logo

فقه التعامل مع المستجدات


بتاريخ : الاثنين ، 25 شعبان ، 1443 الموافق 28 مارس 2022
بقلم : تيار الاصلاح
فقه التعامل مع المستجدات

التعامل مع النوازل والمستجدات يحتاج إلى رسوخ في العلم، وبصيرة بالأدلة الشرعية، واستيعاب لمقاصد الشريعة وقواعد المصالح والمفاسد، كما يحتاج إلى توصيف صحيح، وفقه دقيق لتلك الواقعة، ليتسنى تنزيل الحكم الشرعي الملائم لتلك النازلة.

فالمشكلة إذن ليست مشكلة ظروف تتغير، وإنما المشكلة مشكلة النفس التي لا تتغير مع الظروف، مشكلة النفس التي لا تجيد التعامل مع المستجدات، مشكلة  النفس التي تنهار على أول  عقبة  تواجهها في الطريق.

قال ابن سعدي: جميع المسائل التي تحدث في كل وقت، وسواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تتصور قبل كل شيء.

فإذا عُرفت حقيقتها، وشُخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورًا تامًا بذاتها ومقدماتها ونتائجها طُبقت على نصوص الشرع وأصوله الكلية؛ فإن الشرع يحل جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية؛ يحلها حلًا مرضيًا للعقول الصحيحة، والفطر السليمة.

المدرك الأول: التصور:

إن تصور الشيء تصورًا صحيحًا أمر لا بدّ منه لمن أراد أن يحكم عليه، وكما يقال: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فتصور النازلة مقدمة لا مناص عنها ولا مفر منها لمن أراد الاجتهاد في استخراج حكمها.

إن الإقدام على الحكم في النوازل دون تصورها يعد قاصمة من القواصم، وهذا باب واضح لا إشكال فيه، والباب الذي يأتي من جهته الخلل والزلل إنما هو القصور والتقصير في فهم النازلة وتصورها، وليس في تحصيل أصل التصور.

وتصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا قد يتطلب:

- استقراء نظريًا وعلميًا.

- وقد يفتقر إلى إجراء استبانة، أو جولة ميدانية، أو مقابلات شخصية.

- وربما احتاج الأمر إلى معايشة ومعاشرة.

- وربما كان سؤال أهل الشأن والاختصاص كافيًا؛ كمراجعة أهل الطب في النوازل الطبية، وأصحاب التجارة والأموال في والمعاملات المالية وهكذا.

المدرك الثاني: التكييف:

يمكن تعريف التكييف بأنه: تصنيف المسألة تحت ما يناسبها من النظر الفقهي, أو يقال: هو رد المسألة إلى أصل من الأصول الشرعية.

وتكييف النازلة متوقف على تحصيل أمرين:

أمر خاص يتعلق بخصوص النازلة، وأمر عام.

أما الأمر الأول: فهو أن يحصل للناظر الفهم الصحيح والتصور التام للمسألة النازلة.

والأمر الثاني: وهو أن يكون لدى الناظر المعرفة التامة بأحكام الشريعة وقواعدها، وهذا إنما يتأتى لمن استجمع شروط الاجتهاد، من الإحاطة بالنصوص ومعرفة مواقع الاجتماع والاختلاف، والعلم بدلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، بحيث تكون لديه القدرة على استنباط الأحكام من مظانها.

قال ابن القيم رحمه الله: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:

أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه (1).

معظم أبناء هذا الجيل العربي، فتحوا أعينهم على أوضاع ملزمة، وأنماط مفروضة، لم يشهدوا ولادتها، ولم يشاركوا في صياغتها، بل كان حظهم منها تجرع مرارتها، وتحسِّي سمومها، واعتبر ذلك فيمن سلخ ثلاثة عقود، أو أربعة من عمره، في بلاد الشام، أو مصر، أو ليبيا، مثلًا، لا يبصر إلا القمع، ولا يسمع إلا النفاق.

تلحق كثيرًا من أبناء الجيل دهشةٌ إزاء المستجدات المتلاحقة، فيلهثون خلف وكالات الأنباء، وتقارير المراسلين، ويسمرون أعينهم في شاشات الفضائيات، يستطعمونها الصوت والصورة، ويصاحب ذلك إيحاءات ذكية، وإسقاطات فنية، تحمل توجهات مختلفة، لدهاقنة السياسة، الممتطين عربات الإعلام.

وفي هذا الخضم المتماوج، المتضارب، يزيغ البصر، ويطيش العقل، ويحار الفكر، عند كثير من المسلمين، كما لو كان أحدهم في (مزاد علني) تعرض فيه كثير من السلع المزوقة، بأسعار مغرية، لا يدري أيها يقتني، حتى لا تكاد تميز في مقام التحليل، بين متدين، ودخيل، ومرد ذلك إلى ضعف التأصيل، وقوة التضليل، وناتج ذلك فهم خداج، ورأي، ومزاج، لا يستند إلى دليل.

وفيما يلي حزمة من القواعد، والتنبيهات، لمواجهة المستجدات، تصوب النظر، وتسدد الرأي، وتعصم من الخطأ والزلل:

الاعتصام بمحكمات الكتاب والسنة:

ما زال المحدثون يعقدون كتابًا، أو بابًا، في مصنفاتهم بعنوان: (الاعتصام بالكتاب والسنة)، كما صنع البخاري وغيره، ويروون فيه أحاديث في تعظيم النصوص، والتمسك بالآثار، والتمسيك بالكتاب، وذم التفرق، والأهواء، والتحذير من الفتن.

 لقد أودع الله تعالى كتابه الكريم جملة من القواعد المحكمة، والثوابت الراسخة، المبنية على السنن الكونية، للتعاطي مع المتغيرات، والتعامل مع مختلف الأفراد والجهات. فيجب على الناظر في الوقائع، ومستجدات الأحوال، استدعاؤها، وتنزيل هذه المحكمات على النوازل والحادثات، ومن أمثلة هذه المحكمات، التي توجه موارد النظر، وتجلي المشتبهات:

وقال:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء: 89].

وقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109]، وقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9].

 وكثير من (الإسلاميين) يقع في قطيعة غير مقصودة، عند احتدام الأمور، فيصغي إلى التحليلات، والآراء الصادرة من قوم لم يتضلعوا من الوحيين، ولم يستنيروا بفهم السلف الصالح، ويحتفي بأقوالهم، ولا يكلف نفسه إمعان النظر، واستنباط المخزون العلمي، والإيماني، الذي تربى عليه، وظل يربي الآخرين عليه!

ومن أحسن الأمثلة لهذا الاستدعاء الإيماني، إذا ادلهمت الخطوب، ما سطره ذراع شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، حين هجم التتار على بلاد الشام، فنظَّر ما جرى، على ما أودع الله سورة الأحزاب، من المحكمات، والدلالات.

ثانيًا: الولاء لله ورسوله والمؤمنين:

إن من أجلى صور التعبير العلمية والعملية لحقيقة الإيمان، تحرير الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والانحياز لأهل الإيمان، ومجانبة أهل الكفر والفسوق والعصيان، فلا بد من وضوح في الخطاب؛ فلا يلتبس بدعاوى جاهلية، وصدق في (المودة) فلا تلقى لغير مستحقها، واستجابة لطلب (النصرة)؛ فلا خذلان، ولا تشكيك في رابطة الإيمان. وتكاد تكون قضية الولاء والبراء أشهر قضية في القرآن، بعد قضية التوحيد، كما يتضح من جملة النصوص التالية:

قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)} [المائدة:55- 56].

وقال: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28].

وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118].

وقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)} [النساء: 138- 139].

وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144].

وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)} [المائدة: 51- 52].

وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 57].

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 72].

وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [التوبة: 23].

وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71].

{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)} [الممتحنة: 1- 2].

فلا يسوغ بحال، الانخراط مع أهل البدع المغلظة، والأهواء الباطنية، بدعوى الوطنية، فإن ذلك مما يبطئ نصر الله، ولا يحل الثناء على رؤوس الضلال، وأئمة الكفر، تحت مظلة (المصالح المرسلة)، وهي في الواقع ملغية، فتجد بعض المتحدثين من الإسلاميين يصف النصارى بقوله (إخواننا الأقباط)، وربما خلع عليهم وصف الإيمان، {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]، وإذا لم يقل المرء الحق، فلا أقل من أن يصمت عن قول الباطل، وليس من لازم هذا التقرير بخس الناس حقوقهم، أو تعريضهم للظلم، أو حتى استعداءهم، كلا! فأهل الإسلام أرعى الناس للذمة، وأحفظهم للحق، وأرحمهم بالخلق.

ثالثًا: التمييز بين باب الثوابت العقدية، وباب السياسة الشرعية:

ليس مقتضى الحفاظ على الثوابت العقدية، السابق ذكرها، الإعاقة، والجمود، وعدم القدرة على التفاوض، والمدافعة، فقد مر بالنبي صلى الله عليه وسلم أحوال مختلفة، أعمل فيها باب السياسة الشرعية، دون المساس بالثوابت العقدية، ومن أمثلة ذلك من السيرة النبوية :

- عقد وثيقة المدينة مع قبائل يهود، بعد الهجرة، لتحمل الديات، وغيرها.

- إبرام صلح الحديبية، وما تضمنه من شروط بدت مجحفة بادئ الأمر.

- اقتراح النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار، أن يعرض على الأحزاب نصف ثمرة المدينة، ليرجعوا عنهم.

كما شهد التاريخ الإسلامي، عبر القرون، جملة من المناورات، والمفاوضات، والاتفاقات السياسية، مع أعداء الدين، تحقيقًا لمصلحة، أو دفعًا لمفسدة؛ ومن أشهرها (صلح الرملة) الذي أبرمه السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي، رحمه الله، مع الصليبيين، وأبقى بأيديهم (عكا) عشرات السنين.

رابعًا: التمييز بين الشرع والقدر:

يسكن بعض المتدينين شعورٌ مُحبط، مُقعد، ناشئ عن فهم خاطئ للعلاقة بين الشرع والقدر! فيكتفي أحدهم بمراقبة الأحداث، وتقديم التحليلات الظنية، و(شهود القدر)، كما هي طريقة الجبرية، دون أن يصاحب ذلك (قيام بالشرع)! وكأنما اطلع على الغيب، أو اتخذ عند الرحمن عهدًا! والواجب على المؤمن النظر للمستقبل بعين الشرع، والنظر إلى الماضي بعين القدر، كما قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (2)، وربما صاحب كثيرًا من مواقف هؤلاء، تلوُّم، وتحسر، مع عجز، وترك للاستعانة.

خامسًا: التمييز في الحكم على الشيء قبل حصوله، وبعد حصوله:

ينبغي للفقيه الحاذق التمييز في فتياه، في الحكم على المسألة، قبل حصولها، وبعد حصولها، كما لو أفتى محرمًا بلزوم فدية الأذى، إن هو قلَّم أظفاره، مراعاةً لقياس الفقهاء التقليم على حلق الشعر، بجامع (التَّرفُّه)، وردعًا للمتساهل، لكن إذا وقع الأمر وجاءه سائل، وقع في المحظور، لم يقوَ أن يلزمه بأمر لم يستبن دليله، وكذلك الحال في المستجدات؛ فقد يرى الناصح الشفيق المنع من التظاهرات، حقنًا للدماء، ودفعًا لمفاسد أشد، ثم يتجاوزه الحال، ويجري قدر الله بما شاء، فلا يكون صوابًا أن يظلَّ يوزع التهم، وينكأ الجراح، ويركن إلى الذين ظلموا، بدعوى أن الآخرين لم يأخذوا بقوله، ولم ينصاعوا لفتياه.

وقد جرى في الأحداث الأخيرة توظيف لفتاوى، ومقالات لبعض المجتهدين، من جانب الطغاة، والمجرمين، الذين لا يقيمون حرمة للدين، شهروها في وجوه المعترضين، وضربوا أهل الإسلام بعضهم ببعض، فلا يصح أن يستدرج الفقيه الموفق إلى مثل هذه المآزق، ويستحيل أداة رخيصة في يد الظالمين، بل عليه أن يقدر الحال، ويتعامل مع الموقف، وفق المعطيات المستجدة، وينصر أولى الطائفتين بالحق، أو يعتزل، إن اشتبه عليه الأمر، وبدا له أنه فتنة (3).

مناهج التعامل مع المستجدات:

المنهج الأول: منهج التشديد في التعامل مع النوازل: ولا شك أن التشديد معناه الشرعي: الغلو، وهو يعتبر منهجًا من المناهج التي يتعامل بعض الناس به مع النوازل.

ومن النماذج على ذلك في الجانب الفقهي: التعصب المذهبي، والتمسك بالظاهرية في فهم النصوص، والمنع والتحريم لمجرد الاحتياط فقط، ففي فترة من الفترات بعض الناس منع زراعة العنب بحجة أن العنب إذا زرع فسيستخدمه بعض الناس في الخمر، أو منع المجاورة بين الناس؛ لأنه يفضي إلى المعاكسة وهذا منهج ضال منحرف.

أما في الجانب العقدي فمن أمثلته: أهل الغلو الذين يتعاملون مع الناس بطريقة غير صحيحة فيما يتعلق بالنوازل التي حدثت، مثلاً: تكفير المحكومين بغير الشريعة، وهذا منهج الخوارج، فقد كفروا كل الشعوب الإسلامية لأنها محكومة بغير ما أنزل الله، وقالوا: إن هذه الشعوب سكتت عن الحكم بغير ما أنزل الله، وبناءً على ذلك فهي كافرة، وبعضهم أقل غلوًا في هذا، فيقول: نحن لا نكفر من صرح بالبراءة، وقد يأتي بعض الذين يعطلون شريعة الله عز وجل فيصفقون له ويفرحون به ويبكون من أجله، ونسي أن كثيراً منهم قد يكون مغررًا به، وقد يكون بعض هؤلاء لا يعرف شيئًا من هذه الحقائق، والكفر له مناط ليس مفتوحًا، وبمجرد الظاهر يمكن للإنسان أن يحكم على الباطن مباشرة، فكفروا كل من يذهب إلى محكمة مدنية من أجل أن يستخرج حقًا له، أو من دخل في مجلس أو برلمان من أجل الإصلاح وهذه مسألة من مسائل النوازل، وهي: هل يجوز للدعاة والمصلحين الدخول في الانتخابات في الدول التي تحكم بالديمقراطية من أجل دفع الضرر عن المسلمين واستجلاب المصالح لهم أو لا يجوز؟ هذه قضية من القضايا الشائكة العقدية، وهي من النوازل التي تحتاج إلى تبيين، فبعض أهل الغلو كفر هؤلاء الأشخاص الذين اجتهدوا فدخلوا في الانتخابات، مع أنهم يصرحون أن التشريع لله، وأن الحكم لا يجوز إلا بشريعة الله عز وجل، ومع أن مناطات التكفير في هذه المسائل غير موجودة فيهم.

المنهج الثاني: منهج التساهل: وهو العمل بالرخص فيما يتعلق بالنوازل، وبلغ التساهل عند البعض إلى درجة تقديم المصلحة على النصوص الشرعية، فبعض الناس يقول: إن النظام الربوي في البنوك مصلحة محققة يجب أن نعمل بها، وأن نلغي النصوص الواردة في الربا.

وهذا منهج منحرف، والتعبير بكلمة تساهل ربما يكون فيها تساهل، لأن أمثال هؤلاء يعطلون الدين، ويبدلونه ويغيرون أحكام شريعة الله عز وجل.

ومثله التلفيق في الأحكام: وهذا يعتبر من النوازل.

وبعض المفتين يفتي في كثير من قضايا النوازل بناءً على قاعدة التسهيل، فإذا وجد مثلًا فتوى لأهل العلم يمكن أن توظف في إجازة عمل من الأعمال يفتي به، مثلًا: هل يجوز للأمة الإسلامية أن تحكم بالديمقراطية الغربية، سواء كانت على شكل آلة من الآلات أو كانت على شكل تشريع؟ فبعض المفتين أفتوا بالجواز مطلقًا، واحتجوا على ذلك بأن الإسلام لا يعارض العدل، والديمقراطية تحقق العدل، وأن الإسلام لا يعارض الحرية، والديمقراطية تحقق الحرية، ويتم سرد المفاهيم العامة ويبين أن الإسلام لا يعارضها؛ فأفتى بناءً على ذلك بجواز تطبيق الديمقراطية في البلاد الإسلامية.

المنهج الثالث: هو المنهج الوسط: وهو الوحيد الذي يتبع الدليل الشرعي، ويعتمد على طريقة الاستنباط المجمع عليه عند أهل العلم (4).

إن الانتصار على الأعداء ولو طال الزمن لا يتطلب إلا سلاحًا واحدًا يستخدم بصدق وإخلاص وجد وعزيمة، إنه سلاح محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ سلاح الإيمان بالله، وإخلاص التوحيد والعبادة، والعمل بالإسلام، والسير على نهج محمد صلى الله عليه وسلم في السلم وفي الحرب.

يجب أن يعي المسلمون أن الإسلام وحده هو مصدر الطاقة الذي تضيء به مصابيحهم، وتنير به مشاعلهم، وبدون الإسلام ليسوا إلا زجاجات وقوارير فارغة لا يوقدها زيت، ولا يشعلها ثقاب.

ليس للمسلمين عز ولا شرف ولا حق ولا كرامة إلا بالإسلام، إنهم إن أنكروا ذلك، أو تنكروا له، فلن يجدوا من دون الله وليًا ولا نصيرًا.

إنهم بغير الإسلام أقوام متناحرة، وقطعان مشتتة، بل سقط متاع، وأصفار من غير أرقام.

يجب أن تربى الأمة على الإقبال على المخاطر لتسلم لها الحياة؛ في دعائم موطدة من الدين القويم والخلق المستقيم، وفي دعاء صادق تنطلق به الحناجر: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 147].

يجب تأصيل التعامل مع المستجدات والأحداث بنظرة إسلامية، واعتماد أجهزة الإعلام بالنظرة الإيمانية، وتوحيد مصدر التثبت في الأنباء على منهج القرآن المدلول عليه بقوله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].

أما اليأس والتيئيس فليعلم أن اليهود تحملوا العيش في الشتات آلاف السنين، ولم ينسوا مزاعمهم في أرضهم الموعودة، فهل يضطرب أهل الحق المسلمون لمتاعب عشرات السنين، تبلغ الخمسين أو الستين أو ما فوق ذلك، ويفرطون في حقوقهم؟! كلا ثم كلا.

إن الأمة بحاجة إلى تربية جادة، تصب الأجيال في قوالب الإيمان، وترصهم في ميادين الجهاد والمثابرة وطول الكفاح (5).

-----------

(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 69).

(2) أخرجه مسلم (2664).

(3) قواعد في التعامل مع المستجدات/ العقيدة والحياة.

(4) الفقه العقدي للنوازل (1/ 15)، بترقيم الشاملة آليًا.

(5) دروس للشيخ صالح بن حميد (34/ 9)، بترقيم الشاملة آليًا.