آداب الموعظة
الوعظ هو الدعوة إلى ما فيه خير وصلاح, والتحذير مما فيه شر وفساد، والموعظة باب من أبواب الدعوة إلى الله, وأسلوب من أساليب الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر.
ومما يدلُّ على عظم شأن الموعظة أن الله تبارك وتعالى سمَّى القرآن الكريم موعظة؛ فقال سبحانه:{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [النور:34]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، وقال سبحانه: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138].
وقد وَعَظَ الله عباده، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:231]، وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}[النحل:90].
وجعل الله القرآن موعظة للمؤمنين بالله واليوم الآخر؛ فقال سبحانه: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:232].
وأَمَرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعظ الناس، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء:63].
والكافرون هم الذين لا تؤثِّر فيهم الموعظة، فقال سبحانه يحكي مقالة عادٍ قومِ هود لنبيِّهم: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ} [الشعراء:136].
والاستجابة للموعظة خيرٌ كبير، وقبولها منجاة من عذاب الله؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء:66]، وقال في آيات تحريم الرِّبا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ}؛ أي: لا يستردُّ منه ما أخذه من الربا قبل نزول التحريم.
وكان صلى الله عليه وسلم يعظ أصحابه، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنَّها موعظة مودِّع فأوصِنا، قال: «أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»(1).
والواعظ هو الذي يرشد الجاهلين, وينبه الغافلين, ويعالج النفوس الطائشة مع أهوائها؛ ليعيدها إلى فطرتها السليمة من الإقبال على الفضائل, والترفع عن الرذائل.
ولكن القيام بهذا العمل جهاد يحتاج إلى المعية المهذبة, ودراية بالطرق الحكيمة, علاوة على العلم الذي يميز به بين الحق الباطل, ويفرق به بين المعروف والمنكر.
مقاصد الموعظة:
ويحسن ههنا إيراد مقاصد الموعظة وحكمها؛ حتى لا يظن أنها شرعت لمصلحة معينة، فإذا فاتت تلك المصلحة ظن صاحبها أن الموعظة لم تؤت ثمرتها.
ويمكن إجمال تلك المقاصد والحكم بما يلي:
1- إقامة حجة الله على خلقه: كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
2- الإعذار إلى الله عز وجل، والخروج من عهدة التكليف: قال الله تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:164]، وقال عز وجل: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54].
3- رجاء النفع للمأمور: كما قال تعالى: {قَاَلُوْا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف:164]، وقال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].
4- رجاء ثواب الله عز وجل: إذ الدعوة باب عظيم من أبواب البر {فَأَثَابَهُمُ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:85].
5- الخوف من عقاب الله تبارك وتعالى: إذ إن ترك الدعوة مؤذن بالعقوبة، قال الله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38](2).
آداب الموعظة:
الوعظ عمل جليل، والناس بحاجة ماسة إليه, والقائمون بالوعظ بحاجة إلى ما يذكرهم بنبل غايتهم, والسبل المعينة لهم على القيام برسالتهم، ولذلك نستعرض بعض هذه الآداب الشرعية التي ينبغي استصحابها مع الموعظة رجاء النفع والتأثير، ومن هذه الآداب:
1- التحلي بالتقوى وإخلاص النية: وذلك أمر يستمده الواعظ من قوة الإيمان بأن الله يعلم السر وأخفى, والإخلاص عليه مدار العمل صلاحًا وفسادًا.
وقد أشار القرآن المجيد إلى أن داعي الناس إلى معروف لا يفعله جدير بالتوبيخ, قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
وللإخلاص أثر كبير في نجاح الموعظة, وانشراح الصدور للانتفاع بها على أي حال، ولهذا يحسن بالواعظ أن يتعاهد إيمانه، ويعز نفسه، ويصون علمه، وأن يترفع عن السفاسف، وأن يجانب مواطن الريب، ومواضع المهانة، وألَّا يسير إلا على ما يمليه الدين، وتقتضيه الحكمة والمروءة.
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار، وقرض الشفاه بمقاريض النار، ليس على الأمر بالمعروف، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالمًا بذلك، ينصح الناس عنه، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف; لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير»(3).
2- العلم: فعلم الواعظ بما يقول هو الذي يجعل الموعظة نقية من إيراد الأحاديث الموضوعة، أو القصص المنبوذة، أو تحسين البدع، أو إضلال الناس.
قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108]، فلا بد للواعظ أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه من فعل أو ترك، وأن يكون عالمًا بحال المدعو، ولهذا لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن قال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب...» الحديث(4).
وأن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة، وأساليبها، ولا يفهم من ذلك أنه لا بد للواعظ أن يكون عالمًا متبحرًا، وإنما المقصود ألا يدعو إلا بما يعلم، وألا يتكلم بما لا يعلم(5)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية»(6).
ومما يتعين على الواعظ معرفته والوقوف عليه النظر في المصالح والمفاسد.
3- لين الجانب، وبسط الوجه، والإحسان إلى الناس: فالناس يحبون لين الجانب، ولا يحبون من يكلمها من علٍ.
ومن الوسائل التي لها أثر في تألف الجاهلين أو المفسدين، وتهيئتهم إلى قبول الإصلاح؛ البسط في وجوههم، والإحسان إليهم بأي نوع من أنواع الإحسان، وإرضاؤهم بشيء من متاع هذه الحياة الدنيا؛ فإن ذلك قد يعطف قلوبهم نحو الداعي، ويمهد السبيل لقبول ما يعرضه من النصيحة، والنفوس مطبوعة على مصافاة من يلبسها نعمة، ويفيض عليها خيرًا.
وإلى أمثال هؤلاء أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه؛ خشية أن يكبه الله في النار»(7).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «كما كان إعطاؤه صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم مأمورًا به في حقه وجوبًا أو استحبابًا، وإن لم يكن مأمورًا به لأحد، كما كان مزاحه مع من يمزح معه من الأعراب والنساء والصبيان؛ تطييبًا لقلوبهم، وتفريحًا لهم، مستحبًا في حقه، يثاب عليه، وإن لم يكن أولئك مأمورين بالمزاح معه، ولا منهيين عنه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يبذل للنفوس من الأموال والمنافع ما يتألفها به على الحق المأمور به، ويكون المبذول مما يلتذ به الآخذ ويحبه؛ لأن ذلك وسيلة إلى غيره»(8).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي: «واحذر غاية الحذر من احتقار من تجالسه من جميع الطبقات وازدرائه, أو الاستهزاء به قولًا, أو فعلًا, أو إشارة, أو تصريحًا, أو تعريضًا؛ فإن فيه ثلاثة محاذير:
أحدها: التحريم والإثم على فاعله.
الثاني: دلالته على حمق صاحبه, وسفاهة عقله, وجهله.
الثالث: أنه باب من أبوب الشر, وضرر على نفسه»(9).
4- الصبر والحلم: فالواعظ محتاج لذلك أشد الحاجة؛ إذ هو معرض لما يثيره, ويحرك دواعي الغضب فيه، ومن مواعظ لقمان لابنه وهو يعظه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].
فلا يحسن بالواعظ أن يكون ضيق الصدر, قليل الصبر؛ ذلك أن الجماعات التي استشرى فيها الفساد كالمريض, والواعظ لها كالطبيب.
قال الله تعالى في وصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، وقال الله عز وجل له: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
فإذا كان الواعظ على هذا النحو من المكارم أثمر وعظه, وحاز من العلياء كل مكان.
5- التجمل والعناية بالمظهر بلا إسراف: فهذا؛ وإن لم يكن من الصفات التي تقوم عليها الخطابة، فهو أمر يحسن العناية به؛ لأنه مطمع الأنظار، والنظر يفعل بالقلب ما يفعله الكلام في السمع؛ فهو من هذه الناحية لا ينقص اعتباره عن اعتبار الصفات الأصلية؛ فيحسن بالواعظ أن يراعي ذلك, وأن يعتني بمظهره, وطيب رائحته, وما شاكل ذلك.
فالتجمل والعناية بالمظهر إذًا أمر حسن؛ فالله عز وجل جميل يحب الجمال, ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده، قال عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال»(10).
وإنما المحذور هو المبالغة في التجمل, وصرف الهمة للتأنق, واشتداد الكلف بحسن البزة؛ فهذا مما يقطع عن إصلاح النفس, ويدل على نقص الإنسان.
قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إياكم لبستين: لبسة مشهورة, ولبسة محقورة»(11).
وخلاصة القول أن الشارع قد فوض في أمر اللباس إلى حكم العادة, وما يليق بحال الإنسان؛ فإذا جرت العادة بلبس نوع من الثياب, وكان مستطيعًا له, فعدل عنه إلى صنف أسفل منه أو أبلى قبح به الحال, وكره له؛ لأن بذاذة اللباس ورثته مما يقذفها العيون, وتشمئز منها الطباع, فتلقي بصاحبها إلى الهوان, والالتفات إليه بازدراء.
قال الخطيب البغدادي: «وكما يكره لبس أدون الثياب فكذلك يكره لبس أرفعها؛ خوفًا من الاشتهار بها, وأن تسمو إليه الأبصار فيها»(12).
6- استعمال المداراة والبعد عن المداهنة: فالمداراة من أخلاق المؤمنين والمداهنة من صفات المنافقين, والواعظ يحتاج إلى الأخذ بالأولى, والبعد عن الثانية.
وبما أن المداراة خلق فاضل يحتاجه العاقل في حياته, وأن المداهنة خلق دنيء يزري بصاحبه, وينزل به إلى درك وسقوط، فإن معرفة المداراة وتمييزها عن المداهنة من الأهمية بمكان؛ حتى يسلك العاقل طريق المداراة, وينأى بنفسه عن المداهنة.
ولا ريب أن الواعظ من أحوج الناس إلى ذلك؛ إذ هو يلاقي الناس ويخالطهم, ويعرض عقله كثيرًا أمامهم؛ فهو محتاج إلى مداراة الناس عمومًا, ومداراة زمانه, ومداراة مخالفيه.
الفرق بين المداراة والمداهنة:
المداراة ترجع إلى حسن اللقاء وطيب الكلام, والتودد للناس, وتجنب ما يشعر بغضب أو سخط، كل ذلك من غير ثلم للدين في جهة من الجهات، قال ابن بطال رحمه الله: «المداراة من أخلاق المؤمنين, وهي خفض الجناح للناس, وترك الإغلاظ لهم في القول, وذلك أقوى أسباب الألفة»(13).
ومن المداراة أن يلاقيك ذو لسان أو قلم عرف بنهش الأعراض, ولمز الأبرياء, فتطلق له جبينك, وتحييه في حفاوة؛ لعلك تحمي جانبك من قذفه, أو تجعل لدغاته خفيفة الوقع على عرضك، فعن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة, وبئس ابن العشيرة».
فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه, وانبسط إليه, فلما انطلق قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا, ثم تطلقت في وجهه, وانبسطت إليه؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، متى عهدتني فحاشًا؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره»، وفي رواية: «من تركه الناس, أو ودعه الناس اتقاء فحشه»(14).
ومن المداراة مراعاة أعراف الناس وعاداتهم ما لم تخالف الشرع، وهذا الأدب يتجلى عندما يعظ الإنسان في مكان غير المكان الذي عاش فيه وألف؛ فربما رمته الغربة في بلد ما, فوجد خلائق أهل ذلك البلد وطباعهم وعاداتهم على غير ما يألف؛ فيحسن به أن يراعي ما عليه أهل ذلك البلد, وأن يتجنب في وعظه منافرتهم, أو مخالفتهم, أو فيما اعتادوا عليه؛ فذلك من جميل المعاشرة, ومن حسن المداراة.
فدارهم ما دمت في دارهم وأرضهم ما دمت في أرضهم