الضعف في حياة الإنسان
الإنسان هذا المخلوق العجيب هو صنعة الله تعالى المحكمة الدقيقة، هذا الإنسان الذي يبدو للوهلة الأولى في منتهى البساطة مشتمل على كل أشكال التعقيد، إنه يبدو قويًا مخيفًا مع أنه في حد ذاته ضعيف في كل جانب من جوانب شخصيته ضعفًا لا يوازيه شيء سوى ما يدعيه من القوة والعزة والسطوة.
ولحظات ضعف الإنسان هي لحظات غالية جدًا عند الله سبحانه وتعالى لأنها لحظات يرجع فيها الإنسان لحجمه الحقيقي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15]، في هذه اللحظات يكون ربنا تعالى قريب جدًا من العبد برحمته.
فآدم عليه السلام في لحظة ضعف أكل من الشجرة، ولما شعر بعصيانه لأمر ربه تاب وأناب، {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].
ويونس عليه السلام عندما التقمه الحوت في ظلمة الماء شعر بعجزه وضعفه؛ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
والنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: 10- 11].
إنها لحظات شديدة يمر بها الإنسان، يتجرع فيها ألامًا شديدة وصراعات رهيبة قد يفقد فيها توازنه واستقراره، ولولا رحمة الله بذلك المخلوق الضعيف لكان لتلك اللحظات على الإنسان لمات كمدًا من هول تلك الأحداث.
والقوة بيد الله تعالى يهبها جل جلاله لمن يشاء، وهذه الحقيقة مع وضوحها إلا أنها تغيب عن كثير من الناس، فتجد الاستقواء الذي يسعى صاحبه في الأرض فسادًا، كما نجد الهوان الذي ينافي تكريم الله تعالى للإنسان.
نعم؛ يستطيع الإنسان -بما منحه الله من قوة العلم- أن يفتت الذرة ويستخرج منها طاقة هائلة كفيلة بتدمير ألوف بل ملايين الكائنات الحية، ويستطيع أن يصعد إلى الكواكب المجاورة والبعيدة بنفسه أو بما يطلقه من الآلات، لكنه يقف ضعيفًا عاجزًا أمام الكثير من الأمراض والمشاكل، التي تهدد سعادته بل بقائه، ومع ما عنده من علم إلا أن مواقف الضعف والعجز هذه متكررة.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
فينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالًا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظامًا ثم يكسى لحمًا، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفًا نحيفًا واهن القوى، ثم يشب قليلًا قليلًا حتى يكون صغيرَا، ثم حدثًا، ثم مراهقًا، ثم شابًا، وهو القوة بعد الضعف، ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم، وهو الضعف بعد القوة، فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللمة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}.
قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
إن تكوين جهاز النطق وحده عجيبة لا ينقضي منها العجب، اللسان والشفتان والفك والأسنان، والحنجرة والقصبة الهوائية والشعب والرئتان، إنها كلها تشترك في عملية التصويت الآلية وهي حلقة في سلسلة البيان.
وهي على ضخامتها لا تمثل إلا الجانب الميكانيكي الآلي في هذه العملية المعقدة، المتعلقة بعد ذلك بالسمع والمخ والأعصاب، ثم بالعقل الذي لا نعرف عنه إلا اسمه، ولا ندري شيئًا عن ماهيته وحقيقته، بل لا نكاد ندري شيئًا عن عمله وطريقته؛ كيف ينطق الناطق باللفظ الواحد؟
إنها عملية معقدة كثيرة المراحل والخطوات والأجهزة، مجهولة في بعض المراحل خافية حتى الآن.
إنها تبدأ شعورًا بالحاجة إلى النطق بهذا اللفظ لأداء غرض معين، هذا الشعور ينتقل- لا ندري كيف- من الإدراك أو العقل أو الروح إلى أداة العمل الحسية.. المخ.. ويقال: إن المخ يصدر أمره عن طريق الأعصاب بالنطق بهذا اللفظ المطلوب، واللفظ ذاته مما علمه الله للإنسان وعرفه معناه، وهنا تطرد الرئة قدرًا من الهواء المختزن فيها، ليمر من الشعب إلى القصبة الهوائية إلى الحنجرة وحبالها الصوتية العجيبة التي لا تقاس إليها أوتار أية آلة صوتية صنعها الإنسان، ولا جميع الآلات الصوتية المختلفة الأنغام! فيصوت الهواء في الحنجرة صوتًا تشكله حسبما يريد العقل؛ عاليًا أو خافتًا، سريعًا أو بطيئًا، خشنًا أو ناعمًا، ضخمًا أو رفيعًا، إلى آخر أشكال الصوت وصفاته، ومع الحنجرة اللسان والشفتان والفك والأسنان، يمر بها هذا الصوت فيتشكل بضغوط خاصة في مخارج الحروف المختلفة، وفي اللسان خاصة يمر كل حرف بمنطقة منه ذات إيقاع معين، يتم فيه الضغط المعين، ليصوت الحرف بجرس معين..
وذلك كله لفظ واحد.. ووراءه العبارة، والموضوع، والفكرة، والمشاعر السابقة واللاحقة، وكل منها عالم عجيب غريب، ينشأ في هذا الكيان الإنساني العجيب الغريب، بصنعة الرحمن، وفضل الرحمن (1).
يذكر الشيخ علي الطنطاوي أنه أثناء عمله كقاض كان يسمر مع بعض أصدقائه في إحدى الليالي وشعر بضيق شديد اضطره لترك مجلس السمر والسير في الشارع، وإذا به يجد امرأة تبكي وتنتحب يسألها عن خبرها فتجيبه بأن لديها مشكلة كبرى وتقصها عليه، فيعاود سؤالها: لم لا تشتكين للقاضي؟، قالت: وكيف لامرأة مسكينة مثلي أن تصل إلى القاضي؟، قال لها: إن الله عز وجل قد أرسل لكي القاضي ليقف بين يديك ويسمع شكواك، وطلب منها أن تقابله في الصباح في المحكمة لكي يحقق في الأمر ويرفع الظلم الذي وقع عليها، ومثل هذا كثير يسخر الله تعالى للضعفاء من يحميهم من الأقوياء دون سابق معرفة بهم وبما وقع عليهم من عدوان.
لقد شعر إبراهيم عليه السلام بالضعف يوم أن أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج، فتسائل متعجبًا: وكيف يبلغهم صوتي؟! إن الأرض واسعة والحواجز من جبال وبحار موجودة وكبيرة، فكانت الإجابة: عليك النداء وعلينا البلاغ، هذه القاعدة الثمينة التي تجعل المرأة يقوم بما عليه ويقدم أقصى ما يستطيع ثم بلوغ الغاية أمر بيد الله تعالى وعند الله عز وجل خير كثير.
ومع يقيننا بوجود الضعف ومعاناتنا منه، إلا أن الله تعالى فتح لنا آفاق الرجاء على مصراعيها لكي نزيل هذا الضعف كليًا أو جزئيًا؛ بقابلية بني آدم للحصول على القوة، وبما سخر لنا سبحانه من قوى ظاهرة وباطنة.
لحظات الضعف:
تمر بالإنسان لحظات من الضعف يفقد فيها قواه كليًا أو جزئيًا، منها:
1– وقت المرض: وهو أحد اللحظات الصعبة على النفوس التي اعتادت العافية، وكلما احتاج المريض للآخرين أثناء قيامه بحاجاته الضرورية كلما كان شعوره بالضعف وربما بالمذلة أيضًا، وهذه المشاعر تنتاب المريض ومن يحبونه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (2).
وفي الصحة نشاط وانبساط، فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسه وثقلت عليه الأعمال.
2– موت الأحبة: الذين يمثلون دعمًا روحيًا وشريكًا أساسيًا في الحياة من زوجة أو ولد أو والد أو صديق حميم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف القين، وكان ظئرًا لإبراهيم عليه السلام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فقبله، وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (3).
قال تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43]، وتحت هذا النص تكمن حقائق كثيرة، ومن خلاله تنبعث صور وظلال موحية مثيرة..
أضحك وأبكى، فأودع هذا الإنسان خاصية الضحك وخاصية البكاء، وهما سر من أسرار التكوين البشري لا يدري أحد كيف هما، ولا كيف تقعان في هذا الجهاز المركب المعقد، الذي لا يقل تركيبه وتعقيده النفسي عن تركيبه وتعقيده العضوي، والذي تتداخل المؤثرات النفسية والمؤثرات العضوية فيه وتتشابكان وتتفاعلان في إحداث الضحك وإحداث البكاء.
وأضحك وأبكى؛ فأنشأ للإنسان دواعي الضحك ودواعي البكاء، وجعله- وفق أسرار معقدة فيه- يضحك لهذا ويبكي لهذا، وقد يضحك غدًا مما أبكاه اليوم، ويبكي اليوم مما أضحكه بالأمس، في غير جنون ولا ذهول إنما هي الحالات النفسية المتقلبة، والموازين والدواعي والدوافع والاعتبارات التي لا تثبت في شعوره على حال.
وأضحك وأبكى، فجعل في اللحظة الواحدة ضاحكين وباكين، كل حسب المؤثرات الواقعة عليه، وقد يضحك فريق مما يبكي منه فريق، لأن وقعه على هؤلاء غير وقعه على أولئك، وهو هو في ذاته، ولكنه بملابساته بعيد من بعيد.
وأضحك وأبكى، من الأمر الواحد صاحبه نفسه، يضحك اليوم من الأمر ثم تواجهه عاقبته غدًا أو جرائره فإذا هو باك، يتمنى أن لم يكن فعل وأن لم يكن ضحك وكم من ضاحك في الدنيا باك في الآخرة حيث لا ينفع البكاء، هذه الصور والظلال والمشاعر والأحوال.. وغيرها كثير تنبثق من خلال النص القصير، وتتراءى للحس والشعور، وتظل حشود منها تنبثق من خلاله كلما زاد رصيد النفس من التجارب وكلما تجددت عوامل الضحك والبكاء في النفوس- وهذا هو الإعجاز في صورة من صوره الكثيرة في هذا القرآن (4).
3– الاغتراب: وشعور الإنسان بالوحدة سواء انتقل إلى بيئة أخرى أو شعر بالغربة بين أهله؛ لانشغاله أو انشغالهم، أو لتباعد المسافات بين العقول والقلوب، وهو شعور مسبب للمرض أو حتى للموت.
وموسى عليه السلام في لحظة ضعف خرج من بين أهله وقومه؛ {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص: 21].
نجد موسى عليه السلام في قلب المخافة، بعد فترة من الأمن؛ بل من الرفاهية والطراءة والنعمى، ونجده وحيدًا مجردًا من قوى الأرض الظاهرة جميعًا، يطارده فرعون وجنده، ويبحثون عنه في كل مكان، لينالوا منه اليوم ما لم ينالوه منه طفلًا، ولكن اليد التي رعته وحمته هناك ترعاه وتحميه هنا، ولا تسلمه لأعدائه أبدًا، فها هو ذا يقطع الطريق الطويل، ويصل إلى حيث لا تمتد إليه اليد الباطشة بالسوء (5).
قد كان موسى في حاجة إلى الأمن كما كان في حاجة إلى الطعام والشراب، ولكن حاجة نفسه إلى الأمن كانت أشد من حاجة جسمه إلى الزاد، ومن ثم أبرز السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور: {لَا تَخَفْ} فجعلها أول لفظ يعقب به على قصصه ليلقي في قلبه الطمأنينة، ويشعره بالأمان، ثم بين وعلل: {نَجَوَتَ مِنَ الْقَومِ الْظِالِمِينَ} فلا سلطان لهم على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى ولا ضرار (6).
4– كثرة الأسباب التي تثير السعار الجنسي، وتلهب الشهوات الساكنة مما يؤثر على نفسية الإنسان ومقاومته، وقد يخطو خطوات في طريق الشيطان أو يسير إلى نهايته والعياذ بالله، وقد تتداركه رحمة الله فينجيه من هذا المستنقع.
قال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].
قال: بعض العلماء: الهم نوعان: هم ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهو مذموم مؤاخذ به صاحبه، وهمّ بمعنى خاطر وحديث نفس، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه، لأن خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.
وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف، ولا يخل بمقام النبوّة، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرارة، فتميل نفسه إليه، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه، فلا يؤاخذ بهذا الميل (7).
جاء في تفسير البيضاوي: والمراد بهمه بها عليه السلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لَا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من اللَّه من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، أو مشارفة الهم، كقوله: قتلته لو لم أخف اللَّه (8).
5– الضعف أمام شهوة المنصب، بما يعطي لصاحبه من قدرة وقوة قد تكون زائفة عند التأمل، لكن ما يلقاه من تقدير يجعله يقدم الغالي والنفيس لكي يحصل على ما لا يستحق من مكان ومكانة ويواصل تنازلاته لكي يبقى.
عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» (9).
قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية؛ ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو في حق من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلًا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن في الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها (10).
إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة، وإن ضريبة الذل لأفدح في كثير من الأحايين، وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هربا من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة رخيصة، مفزعة قلقة، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، يحسبون كل صيحة عليهم، ولتجدنهم أحرص الناس على حياة.. هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، ويؤدونها من أقدارهم، ويؤدونها من سمعتهم، ويؤدونها من اطمئنانهم، وكثيرًا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون (11).
من أسباب الضعف:
تتعدد أسباب الضعف ونختار منها:
1– ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من شرور كان يواظب على الاستعاذة منها، قال أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كنت أسمعه كثيرًا يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين، وغلبة الرجال» (12)، كل هذه أسباب للضعف الذي ينتهي بالعجز المطلق.
2– غياب القناعة حتى يتحول طلب المال إلى غاية يبذل في سبيلها دمه وعرضه، ومن صاحبهم وصاحبوه وأحسنوا إليه ودافعوا عنه، غياب القناعة يجعله يبيع هؤلاء مقابل أتفه الأثمان، ونريد أن نفرق بين الطمع والطموح؛ الطمع سعار نحو المادة لا يصاحبه عمل، الطموح تطلع إلى درجة أعلى مصحوب ببذل الجهود الكبيرة.
3– اغترار الإنسان بقوته يجعله لا يبحث عن نقاط ضعفه، ويجعله كذلك يسقط في أول فخ ولا يحتاط بما يكفي.
4- الطبيعة البشرية: قال تعالى: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32]، والمعنى: أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبيء صلى الله عليه وسلم أضعف الأمم.
وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإسراء من قول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة: «إن أمتك لا تطيق ذلك قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة» (13)، أي وهم أشد من أمتك قوة، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقرر في علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه، قال تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، فإن إنشاء أصل الإنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل، ومنه قوله النبي: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج» (14).
قال تعالى: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} أي خلق الله تعالى الإنسان والضعف ملازم له، وليس الضعف المذكور هو الضعف البدني فقط، بل يشمل الضعف النفسي، فالتكليفات يلاحظ فيها ذلك الضعف، ولذلك كانت كل التكليفات يسهل تعويد النفس عليها، ولا يصعب احتمالها والمداومة عليها، وقد حث الإسلام على السهل من الأعمال التي تمكن المداومة عليها، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ» (15).
ولضعف الإنسان أبيح له من الشهوات ما لَا يجعله عبدًا لشهوته، بل يكون سيدًا عليها، وإن أبرز مظاهر الضعف الإنساني يكون أمام النساء، ولذا أبيح له مثنى وثلاث ورباع، من غير بغي ولا ظلم، ولقد قال سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلا آتاهم من قبل النساء، فقد أتى عليَّ ثمانون سنة، وذهبت إحدى عيني، وأنا أعشو بالأخرى، وإن أخوف ما أخاف عليَّ فتنة النساء، وقانا الله تعالى شر ضعف نفوسنا، وقوى عزائمنا وهدانا إلى الحق، والله سبحانه وتعالى يتولانا برحمته (16).
وقوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [الحج: 5]، أي ضعيفًا في بدنه وسمعه وبصره وبطشه وعقله، ثم يعطيه الله القوة شيئًا فشيئًا، ويلطف به ويحنن عليه والدية في آناء الليل وأطراف النهار، ولهذا قال: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي يتكامل القوى ويتزايد، ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المظهر، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} أي في حال شبابه وقواه، {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر، ولهذا قال: {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا}، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] (17).
أبرز نقاط الضعف في الإنسان:
هنالك العديد من نقاط الضعف التي قد تشكل عوائق تعرقل مسيرته ونجاحه، والتي لا بد من التغلب عليها، ومنها ما يأتي:
التسرع في اتخاذ القرارات دون النظر للعواقب: يشكل التسرع وعدم التفكير بشكل منطقي وصحيح، وأخذ المرء وقته في تحليل الأمور نقطة ضعف تؤثر بشكل كبير عليه وعلى قرارته، وأحكامه الصادرة دون مسؤوليّة ووعي كامل منه، والتي قد تنعكس آثارها على علاقاته وطريقة أداءه مهامه وإنجازه أهدافه بصورة غير صحيحة، حيث إن طبيعة الدماغ البشري التي تختلف في سرعة الاستجابة واتخاذ القرار بين شخص وآخر تحتاج إلى بعض الوقت لدراسة وتحليل المواقف، في سبيل اختيار المسارات الصحيح بعد التنبؤ ووضع صورة مبدئية لعواقبها وآثارها، ونتائجها وميزاتها التي تعود بالنفع على صاحبها، وتجاهل المرء هذه الحقائق وتهوره وتصرفه غير المسؤول سيتسبب في خسارته وفشله في بعض المواقف، خاصة عندما يتعلق القرار بأمور مصيرية لها آثار متشعبة وعواقب وخيمة تؤثر على حياته أو على عمله ووظيفته، وبالتالي يجب عليه التأني وأخذ وقته في التفكير واستخدام عقله بشكلٍ صحيح، ثم إصدار الأحكام والقرارات الهادفة والمدروسة بعنايةٍ.
التكيف غير السليم مع المؤثرات الخارجية: حيث إن المرء يمر خلال حياته بالعديد من التغيرات، ويتعرض للكثير من المؤثرات التي قد تسهم في ضعف شخصيته، أو ترك بعض الصفات التي قد تشكل نقاط ضعف لا بد من إصلاحها وتداركها، ومنها الانطوائية وعدم القدرة على التفاعل بشكل إيجابي وفعال مع الآخرين، أو الميل للعزلة والوحدة، والذي قد ينجم عن شعوره بأنه منبوذ أو بسبب سوء معاملة بعض الأشخاص من حوله، فيعجز عن التواصل أو لا يملك الجرأة للتفاعل مع الغير، أو أن يجد العزلة أمرًا مُريحًا أكثر فيلجأ لها بصورةٍ مُبالغ بها تضر مصالحه وتؤثر على علاقاته، وعلى نظرة الآخرين له وتجعله يبدو ضعيفًا وانطوائيًا أمامهم، وهنا تكون نقطة الضعف صفة مكتسبة يمكنه تغييرها وتجاوزها إذا ما أحسن التصرف واجتهد لتقويم سلوكه ورغبته.
التأثر بالعواطف الداخلية بشكل مبالغ به: يعتبر التعاطف مع الآخرين والتعامل الطيب الحسن معهم سمة أخلاقية مميزة تخدم الإنسانية وتعزز التواصل الاجتماعي بين الأفراد وتدعم علاقاتهم، وهو من ناحية أخرى صفة مفيدة تجعل صاحبها محبوبًا ومرغوبًا من قبل الآخرين، إلا أن زيادة الأمور عن حدها ومبالغة المرء في تعاطفه وحساسيته وتعامله شديد الطيبة مع بعض الفئات التي تتصف بالقسوة أو الأنانية قد يساهم في استغلال هذه الميزة وجعلها نقطة ضعف تؤثر على صاحبها وتظهره كشخص غير مسؤول أو ضعيف الشخصيّة في بعض حالات التعاطف غير الصحية، والتي بدورها تهدد نجاحه إذا ما استمر على حاله ولم يستطع التحكم في مشاعره وإن كانت إيجابية وجيدة، فلا بد من الموازنة وانتقاء المواقف والأشخاص المناسبين لإظهار الود والعطف معهم، وفي المقابل التعامل بحزمٍ وصرامة شديدة مع فئات أخرى تليق بها هذه المعاملة وتنصفه أمامها.
الشعور بالخجل وضعف القدرة على التواصل مع الآخرين: يميل البعض للشعور بالإحراج والتوتر عند التحدث مع الآخرين من حولهم وفي اللقاءات الاجتماعية المختلفة، فتظهر عليهم العديد من التأثيرات والعلامات الجسديّة التي تظهر ارتباكهم وخجلهم المُفرط، كاحمرار الوجه، أو التلعثم والتعرق وغيرها، والتي ينجم عنها مشاعر سلبيّة وداخلية تهدد علاقاتهم وتضعف قدرتهم على إنشاء خطوط تواصل هادفة ومفتوحة مع الغير، وتشكل عائقًا وهاجسًا داخليًا يضعف موقفهم ويضخم مشاعر القلق بشأن نظرة الآخرين لهم، فيلجؤون للانسحاب من بعض التفاعلات واللقاءات الاجتماعية، أو يعجزون عن التحدث والتعبير بطلاقة أمامهم، الأمر الذي قد يزعجهم ويفسد علاقاتهم المهمة والعاطفية أحيانًا.
انعدام الثقة وتدني احترام الذات: تعتبر الثقة بالنفس أحد أبرز نقاط القوة التي تخدم مصلحة المرء وتقوي شخصيته وتفرض احترامه على من هم حوله، وفي المقابل فإن ضعف ثقته بنفسه قد ينتج عنه حساسية مفرطة وتدني احترام الذات ورفضها، والذي بدوره يشكل نقطة ضعفٍ لا بد من إصلاحها والتعامل معها بشكل صحيح ومسؤول، إضافة لتحلي الشخص بالوعي وعدم السماح لأفكاره السلبية أن تسيطر عليه وتهدد علاقاته ونجاحه، كأن يظن نفسه غير كفؤ، ويجعل منها محطًا لسخرية الآخرين بسبب عدم قدرته على الرد، أو عدم قناعته بأنه شخص جيد، أو إيمانه بأنه ضعيف وغير جدير بالثقة والاحترام، وغيرها من الأفكار التي تقلل من قيمته وحبه لنفس، وتجلعه يرفضها ولا يتقبّلها كما هي أو يحاول تغييرها للأفضل.
افتقار المرء لبعض المهارات الأساسية والكمالية: هنالك بعض المهارات والميزات الضرورية التي يشعر المرء بالضعف عند افتقاره لها، خاصة عند اللقاء والتفاعل مع الآخرين، ومنها ما يأتي:
المهارات الدراسية الأساسية: وتشمل القراءة والكتابة والتحدث بشكل سليم ومفهوم، وغيرها من المهارات الهامة التي تسهل التواصل المفتوح مع الآخرين وتدعمه، حيث إن افتقار المرء لها قد يسبب له الإحراج والشعور بالضعف أحيانًا.
المهارات الأكاديمية المُكتسبة: وهي مجموعة المهارات التي يتعلمها الشخص لخدمة مصلحته، وللتفوّق والانسجام في عمله أو وظيفته، كاستخدام الحاسوب، وتعلم اللغات الأجنبية، وهي مهارات تعد نقاط قوة في مواقف ووظائف معينة، لكنها أيضًا تصبح نقاط ضعف عند مقارنة المرء نفسه بالآخرين وتفوقهم عليه، وفي حال كانت مهارات أساسيّة في مجال عمله وتخصصه أو موقعه الوظيفي المرموق.
المهارات الشخصية التي تميز الشخص عن غيره: ومنها الإبداع والخيال الواسع والقدرة على الابتكار والتصور وتطوير الذات، أو تحمل ضغوطات العمل والتعامل مع المواقف بسرعة بديهية وحكمة، وتعتبر نقاط ضعف في حال كانت مهارات أساسية تتطلبها بعض المجالات العملية والمواقف الشخصية للمرء، وعند رغبته بجذب الآخرين والظهور بشكل متميز أمامهم (18).
علاج الضعف:
يصاب الإنسان بالضعف ولكن يمكن أن يواجهه من خلال ما يلي:
1– الايمان بأن أمور الكون بيد الله تعالى، وأن القوة لله جميعًا يهبها لمن يشاء ويسلبها ممن يشاء، وأن لله تعالى جنود السماوات والأرض التي لا يعلمها إلا هو سبحانه.
2- الذكر {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، وإذا اطمأنت القلوب قويت واستطاعت أن تتغلب على كثير من العقبات، والذكر يجدد الإيمان بقوة الله تعالى.
3– اكتشاف نقاط القوة بداخلنا والعمل على تنميتها.
4– العمل على اكتساب أسباب القوة على تعدد مظاهرها؛ من قوة روحية وقوة عقلية وقوة بدينة وقوة علمية، وامتلاك مصادر القوة التي أودعها الله تعالى في الكون من موارد طبيعية وحسن استغلال هذه الموارد بما ينفع الناس ويعمر الأرض.
5– محاولة إصلاح الضعف: باللجوء إلى الحكماء أهل الاختصاص، وبما يقوم به المسلمون من تعاون على البر والتقوى.
6– العفة التي تحول بيننا وبين الوقوع فيما حرم الله؛ من نظرة خبيثة تفتح أبواب القلب لشياطين الإنس والجن، وهذه العفة هي صوت الفطرة، وثمرة أداء العبادات أداء صحيحًا، وأحد بركات رعاية المجتمع للأخلاق الحميدة اكتسابًا وتخلقًا ومحافظة، مع حرص المجتمع على تيسير الحلال وإغلاق أبواب الحرام.
في الضعف فرصة للعودة يشعر الإنسان أثناء ضعفه بحاجته إلى الله تعالى ويشتد تعلقه برب العزة والجلال والاستغاثة به سبحانه، ومن ثم فالضعف فرصة لإصلاح ما أفسد وتجربة يدرك معها الانسان قيمة السير على الصراط المستقيم، ولعله إذا أوصله الله تعالى إلى ما يحب، أن يزال ذاكرًا لفضل ربه شاكرًا لنعمه سبحانه عليه بقلبه ولسانه وماله وبدنه، ومدركًا لهذه الحقيقة الكبرى أن الذي يمنح قادر سبحانه وتعالى على أن يمنع، وأن وجود النعم أزمانًا طويلة لا يعني أنها صارت جزءًا من حياتنا (19).
------------
(1) في ظلال القرآن (6/ 3447).
(2) أخرجه البخاري (6412).
(3) أخرجه البخاري (1303).
(4) في ظلال القرآن (6/ 3416).
(5) في ظلال القرآن (5/ 2685).
(6) في ظلال القرآن (5/ 2687).
(7) التفسير الوسيط لطنطاوي (7/ 340).
(8) زهرة التفاسير (7/ 3816).
(9) أخرجه مسلم (1825).
(10) شرح النووي على مسلم (12/ 210).
(11) في ظلال القرآن (3/ 1684).
(12) أخرجه البخاري (5425).
(13) أخرجه ابن خزيمة (301).
(14) التحرير والتنوير (27/ 124).
(15) أخرجه البخاري (6464).
(16) زهرة التفاسير (3/ 1654).
(17) تفسير ابن كثير (5/ 348).
(18) نقاط ضعف الإنسان/ موضوع.
(19) لحظات الضعف في حياة الإنسان/ إسلام أون لاين.