بخمسمائة درهم، فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه رخيص الثمن.

فلما صار خليفة للمسلمين بعثني لأشتري له ثوبًا فاشتريته له بخمسة دراهم، فلما نظر فيه قال: هو جيد لولا أنه غالي الثمن.

قال رجاء: فلما سمعت كلامه بكيت، فقال لي عمر: ما يبكيك يا رجاء؟ قلت: تذكرت ثوبك قبل سنوات وما قلت عنه.

فكشف عمر لرجاء ابن حيوة سر هذا الموقف، وقال يا رجاء، إنّ لي نفسًا تواقة، وما حققت شيئًا إلا تاقت لما هو أعلى منه؛ تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن يا رجاء تاقت نفسي إلى الجنة، فأرجو أن أكون من أهلها، وكان يقول: من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من علمه قل كلامه إلا فيما ينفعه (7).

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله يحكي عن حال شيخه ابن تيمية في القراءة: وحدثني شيخنا قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك؛ أليست النفس إذا فرحت وسُرّت وقويت الطبيعة فدفعت المرض؟ فقال: بلى، فقلت له: فإن نفسي تُسرُّ بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحةً، فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا (8).

قال الذهبي رحمه الله: شيخنا، وشيخ الإسلام، وفريد العصر، علمًا، ومعرفة، وشجاعة، وذكاء، وتنويرًا إلهيًا، وكرمًا، ونصحًا للأمة، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر.

سمع الحديث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب، وخرّج، ونظر في الرجال والطبقات، وحصّل ما لم يحصّله غيره، وبرع في تفسير القرآن، وغاص في دقيق معانيه بطبع سيال، وخاطر وقّاد إلى مواضع الإشكال ميّال، واستنبط منه أشياء لم يسبق إليها، وبرع في الحديث وحفظه، فقلّ من يحفظ ما يحفظ من الحديث معزوّا إلى أصوله وصحابته، مع شدة استحضار له وقت إقامة الدّليل، وفاق النّاس في معرفة الفقه، واختلاف المذاهب، وفتاوى الصّحابة والتابعين، بحيث إنه إذا أفتى لم يلتزم بمذهب، بل بما يقوم دليله عنده.

وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتعليلًا واختلافًا.

ونظر في العقليات، وعرف أقوال المتكلمين، وردّ عليهم، ونبّه على خطئهم وحذّر، ونصر السّنّة بأوضح حجج وأبهر براهين، وأوذي في ذات الله من المخالفين، وأخيف في نصر السّنّة المحضة، حتّى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التّقوى على محبته والدعاء له، وكبت أعداءه، وهدى به رجالًا كثيرة من أهل الملل والنّحل، وجبل قلوب الملوك والأمراء على الانقياد له غالبًا، وعلى طاعته، وأحيا به الشام، بل والإسلام، بعد أن كاد ينثلم خصوصًا في كائنة التتار، وهو أكبر من أن ينبّه على سيرته مثلي، فلو حلّفت بين الرّكن والمقام لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه.

وكتب الشيخ كمال الدّين ابن الزملكاني تحت اسم «ابن تيميّة»: كان إذا سئل عن فنّ من العلم ظنّ الرائي والسّامع أنه لا يعرف غير ذلك الفنّ، وحكم أن أحدًا لا يعرفه مثله، وكان الفقهاء من سائر الطّوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحدا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشّرع أو غيرها إلّا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.

وكتب الحافظ ابن سيّد الناس في «جواب سؤالات الدّمياطي» في حقّ ابن تيميّة: ألفيته ممن أدرك من العلوم حظًا، وكاد يستوعب السّنن والآثار حفظًا.

إن تكلّم في التفسير، فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالنّحل والملل لم ير أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته.

برز في كل فنّ على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه (9).

وقال تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي رحمه الله: لا تكاد نفسُه تشبع من العلم، ولا تروي من المطالعة، ولا تملّ من الاشتغال، ولا تكلُّ من البحث، وقلّ أن يدخل في علمٍ من العلوم في بابٍ من أبوابه إلا ويُفتح له من ذلك الباب أبواب، ويستدرك أشياء في ذلك العلم على حذاق أهله (10).

لما مرض الإمام أبو يوسف -صاحب الإمام أبي حنيفة- جاءه أحد تلاميذه يعوده، قال تلميذه القاضي إبراهيم بن الجراح: مرض أبو يوسف، فأتيته أعوده، فوجدته مغمى عليه، فلما أفاق قال لي: يا إبراهيم، ما تقول في مسألة؟ قلت: وأنت في مثل الحالة؟! قال: لا بأس بذلك، لعله ينجو به ناج، ثم قال: يا إبراهيم، أيما أفضل في رمي الجمار -أي في مناسك الحج- أن يرميها ماشيًا أو راكبًا؟ قلت: راكبًا، قال: أخطأت، قلت: ماشيًا، قال: أخطأت، قلت: قل فيها، يرضى الله عنك، قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء، فالأفضل أن يرميه ماشيًا، وأما ما كان لا يوقف عنده فالأفضل أن يرميه راكبًا، ثم قُمت من عنده، فما بلغت باب داره حتى سمعت الصراخ عليه، وإذا هو قد مات، رحمه الله عليه (11).

نفس الإنسان العظيم الكبير دائمًا تطلب معالي الأمور، والإنسان الذي يطلب معالي الأمور لا يمكن أن يجد أمرًا أعلى من أن يحقق ما يريده الله تبارك وتعالى، يقول: تاقت نفسي إلى الإمارة فنلت الإمارة، فوجدتها ليست بالشيء الذي يملأ نفسي، ثم تاقت إلى الخلافة فنلتها، ولكن لم أجد الخلافة تملأ نفسي، فتاقت النفس إلى جنة الله تبارك وتعالى.

المال لا يغني النفس، والمتاع لا يغني النفس، قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» (12).

عندما يكون الإنسان فقيرًا فيحصل على بيت، إذا به يريد بيتًا أحسن منه، وعندما يكون غنيًا ويشتري قصرًا؛ إذا به يريد قصرًا أحسن منه، عندما يملك الإنسان الشيء من أمور الدنيا بعد ذلك لا يحترمه، لأن نفس الإنسان دائمًا تريد الأعلى، ولذلك أدبنا القرآن بأدبين: الأدب الأول فيما يتعلق في أمور الدنيا، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} [طه:131]، انظر في أمور الدنيا إلى من هو أقل منك صحة وعافية ومالًا، فعند ذلك تحمد الله على نعمته.

أما فيما يتعلق بأمر الآخرة فانظر إلى الغني الذي ينفق ماله في سبيل الله، وإلى المجاهد الذي يبذل نفسه في سبيل الله، وإلى العالم الذي يبذل وقته في سبيل الله، وتطلع دائمًا لأن تكون واحداً من هؤلاء؛ ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فهو يسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله علمًا فهو يقضي به بين الناس» (13).

هذان الاثنان يتطلع إليهما الذي يحسن النية، فيتمنى أن يكون له مثل ذلك الغني المنفق في سبيل الله، ومثل ذلك العالم الذي يعلم الخلق وهو صادق في نيته، ولكنه لا يستطيع أن يحقق ذلك، له مثل أجرهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن خير الناس من آتاه الله علمًا، فهو يسلطه على هلكته في الحق، ومن آتاه مالًا ثم الذي يتمنى مثل ما لهذين فإنه ينال مثل أجرهما؛ فعن أبي كبشة الأنماري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل هذه الأمة، كمثل أربعة نفر، رجل آتاه الله مالًا وعلمًا، فهو يعمل بعلمه في ماله، ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علمًا، ولم يؤته مالًا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالًا، ولم يؤته علمًا، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علمًا، ولا مالًا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا، عملت فيه مثل الذي يعمل»، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهما في الوزر سواء» (14).

والذي لا يؤتى مالًا ولا يؤتى في هذه الدنيا ما يتصرف فيه، ثم يتمنى أن يكون له مثل مال فلان المجرم السيئ من المال، يفسد كفساده، فهما في الوزر سواء، هذا لم ينل من الدنيا شيئًا يحقق به ما يطلبه من أهواء وشهوات، ثم ينال في الآخرة مثل إثم هذا الإنسان الآثم الفاجر.

ففي مجال الدنيا ينبغي للمسلم ألا يشغل نفسه كثيرًا، وألا ينظر إلى من هو أعلى منه، وفي مجال الآخرة ينبغي أن تتطلع همته إلى المنازل العالية (15).

تخيّل لو قيل لك إنك ستُعطى مال قارون وجاهَه، وتعيش في الدنيا عيشة الملوك، وكل ما يمكن أن تشتهيه ستجاب إليه، شريطة أن تكون هذه الدنيا هي آخر المطاف بالنسبة لك، ويكون الموت عين الفناء، فلا آخرة ولا خلود، أكنتَ تقبل بهذا وتسعد بعاقبته؟ أم كنت لتستاء منه وترفضه لأن مآله لفناء محقق لا عودة بعده؟

إن في قوائم المنتحرين والمكتئبين من أصحاب الأموال والجاه ومن حازوا الدنيا من أطرافها، ما يدفع للتفكر في زيف ربط سعادة النفس وانشراحها وسعتها بحيازة الدنيا للدنيا، وعيش الحياة لذاتها، إنها لم ترد كذلك ولم ترد لذلك، فمن يتعامل معها كذلك يخالف طبائع الأشياء وسنن الوجود ومقاصده.

ما لا ننتبه له ونحن نجري لاهثين وراء قشور السعادة ووهم الاستقرار والرخاء، منهمكين في الدنيا انهماك من لا حياة له بعدها، أنها إنما سميت دنيا من الدنو، وفيه من معاني القرب والتدني معا بحسب نهج صاحب الدنيا في صحبتها، وقد فَطَرَنا الله على نفس توّاقة، فحقيقة أشواقنا ورغائبنا معلقة بذلك الخلود الأخروي، والنعيم الذي لا ينقطع، هذا جوهر تطلعاتنا وقمة أشواقنا، هذا الذي في سبيله تنقلب كل مشقة لذة، وبغيره لا يمكن لأي لذة مجردة إلا أن تكون شقاء.

لقد فطرك الله على نفس توّاقة، فإما أن تأخذها بعزم وقوة فتنجح وتفلح، أو غير ذلك فتشقى وتخسر، ليس من حل وسط ولا اختيار ثالث، وكل مجزيّ بعمله محاسب على اختياره، وإنما الموفق من وفقه الله تعالى.

وإنّ من مِنّة الدين على من دان به حقًا أن رؤيته للكون تغدو أوضح وحركته فيه أصح.

فعندما تكون مسلمًا، لا يعود عليك اختراع فهم لهذا الوجود ولا سنّ قوانين له بنفسك، وإنما يكون عليك الاشتغال برسالتك الوحيدة في الحياة: أن تكون عبدًا لله، ثم رسالتك المخصوصة أن تكون عبدًا لله في سياقاتك المخصوصة ودوائر معاملاتك التي أوقفك الله فيها، ومجالك العلمي أو العملي المعيّن الذي يهديك إليه، وإن الله الذي خلقك هو الذي يهديك لما يسّرك لعمله حين خلقك، وإنما غاية ما عليك أن تشتغل بالاستعانة بالله على أمره وطلب ما عنده به.

وكل عمل –مطلقًا- تقوم به في ظل تلك المنظومة داخل بالضرورة في مهامك الوجودية وحسابك من بعد، فليس في ميزان الله عمل جماهيري وعمل خاص، أو مشهور ومغمور، بل عمل خالص أو غير خالص، يقظ أو غافل، والله تعالى يُعبد بالمسؤولية لا بالبطولة.

عليك أمورًا أرجو أن تكون مفيدة لك في الثبات على ما قصدت من أمر عظيم:

1- الإخلاص لله تعالى: كما أمر الله تعالى بإخلاص العمل له دون ما سواه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]، فكلما قوي إخلاص العبد كان أكثر توفيقا إلى الطاعات والقربات، وفي حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب» (16).

قال مطرف بن عبد الله: صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية.

يقول ابن القيم: قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنِّي لا أحمل همَّ الإجابة ولكنْ همَّ الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء فإنَّ الإجابة معه، وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالمين، يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، هو العليم الحكيم.

وما أُتي من أُتي إلا من قبل إضاعة الشكر، وإهمال الافتقار والدعاء، ولا ظفر من ظفر بمشيئة الله وعونه إلا بقيامه بالشكر، وصدق الافتقار والدعاء، وملاك ذلك الصبر، فإنه من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس فلا بقاء للجسد (17).

2- محاسبة النفس وتوبيخها: فمحاسبة النفس من شعار الصالحين، وسمات الصادقين قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18].

قال الإمام ابن القيم: فإذا كان العبد مسئولًا ومحاسبًا على كل شيء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يناقش الحساب.

يقول تعالى: لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال: أمن الصالحات التي تنجيه، أم من السيئات التي توبقه؟

قال قتادة: ما زال ربكم يقرب الساعة حتى جعلها كغد.

والمقصود أن صلاح القلب بمحاسبة النفس، وفساده بإهمالها والاسترسال معها.

وفى محاسبة النفس عدة مصالح منها: الاطلاع على عيوبها، ومن لم يطلع على عيب نفسه لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى.

ومن فوائد محاسبة النفس: أنه يعرف بذلك حق الله تعالى عليه. ومن لم يعرف حق الله تعالى عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدًا (18).

ودونك حياة السلف الصالح من الصحابة الأطهار والتابعين لهم بإحسان تجدها مليئة بصور من المجاهدة الذاتية لأنفسهم حتى فطموها عن الشر، وأصبحت مطواعة لهم في الخير، مروضة على المسابقة للخيرات والعجلة في إرضاء الرب سبحانه- من كل محابه وما يقرب منه.

وهكذا ينبغي أن نجاهد أنفسنا ونراقبها ونأخذها بالجادة ونعرضها لأنواع من الرياضة القلبية والمجاهدة الروحية لصقلها من كل شائبة وكشف معدنها الطاهر، وهو الجانب الآخر للنفس التي خلقها الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7- 8]، فلا بد من استخراج تلك التقوى بالأعمال الصالحة، والمواظبة على الأذكار وقراءة القرآن وما شابه من القربات.

3- القراءة في سير الصالحين، والتنافس مع هذه القمم الشامخات إن غاب عن واقعك القدوات، ونماذج الصالحين والمصلحات، كما قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت؛ لم لا تجلس معنا؟!، قال: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟! أنتم تغتابون الناس (19).

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم           إنَّ التشبه بالكرام فلاح

ففي مدارسة أخبارهم شفاء للعليل، وفي مطالعة أيامهم إرواء للغليل.

فأي خصلة خير لم يسبقوا إليها؟! وأي خطة رشد لم يستولوا عليها؟! تالله لقد وردوا رأس الماء من عين الحياة عذبًا صافيًا زلالًا، وأيدوا قواعد الإسلام، فلم يدعوا لأحد بعدهم مقالًا (20).

وقد كان القرآن الكريم يقصُّ علينا أخبار الأنبياء الكرام، فنحسُّ بالقمم الإنسانية الشامخة ترنو إلينا، فستنهض هممنا، ويقص علينا أخبار الصالحين من غير الأنبياء، الذين كان لهم الدور الكبير في نشر كلمة لا إله إلا الله، وإعلائها، وتَحَمُّلِ الأذى، والصبر عليه.

_________________

(1) التاريخ الأوسط (1/ 54).

(2) أخرجه البخاري (3744).

(3) رجال حول الرسول (ص: 179).

(4) أخرجه الحاكم (5165).

(5) سير أعلام النبلاء (5/ 74).

(6) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 331).

(7) انظر: وفيات الأعيان (2/ 301)، موسوعة الأخلاق والزهد والرقائق (1/ 62).

(8) روضة المحبين (ص:70).

(9) شذرات الذهب في أخبار من ذهب (8/ 145).

(10) العقود الدرية (ص: 5).

(11) علو الهمة (ص: 208).

(12) أخرجه البخاري (6436)، ومسلم (1048).

(13) أخرجه البخاري (1409).

(14) أخرجه ابن ماجه (4228).

(15) النفس التواقة/ من دروس الشيخ عمر الأشقر.

(16) أخرجه أحمد (2825).

(17) الفوائد (ص: 185).

(18) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 84، 88).

(19) المهيأ في كشف أسرار الموطأ (2/ 37).

(20) إعلام الموقعين (1/15).