logo

الطاعة المبصرة


بتاريخ : الأربعاء ، 18 ذو الحجة ، 1439 الموافق 29 أغسطس 2018
بقلم : تيار الاصلاح
الطاعة المبصرة

ذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه «تلبيس إبليس» أن ملك شاه جلال الدولة أرسل رسولًا إلى الحسن بن الصباح، رأس الباطنية، يدعوه فيها إلى الطاعة، ويتهدده إن خالفه، ويأمره بالكف عن بث أصحابه لقتل العلماء والأمراء، فقال ابن الصباح للرسول: «الجواب ما تراه»، فأومأ إلى شاب وقال له: «اقتل نفسك»، فجذب سكينة وضرب بها غلصمته فخرَّ ميتًا، وقال لآخر: «ارمِ نفسك من القلعة» فرمى نفسه فتمزق، ثم التفت إلى رسول السلطان فقال: «أخبره أن عندي من هؤلاء عشرين ألفًا، هذا حدُّ طاعتهم»(1).

ثم تمادى الخبيث في قتل العلماء والأمراء، وقد أقدم على قتل ولديه في أثناء حياته، وهؤلاء يطلق عليهم (الحشاشون)، اتخذوا من القتل وسيلة لهم، وقاموا بحركة اغتيالات واسعة، وهم نموذج صارخ للطاعة العمياء.

وأما الطاعة في الإسلام فهي الطاعة المبصرة، فلم يفهم الصحابة رضوان الله عليهم أن يطيعوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلا فهم؛ بل كانوا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، مع مراعاة كونه صلى الله عليه وسلم نبيًا ينقل عن ربه، فقد رُوِي في غزوة بدر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بادرهم إلى الماء حتى نزل بدرًا, فسبق قريشًا إليه، فلما جاء أدنى ماء من بدر نزل عليه، فقال له الحباب بن المنذر: «يا رسول الله، منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتعداه ولا نقصر عنه؟، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟», فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة»، فقال الحباب: «يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، ولكن انهض حتى تجعل القلب كلها من وراء ظهرك، ثم غور كل قليب بها, إلا قليبًا واحدًا، ثم احفر عليه حوضًا، فنقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون، حتى يحكم الله بيننا وبينهم»، فقال: «قد أشرت بالرأي»، ففعل ذلك(2).

فالأمر فيه مشورة ومراجعة واستدراك ما دام بعيدًا عن التشريع، وما دام الأمر يخص الجوانب الدنيوية، وصدق الله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159].

يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم، حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه، وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكًا في أن الشورى مبدأ أساسي، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه، أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها، وكل شكل وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى، لا مظهرها، فهي من الإسلام.

لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة، فقد كان من جرائها ظاهريًا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم، واختلفت الآراء(3).

إن حوادث التاريخ، القريب والبعيد، دلَّتنا على أن غرور الديكتاتوريين قضى عليهم وعلى أمتهم، وهوى بالأمة إلى منحدر سحيق يصعب الصعود منه إلا بعد عشرات السنين أو مئاتها، ففيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من قبول مشورة أصحابه في بدر وأُحُد وغيرهما قدوة لكل حاكم مخلص، ولكل قائد حكيم، ولكل داعية صادق.

فعن علي رضي الله عنه قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية، وأمَّر عليهم رجلًا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب عليهم، وقال: (أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟)، قالوا: (بلى)، قال: (قد عزمت عليكم لما جمعتم حطبًا، وأوقدتم نارًا، ثم دخلتم فيها)، فجمعوا حطبًا، فأوقدوا نارًا، فلما هموا بالدخول فقام ينظر بعضهم إلى بعض، قال بعضهم: (إنما تبعنا النبي صلى الله عليه وسلم فرارًا من النار أفندخلها؟)، فبينما هم كذلك إذ خمدت النار، وسكن غضبه، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا، إنما الطاعة في المعروف»(4).

قال الخطابي: «قلت هذه القصة وما ذكر فيها من شأن النار والوقوع فيها يدل على أن المراد به طاعة الولاة، وأنها لا تجب إلّا في المعروف؛ كالخروج في البعث إذا أمر به الولاة، والنفوذ لهم في الأمور التي هي طاعات ومعاون للمسلمين ومصالح لهم، فأما ما كان فيها معصية؛ كقتل النفس المحرمة وما أشبهه فلا طاعة لهم في ذلك.

وقد يفسر قوله: (لا طاعة في معصية الله) تفسيرًا آخر؛ وهو أن الطاعة لا تسلم لصاحبها ولا تخلص إذا كانت مشوبة بالمعصية، وإنما تصح الطاعات مع اجتناب المعاصي»(5).

وقال ابن حجر: «فبين لهم صلى الله عليه وسلم أن الأمر بطاعته مقصور على ما كان منه في غير معصية»(6).

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، ولا نزاع بين المسلمين في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والتحقيق في معنى الآية الكريمة أن المراد بأولي الأمر: ما يشمل الأمراء والعلماء; لأن العلماء مبلغون عن الله وعن رسوله، والأمراء منفذون، ولا تجوز طاعة أحد منهم إلا فيما أذن الله فيه; لأن ما أمر به أولو الأمر لا يخلو من أحد أمرين:

أحدهما: أن يكون طاعة لله ولرسوله من غير نزاع، وطاعة أولي الأمر في مثل هذا من طاعة الله ورسوله.

والثاني: أن يحصل فيه نزاع، هل هو من طاعة الله ورسوله أو لا؟

وفي هذه الحالة لا تجوز الطاعة العمياء لأولي الأمر ولا التقليد الأعمى، كما صرح الله تعالى بذلك في نفس الآية، لأنه تعالى لما قال: {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، أتبع ذلك بقوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، فالآية صريحة في رد كل نزاع إلى الله ورسوله.

والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم(7).

واختلف في المراد بأولي الأمر في الآية، فعن أبي هريرة قال: «هم الأمراء»، أخرجه الطبري بإسناد صحيح، وأخرج عن ميمون بن مهران وغيره نحوه، وعن جابر بن عبد الله قال: «هم أهل العلم والخير»، وعن مجاهد وعطاء والحسن وأبي العالية: «هم العلماء»، ومن وجه آخر أصح منه عن مجاهد قال: «هم الصحابة»، وهذا أخص، وعن عكرمة قال: «أبو بكر وعمر»، وهذا أخص من الذي قبله، ورجح الشافعي الأول، واحتج له بأن قريشًا كانوا لا يعرفون الإمارة ولا ينقادون إلى أمير؛ فأمروا بالطاعة لمن وَلِيَ الأمر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «من أطاع أميري فقد أطاعني»، واختار الطبري حملها على العموم وإن نزلت في سبب خاص، والله أعلم(8).

قال الطيبي: «أعاد الفعل في قوله: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} إشارة إلى استقلال الرسول بالطاعة، ولم يعده في {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} إشارة إلى أنه يوجد فيهم من لا تجب طاعته»(9).

{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} أي من المؤمنين، الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية، من طاعة الله وطاعة الرسول، وإفراد الله سبحانه بالحاكمية، وحق التشريع للناس ابتداءً والتلقي منه وحده، فيما نص عليه، والرجوع إليه أيضًا فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء، مما لم يرد فيه نص لتطبيق المبادئ العامة في النصوص عليه.

والنص يجعل طاعة الله أصلًا وطاعة رسوله أصلًا كذلك، بما أنه مرسل منه، ويجعل طاعة أولي الأمر، منكم، تبعًا لطاعة الله وطاعة رسوله، فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كررها عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة الله وطاعة رسوله، بعد أن قرر أنهم «مِنكُم» بقيد الإيمان وشرطه.

وطاعة أولي الأمر منكم بعد هذه التقريرات كلها، في حدود المعروف المشروع من الله، والذي لم يرد نص بحرمته، ولا يكون من المحرم عندما يرد إلى مبادئ شريعته، عند الاختلاف فيه، والسنة تقرر حدود هذه الطاعة، على وجه الجزم واليقين، في الصحيحين من حديث الأعمش: «إنما الطاعة في المعروف»(10).

وقال السعدي: «هذا الحديث قيد في كل من تجب طاعته، من الولاة والوالدين والزوج وغيرهم؛ فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء، وكل منهم طاعته فيما يناسب حاله، وكلها بالمعروف، فإن الشارع رد الناس في كثير مما أمرهم به إلى العرف والعادة؛ كالبر والصلة والعدل، والإحسان العام، فكذلك طاعة من تجب طاعته، وكلها تقيد بهذا القيد، وأن من أمر منهم بمعصية الله بفعل محرم أو ترك واجب، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله»(11).

وأخرج مسلم من حديث أم الحصين: «ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا»(12).

وعن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها»، فقلت: «يا رسول الله، إن أدركتُهم كيف أفعل؟»، قال: «تسألني يا ابن أم عبد كيف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله»(13).

قال ابن حزم: «فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا زاغ عن شيء منها منع من ذلك، وأقيم عليه الحد والحق، فإذا لم يؤمن آذاه إلا بخلعه خلع ووُلِّيّ غيره»(14).

وذكر شيخ الإسلام عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «أمرنا رسول الله أن نضرب بهذا (السيف) من عدل عن هذا (المصحف)»(15).

بهذا يجعل الإسلام كل فرد أمينًا على شريعة الله وسنة رسوله، أمينًا على إيمانه هو ودينه، أمينًا على نفسه وعقله، أمينًا على مصيره في الدنيا والآخرة، ولا يجعله بهيمة في القطيع تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع، فالمنهج واضح، وحدود الطاعة واضحة، والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد، ولا تتفرق، ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون، ذلك فيما ورد فيه نص صريح، فأما الذي لم يرد فيه نص، وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية، على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات، ولا يكون فيه نص قاطع، أو لا يكون فيه نص على الإطلاق، مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام، فإنه لم يترك كذلك تيهًا، ولم يترك بلا ميزان، ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع، ووضع هذا النص القصير، منهج الاجتهاد كله، وحدده بحدوده وأقام (الأصل) الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضًا(16).

إن التعسف في استخدام الحق يسقط الحق، وإذا كانت الرعية قد أُمِرت بطاعة الراعي والسمع له فإن الراعي قد طلب منه صيانة الرعية والنصح لهم والشفقة عليهم، وأن يشاورهم ويشركهم في الرأي، وألا يأمرهم بمعصية، فإن أمرهم بمعصية فليس له طاعة، قانون متوازن، حقوق وواجبات لكل من الحاكم والمحكوم، جعلت الخليفة الأول يقول يوم توليه الخلافة: «أيها الناس، إني وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم»(17).

قال النسفي: «دلت الآية على أن طاعة الأمراء واجبة إذا وافقوا الحق، فإن خالفوه فلا طاعة لهم»(18).

ويقول تبارك وتعالى في فرعون وقومه: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54].

ويقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [المائدة:7].

فسمى طاعة قوم فرعون لفرعون إسرافًا، وسمى طاعة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم نعمة، وأمرهم بذكرها، وشتان بين المسرف والذاكر.

إن لله سننًا في الأمم والأفراد فيما يتصل بهلاكهم أو عافيتهم، فمن شاء أن يرحم، سواء كان أمة أو فردًا، فعليه بطاعة الله ورسوله.

لمن تكون الطاعة؟

طاعة الله والرسول فيها الخير والبركة والسداد والنصر، فعندما ارتدت القبائل عن الإسلام بعد وفاة الرسول، وقد عقد اللواء لأسامة بن زيد أن يتوجه إلى الشام قبل وفاته، وقف الصحابة معارضين إصرار أبي بكر على بعث جيش أسامة خوفًا على المدينة أن تستباح من قبل المرتدين إذا خرج الجيش، فقال أبو بكر: «والله، لو جرت الكلاب بأقدام أمهات المؤمنين ما حللت لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم».

الله أكبر! كلمات تكتب بماء الذهب، ولا يعلم أجرها إلا الله، وألقى الله الرعب في قلوب المرتدين حيث قالوا: «ما كان ليبعث جيش أسامة لأطراف الشام إلا وله في المدينة من يدافع عنها».

ومعصية الله والرسول فيها الانكسار والهزيمة والخذلان، وعندما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة في غزوة أحد أن يحفظوا ويلزموا أماكنهم ولو رأوا الطير تتخطف المسلمين، وينتصر المسلمون في أول المعركة، ويتنادى الرماة: الغنائم الغنائم، فيتركوا موقعهم، وبحركة التفاف يقوم بها خالد بن الوليد، وكان يومها كافرًا، فينفرط عقد المسلمين، وكان درسًا عمليًا يتناسب مع عظم الحقيقة التي أراد الله لأمة الحق أن تتربى عليها؛ أن الطاعة لله والرسول فيها النصر، وأن المعصية لله والرسول فيها الهزيمة، ولو انتصر المسلمون على ما فعلوه لما كانت لهم بعد ذلك طاعة؛ حيث يقولون: عصينا فانتصرنا، وصدق الله العظيم: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7].

وينبغي أن نعلم أن للطاعة مفهومين:

مفهوم غير إسلامي: وهي الطاعة العمياء، أو طاعة المصالح، أو طاعة الخوف، أو أي نوع من الطاعة بلا ضوابط ولا أصول نعود إليها من الكتاب والسنة، وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس، وهذا المفهوم للطاعة مرفوض.

مفهوم إسلامي: وهي الطاعة المبصرة، الواعية، المدركة، التي يحكمها الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من إجماع وقياس.

بعض الضوابط للطاعة على المطيع:

وذلك متخيل في ولي الأمر أو من هم دونه، أو في أمير الحزب الذي يعمل لدين الاسلام بالأسس الشرعية أو من هم دونه أو لمن تجب له الطاعة:

1- السمع والطاعة في غير معصية الله، فمن أمر بمعصية الله فلا طاعة له.

2- الحرص على تنفيذ الأمر بأفضل صورة ممكنة، والاجتهاد لنجاح الأمر بأتم وجه إن كان هناك مجال للاجتهاد، وإن كان الأمر على صورة معينة فعليه تنفيذها من غير زيادة ولا نقصان.

ومن الأمثلة على أمور تحتاج إلى حنكة واجتهاد وحرص على تنفيذ الأمر ما حصل في غزوة الخندق، حيث قال حذيفة رضي الله عنه: «لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة وقر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا رجل يأتيني بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟)، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال (ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟)، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: (ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة؟)، فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: (قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم)، فلم أجد بدًّا، إذ دعاني باسمي، أن أقوم.

 قال: (اذهب فأتني بخبر القوم ولا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ)، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمَّام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يَصْلِي ظهره بالنار، فوضعت سهمًا في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله: (ولا تذعرهم علي)، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت، فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يُصَلِّي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: (قم يا نومان)»(19).

إن الطاعة من المواضيع التي يجب فهمها فهمًا قويًا بالنسبة إلينا كمسلمين؛ حتى يعرف كل منا واجبه وما هو ملقى على عاتقه من مسئولية، وليعرف الجميع أن المسئولية تكليف لا تشريف، وأن النجاة لنا جميعًا بطاعة الله ورسوله أولًا ثم طاعة ولي الأمر أو المسئول، وأن المعصية أو عدم الاهتمام بهذا الموضوع الحساس يؤدي إلى كثير من المشاكل في الدنيا والعذاب في الآخرة.

إن طاعة ولي الأمر ناتجة عن طاعة الله وطاعة رسوله، فالله سبحانه ألزم المسلم بطاعته وطاعة رسوله، وهي واجبة، ولكن طاعة ولي الأمر تكون واجبة إذا أطاع الله وأطاع رسوله، وإن طاعة ولي الأمر ليست على الإطلاق؛ بل هي مشروطة بطاعة الله وطاعة رسوله.

ثم إن طاعة ولي الأمر واجبة إذا كان من المسلمين المؤمنين {مِنْكُم} الذين يتحقق فيهم شروط الإيمان وحد الإسلام، ولكن إذا حصل منه كفر بواح أو فسق وفجور فإنهم يفقدون شروط الطاعة.

كما أن طاعة ولي الأمر تكون في المعروف فقط، فإذا أمر بمعصية أو فسق أو إثم فلا طاعة له، ففي الصحيحين: «إنما الطاعة في المعروف»، وفيهما أيضًا: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»(20).

وطاعة ولي الأمر واجبة ما لم يتحاكم إلى الطاغوت وهو يدّعي الإسلام، والطاغوت كل حكم يتحاكم إلى غير شرع الله، مصداقًا لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء:60], وهذه الآية جاءت بعد الآية التي تطلب طاعة ولي الأمر مباشرة، فهؤلاء يزعمون الإيمان، ولكنهم يهدمونه عمليًا وواقعيًا بتحكيم غير شرع الله في حياة الأمة، وسمي الطاغوت لأنه يدعي خاصية من خواص الألوهية؛ وهو تشريع الكفر والحكم به عن عمد وقصد.

طاعة ولي الأمر إذا كان طائعًا لله ورسوله ويقيم الفرائض والحدود ولا يتحاكم للطاغوت، فهي من أهم القربات إلى الله سبحانه، ومن أعظم الأعمال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله»(21)؛ لذلك قال سهل بن عبد الله: «لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء في طاعة الله»(22).

***

_____________

(1) تلبيس إبليس، ص99.

(2) الجامع الصحيح للسنن والمسانيد (14/ 411).

(3) في ظلال القرآن (1/ 501).

(4) أخرجه البخاري (7145)، ومسلم (1840).

(5) معالم السنن (2/ 266).

(6) فتح الباري، لابن حجر (8/ 60).

(7) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 329).

(8) فتح الباري، لابن حجر (8/ 254).

(9) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (7/ 452).

(10) في ظلال القرآن (2/ 691).

(11) بهجة قلوب الأبرار، ص132.

(12) أخرجه مسلم (1838).

(13) أخرجه ابن ماجه (2865).

(14) المِلل والنِّحل (4/ 102).

(15) مجموع الفتاوى (1/ 13).

(16) في ظلال القرآن (2/ 691).

(17) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (7/ 451).

(18) الأساس في التفسير (2/ 1103).

(19) أخرجه مسلم (1788).

(20) أخرجه البخاري (7144).

(21) أخرجه أحمد (7334).

(22) طاعة أولي الأمر، موقع: السبيل.