logo

القوة الربانية والضعف البشري


بتاريخ : الأحد ، 11 شوّال ، 1442 الموافق 23 مايو 2021
بقلم : تيار الاصلاح
القوة الربانية والضعف البشري

من علامات النبوة، ودلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم ما أخبر عنه من الفتن والملاحم وأشراط الساعة الصغرى والكبرى، وقد وقع كثير مما أخبر به من الغيب، ولا يزال يقع ويتحقق؛ ليؤكد صدق نبوته، ويثبت الله تعالى المؤمنين بخبره، في زمن أحاطت بالمؤمن ابتلاءات السراء والضراء، وحاصرته فتن الشهوات والشبهات، ولا نجاة إلا بالله تعالى وفي دينه، فمن تمسك به نجا، ومن حاد عنه سقط وردى.

ومما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعه في آخر الزمان انتشار الموت في الناس، وكثرة موت الفجأة؛ وذلك يكون بالزلازل والبراكين والأوبئة والأعاصير والغرق، كما يكون بالحروب والملاحم والفتن.

والإنسان هو المفسد الأعتى في الأرض؛ لأن الأصل فيه الظلم والجهل، وأكثر فساد الأرض وموت البشر والحيوان والنبات إنما كان بإفساد الإنسان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من علامات الساعة كثرة الهرج؛ وهو القتل، ويصل إلى درجة لا يدري فيها القاتل لم قتل، ولا المقتول فيما قتل، وحتى يمر الإنسان بالقبر فيتمنى أن يكون مكان المقبور من شدة ما يرى من القتل، واستباحة الدماء، واختلاط الأمر، كما جاء في الأحاديث الصحيحة.

وأما الموت بالأوبئة فمنصوص عليه في علامات الساعة؛ كما في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: «اعدد ستًا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مَوَتَان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطًا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفًا» (1).

المَوَتَان هو الموت الكثير الوقوع (2).

وقعاص الغنم هو داء يأخذ الغنم، فيسيل من أنوفها شيء فتموت فجاءة، وكذلك غيرها من الدواب، وقال ابن فارس: القعاص داء يأخذ في الصدر كأنه يكسر العنق، وقيل: هو الهلاك المعجل (3).

فكثير من الموت في هذه الأمة يكون بالقتل وبالأوبئة، كما دلت على ذلك الأحاديث، وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفنى أمتي إلا بالطعن والطاعون» قلت: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف» (4).

قال ابن خلدون: وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات، أو كثرة الفتن، فيكثر الهرج والقتل، أو وقوع الوباء، وسببه في الغالب: فساد الهواء بكثرة العمران؛ لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة، وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني ومُلَابِسُه دائمًا، فيسري الفساد إلى مزاجه، فإن كان الفساد قويًا وقع المرض في الرئة وهذه هي الطواعين، وأمراضها مخصوصة بالرئة، وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميات في الأمزجة، وتمرض الأبدان وتهلك، وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره (5).

وفشا في بني إسرائيل الزنا، فأصابهم الموتان فهلك منهم أربعة وعشرون ألفًا، وقد دلت السنة على أن الفواحش والبغي سببان للوباء، ففي الحديث: «لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا» (6).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ظهر البغي في قوم قط إلا ظهر فيهم الموتان (7)، فالأول وباء، والثاني قتل، وكلاهما مكتوب على هذه الأمة، ويكثر في آخر الزمان.

وقد وقع في المئة الأولى للهجرة النبوية أربعة طواعين، ابتلي بها الناس آنذاك، فطاعون وقع سنة ست للهجرة عام صلح الحديبية لكنه أصاب بلاد فارس، وسلم منه المسلمون في المدينة؛ لأن المدينة حرمت على الطاعون، لكن قد يصيبها وباء غير الطاعون.

والطاعون الثاني: طاعون عَمَوَاسَ في الشام، واستشهد فيه جمع من الصحابة رضي الله عنهم، أشهرهم: معاذ، وأبو عبيدة، وشرحبيل بن حسنة، والفضل بن العباس، وحصد خمسة وعشرين ألف نفس.

والطاعون الثالث: طاعون الجارف في دولة ابن الزبير رضي الله عنهما سنة تسع وستين للهجرة، سمى الجارف؛ لكثرة من مات فيه من الناس، وسمى الموت جارفًا لاجترافه الناس، هلك في ثلاثة أيام منه في كل يوم سبعون ألفًا، ومات لأنس بن مالك رضي الله عنه فيه ثلاثة وثمانون ابنًا، ويقال: ثلاثة وسبعون، ومات لعبد الرحمن بن أبي بكرة أربعون ابنًا، ومات لعبيد الله بن عمير ثلاثون ابنًا، ومات لصدقة بن عامر سبعة بنين في يوم واحد، فدخل، فوجدهم قد سجوا جميعًا، فقال: اللهم إني مُسلِّمٌ مسلم، ولما كان يوم الجمعة خطب الخطيب بن عامر، وليس في المسجد إلا سبعة أنفس وامرأة، فقال: ما فعلت الوجوه؟ فقالت المرأة: تحت التراب.

وقد ورد أنه مات في الطاعون عشرون ألف عروس، وأصبح الناس في رابع يوم ولم يبق حيا إلا القليل، فسبحان من بيده الأمر (8).

والطاعون الرابع: كان سنة سبع وثمانين ويسمى طاعون الفتيات، لأنه بدأ في العذارى والجواري بالبصرة، وبواسط، وبالشام، وبالكوفة، ومات فيه عبد الملك بن مروان الخليفة أو بعده بقليل، ويسمى أيضًا: طاعون الأشراف؛ لكثرة من مات فيه من الكبراء.

وفي عصرنا هذا ظهرت أوبئة ما كانت تعرف من قبل؛ كالإيدز والسارس وجنون البقر وأنفلونزا الطيور والخنازير وأيبولا وكورونا وغيرها، حتى إن منظمة الصحة العالمية سجلت في خمسة أعوام فقط أكثر من ألف ومئة وباء في مناطق العالم المختلفة، ويأذن الله تعالى بالسيطرة عليها، واكتشاف اللقاحات لها، وإذا أذن بفناء جمع من البشر فيها عجزوا عن السيطرة عليها، ولله الأمر من قبل ومن بعد، وهو على كل شيء قدير (9).

والمطلوب عند حلول الأزمات ونزول البلاء الإيمان القوي برب العالمين، والرضا والتسليم لقضائه، واليقين بأن اختيار الله للعبد هو خير من اختياره لنفسه، وأن يحسن العبد الظن بربه، وأنه سيجعل له العاقبة والظفر والمخرج، وأن الله ليس له حاجة في ابتلائه، ولكن له حكمة من وراء ذلك، فلله الحكمة البالغة، وليعلم العبد أنه لن يأتيه إلا ما كتب له.

قال أبو حازم: الدنيا شيئان: فشيء لي، وشيء لغيري، فما كان لي لو طلبته بحيلة من في السماوات والأرض لم يأتني قبل أجله، وما كان لغيري لم أرجه فيما مضى، ولا أرجوه فيما بقِي، يمنع رزقي من غيري كما يمنَع رزق غيري مني، ففي أي هذين أفني عمري؟ (10).

والمطلوب حين الأزمات أيضًا السعي نحو التغيير، قم وبادر، دافع القدر بالقدر، فلا تقف مع القدر؛ بل ادفع قدر الله بقدر الله، وفر من قدر الله إلى قدر الله، كما أمر الله، فادفع ما قدره الله عليك من الشر بما قدره من الخير، فلا تقف عاجزًا متحججًا على ما أصابك بالقدر؛ بل اسْعَ إلى تغيير ما قدره الله عليك مما لا تحب إلى تحقيق ما سوف يقدره الله مما تحب.

ابحَث عن الحلول وضع الخطط والبدائل، وتحسس مِن المخرج، وابحث عن المنفذ، وتلمس الفرج.

لا تقف مكتوف اليدين، غامر، سافر، هاجر، خذ من سير الأنبياء عبرة، ومن حياتهم دروسًا وخبرة.

لَمَّا ضاقت الحال بخليل الرحمن، ولم يؤمن معه أحد إلا زوجه وابن أخيه لوط، قال لأبيه وقومه: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، سيدلني إلى ما فيه الخير لي، من أمر ديني ودنياي.

فالحياة ليست للرتابة والخمول، ولا للعجز والكسل، وما من بلاء يقع إلا وله من الله دافع، وما من كرب ينزل إلا وله من الله نجاة ومخرج: {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} [الأنعام: 64].

فكم من ضيق قاد إلى سعة وفرحٍ، وكم من كرب جاء من بعده سرور وانشراح، وكم من بلاء أعقبته عافية وبشرى وفرج، ومع الرحمن كل شيء يتسع، ومن يسع فلن يضيع الطريق، ولن يفقد الدليل.

الحكمة والقدرة الربانية:

فما نزل بلاء وما فرض ابتلاء إلا وللباري عز وجل فيه حكمة وعطاء، أوسعَ للبشر الخيرات، ونشر لهم من فضله جزيل العطايا ليبتليَ صبرهم في السراء، ثم بعدله يُنزِل عليهم من البلاء ما يجعلهم يعودون إلى حِياض العبودية، متضرعين منكسرين بين يديه سبحانه، وإن من فقه البلاء وحكمة الابتلاء أن يشعر الخلق جميعًا بالعجز والضعف أمام التفرد الرباني بالخلق والأمر والتدبير؛ قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]؛ فلما قال الإنسان: قد أمسكنا بزمام الأمر، وبدأ يحكي في النسب المئوية، أتاها أمر الباري فاختفت الأرقام وزالت الأوهام، وكأن ما كان لم يكن بقوله سبحانه: {كُنْ فَيَكُونُ}.

العود إلى الله:

وإن من رحمة الله وفضله على عباده إذا ألهتهم الدنيا، وابتعدوا عن المراد من الاستخلاف في الأرض على المنهج الرباني، أن يعيدهم إليه بلطفه ورحمته بزيادة في الفضل، أو بنقص في الأنفس والأموال والثمرات؛ ليتذوق مرارة الحرمان فيطلب الكريم المنان؛ قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وانظر إلى دقة تعبير الآية حيث قال: {بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، ولو حاسبهم على كل ما فعلوا لهلكوا، ولكن يبتلي ليُبقيَ، ويصرف ليرحم، فيقلبهم من حال إلى حال؛ ليبقى العبد على المنهج وطريق الرشاد.

تذكرة للمؤمنين وإنذارًا للعاصين:

وقد ينزل البلاء بعباد الله الصالحين ليس لبغضهم، بل لمكانتهم عند الله؛ فيرفع لهم به الدرجات العلى من الجنة، ويخلد ذكرهم في الناس، ولإبراز شأنهم، وجعلهم قدوات ومنارات هدًى للناس؛ ولذا كان نصيب الأنبياء من البلاء والابتلاء أعظمه؛ عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة» (11).

ربنا جل في علاه هو خالق الخلق ومدبرهم، وهو سبحانه يبتليهم ويعافيهم، ولو شاء سبحانه لأبدل بهم غيرهم، ولو شاء لأهلكهم عن بكرة أبيهم، وهذه حقائق يقرؤها المؤمن ويسمعها في القرآن الكريم حتى استقرت في نفسه، وأيقن بها قلبه: ففي شأن الخلق والتدبير {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الروم: 40]، {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5]. 

وفي شأن الاستبدال؛ {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا} [النساء: 133].

وفي شأن الإهلاك؛ {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة:17].

عن ابن الديلمي، قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت زيد بن ثابت، فسألته، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، لعذبهم غير ظالم لهم، ولو رحمهم، كانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ولو كان لك جبل أحد، أو مثل جبل أحد، ذهبًا، أنفقته في سبيل الله، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن مت على غير هذا، دخلت النار» (12).

ولو أهلك الله تعالى البشر جميعًا لما أهلكهم إلا بذنوبهم، ولكان عذابهم بما كسبت أيديهم، ولا يظلمهم ربهم {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61].

وما يصيب بعض أقطار الأرض من كوارث كالزلازل والبراكين والفيضانات والأوبئة ونحوها فهي مس لطيف من الضر يقدره الله تعالى على عباده؛ ليكون تذكرة للمؤمنين، وإنذارًا للعاصين؛ رحمة من أرحم الراحمين، {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53].

إن البشر حين تغرهم قوتهم وعلومهم ومعارفهم، وما فتح الله تعالى لهم من دنياهم؛ يحتاجون إلى صدمة توقظهم، وتبين لهم حجمهم، فلا يتجاوزون حدودهم البشرية، ولا ينازعون الله تعالى في الربوبية. 

إن فئامًا من الناس يظنون أن البشر بما أوتوا من العلوم والمعارف والمخترعات قادرون على الأرض وما فيها، وأنهم أسياد الكون بلا منازع، وينسون ضعفهم وعجزهم، ويغفلون عن قدرة الله تعالى عليهم؛ فيذكرهم الله تعالى وينبههم ببعض آياته لعلهم إليه يرجعون.

ووباء (كورونا) الذي ضرب الأرض من مشرقها إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها؛ آية واحدة من هذه الآيات الربانية العظيمة التي يدلل بها سبحانه على قدرته وقوته، ويكشف بها عجز البشر وضعفهم؛ ويأتي ذلك في وقت قد اغتر فيه كثير من الملاحدة والماديين وضعاف الإيمان بقوة الإنسان الذي لا يقهر حسب رأيهم.

وكيف يقهر حسب زعمهم وهو الذي اخترع الاتصالات، وقرب المسافات، وصنع الآلات، وزاد في الإنتاج، وحلق في الفضاء، وغاص في أعماق البحار، وفتت الذرة، واكتشف المجرة.

وكيف تُقهر حضارة الإنسان حسب رأيهم وهي الحضارة التي اخترعت الإنسان الآلي ليقوم بمهام الإنسان الحقيقي، وقفزت قفزات هائلة في شتى العلوم والمعارف الدنيوية، والمكتشفات والمخترعات التي تحقق الرفاهية.

والذين اغتروا بهذا التطور البشري الهائل غرهم كذلك قوة بعض الدول ومخترعاتها ومكتشفاتها، وتقدمها في الطب والعلاج وعلم الأمراض وسائر العلوم والمعارف؛ مما يشهد به الجميع ولا ينكره أحد، ولكنه يبقى تحت علم الله تعالى وقدرته، وهو سبحانه واهب ذلك العلم لمن شاء من البشر برحمته وحكمته، وهو قادر على نزعه منهم بقوته وقدرته، وهو رغم ضخامته لا يساوي شيئًا أمام قدرة الله تعالى وعلمه.

إن الحضارة المعاصرة قد خُدع كثير من الناس بقوتها وقدرتها ومعرفتها، حتى عاشوا حالة من الغرور المعرفي، والاعتداد بالعقل البشري بعيدًا عن تعظيم الله تعالى، والاعتماد عليه، والخوف منه سبحانه.

لقد ظن بعض الناس أن الحضارة المعاصرة تقدر على كل شيء، ولا يردها شيء عما تريد، وهي الحضارة التي بدأت في عملية الاستنساخ الشهيرة قبل عقدين ونصف حين استنسخت نعجة من أخرى، وبشرت تلك الحضارة حينها بأنها ستطور عملية الاستنساخ لتشمل الإنسان، وتشارك الخالق سبحانه في الخلق.

وهذا الجحود للرب سبحانه، والكفران لنعمه على الخلق؛ هو الذي كان سببًا في نبرة الاستعلاء والاستكبار والتحدي، نعوذ بالله تعالى من ذلك. 

ومن باب الغرور المعرفي زعم بعض المنحرفين أن الطب سيصل إلى اكتشاف علاج يمنع الموت ويديم الحياة، في تكذيب صريح لآيات القرآن.

وزعم بعضهم أن الدول العظمى قادرة على تحدي البحار والمحيطات والرياح والأعاصير والفيضان، وأنه لا يردها شيء عن إرادتها ما دامت تتفوق بالعلم؛ فإذا هذا الفيروس الصغير الضعيف الذي لا يرى بالعين المجردة يُظهر عجز البشر وجهلهم، ويقطع عليهم حيلتهم، حتى خافوه ورهبوا منه، وأغلقوا الحدود دون المصابين به، وعزلوهم عن الأصحاء.

والأطباء والباحثون يصلون الليل بالنهار لاكتشاف لقاح له، وقد يصلون إليه بتوفيق الله تعالى لهم، لكن بعد أن بان عجز البشر وجهلهم وخوفهم وتخبطهم، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ} [لقمان: 27].

حادثة وباء (كورونا) ستكون من أهم الأحداث في هذا القرن، وسيحفظها التاريخ للأجيال القادمة، وتكتب بأكثر لغات البشر؛ لأنها شملت كل الدول، وأرعبت كل البشر، وشلت حركة العالم كله، وكبدت اقتصاده أكبر خسارة مالية في العصر الحديث، وسيكون لها ارتدادات كبيرة لا يعلم مداها إلا الله تعالى، تسفل بها أمم وتنهض بها أمم أخرى، وتتغير كثير من التحالفات والخرائط.

ولم يسلم من هذا الفيروس الذي لا يرى شريف ولا وضيع، ولا غني ولا فقير، جاب الدول كلها، وأصاب الأقوياء قبل الضعفاء. فمن لم يصبه مرضه أحاط به رعبه.

وهنا يجب أن يعترف البشر كلهم بضعفهم وعجزهم، وقدرة الله تعالى عليهم {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 18]، {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65]، هذا ويجب على أهل الجحود والاستكبار أن يراجعوا أنفسهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويجب على قساة القلوب {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]، وعلى البشر كلهم أن يعلموا أنهم عبيد مخلوقون، ضعفاء مربوبون، لا يملكون من أمرهم شيئًا إلا بإذن الله تعالى {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ للهِ} [آل عمران: 154]، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)} [الروم: 25- 26]، (13).

الأوبئة والطواعين ابتلاء من الله تعالى وعقوبة؛ فإن أصابت مؤمنين قائمين بأمر الله تعالى فهو ابتلاء، فإن صبروا واحتسبوا أجروا أجرًا عظيمًا، فمن مات في الوباء كان شهادة له، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرني «أَنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد» (14).

وفي حديث آخر: «الطاعون شهادة لكل مسلم» (15)، والفرار من الطاعون كالفرار من الزحف كما في الحديث.

والتوجيه النبوي فيه: «إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارًا منه» (16).

وهذا التوجيه العظيم فيه محاصرة للوباء، وعدم نشره في الناس؛ فإن الفار منه قد يحمله ولو لم تظهر عليه أعراضه فينشره في بلدان أخرى، ولما وقع الطاعون في الشام وكان عمر قد توجه إليها رجع بالناس فلما عوتب قال رضي الله عنه: نفر من قدر الله إلى قدر الله تعالى، فلما حدثه عبد الرحمن بن عوف بالتوجيه النبوي أنه لا يُقْدَمُ على البلد التي أصابها الطاعون، وكان عمر لا يعلم بالحديث حمد الله تعالى أنه وافق السنة وهو لا يعلم.

ويؤخذ من الحديث ومن فعل عمر رضي الله عنه عدم إلقاء النفس إلى التهلكة، وأن أخذ اللقاحات، وعمل الوقاية من الوباء، وعدم مخالطة المرضى، لا ينافي التوكل.

وأن نفي العدوى في الأحاديث إنما هو رد لمعتقد أهل الجاهلية أن الأوبئة تعدي بطبعها إلى المعتقد الصحيح وهي أنها إنما تعدي بقدر الله تعالى، ولذا قد تتخلف العدوى فيورد مصح على ممرض ولا يتأثر، وقد يحتاط صحيح فيبتعد عن كل أسباب المرض فتصيبه العدوى.

وعلى العباد أن يتوبوا إلى الله تعالى وينيبوا إليه، فيتركوا ظلم أنفسهم بالمعاصي والفواحش، وظلم بعضهم بعضًا بالاعتداء وأكل الحقوق؛ فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وإن الموت بالقتل في الفتن والحرب كثير في هذا الزمن، كما أن الموت بالأوبئة والأمراض كثير، والموت بهاذين السببين مرشح للازدياد والاتساع والانتشار بسبب إسراف الناس في العصيان، وظلم بعضهم بعضًا {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] (17).

من منافع الوباء:

- استشعار قدرة الله تعالى على الخلق؛ فإن انتشار هذا الوباء، ووقف العالم كله عاجزا أمامه؛ أحيا في القلوب تعظيم الرب سبحانه، وقدرته عز وجل على البشر بأضعف مخلوقاته، وهو فيروس صغير ضعيف لا يرى بالعين؛ ويلاحظ في هذه الأزمة عودة الخطاب الإيماني حتى عند كفار أهل الكتاب، بعد أن تقطعت بهم السبل، وضاقت عليهم الحيل {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].

- معرفة نعمة الله تعالى على العباد بحرية التنقل حيث شاءوا، ومتى أرادوا، وهي نعمة عظيمة غفل كثير من الناس عنها، فلما لزموا البيوت، وضرب عليهم حظر التجول؛ لئلا يتفشى الوباء في الناس؛ أدركوا قيمة هذه النعمة العظيمة التي كانوا يرتعون فيها ويقصرون في شكرها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].

- عودة الروابط الاجتماعية للأسرة الواحدة، واجتماعهم في منزلهم، وقد كانت كثير من البيوت قبل الوباء أشبه بالفنادق التي لا ضابط للداخل فيها والخارج منها. وقد تمضي الأيام ولا يرى أفراد الأسرة بعضهم بعضها وهم في بيت واحد؛ فالرجال والشباب يقضون ليلهم في الاستراحات ومع الأصحاب، وفي النهار نيام أو في وظائفهم، والأطفال تسرق أوقاتهم وأبصارهم وعقولهم الألعاب الإلكترونية، والبنات معتزلات في غرفهن على أجهزتهن، فلما كانت هذه الأزمة اجتمعوا في مكان واحد، ورأى بعضهم بعضًا.

- معرفة حقيقة الدنيا، وأنها لا تساوي شيئًا، وأن أمنها قد يزول في لحظة واحدة ومن غير حسبان؛ إذ قلب هذا الوباء أحوال الدول والشعوب، وهوّن الدنيا في أعينهم، وكان كثير منهم يظن أن عافيتها تدوم لهم {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]، كما أدرك كثير من الناس أن الموت حقيقة قد غفلوا عنها، وهو قد يفجأ صاحبه بلا سابق إنذار، وقد رأوا ذلك عيانًا في ضحايا الوباء، {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]، فوجب على كل عاقل أن يستفيد من هذه النازلة بالاستعداد للموت بالإيمان والعمل الصالح؛ فقد يأتيه فجأة بالوباء أو بغيره وهو في غفلة.

- ترشيد الإنفاق والاستهلاك؛ فإن كثيرًا من الناس -وخاصة فئات الشباب- قد اعتادوا على الإسراف، وكثرة ارتياد المطاعم والمقاهي، وترك الأكل مع الأهل في البيوت، ومع فرض حظر التجول قلّ الضغط على أرباب الأسر من قبل أولادهم، ولزموا البيوت، فقلّ الاستهلاك والإنفاق بلا حساب، {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، كما أن لزوم النساء والفتيات البيوت للاحتراز من الوباء قلل من استهلاك مواد الزينة التي كانت تستهلكها النساء من قبل.

- إدراك نعمة المساجد والجمع والجماعات؛ فإن المساجد لما أغلقت، ومنع التجمع للجمع والجماعات؛ لئلا تنتقل العدوى في الناس؛ تألم المصلون لذلك، ومنهم من بكوا مساجدهم، فعظمت الشعائر في قلوب الناس {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، وكان بعض المصلين من قبل كأنه يصلي من قبيل العادة، فلا يستشعر قيمة المساجد، ولا فضل الجمع والجماعات، وأهميتها في حياة المؤمن، فلما حيل بينه وبينها؛ أدرك نعمة الله تعالى عليه بها؛ ولذا فإن أهل الإيمان في أزمة الوباء يجدون شوقًا عظيمًا للمساجد والجمع والجماعات.

قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)} [النور: 36- 38].

- ومن منافع هذا الوباء: أن من ابتلوا بالإصابة به ثم تعافوا منه، أو الذين رأوا المصابين به يختنقون؛ عرفوا قيمة الهواء الذي يتنفسونه على مدار الساعة منذ ولدوا، وأنه نعمة لا يقدرها الناس قدرها، وقلّ منهم من تفكر فيها؛ إذ لما كثر المرضى بالوباء لم تكفهم أجهزة التنفس في بعض الدول، واستشعر مسن إيطالي تسعيني هذه النعمة العظيمة؛ إذ وضع عليه جهاز التنفس وكانت كلفته في اليوم الواحد خمس مئة يورو، فبكى بعد أن عوفي وقال: أنا لا أبكي بسبب ما دفعته من مال، ولكنني أبكي لأني كنت أتنفس هواء الله تعالى منذ ثلاث وتسعين سنة بالمجان، فهل تعرفون كم أنا مدين لله تعالى ولم أشكره على ذلك (18).

_________________

(     (1) أخرجه البخاري (3176).

(2) نضرة النعيم (3/ 950).

(3) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (15/ 100).

(4) أخرجه أحمد (25018).

(5) تاريخ ابن خلدون (1/ 376).

(6) أخرجه ابن ماجه (4019).

(7) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 322).

(8) تاريخ الإسلام (5/ 66- 67).

(9) الموت بالأوبئة/ إبراهيم بن محمد الحقيل.

(10) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (10/ 104).

(11) أخرجه الترمذي (2398).

(12) أخرجه أحمد (21611).

(13) الأوبئة القوة الربانية والضعف البشري/ طريق الإسلام.

(14) أخرجه البخاري (3474).

(15) أخرجه البخاري (2830)، ومسلم (1916).

(16) أخرجه البخاري (3473)، ومسلم (2218).

(17) الموت بالأوبئة/ منتديات الألوكة.

(18) الأوبئة (من منافع كورونا)/ موقع مجلة البيان.