الحوار مطلب تربوي
شاء الله تعالى أن يخلق الناس مشتركين في أشياء كثيرة بالفطرة،وجعلهم يختلفون في أشياء أخرى ليدفعهم إلى التنافس والتعاون والتكامل من أجل تحقيق أقصى حدّ من
السعادة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118]، قال الرازي: المراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال.
معنى الآية: إن الله لو شاء خلق الناس كلهم على نسق واحد واستعدادواحد، نسخًا مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنوّع فيها، ولكن ليست طبيعة هذهالحياة، ولا طبيعة المخلوق البشري على هذه الأرض، لقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته، وأنتكون له حرية الاختيار، ثم بعد ذلك يتحمل تبعة اختياره، فيجازى على اختيارهالحق أو اختياره الباطل، وبذلك تتجلى حكمة الله في الخلق وفي الجزاء (1).
وعليه يكون الاختلاف فطرة فطر الله الناس عليها، وفي الوقتنفسه ضرورة حضارية لعمارة الكون وبناء حضارته، ولن يكون كذلك إلا إذا كاناختلاف تكامل وتنوّع، لا اختلاف تضاد وتنازع، ولا يكون الثاني إلا عندمايعجز البشر عن أيجاد نسق مشترك يجمع عليه أهل الاختلاف، وهنا يأتي دورالحوار الذي يضع المسلمات نقطة انطلاق لاحتواء الخلاف، وهو بذلك يخلق مساحةمشتركة يجمع فيها الخصمان للنظر في الأمور المختلف فيها، على أنه لا يطلبمن الطرف المخالف مغادرة موقعه، وإنما هو لتقريب وجهات النظر وتضييق شقةالخلاف، كما يحقق حاجة الإنسان في التواصل مع الاحتفاظ باستقلالية الفكروالرأي.
وتزداد أهمية الحوار في ظل تعدّد الثقافات وتنوّع وسائلالاتصال واتساعها، ولا شك أن القدرة على الحوار هو سر بقاء الثقافاتوانتشارها في العالم المتحضر.
فالحوار هو الوسيلة المثلى لاستيعاب الخلاف بين البشر مهما كانت أديانهم ومعتقداتهم، وهو أيضًا وسيلة للتفاهم لا غنى عنها، ووسيلة للتعاون والتنسيق بين الجهود المتفرقة والطاقات المتبعثرة، هو نوع من المشورة بين المسلمين لتحقيق المصلحة العامة، ويسهم في تنمية المعرفة وتنقيتها، ويسهم في إيجاد الحل الوسط الذي يرضي الأطراف المختلفة، وفي التعرف إلى وجهات نظر الأطراف الأخرى، وهو كذلك يحقق التعايش السلمي بين الأمم والشعوب ويحقق لهم المصالح المشتركة(2).
مفهوم الحوار :
يراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس: مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصدبها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّةٍ، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد منالقول والرأي.
وبتعبير آخر: هو نوع من الحديث بين شخصين أو فريقين، يتمّتداول الكلام بينهما بطريقة متكافئة فلا يستأثر به أحدهما دون الآخر، ويغلبعليه الهدوء والبعد عن الخصومة والتعصب.
فالحوار في اللغة: من حور، الحور: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، حار إلى الشيء وعنه: رجع عنه وإليه ؛ وفي الحديث: من دعا رجلًا بالكفر وليس كذلك حار عليه؛ أي رجع إليه ما نسب إليه(3).
وفي المعجم الوسيط: أن كلمة الحوار في اللغة مشتقة من تحاور وتحاوروا، أي تراجعوا الكلام بينهم، والحوار حديث يجري بين شخصين أو أكثر في العمل القصصي، أو بين ممثلين أو أكثر على المسرح، قال الله تعالى : {وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1].
وعرف الهاشمي الحوار التربوي بقوله: الحوار وسيلة تستخدم الإقناع الذاتي لتمحيص الأفكار والمعلومات السابقة، واختبارها بطريق غير مباشر للتأكد من صحتها أو خطئها؛ لذا فهي لا تعتمد التلقين المجرد القائم على الأمر والنهي أو على مجرد الإلقاء والسماع المطلقين، فالحوار طريقة تقوم على المناقشة المتبادلة بين طرفين وتتخللها أسئلة وإجاباتها.
ولما كان الحوار التربوي الإسلامي من أهم وسائل التفاهم بين الناس، ومن أهم الوسائل الموصلة إلى الحق باعتباره فريضة شرعية وضرورة إنسانية؛ فإن ذلك يلزم دعاة هذا الزمان أن يتفننوا في استخدامه بهدف الولوج إلى العقول والقلوب البشرية، وإزالة أدران الجهل والتخلف منها وغرس محمود الفضائل وكريم الطباع فيها(4).
وقد أولى القرآن الكريم الحوار أهمية بالغة في المواقف التربوية، وجعله وسيلة لتوجيه الناس وإرشادهم وجذب عقولهم، فالحوار في القرآن الكريم يمتاز بالسهولة ويبتعد عن الفلسفات المعقّدة، ويتضمن ألوانًا من الأساليب حسب عقول ومقتضيات أحوال المخاطبين الفطرية والاجتماعية، غلّفت بلين الجانب وإحالة الجدل إلى حوار إيجابي يسعى إلى تحقيق الهدف بأحسن الألفاظ وألطف الطرق، قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)} [طه: 43- 44]، وقوله تعالى في موقف نوح عليه السلام مع ابنه: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ(42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ(43)} [هود: 42- 43].
واستخدم رسولنا صلى الله عليه وسلم أسلوب الحوار في تعامله مع القضايا والملمات التي حدثت أثناء بناء الأمة الإسلامية، وفي دعوته وتربيته وتعليمه لأصحابه رضي الله عنهم، وتميّز هذا الحوار النبوي بالقوة والدقة وحسن الخطاب والصبر، والشمول والتوازن والالتزام بآداب الحوار(5).
أهداف الحوار التربوي(6):
عندما تتباين وجهات النظر وتختلف الآراء، يكون الحوار أهموسائل احتواء الخلاف وتقريب وجهات النظر المتباينة، بيد أن هناك أهدافللحوار، من بناء المفاهيم الصحيحة، ودفع الشبهات وتوضيح الحق، والتعليم، واحتواء الخلاف، وهناك أهدافًا أخرى تحتاج لتفصيل منها:
أ - إثارة عواطف المتعلمين وانفعالاتهم الوجدانية:
من أهم أهداف الحوار التربوي إثارة عواطف المتعلمين وانفعالاتهم الوجدانية، لما يترتب عليها من آثار تربوية طيبة، تتمثل في انقياد المتعلم للسلوك الحسن والعمل الصالح؛ لهذا فقد دأب الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من المواقف التعليمية على استخدام الحوار بهدف إثارة عواطف المتعلمين وتوجيه انفعالاتهم نحو الصالح من الأعمال، ففي غزوة حنين استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم الحوار لإثارة عواطف الأنصار وتوجيهها التوجيه الصحيح، وذلك عندما خطب الرسول صلى الله عليه وسلم بهم بعد غزوة حنين قائلًا: »يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم، وموجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله؛ وعالة فأغناكم الله؛ وأعداء فألف بين قلوبكم«.
قالوا: بلى، لله ولرسوله المن والفضل، فقال: »ألا تجيبوني يا معشر الأنصار!«، قالوا: وبماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل، قال: »أما والله لو شئتم لقلتم، فصدقتم ولصدقتم: آتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلًا فآسيناك، وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قومًا ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم! فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار«، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمًا وحظًا، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا (7).
إن هذه التربية النبوية العظيمة وهذا الحوار النبوي العاطفي يدلان من الناحية التربوية على أمور عديدة، من أهمها:
- الاعتماد على العواطف والانفعالات في المواقف الخطيرة يجب أن يسبقه تربية صحيحة وعميقة لهذه العواطف؛ فقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه العواطف في نفوس الأنصار حتى أصبح الله ورسوله أحب إليهم من المال والولد والناس أجمعين .
- مراعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأنصار بشر وليسوا ملائكة، وأرادهم أن يدافعوا عن أنفسهم بشيء من القول، فلما استحيوا منه دافع عنهم بالنيابة عن أنفسهم لئلا يترك في نفوسهم شيئًا من الوجد فقال: «أما والله لو شئتم لقلتم فصدقتم ولصدقتم: آتيتنا مكذبًا فصدقناك، ومخذولًا فنصرناك، وطريدًا فآويناك....... »، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للمربين: يجب عليكم ألا تصدروا حكمًا في المواقف الحرجة قبل أن تسمعوا ممن تتولوا تربيتهم(8).
ب: المعرفة التوضيحية:
استخدم الرسول الكريم أسلوب الحوار التربوي لتوضيح الكثير من الأمور التي أشكلت على الصحابة الكرام، وتعريفهم بالعديد من الحقائق المعرفية التي عجزوا عن فهمها والوقوف على معانيها، وذلك من خلال التركيز على أسلوب طرح السؤال للكشف عن مدى فهم المتعلمين ومعرفتهم، ثم يتولى بعد ذلك صلى الله عليه وسلم مهمة الإجابة عن الأمور التي سأل عنها.