logo

الدعاة وشحذ الهمم


بتاريخ : الأربعاء ، 17 جمادى الأول ، 1440 الموافق 23 يناير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة وشحذ الهمم

لا يزال أعداء الدين، من اليهود وغيرهم، يبثون سمومهم، ويغرسون حقدهم في جسد الأمة المكلوم، ومصيبة أمتنا انسياقها خلف ما يبثه هؤلاء الأعداء، فنخرت الهزيمة النفسية في جسدها، وآلمتها مرارة الشعور بالعجز والفشل، لكن القرآن يوجه الأمة ويشحذ همتها إلى عكس ذلك، «فنراه يصرف المسلمين عن الاستماع لأهل الكتاب والانشغال بتوجيهاتهم، ويوحي إليهم بالاستقامة على طريقهم الخاص ووجهتهم الخاصة، فلكل فريق وجهته، وليستبق المسلمون إلى الخير، لا يشغلهم عنه شاغل، ومصيرهم جميعًا إلى الله القادر على جمعهم وعلى مجازاتهم في نهاية المطاف: {لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعًا إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:148].

وبهذا يصرف الله المسلمين عن الانشغال بما يبثه أهل الكتاب من دسائس وفتن وتأويلات وأقاويل، يصرفهم إلى العمل والاستباق إلى الخيرات، مع تذكر أن مرجعهم إلى الله، وأن الله قدير على كل شيء، لا يعجزه أمر، ولا يفوته شيء، إنه الجد الذي تصغر إلى جواره الأقاويل والأباطيل»(1).

ويكفينا إيمانًا ويقينًا بضرورة تحلي المؤمن بعلو الهمة، وذلك في حث ديننا الإسلامي على ذلك، فعلى سبيل المثال ذكر الله تعالى في محكم كتابه الكريم: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37]، وقوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وفي الأحاديث النبوية ورد منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها»(2).

وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس»(3)، خطاب لجميع أمته، يدخل فيه المجاهدون وغيرهم، فدل ذلك أنه قد يعطي الله لمن لم يجاهد قريبًا من درجة المجاهد؛ لأن الفردوس إذا كان أعلى الجنة ولا درجة فوقه، وقد أمر صلى الله عليه وسلم جميع أمته بطلب الفردوس من الله؛ دل أن من بوأه الفردوس وإن لم يجاهد فقد تقارب درجته من درجات المجاهد في العلو، وإن اختلفت الدرجات في الكثرة، والله يؤتي فضله من يشاء.

وكذلك لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، وما لاقاه في بداية دعوته للإسلام من ظلم وسخرية وتعذيب، فأنزل الله تعالى عليه آيةً تثبيتًا له على المضي في نشر دعوة التوحيد {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].

إنه لطريق شاق؛ طريق هذه الدعوة، وطريق مرير، حتى لتحتاج نفسًا كنفس محمد صلى الله عليه وسلم، في تجردها وانقطاعها للدعوة، وفي ثباتها وصلابتها، وفي صفائها وشفافيتها، تحتاج إلى التوجيه الرباني بالصبر وعدم الاستعجال على خصوم الدعوة المتعنتين.

نعم، وإن مشقة هذا الطريق لتحتاج إلى مواساة، وإن صعوبته لتحتاج إلى صبر، وإن مرارته لتحتاج إلى جرعة حلوة من رحيق العطف الإلهي المختوم(4).

بل كان من أمر الله تعالى بالمسارعة إِلى عمل الآخرة في آيات عديدة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} و{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} [الحديد:21]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]، وأما لعمل الدنيا فأمر بالهوينى {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15]، {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض} [الزمر:20] فتدبر السرّ الدقيق.

إن فريضة الوقت تستلزم تجييش الأمة كلها لمواجهة أعدائها المتكالبين من كل مكان، مع تنوع وسائلهم وطوائفهم، وعدم الاستهانة بأي قوة في هذه الأمة لفرد أو جماعة، وبأي جهد من أي مسلم، ونبذ التقسيمات التي حصر بها بعض طلبة العلم الاهتمام بالدين على فئة معينة من الناس، فالأمة كلها مطالبة بنصرة الدين، وكل مسلم لا يخلو من خير، والإيمان شُعَب، منها الظاهر ومنها الباطن، ورب ذي مظهر إيماني وقلبه خاوٍ أو غافل، ورب ذي مظهر لا يدل على ما في قلبه من خير وما في عقله من حكمة ورشد، وهذا لا يعني إهمال تربية الأمة على استكمال شُعَب الدين ظاهرًا وباطنًا؛ بل إن استنفار الأمة كلها لنصرة الدين وتحريك الإيمان في قلوبها هو من أسباب توبة العاصي ويقظة الغافل، وتزكية الصالح.

وهذا جيش النبي صلى الله عليه وسلم، خير الجيوش، لم يكن من السابقين الأولين محضًا؛ بل كان فيه الأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، وفيه مَن خَلَط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، وفيه المُرجَون لأمر الله، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وفيه من قاتَل حمية عن أحساب قومه، فضلًا عن المنافقين المعلومين وغير المعلومين، وإنما العبرة بالمنهج والراية والنفوذ التي لم تكن إلا بيد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بيد أهل السابقة والثقة والاستقامة من بعده.

لقد فرض الله تعالى على المؤمنين القتال، ودارت رحى المعارك، بداية من معركة بدر، وكان لا بد من المال والرجال الأبطال الشجعان، فاقتضى هذا الموقف شحذ الهمم وإلهاب المشاعر؛ لتقوى الجماعة المسلمة بالمدينة على مواجهة حرب العرب والعجم معًا، ومن هنا لمطاردة الجبن والبخل، وهما من شر الصفات في الرجال، ذكر تعالى حادثة الفارين من الموت، التاركين ديارهم لغيرهم، كيف أماتهم الله ولم يُنْجِهم فرارهم، ثم أحياهم ليكون ذلك عبرة لهم ولغيرهم، فالفرار من الموت لا يجدي، وإنما يجدي الصبر والصمود حتى النصر.

ثم أمر تعالى المؤمنين، بعد أن أخذ ذلك المنظر من نفوسهم مأخذه، فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ}، ولما كان المال المقدم في القتال فتح الله لهم اكتتابًا ماليًا، وضاعف لهم الربح في القرض، بشرط خلوصه وطيب النفس به، ثم قدم لهم هذا العرض التفصيلي لحادثة أخرى، تمثل في ثناياها العظات والعبر لمن هو في موقف المسلمين، الذين يحاربهم الأبيض والأحمر، وبلا هوادة، وعلى طول الزمن(5).

إن الحديث عن هذه التحديات والعقبات يطول، ويصعب على امرئ استقصاؤه وحصره، وهو أمر كثيرًا ما نطرقه ونثيره، ونحن نتجاذب أطراف الحديث حول قضية الإصلاح والتغيير.

ومع الإيمان بأهمية إدراك حجم التحديات وضخامتها، وضرورة وضع الأمور في نصابها الصحيح دون تهوين؛ إلا أن المبالغة أو التركيز في الحديث على جانب معين من المشكلة يؤدي إلى نتائج معاكسة.

فالمنتظر من الحديث حول العقبات والتحديات أن يؤدي إلى شحذ الهمم ورفع العزيمة، والبذل والتضحية بما يتناسب معها، إلا أن الإفراط في ذلك ربما أدى إلى اليأس، فهل الطاقات المتاحة اليوم، وبرامج العمل، والصحوة بمؤسساتها الضعيفة، وقدراتها المبددة وغير القادرة على استيعاب خلافاتها وحل مشكلاتها؛ فضلًا عن التغيير في الواقع، هل ذلك كله يمكن أن يوصل إلى التغيير الذي نتطلع إليه في واقع المسلمين اليوم؟

إنه التفكير السريع، الذي لا يأخذ في حسبانه إلا العوامل المادية والبشرية، لكنه حين يتجاوز ذلك، فيضع في الاعتبار القواعد والمنطلقات الشرعية؛ فإن النتائج تختلف، أينسى أن قدرة الله تبارك وتعالى مطلقة، ومشيئته نافذة، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقدرته تبارك وتعالى تتجاوز حسابات الناس القريبة، واعتباراتهم المنحصرة في العالم المادي المحسوس، قال تبارك وتعالى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)} [القمر:49-50].

وقال عز وجل: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس:82](6).

وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدين سيعلو وينتصر لا محالة؛ فعن تميم الداري رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل الله به الكفر)»(7).

وعن أُبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بَشّرْ هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب»(8).

وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»(9).

إنها أخبار صادقة، ووعود لا بد من أن تتحقق، فلنتوازن في تفكيرنا، ولا تسيطر علينا الحسابات المادية، ولنعلم أن قدرة الله تبارك وتعالى فوق كل حسابات البشر، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال:30].

ولقد أكثر الله عز وجل من ذكر القصص ليتدبرها المؤمن، ويستلهم منها الأسوة والقدوة والنموذج الذي يحتذى به في الدعوة، وقد حث الله عز وجل على ذكر القصص؛ لما لها من قوة في شحذ الهمم، وتوجيه الإرادة، وهنا يقص الله عز وجل قصة لوط عليه السلام، وكيف دعا قومه، وصبر على أذاهم، وكيف آذوه حتى نصره الله عز وجل عليهم، وأهلك قومه.

لقد أرسل الله موسى عليه السلام، وكتب على يديه الخلاص لبني إسرائيل من هذه الحياة البائسة والظلم والعبودية، وأغرق فرعون وجنوده، وأراد موسى عليه السلام أن يغير في بني إسرائيل ثقافة العبودية والذل والهوان، التي عاشوها وتربوا عليها، إلى حياة الحرية والعزة والكرامة، ولأن التغيير لا يمكن أن يحدث إلا عندما تكون هناك إرادة حقيقية وصادقة في النفوس، فكان الامتحان الأول لهم بأن أمُروا أن يدخلوا الأرض المقدسة، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21-22]، فماذا كان ردهم؟ قال تعالى: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22].

إنهم يعلنون أنهم لن يدخلوا الأرض المقدسة حتى يخرج منها أهلها، وكأن سكان البلاد الأصليين سوف يقولون لهم: تفضلوا واسكنوا أرضنا، ونحن خارجون إلى غيرها، دون قتال ولا جهد.

إنها فلسفة النفوس الجبانة، التي ترفض دفع ثمن العزة والحرية، فتدفعها أضعافًا مضاعفة مع الذل والعبودية والهوان، فبعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربًا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة!

لقد كان المطلوب منهم مجرد الدخول، وبعدها سيكون لهم الغلبة والنصر والتمكين: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23]، لكن الإرادة الصادقة لم تكن موجودة، وكانت العزيمة مفقودة، ولم يتعظوا ولم يعتبروا بما حدث لهم من قبل؛ بل قالوا لموسى عليه السلام: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، فكان العقاب الإلهي جزاءً وفاقًا.

فالذي لا يريد أن يقدم أو يضحي من وقته أو ماله أو جهده، أو حتى حياته، من أجل سعادته وراحته وكرامته، أو من أجل نجاحه وتفوقه، أو حتى من أجل أمته ودينه ومجتمعه؛ فإنه لا يستحق التأييد الإلهي والتوفيق الرباني؛ بل إنه يسقط ويحل عليه سخط الله وغضبه، قال تعالى مبينًا قدره وحكمه فيهم: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26]، فبعد الذل والقهر والحرمان ضياع وسخط من الله وخذلان.

هذه سنة الله في خلقه، وقدره في أرضه وسمائه، فمتى ما وجدت الإرادة الحقيقية في النفوس لإحداث التغيير في واقع الحياة، على مستوى الفرد والأمة، فإن الله سبحانه وتعالى يأذن بذلك، فهو القائل: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]، فالطالب لا ينجح إلا بإرادة قوية في النجاح، وعليه أن يتحمل تبعات ذلك؛ من بذل الجهد والسهر والتعب، والتاجر لا بد له من إرادة قوية تقوده إلى تحقيق الطموح المنشود، فيبذل الأسباب، ويفارق الأهل والأوطان من أجل ذلك، والعالِم لا بد أن تكون لديه إرادة قوية للبحث والاطلاع والسفر، والصبر على مرارة التعلم، وهكذا المزارع والمدير وصاحب المؤسسة والمصنع والباحث والمخترع وغيرهم.

فإذا لم تكن هنالك الإرادة الحقيقية والصادقة لإحداث التغيير والوصول إلى المطلوب كان هناك الفشل والضعف، عندها يصعب تبدل الأحوال وتحقيق الأهداف.

هذا على مستوى الأفراد، فكذلك على مستوى الأمم والشعوب والمجتمعات والدول والحضارات؛ لذلك كان الامتحان الأول لهذه الأمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امتحان إرادة، ففي يوم بدر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يريدون استعادة أموالهم من قافلة لقريش قادمة من الشام، فعلمت قريش وأرسلت جيشًا لحماية القافلة قوامه ألف رجل بأسلحتهم، ولم يكن عند رسول الله ولا أصحابه استعداد لهذه المعركة، لكنها فُرِضت عليهم، وعددهم وأسلحتهم قليلة، عندها وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: «أشيروا عليّ أيها الناس»، فقال المهاجرون، وعلى رأسهم المقداد بن الأسود: «والله يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون»، وقام الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن معاذ فقال: «فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، ووالله، إنا لا نكره أن تلقى بنا عدونا غدًا، إنا صدقٌ عند اللقاء، ولعلك ترى منا ما تقر به عينُك، فسِر على بركة الله».

عندما رأى منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الإرادة الصادقة والعزيمة القوية قال لهم: «سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، والله، إني لأنظر إلى مصارع القوم»(10).

من هنا يتبين أن من أدوات التغيير الإرادة والعزيمة والإصرار، وإن الخَوَر والضعف وسقوط الهمم علامة من علامات الهوان، وسببٌ للهزائم والنكسات.

لقد خرج المسلمون في أصقاع الأرض ينشرون التوحيد ويقيمون العدل، وهم قليلو العدد والعدة، لكنهم يحملون إرادة عظيمة وعزيمة لا تقف أمامها الصعاب، ولا تثنيها عن هدفها الظروف والأحوال، حتى قال ملك الصين، وقد استنجد به كسرى ملك الفرس، وهو يرى جيش المسلمين بقيادة خالد بن الوليد يداهم حصونهم ومدنهم: «لا طاقة لي بقوم لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها»، وعندما أراد صلاح الدين الأيوبي تحرير المسجد الأقصى، بعد تسعين عامًا من الأسر في أيدي الصليبيين، كان له النصر والتمكين، وحُرر المسجد الأقصى.

إن الإرادة التي تنبع من أصحابها بصدق، وكانت أهدافها نبيلة يكتب لها النجاح، فصاحبها لا ينظر من خلاله لمصلحته الشخصية، ولكن خيرها وثمرتها ينفع الله بها البلاد والعباد، وبسببها يكون التحول والتغيير نحو الأفضل(11).

يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)} [الإسراء:18-19]، فالله عز وجل في هاتين الآيتين عامل كل فريق بمقدار همته، فبين سبحانه مصير من جعل همه دنياه، ثم بين جزاء مَن قصد بعمله الصالح ثواب الدار الآخرة الباقية، وسعى لها بطاعة الله تعالى، وهو مؤمن بالله وثوابه وعظيم جزائه، فأولئك كان عملهم مقبولًا مُدَّخرًا لهم عند ربهم، وسيثابون عليه.

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكهـا       إن السفينة لا تجري على اليبس.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة»(12)، وأورد الحاكم في المستدرك على الصحيحين من رواية أبي بن كعب زيادة: «جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه»(13)، وكأن في الزيادة حث على المبادرة واغتنام الفرص المتاحة قبل ضياعها.

ومعنى «من خاف»؛ أي: من خاف أن يُدْرَك في الطريق، وأن يلحقه قطاع الطريق، أدلج في السير؛ أي: سار بالدجى بغاية النشاط والقوة؛ حتى يقطع السير بسرعة، وحتى يسلم من خطر الهوى والنفس والشيطان وغيرهم من قطاع طريق السير إلى الله.

وفي حديث آخر: «استعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة»(14)، فالمؤمن يأخذ نصيبه من الطريق بقوة ونشاط، وذلك بالجد في طاعة الله والدعوة إليه والحذر من معاصي الله، فمن خاف النار وخاف غضب الله؛ جدَّ في الطلب، واستقام واستمر ودعا الناس إلى الخير والهدى ولم يرجع القهقرى، ولم يكسل؛ بل يستمر في إقامة الدين وإصلاح نفسه والمجتمع من حوله، ويترك ما ينافي تلك المقاصد حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى، كما أن الخائف في السفر يدلج في السير؛ أي: يجتهد في ليله ونهاره، يمشي في الليل والنهار في الأوقات المناسبة؛ حتى يقطع السير وحتى يبتعد عن شر قطاع الطريق(15).

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أدلج بلغ المنزل»؛ يعني من سار بالجد وصبر على تعب السير؛ بلغ المنزل بإذن الله في وقتٍ أسرع ممن تساهل وتباطأ، ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم أن سلعة الله غالية، وهي جديرة بأن يعمل المؤمن ويجتهد ويصبر ويواصل السير؛ حتى يدرك هذه السلعة العظيمة، وهي الجنة، وقد جعل الله جل وعلا ثمنها النفس: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التوبة:111].

فالنفس أغلى شيء عند الإنسان، فاشتراها سبحانه بالجنة، فالجنة هي الثمن العظيم لمن جدَّ واجتهد وصبر وصابر، فقد باع نفسه لله عز وجل، وسلَّمها له سبحانه بجهادها في طاعته، واستعمالها في مرضاته، وكفها عن محارمه، يرجو أن يحصل له الثمن وهو الجنة، وهذا الثمن عند عظيم جواد كريم سبحانه وتعالى.

ومن كان عنده استعداد لبذل النفس كان لما دونها من بذل المال والجهد والوقت أكثر استعدادًا ونشاطًا، فمناط الأمر بعد الإخلاص على علو الهمم، وعلى قوة البواعث والدوافع على فعل الخير، والانخراط بجد في مشروع إقامة الدين وإصلاح المجتمع والدعوة إلى الله عز وجل، والمساهمة في إنقاذ عباده من النار، والحصول على شرف أن تكون سببًا لنيلهم مرضاة الله ودخول الجنة.

قال أحد الصالحين: «همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال».

ويكون المرء حيث يجعل نفسه، إن رفع همته ارتفعت، وان قصر بها اتضعت، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وقد أجمع عقلاء كل الأمة على أن النعيم لا يُدرك بالنعيمِ، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هَمَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا راحة لمن لا تعب له؛ بل إذا تعب العبد قليلًا استراح طويلًا، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، فأما في هذه الدار فكلا»(16).

وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي:

وإذا النفوسُ كُنَّ كبارًا       تعبت في مرادها الأجسام

والمؤمن لا يضع سلاح العمل، ولا يفارقه هم القبول، وهو بعد في هذه الدار كما يقول أبو العتاهية:

أحزان قلبي لا تزول       حتى أبشر بالقبـول

وأرى كتابي باليمين       وَتُسَرَّ عيني بالرسول

إن حركة الأمة كلها بحاجة شديدة وماسة إلي نموذج الفرد الصالح المصلح، الذي يتحرك بصلاحه وعلمه، وفقهه، وأخلاقه، وسلوكه بين الناس، يوقظ النائم، ويذكر الغافل، وينصح المقصر، ينبه العاصي، ويشجع الجاد، يقيم التوحيد ويقاوم الشرك، يحيي السنن ويميت البدع، يرد الناس إلى الله ردًا جميلًا، يأمر بالمعروف بمعروف، وينهى عن المنكر بمعروف، يرد الظالم عن ظلمه، يرد الناس إلى الله، وإلى منهج الله، وإلى كتاب الله، يحبب عباد الله إلى الله، ويحبب الله إلى عباده.

حري بنا أن نخرج من دفء الانتماء للدعوة، ومستوى مجرد الانخراط الإسمي في قوائمها وأعدادها، إلى الانخراط بالأفعال والأعمال في مشروعها في الدعوة والتربية والتكوين، فالدعوة بحاجة إلى انتماء العطاء والإنتاج من كل حسب قدراته ومواهبه، وخصوصًا مع توجهها الرسالي، وتريد أن تفخر بالفعل والنوع والتأثير، وربما أكثر من فخرها بالكم والانتماء والتجميع.

فهل يرضيك، ويرضينا معك، أن يقال في حقنا بأننا زائدون على الدعوة ولسنا مضيفين فيها؟ لأن الإنسان كما يقال: إذا لم يُضف شيئًا على هذه الحياة فإنه يكون زائدًا عليها.

نريد منك، وأنت تعاين أوجه الخلل والثغرات في أمتك وبلدك وحركتك، أن تمتلئ طاقة وإقدامًا عوض أن تكتفي بالحسرة والألم، فلعن الظلام لن يفيد ولو كان ألف مرة أو يزيد، بينما إيقاد شمعة مفيد على كل حال ولو في نطاق محدود، فقيمتك بقدر عطائك وليس فقط بصراخك.

تحرك، ففي الحركة بركة وحياة، وفي التوقف موت وجمود، كما قال الشاعر:

إني رأيت وقوف الماء يفسده       إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب

وقم، في عزيمة وإصرار، لإقامة الدين وإصلاح المجتمع، وكن متفائلًا، راضيًا، طموحًا، فهذه الحياة وهذا الدين أحوج ما يحتاجان إلى همة عالية، وابتسامة صافية، وتفاؤل عريض، وقلب وفي حبيب، وقبل ذلك وبعده صدق في الإقبال على الله تعالى، فما نيلت الفردوس الأعلى إلا بآمال الفالحين الصادقين.

قم لأداء رسالتك في الحياة، فصاحب الهمة العالية يُرى منطلقًا بثقة وقوة وإقدام نحو غايته، التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم ويستهين الصعاب، ولن أقول لك رب همة أحيت أمة، ولكن قبل ذلك سأقول: رب همة أحيتك وبعثت الروح فيك من جديد، وأصبح لك شأن، وأي شأن، في ميزان الله وفي عين المؤمنين، وربما في ميزان العالمين أيضًا.

ورب همة أحيت تخصصًا، وزكت حملة، وبثت الروح في برامج وأنشطة، وأحيت مؤسسة أو حيًا بكامله، أو مدينة وبلدًا، فليس لديك غير حياة واحدة، فعش حميدًا ومت عظيمًا.

أمامك حاجة ماسة لمشروع حركتك للتوسع وتنشيط العضوية؛ حتى تستمر في رسالتها، وتنوء بحمل العمل في مختلف الواجهات التي فتحتها، وتزويد الشركاء بالدماء الصالحة، فما نصيبك في سد هذا الخصاص، وكم من متعاطف وكم من عضو تيسر على يديك؟ وماذا عن لُحمة الأخوة التي تجمعنا في هذا المشروع؟ وهل تستحضر ما قاله الشاعر:

ما ذاقت النفس على شهوة       ألذ من حب صديق أمين

من فاته ود أخ صالح       فذلك المغبون حق اليقين

وهل تقدر أن يكون لك أخ في الدعوة والخير بالمعروف ويدلك على صلاح دينك ودنياك؟ وإذا افتقدته فهل تسعى لتكون الأخ المنشود؟ وهذه البرامج والمخططات والحملات الدعوية هل تقدر ما ينفق فيها من جهد ومال ووقت؟ وما حظ همتك في التفعيل والتنشيط والتنزيل وبلوغ الغايات الموضوعة لها؟

إخواني، إن الهمة العالية لبلوغ القمم في مشروع حركتنا المباركة لها أسباب موصلة، أساسها توفيق الله وفضله وكرمه، ثم الصدق في وضع الأهداف، وتحديد الكفايات، وتسطير المخططات والبرامج، ونسب التنفيذ، ومراعاة الواقعية في كل ذلك، ثم الإصرار والاستمرار، واستئناف السير على الدوام كلما حدث توقف أو تعثر أو فتور، واستحضار الأجر والثواب وما وعد الله عباده المؤمنين من الحياة الطيبة في هذه الدار، ورضوان الله ودخول الجنة والنجاة من النار، فحرارة الإيمان تذيب لحام القيود مهما كانت غليظة.

ويذكي الهمة أيضًا استحضار قدوات الخير ممن سبقوا في السير، وصحبة أولى الهمم العالية، ومطالعة أخبارهم ومعرفة أحوالهم وقصصهم، وكيف قهروا بفضل الله العجز والكسل والخمول.

وقبل ذلك وبعده حسن التضرع والمبالغة في الدعاء، روى الترمذي في سننه، وصححه الألباني عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبخل الناس من بخل بالسلام، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء»(17).

ثم العناية بالزاد الإيماني، وتعظيم شعائر الله وشرائعه، والحرص على الفرائض والاجتهاد في النوافل، ومجاهدة السلوك حتى يكون أنفع للخلق من غير ظلم أو أذى.

ولا بد من الأخذ بأسباب الهمة العالية، من الانتباه للعوائق والصوارف التي تروم سرقة كنزك الثمين، فتعالج الوهن والفتور وإهدار الأوقات في غير ما يفيد، أو تضييعها بما يخالف الأولويات الموضوعة، والحذر من فضول المتاع المشغل عن تحقيق المقاصد والأهداف، والاستعاذة بالله من العجز والكسل.

ومقاومة الغفلة عن ذكر الله وعن مقتضيات المشروع الذي ارتضيته، والتحرر من آفة التسويف والتمني الكاذب وطول الأمل، وسلبيات البيئة والرفقة والوسط المثبط، وآفة الإخلال بالتوازن في أداء الحقوق، سواء أكانت حقوق النفس أو الأهل أو الوظيفة، والحذر من الإحباط النفسي أو الاجتماعي، أو مما يراد تسريبه إلينا من طرف عدو متربص.

وتسلح بالأمل الصادق مرددًا مع المنشد:

أخي ستبيد جيوش الظلام       ويشرق في الكون فجر جديد

فأطلق لروحك إشـراقها       تـرَ الفجر يرمقنا من بعيد(18)

***

_________________

(1) في ظلال القرآن (1/ 136).

(2) أخرجه أحمد (12981).

(3) أخرجه البخاري (2790).

(4) في ظلال القرآن (6/ 3276).

(5) أيسر التفاسير، للجزائري (1/ 234).

(6) إنا كل شيء خلقناه بقدر، موقع: مداد.

(7) أخرجه أحمد (16957).

(8) أخرجه ابن حبان (2501).

(9) أخرجه أبو داود (4291).

(10) سيرة ابن هشام (2/ 615).

(11) إرادة غيرت وجه الحياة، موقع: صيد الفوائد.

(12) أخرجه الترمذي (2450).

(13) أخرجه الحاكم (3578).

(14) أخرجه البخاري (39).

(15) شحذ الهمم لبلوغ القمم، موقع: بلاغ.

(16) مفتاح دار السعادة، ص367-366.

(17) أخرجه ابن حبان (4498).

(18) شحذ الهمم لبلوغ القمم، موقع: بلاغ.