logo

تزكية النفوس


بتاريخ : الأحد ، 11 ربيع الآخر ، 1441 الموافق 08 ديسمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
تزكية النفوس

إن الخلل السائد في مجتمعاتنا في هذا الزمان، ليس سببه الضعف العلمي أو الاقتصادي أو السياسي، إنما الخلل يكمُن في أنفسنا، يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165].

فالسبيل إلى تنشئة جيل التمكين الذي يعرف ربه، يبدأ من التزكية والتربية والتهيئة والاعداد النفسي.

أهمية التزكية:

التزكية هي إحدى المهام التي بعث الله عز وجل الرسل من أجلها، فكانت دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، وقد استجاب الله عز وجل لدعوته فبعث لنا حبيبنا محمدًا ليقوم بهذه المهمة، لذا فإن التزكية أمر مهم للإنسان من عدة أوجه:

1أن الله عز وجل أقسم في كتابه أحد عشر قسمًا على فلاح من زكى نفسه وعلى خسران من أهمل ذلك، قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 1- 10].

وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} أي: طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقاها بطاعة الله، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح.

{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي: أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنس بالرذائل، والدنو من العيوب، والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها(1).

قال ابن كثير: وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى نفسه، أي: بطاعة الله -كما قال قتادة- وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل.

{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي: دسسها، أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل (2).

وجاء عن المراغي قوله: وتزكية النفس تارة تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية طاهرة كثيرة الخير والبركة بتنمية فضائلها وكمالاتها، ولا يكون ذلك إلا بابتعادها عن الشرور والآثام التي تعوقها عن الخير وهذه التزكية محمودة، وهي التي عناها الله سبحانه بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها}.

وتارة تكون بالقول بادعاء الكمال والزكاة، وقد اتفق العقلاء على استهجان تزكية المرء نفسه بالقول ولو حقا، ومصدر هذه التزكية الجهل والغرور، ومن آثاره السيئة الاستكبار عن قبول الحق، والانتفاع بالنصح (3).

2أن النفس من أشد أعداء الإنسان الداخليين لأنها تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، وسائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانبها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من شرها كثيرًا، وكما في حديث أبي هريرة عند ابن أبي حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}، فقال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها» (4)، وفي الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم علم حصين بن عبيد أن يقول: «اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي» (5).

قال ابن القيم رحمه الله: وقد اتفق السالكون على اختلاف طرقهم وتباين سلوكهم على أن النفس قاطعة بين القلب وبين الوصول إلى الرب، وأنه لا يدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها والظفر بها (6).

قال بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم.

3أن التزكية طريق الجنة، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: 40- 41]، فهي إذن شرط لدخول الجنة.

قال سهل: ترك الهوى مفتاح الجنة، لقوله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}، قال عبد الله بن مسعود: أنتم في زمان يقود الحق الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق فنعوذ بالله من ذلك الزمان (7).

ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.

والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى، ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة، فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها!

ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى، فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته، ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها، وأن يستعين في هذا بالخوف، الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب، وكتب له بهذا الجهاد الشاق، الجنة مثابة ومأوى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد؛ وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى.

إن الإنسان إنسان بهذا النهي، وبهذا الجهاد، وبهذا الارتفاع، وليس إنسانًا بترك نفسه لهواها، وإطاعة جواذبه إلى دركها، بحجة أن هذا مركب في طبيعته، فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه، ونهي النفس عنه، ورفعها عن جاذبيته؛ وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى.

وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان، تلك هي حرية الانتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني، وهنالك حرية حيوانية، هي هزيمة الإنسان أمام هواه، وعبوديته لشهوته، وانفلات الزمام من إرادته، وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفًا من الحرية (8).

4 – أن الإنسان محب للكمال، فينبغي لـه أن يعمل على إكمال نفسه بتزكيتها وتربيتها، فهذه النفس تصاب بالأعراض التي تصاب بها الأبدان، فهي محتاجة إلى تغذية دائمة ومحتاجة إلى رعاية، ومحتاجة كذلك إلى متابعة للازدياد من الخير كما يزداد البدن من الطاقات والمعارف، فلذلك احتاج الإنسان إلى أن يراقب تطورات نفسه، ويعلم أنها وعاء إيمانه، وأهم ما عنده هو هذا الإيمان، فإذا سلبه فلا فائدة في حياته، فلا بد من العمل على تنمية هذا الإيمان وزيادته عن طريق تزكية هذه النفس وتهذيبها (9).

يقول سيد قطب رحمه الله: إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد مزدوج الاتجاه، بمعنى أنه في طبيعة تكوينه من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه، وهو لذلك مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى أيهما أراد، وهذه قدرة كامنة في كيانه يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)} [الشمس: 7- 8]، ويعبر عنها بالهداية تارة {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، وإلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعدادات الخير فيها وتغليبها على استعدادات الشر فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9- 10] (10).

يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، يتلو عليهم آيات الله مبينات ويزكيهم، أي: يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويعلمهم الكتاب -وهو القرآن -والحكمة -وهي السنة - ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون.

فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالقول الفرى، فانتقلوا ببركة رسالته، ويمن سفارته، إلى حال الأولياء، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا، وأبرهم قلوبًا، وأقلهم تكلفًا، وأصدقهم لهجة (11).

قال القرطبي: {وَيُزَكِيهِم} أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان، قاله ابن عباس، وقيل: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب، قاله ابن جريج ومقاتل (12).

يطهرهم ويرفعهم وينقيهم. يطهر قلوبهم وتصوراتهم ومشاعرهم. ويطهر بيوتهم وأعراضهم وصلاتهم.

ويطهر حياتهم ومجتمعهم وأنظمتهم، يطهرهم من أرجاس الشرك والوثنية والخرافة والأسطورة، وما تبثه في الحياة من مراسم وشعائر وعادات وتقاليد هابطة مزرية بالإنسان وبمعنى إنسانيته، ويطهرهم من دنس الحياة الجاهلية، وما تلوث به المشاعر والشعائر والتقاليد والقيم والمفاهيم.

وقد كان لكل جاهلية من حولهم أرجاسها، وكان للعرب جاهليتهم وأرجاسها.

من أرجاسها هذا الذي وصفه جعفر بن أبي طالب وهو يحدث نجاشي الحبشة في مواجهة رسولي قريش إليه، وقد جاءا إليه ليسلمهما المهاجرين من المسلمين عنده.. يقول جعفر: أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه؛ فدعانا إلى الله وحده لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام.

ويكفي أن يتصفح الإنسان هذه الصورة البدائية الغليظة من الوثنية، ليعرف أي رجس كانت تنشره في القلوب والتصورات وفي واقع الحياة، ويدرك النقلة الضخمة التي نقلها الإسلام للقوم، والطهارة التي أسبغها على تصوراتهم وعلى حياتهم سواء، ومن هذه الأرجاس تلك الأدواء الخلقية والاجتماعية، التي كانت في الوقت ذاته من مفاخرهم في أشعارهم! ومن مفاخراتهم في أسواقهم، من الخمر إلى القمار إلى الثارات القبلية الصغيرة، التي تشغل اهتماماتهم، فلا ترتفع على تلك التصورات المحلية المحدودة (13).

واعلم أن الرسول لا قدرة له على التصرف في بواطن المكلفين، وبتقدير أن تحصل له هذه القدرة، لكنه لا يتصرف فيها، وإلا لكان ذلك الزكاء حاصلًا فيهم على سبيل الجبر لا على سبيل الاختيار، فإذن هذه التزكية لها تفسيران:

الأول: ما يفعله سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة، حتى يكون ذلك كالسبب لطهارتهم، وتلك الأمور ما كان يفعله عليه السلام من الوعد والإيعاد، والوعظ والتذكير، وتكرير ذلك عليهم، ومن التشبث بأمور الدنيا إلى أن يؤمنوا ويصلحوا، فقد كان عليه السلام يفعل من هذا الجنس أشياء كثيرة ليقوي بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح، ولذلك مدحه تعالى بأنه على خلق عظيم، وأنه أوتي مكارم الأخلاق.

الثاني: يزكيهم، يشهد لهم بأنهم أزكياء يوم القيامة إذا شهد على كل نفس بما كسبت، كتزكية المزكي الشهود.

والأول أجود؛ لأنه أدخل في مشاكلة مراده بالدعاء، لأن مراده أن يتكامل لهذه الذرية الفوز بالجنة، وذلك لا يتم إلا بتعليم الكتاب والحكمة، ثم بالترغيب الشديد في العمل والترهيب عن الإخلال بالعمل وهو التزكية، هذا هو الكلام الملخص في هذه الآية، وللمفسرين فيه عبارات.

أحدها: قال الحسن: يزكيهم: يطهرهم من شركهم، فدلت الآية على أنه سيكون في ذرية إسماعيل جهال لا حكمة فيهم ولا كتاب، وأن الشرك ينجسهم، وأنه تعالى يبعث فيهم رسولًا منهم يطهرهم ويجعلهم حكماء الأرض بعد جهلهم.

وثانيها: التزكية هي الطاعة لله والإخلاص عن ابن عباس.

وثالثها: ويزكيهم عن الشرك وسائر الأرجاس، كقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] (14).

فقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]، ثمَّ قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال عزَّ وجلَّ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

فالتزكية قبل العلم، لأن التزكية تُطهِّر القلب حتى يكون مؤهلًا لتقبُل العلم والعمل به، وحينها لن يحول بينه وبين الهداية قواطع وموانع.

وآفات النفوس كالتكبر والعُجب تقطع على المرء طريقه إلى الهداية، مما يؤدي إلى إعوجاجه وتوقفه عن العمل، فقد قيل: العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبَّر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ما يعلم.

ولكن التزكية تُحرر النفس من تلك الآفات وتجعله ينتفع بما يتعلَّم، فلا ينبغي أن تُقدِم شيئًا على تزكية نفسك ومعرفة عيوبها والشروع في إصلاحها.

 منهاج القرآن في تزكية الأنفس:

إن تزكية النفس تكون بتهذيبها، وصقلها، وكفها عن محارم الله، وزجرها عن حماه، وقمعها، وردعها، وتوبيخها في جنب الله، وحملها على طاعته، وخضوعها لجلاله، وخشوعها لهيبته، وتَضَعُّفها أمام قوته، وتواضعها لقدرته، ورضاها بقضائه وقدره، وصبرها على بلائه، وخوفها من بطشه، ورجائها في عفوه، وشوقها للقائه، ورقتها لخلقه، وذلتها على المؤمنين، وعزتها على الكافرين، وعدائها للشياطين وإخوان الشياطين؛ كل أولئك مظاهرُ لتزكيتها التزكية المحمودة المندوب إليها في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14- 15].

مظاهر لكسرها وثَنْيِها من غُلُوائها وكبريائها لكيلا تكون من الذين يزكون أنفسهم بالرياء ولا من المستكبرين الذين لا يحبهم الله.

إن المعلم المربي المتصدي للتزكية ينبغي له أن يعي أن أول ما بدأ به المربي المتلقي الوحي أن شد عليه ثيابه ليقوم الليل مصليًا قارئًا ذاكرًا مستغفرًا متبتلًا عابدًا.

ثالث ما نزل من السور قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)} [المزمل: 1 - 4].

قام صلى الله عليه وسلم، وقام أصحابه السنوات الطويلة، وبقي قيام الليل بالنوافل والتلاوة والدعاء والخشوع مدخلًا ضروريًا إلى عالم التزكي والتطهر؛ ومن هنا تبدأ التزكية، من هنا تبدأ التوبة الانقلابية .

التزكية لا تعني الهروب من المجتمع:

كان فيما مضى من تاريخنا ينزوي طلاب التزكية الروحية في خلوة، ويلبسون مرقعات تستر عن الناس سمو مطلبهم وارتفاع همتهم؛ هذا الصنيع لا يتلاءم وتحديات عصرنا، ولا مع مقاصد شريعتنا، إذ المتزكي حري به الآن أن يجهر بإيمانه، ويخالط الناس في ميادين السعي اليومي.

إن التزكية لا تعني التفرغ للعبادة بالليل والنهار، بل تعني أن يكون ليلُ المسلم ليلَ المتبتلين ونهارهُ نهارَ المجتهدين العاملين، سعيًا في حوائجه الدنيوية مثل الكسب، وحوائجه الأخروية، وإلا عد هاربًا من الدنيا، لكونه حاد عن المنهاج القرآني النبوي إلى الفضيلة الفردية، و«المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (15).

الشهادة للنفس بالتزكية:

إن المتزكي المنقطع عن التوجيه، الراغبَ في الخلاص الفردي دون الجماعي، العاشقَ للانزواء دون المخالطة، يوشك أن يغتر بعمله وصلاته وتهجده وسمته الإسلامي، وقد يرى الناس جميعًا هلكى ضالين وهو الناجي المهتدي؛ وهذه هي التزكية المنهي عنها في قوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].

وقال القرطبي رحمه الله تعالى أيضاً: وقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكي من حسنت أفعاله، وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له، وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: سميت ابنتي برة، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم»، فقالوا بم نسميها؟ فقال: «سموها زينب»، فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية كزكي الدين ومحي الدين، وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئًا (16).

قال أبو حيان: أي لا تنسبوها إلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي، ولا تثنوا عليها واهضِموها، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلب آدم، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم... وقيل: المعنى لا يزكي بعضكم بعضًا تزكية السمعة أو المدح للدنيا، أو تزكية بالقطع، وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة.

فتزكية النفس من أخطر الأمراض القلبية، وهو من أكبر العوائق أمام إصلاح الفرد والمجتمع؛ فالنظر إلى النفس بعين الكمال يُعمي القلب عن رؤية عيوبها وأمراضها التي يجب معالجتها، وهو منبع الكبر والعجب والحسد؛ لأن الناظر إلى نفسه بعين الكمال يشعر أنه يستحق مِن الناس مِن تقديرهم وتعظيمهم وثنائهم أكثر مما أخذه، فيترتب على ذلك احتقارهم وازدراؤهم؛ لكونهم لم يُعطوه حقه ولم يقدروه حق قدره، وإذا وجدهم يثنون على غيره ضاق بذلك وما استساغه؛ فوقع في تمني زوال النعمة عن أخيه ليتفرد هو -في وهمه وظنه- بالكمال؛ فهي أمراض متلازمة ربما تظهر في جملة واحدة كما ظهرت من إبليس حين أبى واستكبر وكان من الكافرين، ظهرت كل هذه الأمراض في قوله لربه عز وجل عن آدم عليه السلام: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12].

كما أنه لا يجوز شرعًا أن يرشح أحد نفسه لمنصب، لأنه من تزكية النفس التي نهينا عنها في القرآن، فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكّلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها» (17).

الآثـار المُترتبة على التزكية:

أن يتحقق القلب بالتوحيد والإخلاص، ويصل للمنازل العالية من الصبر والشكر والخوف والرجاء والمحبة لله سبحانه وتعالى، والصدق مع الله، ويتخلى عن الرياء والعجب والغرور والغضب، وغيرها من آفات النفوس.

ولقد كان السلف الصالح يولون أمر تزكية النفس وتطهير القلب اهتماما بالغًا، ويقدمونها على سائر الأمور.

كان عبد الرحمن بن القاسم المصري (الفقيه المالكي) يقول: خدمت الإمام مالك عشرين سنة، كان منها ثمان عشرة سنة في تعليم الأدب، وأخذت منه العلم في سنتين.

وقد كان الإمام مالك يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم ما نفع، وعمل به صاحبه (18).

فأهم من العلم العمل بما تعلمه، والذي لا يعمل بما تعلمه فهو مصاب بمرض العجز أو الكسل.

وكان الإمام الشافعي يقول: قال لي الإمام مالك: يا محمد، اجعل عملك دقيقًا، وعلمك ملحًا، فانظر ماذا يصلح الدقيق من الملح، إنها قطرات من الملح على أكوام من الدقيق، فـاعمل.

وكان عبد الله بن المبارك يقول: من حمل القرآن ثمَّ مال بقلبه إلى الدنيا فقد اتخذ آيات الله هزوًا، وإذا عصى حامل القرآن ربَّه ناداه القرآن في جوفه: والله ما لهذا حُمِلت، أين مواعظي وزواجري؟ وكل حرف منى يناديك ويقول: لا تعصِ ربَّك.

وكان الإمام أحمد بن حنبل إذا رأى طالب العلم لا يقوم من الليل يكف عن تعليمه، وقد بات عنده أبو عصمة ليلة من الليالي، فوضع له الإمام ماء للوضوء، ثمَّ جاءه قبل أن يؤذن للصبح فوجده نائمًا، والماء بحاله فأيقظه، وقال: لم جئت يا أبا عصمة؟ فقال: جئت أطلب الحديث، قال: كيف تطلب الحديث وليس لك تهجد في الليل؟! اذهب من حيث جئت (19).

وكان الإمام الشافعي يقول: ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فيما بينه وبين الله تعالى، فإن كل ما ظهر للناس من علم أو عمل قليل النفع في الآخرة، وما رؤى أحدٌ في منامه فقال: غفر الله لي بعلمي إلا قليلٌ من الناس (20).

كان يوسف بن أسباط يقول: أني لأهمَّ بقراءة السورة ثم أعرف ما جاء فيها، وأميل إلى التسبيح، فقيل له: يا أبا محمد، وما جاء فيها؟، قال: أن الرجل ليبدأ بأول السورة، فإن كان ليس يعمل بما فيها لم تزل السورة تلعنه من أولها إلى آخرها، وما أحب أن يلعنني القرآن.

وكتب يوسف إلى حذيفة: من كان طلب الفضائل أهم إليه من ترك الذنوب فهو مخدوع، وقد حبب أن يكون خيرًا عاليًا أصبر علينا من ذنوبنا (21).

والتزكية لا تكون إلا بمجاهدة النفس، يقول تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، وجهاد النفس أصعب بكثير من مجاهدة العدو الخارجي، لأنك قد تتغلب على نفسك مرة ومرات أخرى عديدة تتفلت منك، لذا فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

واعلم إنك ستواجه عقبات في طريقك لتزكية نفسك، قال تعالى {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12)} [البلد: 11- 12]، فنفسك أشبه بالجبل الوعِر، الذي لن تتمكن من تسلقه إلا إذا كنت خفيف الحركة وذلك لن يكون إلا عن طريق ترك التعلُق بالدنيا والذنوب التي تُثقلَّك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن وراءكم عقبة كؤودًا لا يجوزها المثقلون، فأنا أحب أن أتخفف لتلك العقبة» (22).

ومن لم يتزكى فسيقع في شراك نفسه التي تجعله يعيش في الخداع والوهم، ويحسب نفسه من الصالحين وهو أبعد ما يكون عنهم، لذا يقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس: 9-10]، ودسَّاها: أي خبأ نفسه وسط الصالحين.

فخذها إذًا شعارًا لك: الفلاح في التزكية، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14- 15].

إن التزكية نوعٌ من التطهيـر والنماء والصلاح، وتقوم على دعامتان، هما:

1- التخلية، أي التطهير من العيوب والآفات.

2- التحلية، أي أن تستبدل الأخلاق الغير صالحة بأخرى صالحة، كأن تستبدل الشُح بالجود والكرم، واستبدال الكبر بالذل والافتقار، واستبدال الكسل بعلو الهمة.

والأسس التي يقوم عليها العلاج لآفات النفوس وتربيتها تنقسِم إلى نوعين:

1- أسس عقدية.             2- أسس علمية.

أولًا: الأساس العقدي:

ويكون من خلال تربية نفسك على الأمور التالية:

1- التوحيد، ونحن بحاجة إلى أن نربي أنفسنا على معاني التوحيد؛ لأن القلب إذا فسد، يجعل المرء يقع في الشرك بلا شك.

2- الاعتصام بالكتاب والسنة، أن يتمسك ويعتصم بالكتاب والسُنة، فمدار السعادة في الدنيا والآخرة عليهما، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وحبل الله عز وجل هو الكتاب والسنة.

وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، فعند الاختلاف، لابد أن نرد الأمر إلى الكتاب والسنة حتى ولو كان يخالف هواك ورأيك.

3- الإيمان بالقضاء والقدر، يقول الله جل وعلا: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].

عن ابن عباس قال: كنت خلف رسول الله يومًا، فقال: «يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (23).

والإيمان بالقضاء والقدر لا يتم على وجهه الأكمل، إلا إذا حقق الإنسان الإيمان بالخمسة أمور التي قبلها: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ثمَّ الإيمان بالقدر خيره وشره.

ومن يرضى بقضاء الله يعيش في جو هادئ مما يدخله في جنة الرضا، وأخطر ما يُهدد إيمان العبد، هو التسخُّط على قدر الله، لأنه لن يرضى بشرع الله حينها، مما يوقعه في الذنوب.

عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب، قال اكتب»، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مات على غير هذا فليس مني» (24).

كما إن من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، سلامة الصدر من الحقد والحسد، ويغرس في القلب نوعًا من الشجاعة، ويُخفف من الجزع عند المصيبة، ويدفع المرء لبذل الجهد في العمل ويطرد عنه اليأس.

4- الإيمان باليوم الآخر:

فمن آفات النفوس أنها ملول تميل إلى إتبــاع الهوى، مما يجعلها تعيش حياة الفوضى والعبثية، ويخاطب الله عزَّ وجلَّ هؤلاء العبثيون، فيقول تعالي: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]، فذكرهم الله تعالى باليوم الآخر.

فمن أعظم ما يزجر النفس عن المعاصي، هو استحضار مشاهد الآخرة بداية من الموت وعذاب القبر ثم الحساب والمآل إما إلى الجنة أو النار، فتذكُّر الموت يُفيق العبد من غفلته وانغماسه في شهوات الدنيا.

لذا عندما تجد نفسك غارقًا في الغفلة، عليك أن تستمع إلى المواعظ، وتقوم بزيارة قبر أو تغسيل ميت، كي يتحرَّك قلبك ويحجزك عن المعاصي، مما يقوى الوازع الديني في قلبك ويبعثك على المسارعة في الطاعة والعمل الصالح، وكل شيء يهون حينها في سبيل الله.

ثانيًا: الأساس العلمي:

اعلم أن العلم النافع هو كل علمٍ يُقربَّك إلى الله تعالى ويزيدُ خشيتك له ويدفعك إلى العمل الصالح، أما إذا لم تجد هذا الأثر في العلم الذي تتعلمه، فاعلم أن هناك خلل وأن هذا العلم غير نافع لك في الوقت الحالي.

والعلم يكون نافعًا بما يلي:

1- أن تعرف عقيدتك، بحيث تكون عقيدةٌ صحيحة، تُرَّسِخ الإيمان في قلبك وتُهذِّب نفسك.

2- أن تتعلم أحكام الحلال والحرام (الفقه).

3- أن يثمر الخشية من الله.

فهذا العلم يزجره عن فعل المعاصي والذنوب، مما يؤدي إلى تزكية نفسه.

ثالثًا: العبادات العملية:

وهي أهم طرق تزكية النفس.

1- الصلاة، عن طريق تحقيق ثمرتها، وهي الخشوع والخضوع.

2- الزكاة، فهي تُطهِّر النفس من آفة الشح، وتُجسِّد معنى من معاني شكر النعمة.

3- الصيـام، لتقوية الإرادة والصبر، وفيه مجاهدة للنفس.

4- الحج، فهو تدريب عملي على الامتثال لأوامر الله عز وجل، وجهاد للنفس وتدريبها على تحمُّل المشاق.

5- النوافل، سواءً كانت نوافل الصلاة والصيام والصدقات وتلاوة القرآن والعمرة وغيرها، فالإكثار من هذه الأعمال يقوَّيك ويجعلك في معية الله عز وجل، يقول تعالي في الحديث القدسي: «وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» (15).

6- المحاسبة والتوبة، فقد أقسم الله عز وجل بالنفس اللوَّامة، في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]، وهذا من خلال المحاسبة والمشارطة والمراقبة والمعاقبة والمعاتبة للنفس.

ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] (26)، وقال الحسن: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همه (27).

من الأمور التي تُعين على محاسبة النفس:

أ) استشعار أن الله يراك وتذكُّر الحساب ويوم القيامة.

ب) مطالعة سير الصحابة والسلف الصالح.

ج) الصحبة الصالحة من أهم ما يُعينك في الطريق إلى تزكيـــة نفسك (28).

***

____________

(1) تفسير السعدي (ص: 926).

(2) تفسير ابن كثير (8/ 412).

(3) تفسير المراغي (5/ 60).

(4) أخرجه مسلم (2722).

(5) أخرجه الترمذي (3483).

(6) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 75).

(7) تفسير القرطبي (19/ 208).

(8) في ظلال القرآن (6/ 3819).

(9) تزكية النفس/ صيد الفوائد.

(10) في ظلال القرآن (6/ 3917).

(11) تفسير ابن كثير (1/ 464).

(12) تفسير القرطبي (18/ 92).

(13) في ظلال الظلال (1/ 508- 510).

(14) تفسير الرازي (4/ 60).

(15) أخرجه مسلم (2664).

(16) تفسير القرطبي (5/ 246).

(17) أخرجه البخاري (6722).

(18) فتح القدير للشوكاني (4/ 403).

(19) منطلقات طالب العلم (ص: 176).

(20) المرجع السابق.

(21) حلية الأولياء (3/ 469).

(22) صحيح الترغيب والترهيب (3177).

(23) أخرجه الترمذي (2516).

(24) أخرجه أبو داوود (4700).

(25) أخرجه البخاري (6502).

(26) أخرجه ابن أبي شيبة (34459).

(27) حلية الأولياء (2/ 146).

(28) وسائل التزكية - الكلم الطيب.