الختم على القلوب
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23]، وقال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155]، وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف:101]، وقال: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، وقال تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7].
الختم مصدر ختم ختمًا فهو مختوم، ومعناه تغطية الشيء، والاستيثاق من الغطاء حتى لا يدخله شيء من خارجه، والختم يكون محسوسًا، وإطلاقه على الأمور المعنوية يكون مجازًا أو استعارة، ويكون المعنى أن الله تعالى شبه ابتعادهم عن الهداية، والحيلولة بين قلوبهم ووصول الحق إليها، بسبب ما تواردت عليه من أسباب الشك والارتياب وإظلام القلوب، وعدم قبولها لنور الهداية، شبهه بحال ما ختم عليه بختم استيثاقًا من ألا يفتح ويدخل عليه شيء من الإيمان.
وكان على القلوب فلا يكون معها مكان لهداية، وعلى السمع فلا ينفتح لسماع كلمة حق هادية، وذلك من كثرة ما توارد عليها من أسباب العصيان والجحود، حتى طبع الله تعالى عليها بكفرهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا [أي: مقلوبًا]، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا»(1).
ولقد قال ابن جرير في تفسيره: «إن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم الذي ذكره الله سبحانه وتعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}»(2).
والمعنى أن الذين أركست قلوبهم بتضافر ذنوبهم، وتوالي جحودهم، واستغراق المادة تغلق عليهم مسالك الهداية، وتسد عليهم مسام النور، فلا تصل إليهم هداية.
وعبر عن ختم قلوبهم وسمعهم بجمع القلوب وإفراد السمع؛ لأن الأسباب التي تغلق القلب متعددة بتعدد أصناف الهوى، فكأن كل واحدة تسكن قلبًا، وتتعدد القلوب بتعدد ما ملأها من أهواء، وتتضافر هذه الأهواء، وأفرد السمع لأنه طريق واحد، وجارحة واحدة، ونور الحق واحد، وصوته واحد، ولكن لا يسمع(3).
قال المفسرون: الختم التغطية والطبع؛ وذلك أن القلوب إذا كثرت عليها الذنوب طمست نور البصيرة فيها، فلا يكون للإِيمان إِليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، كما قال تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155](4).
وقال مجاهد في قوله تعالى: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلَوبِهِم}: «نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم»، وقال ابن جريج: «وحدثني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول: (الران أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله)».
وقال الأعمش: «أرانا مجاهد بيده فقال: (كانوا يرون أن القلب في مثل هذه، يعني الكف، فإذا أذنب العبد ذنبًا ضم منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضم، وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضم، وقال بأصبع أخرى وهكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال: يطبع عليه بطابع)»(5).
قال القرطبي: «وقال أهل المعاني: وصف الله تعالى قلوب الكفار بعشرة أوصاف: بالختم والطبع والضيق والمرض والرين والموت والقساوة والانصراف والحمية والإنكار.
فقال في الإنكار: {قُلُوبُهُم مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُون} [النحل:22].
وقال في الحمية: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26].
وقال في الانصراف: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127].
وقال في القساوة: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22]، وقال: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].
وقال في الموت: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122]، وقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} [الأنعام:36].
وقال في الرين: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
وقال في المرض: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد:29].
وقال في الضيق: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
وقال في الطبع: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]، وقال: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء:155].
وقال في الختم: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].
فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق سبحانه مفهوم مخاطباته والفكر في آياته، وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دعوا إلى وحدانيته، وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته»(6).
وقوله عليه السلام: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»(7)، دليل على أن الختم يكون حقيقيًا، والله أعلم(8).
ولا يستعمل الطبع على القلوب إلا في الشر، والمراد به أنها وصلت من الفساد إلى حالة لا تقبل معها خيرًا؛ كالهدى والإيمان والعلم النافع الذي هو فقه الأمور ولبابها، وإنما يحصل بالإصرار على الشرور والمعاصي استحلالًا واستحسانًا لها حتى لا يعود في النفس موضع لغيرها، قال تعالى في اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155]؛ أي: إلا قليلًا منهم؛ وهم الذين لم يطبع على قلوبهم، وقال تعالى في المنافقين: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [التوبة:87]، ومثله في سورتهم، وقال هنا: {فَهُمْ لَا يَسْمَعُون}؛ أي: فهم بهذا الطبع لا يسمعون الحكم والنصائح سماع تفقه وتدبر واتعاظ: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101]، ما يراد منها؛ لأن قلوبهم قد ملئت بما يشغلهم عنها، من آراء وأفكار وشهوات ملكت عليها أمرها، حتى صرفتهم عن غيرها فجعلتهم من الأخسرين أعمالًا {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:104](9).
هذه الآيات تبين الآثار السلبية والتي تنتج عن الأعمال السيئة، فإن كثرة المعاصي تأتي على القلب فتفسده، كما يصدأ الحديد ويبلى الخشب.
يقول البيضاوي: «وإنما المراد بهما [أي: الطبع والختم] أن يحدث في نفوسهم هيئة تمرنهم على استحباب الكفر والمعاصي، واستقباح الإيمان والطاعات بسبب غيهم، وانهماكهم في التقليد، وإعراضهم عن النظر الصحيح، فتجعل قلوبهم بحيث لا ينفذ فيها الحق، وأسماعهم تعاف استماعه فتصير كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لا تجتلي الآيات المنصوبة لهم في الأنفس والآفاق كما تجتليها أعين المستبصرين، فتصير كأنها غُطي عليها، وحيل بينها وبين الإبصار، وسمّاه على الاستعارة ختمًا وتغشية»(10).
قال تعالى في سورة الصف: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]، وتتحدث هذه الآية وأمثالها عن أن الأعمال السيئة تتولد عن العادات السيئة، وهذا من قبيل سنة الله في الأشياء، وهكذا يكون الصلاح والفساد جنبًا إلى جنب في عالم الامتحان(11).
المراحل التي يمر بها القلب المريض:
يمر القلب بثماني مراحل في منظومة أمراض القلوب، فيتدرج صعودًا حتى يصبح المرض وبائيًا قاتلًا, والقرآن الكريم يبيّن كل نوع من هذه المراحل بدقة.
الران أو الرين هو أول خطوة من خطوات المرض، وهو نتيجة كون ابن آدم خطّاء، وليس في وسع أحد ألا يرتكب ذنبًا، بدليل الحديث القدسي: «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم»(12).
المشكلة ليست في الذنب نفسه، إنما الإشكال يحدث عندما يذنب المرء ولا يستغفر، عندها تتكاثر النكات السوداء في القلب حتى يصبح القلب مغلّفًا بالسواد، وهذا هو الران، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، فالران هو التأثير السلبي للذنوب، وحينئذ الاستغفار يعطي القلب مناعة كاملة من أن يتأثر بالذنب، فكأن الذنب لا يمسه، ويكون خارج نطاق القلب، وينحصر في الجوارح فقط.
أولى المراحل: الإكنان:
والأكنة: جمع كنان؛ مثل: غطاء وأغطية وزنًا ومعنى، أثبتت لقلوبهم أغطية على طريقة التخييل، وشبهت القلوب بالأشياء المغطاة على طريقة الاستعارة المكنية، ووجه الشبه حيلولة وصول الدعوة إلى عقولهم كما يحول الغطاء والغلاف دون تناول ما تحته(13)، قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام:25]، فلم يعد القلب المكنون يشعر بما حوله من الذنوب؛ كالسجين الذي مضى على سجنه وقت طويل فلم يعد يعلم ماذا يحصل في الخارج.
قال الشنقيطي: «جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكنة، أي: أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به، وواحد الأكنة كنان، وهو الغطاء»(14).
قال القرطبي: «وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم، والأكنة: الأغطية، جمع كنان؛ مثل الأسنة والسنان، والأعنة والعنان»(15).
المرحلة الثانية: التغليف:
إذا طال الإكنان أصبح تغليفًا: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88]، {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:155]، قال ابن عباس: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ}؛ أي: لا تفقه(16).
وحكى أهل اللغة: غلفت السيف جعلت له غلافًا، فقلب أغلف؛ أي مستور عن الفهم والتمييز(17).
قال الرازي: «أما الغلف ففيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جمع أغلف، والأغلف هو ما في غلاف، أي: قلوبنا مغشاة بأغطية مانعة من وصول أثر دعوتك إليها، وثانيها: روى الأصم عن بعضهم أن قلوبهم غلف بالعلم ومملوءة بالحكمة، فلا حاجة معها بهم إلى شرع محمد عليه السلام، وثالثها: غلف؛ أي: كالغلاف الخالي لا شيء فيه مما يدل على صحة قولك»(18).
المرحلة الثالثة: الإقفال:
إذا طال التغليف وأصبح محنّطًا بحيث لا يسمع القلب ولا يعي فهو القفل، كما في قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]؛ أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه(19)، أقفلها الله عز وجل عليهم فهم لا يعقلون ولا يفقهون ولا يتدبرون.
المرحلة الرابعة: الشد:
والشد: الربط والطبع على الشيء، بحيث لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخل فيه ما هو خارج منه، وإضافة إلى القفل إذا شُدّ من مكان آخر بحيث لم يعد يفتح يسمى الشدّ {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس:88]؛ أي: قفل مع شدة، قال ابن عباس: «أي امنعهم الإيمان»، وقيل: قَسِّهَا واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان(20).
وقال الرازي: «ومعنى الشد على القلوب الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان»(21).
المرحلة الخامسة: الطبع:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:6]، هذا الذي طُبع قلبه يصبح السوء عنده عادة لا يرى فيه بأسًا؛ فيسرق ويزني ويأكل الربا، وليس عنده سيئة تثير فيه استغرابًا ولو بشعرة، فصار كالحيوان {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]، وكلما سنحت له شهوة اتّبعها سواء في ملك أو سرقة أو أي شيء آخر، فعلها بارتياح ضمير ولا يشعر باستغراب؛ بل ويستغرب ممن يلومهم، والذين يطبع الله على قلوبهم هم أناس آمنوا أولًا ثم كفروا فطبع على قلوبهم.
المرحلة السادسة: الختم:
بعد الطبع يترقى المرض ويتطور حتى يصبح ختمًا لا يخرج منه شيء ولا يدخل إليه شيء، {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]، فالختم هو التوثيق الذي لم تعد الوثيقة قابلة للتغيير بعد وضعه عليها، فذلك ختم الله على قلوبِ الذين يبلغون مراحل متقدمة من الكفر، وقد بيَّن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]، وهؤلاء ليسوا من الكافرين الذين يُمكِن لهم أن يتوبوا، ويتقبَّل الله توبتهم؛ بل حتى الشرك يمكن أن يقبل الله توبة التائب منه، لكن هؤلاء بلغوا مراحل في كل أشكال الكفر، حتى استحقوا أن يختم الله على قلوبهم.
المرحلة السابعة: الإغفال:
قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28]؛ أي: شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا(22)، فليس له إمام ولا مرجع، لا ديني ولا شرعي ولا قضائي، مهما اشتهى يفعل؛ كأصحاب السلطة الظالمة الغاشمة على مر التاريخ.
وقوله تعالى: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا}؛ أي أنه لغروره وفساد نفسه شغل قلبه بالدنيا وما فيها، وأغفله الله تعالى عن ذكره، وإذا فرغ القلب من ذكر الله تعالى سكنه الشيطان؛ ولذا قال تعالى بعد إغفال ذكر الله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}؛ أي غلبه هواه وصار عبدًا لشهواته، ومن كان كذلك انحلت نفسه؛ ولذا وصفه سبحانه وصفًا يفيد الانحلال النفسي فقال: {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}؛ أي أنه كان أمره منحلًا مضطربًا لا ضابط يضبطه، ولا خلق يكبح جماحه، فهو مهمل مضيع مسرف في كل أحواله(23).
المرحلة الثامنة: القسوة:
هي المرحلة الأخيرة من مراحل أمراض القلوب، وإذا وصل القلب إلى مرحلة القسوة فقد انتهى {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} الزمر:22]، هذا القاسي الذي عانت منه البشرية من عهد آدم إلى يومنا هذا، منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل إلى إيذاء الأنبياء، كما آذى قوم نوح سيدنا نوحًا عليه السلام مدة ألف عام، وكما أوذي موسى وعيسى عليهما السلام وكثير من الأنبياء {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة} [البقرة:74].
والقسوة: الصلابة والشدة واليبس، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى(24).
وقاسي القلب لا ترفّ له شعرة ولو قتل ألف رجل؛ مثل أولئك الذين يعذّبون الناس في السجون، ويقطعون أوصالهم ولا يؤثر فيهم صراخ المعذبين، الذي تتمزق له القلوب وتقشعر له الأبدان.
قال أبو السعود: «القسوة عبارة عن الغلظ والجفاء والصلابة، كما في الحجر، استعيرت لِنُبُوِّ قلوبهم عن التأثر بالعظات والقوارع بالتي تميع منها الجبال وتلين بها الصخور»(25).
قال الزجاج: «تأويل قست في اللغة؛ أي: غلظت ويبست، فتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع»(26).
***
_______________________
(1) أخرجه مسلم (144).
(2) تفسير الطبري (1/ 261).
(3) زهرة التفاسير (1/ 118-119).
(4) صفوة التفاسير (1/ 27).
(5) تفسير ابن كثير (1/ 174).
(6) تفسير القرطبي (1/ 186).
(7) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
(8) تفسير القرطبي (1/ 189).
(9) تفسير المنار (9/ 28).
(10) تفسير البيضاوي (1/ 26).
(11) حاشيه الشهاب على تفسير البيضاوي (1/ 288).
(12) أخرجه مسلم (2749).
(13) التحرير والتنوير (24/ 233).
(14) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 311).
(15) تفسير القرطبي (6/ 404).
(16) تفسير ابن كثير (1/ 324).
(17) تفسير القرطبي (2/ 25).
(18) مفاتيح الغيب (3/ 597).
(19) تفسير ابن كثير (7/ 320).
(20) تفسير القرطبي (8/ 374).
(21) مفاتيح الغيب (17/ 294).
(22) تفسير ابن كثير (5/ 154).
(23) زهرة التفاسير (9/ 4523).
(24) تفسير القرطبي (1/ 462).
(25) صفوة التفاسير (1/ 60).
(26) بحر العلوم (1/ 65).