logo

الدعاة بين الرخص والعزائم


بتاريخ : الجمعة ، 23 جمادى الآخر ، 1437 الموافق 01 أبريل 2016
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة بين الرخص والعزائم

اصطفى الله تعالى لحمل العلم من كل خلف عدوله، وخصهم بالفهم والاستنباط السليم، فسخّروا ما آتاهم الله من فضله في إقامة الحجة وبيان المحجة، واستشعروا عِظَم واجب التبليغ والتوقيع عن رب العالمين، فقاموا به خير قيامٍ، تحمُّلًا وأداءً، وكان حقًّا على من عرف فضلهم، وخبر سبقهم أن يتقرب إلى الله بحبهم والذب عن أعراضهم، كيف وهم أهل الذكر الذين أمرنا بسؤالهم وطاعتهم، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].

التيسير مطلب دعوي:

إن خطاب الدعاة لا بد وأن يرتكز على التيسير ونبذ التعسير، وما كان لدين الإسلام أن يمت إلى التعسير والمشقة بصلة، فقد تزينت أحكامه بالتيسير، وتجملت شرائعه بدفع المشقة، وتطيبت مقاصده برفع الحرج والضيق.‏

والله تعالى في قرآنه الكريم ينفي الحرج عن دينه، فيقول: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]، ويعقب سبحانه وتعالى على التكاليف، بإرادة التيسير فيها، كما قال بعد إيجاب الصيام مع رعاية المشقة في السفر والمرض: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].‏

‏وكما قال سبحانه بعد اشتراط الوضوء للتطهر، وصحة الصلاة، ورعاية الحرج عند انعدام الماء والمشقة، والعجز عنه لمرض أو ضيق وقت، أو نحو ذلك: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].‏

‏وعند ذكر الله سبحانه وتعالى ما خص به رسوله خاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم، من شرح صدره، ووضع وزره، ورفع ذكره، أبان أن العسر مدفوع، مطارد باليسر أينما كان، أعقبه بيسرين فأبطلا إعساره، فقال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح:1-6].

وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت تترى تذكر بهذا الأصل، وتنبه إليه، وتدعو إلى الاعتماد عليه، وتؤكد على الدعاة الارتكاز عليه.‏

‏ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: «إن دين الله يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا»(1).‏

وعن أبي قتادة من حديث الأعرابي: «إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره»(2).‏

بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، كما أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها(3).‏

ويوضح رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم أهمية الارتكاز على التيسير في الدعوة والتبليغ والتكليف، فيترك الأمر بشيء خشية أن يشق على المسلمين أو يفرض عليهم، فيقول في أمر السواك: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة»(4).‏

ولما خرج النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أوائل ليالي رمضان، فصلى في المسجد قيام رمضان، فصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة الثانية، فصلوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل على الناس ثم تشهد فقال: «أما بعد، فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها»(5).‏

وهكذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم بسننه القولية والفعلية يدعو إلى التيسير، ويرفع الحرج، مبلغًا ومطبقًا.‏

واستقراء لهذا الأصل من كل هذه النصوص خرَّج الفقهاء قواعد كلية تراعي التيسير في الأحكام والتكليف، تخفيفًا على الناس، ودفعًا للتعسير، فوضعوا قاعدة كلية تقول: «المشقة تجلب التيسير»، وأخرى تقول: «عفي عما عسر».‏

فمن باب أولى أن ينتهج الدعاة هذا المسلك، سيما وأن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم نبه الدعاة خاصة بذلك، فيما أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»(6)، وحديث: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا»(7).‏

ولما ابتعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن دعاة معلمين، أوصاهما صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال لهما: «بشرا ويسرا، وعلما ولا تنفرا»، ونص على الدعوة بيسر فقال لهما: «ادعوا الناس، وبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا»(8).‏

حكم الرخصة:

الأصل في الرخصة الإباحة؛ مثل الفطر في رمضان للمسافر والمريض وغير ذلك، ولكن ينبغي التنبه إلى أن الحكم الثابت للرخصة يختلف من شخص لآخر، أو بتعبير الشاطبي: «كل أحد في الأخذ بها فقيه نفسه»(9)، ومرد هذا أن الرخصة قائمة على العذر، والعواملُ المؤثرة فيه وجودًا وقوة متعددةٌ؛ منها: الزمان، والمكان، والأحوال، والأعمال، والشخص ذاته، فما يمكن أن يكون رخصة لشخص ليس بالضرورة أن يكون كذلك لآخر.

رد الرخص:

ولا ينبغي رد الرخص التي رخصها الله سبحانه وتعالى وعدم الأخذ بها دائمًا وأبدًا، ولكنا نرى حركات إسلامية يقوم جل شأنها على التشدد في الأخذ بالعزائم بين أفرادها أخذًا دائمًا لا يختل، ومطالبة الناس بذلك، ومحاسبة من حاد عن هذا الطريق.

إن الأخذ بقوة مطلوب ومرغوب فيه، ولكنه حين لا يكون في موضعه فهو مذموم مردود غير مقبول.

وحين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الوصال فلم ينتهوا واصل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال فقال: «لو تأخر الشهر لزدتكم» كالمنكل لهم؛ حيث أبوا أن ينتهوا، وقال: «لو مد لنا في الشهر لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم»(10).

قال الحافظ ابن حجر في الفتح: والمراد بقوله: «لو تأخر لزدتكم»؛ أي في الوصال إلى أن تعجزوا عنه فتسألوا التخفيف عنكم بتركه، وكما أشار عليهم أن يرجعوا من حصار الطائف فلم يعجبهم؛ فأمرهم بمباكرة القتال من الغد، فأصابتهم جراح وشدة، وأحبوا الرجوع فأصبح راجعًا بهم فأعجبهم ذلك(11).

وفي الحديث الآخر: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته»(12)، وفي رواية: «كما يحب أن تؤتى عزائمه»(13).

وقد يقول البعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل بعض الرخص إثباتًا للجواز، ودفعًا للحرج عن الأمة، وهذا الاعتراض يدفعه ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان من الحالات التي ترخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان خاليًا لا يطلع عليه أحد من غير أهل بيته.

وينبغي الإشارة هنا إلى الفرق بين العزيمة كحكم مقابل للرخصة، وبين الأخذ بقول من الأقوال في مسألة ما إن كان القول شديدًا أو هو الأشد، فهذا ترجيح لقول من الأقوال وليس من باب العزائم.

الإفراط في الرخص:

كما يراعى عدم العمل بالرخص دائمًا وأبدًا، فإنه يراعى أيضًا عدم التوسع في الأخذ بها، إذ إن ذلك يؤدي إلى ضعف العزائم، والاعتياد على اليسير من الأمور دون الشاق منها، وعندئذ يصعب على المرء المسلم من التكاليف التي يرى فيها نوعًا من المشقة التي لا يتحملها، وهي في حقيقتها محتملة بمقياس الشرع، ولكن ضعفت النفس أو تعودت على اليسر والسهولة فشق عليها ما لم يشق على غيرها.

قال المتنبي:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم     وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها     وتصغر في عين العظيم العظائم

وقال البوصيري:

والنفس كالطفل إن تهمله شبَّ على       حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم

والشرع وإن كان فيه من التيسير على الناس حين المشقات والتخفيف عنهم؛ إلا أنه ما كان يهمل الجانب الآخر، فقد جاء الأمر بالأخذ بقوة، كما مدح العزم وأولو العزم.

إذن فالموقف المطلوب هو التوسط في الأخذ بالعزائم أو الرخص، فتؤخذ العزائم تارة ويكون قصد المسلم أن يأخذ نفسه بالشدائد تربية لها واقتداءً بالسابقين، ومن قبل لأن الله يحب أن تؤتى عزائمه، ويأخذ أخرى بالرخص تخفيفًا على النفس كي تكون قادرة على الالتزام بسائر التشريعات، واقتداءً بالسابقين، ومن قبل لأن الله يحب أن تؤتى رخصه.

أما أن تقوم حركة من الحركات ويكون منهجها قائمًا على الترخص الدائم عملًا به في نطاقها، ودعوة للناس وإفتاءً لهم، فهذا مردود لا يحبه الله، فالله يحب إتيان عزائمه من خواص الناس وعوامهم على السواء.

وأظن أن تلك محاولات رخيصة مكشوفة، لتملق الناس واستمالتهم على حساب دين الله عز وجل.

نعم! قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف على الناس، وأنه صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا(14)، ولكن في ذات الوقت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه على الأخذ بقوة، وأن هذا الدين يحتاج إلى العزم في الأخذ به.

لقد كان من أوائل ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، وحين اشتكى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حر الظهيرة ورغبوا أن يؤخر لهم صلاة الظهر عن حر الظهيرة، أي عن أول وقتها، لم يُزل صلى الله عليه وسلم عنهم الشكوى، وفي حديث خباب غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الصحابة أن يدعو الله لهم بالتخفيف، وذكرهم بمن كان قبلهم ممن لاقوا شدة في تحمل الدين.

لا ينبغي أن تكون مسائل العزيمة والرخصة أسلحة الحرب والمناوشات بين الفصائل الحركية المختلفة، أو بين الدعاة الإسلاميين، فمن مظاهر الخلل الفكري والأخلاقي القائم في حياتنا المعاصرة أن نجد حركة تشدد في الأخذ بالعزائم، فتقوم أخرى مقابلها تلتقط الرخص فتعرضها على الناس مبينة شدة الأولى، أو يكون نقيض هذا، أو نرى عالمًا تكون من طبيعته الترخص عملًا أو إفتاءً، فيرد عليه آخر بنقيض منهجه، راميًا إياه بالتفلت والتساهل في دين الله عز وجل، فيرمي هذا مخالفه بالتفلت، ويرمي ذاك مخالفه بالتشدد.

والأمر حين يكون منهجيًا وقائمًا على أسس وضوابط مقبولة شرعًا فلا بأس به، أما أن يكون إظهارًا لعورات الآخر، أو استمالة لجمهور من العوام أو الإسلاميين فكلا وألف كلا، فدين الله تعالى أسمى من هذا وأجل.

الرخصة من طبيعتها، غالبًا، التوقيت والخصوصية؛ ولذا فيفتى بها لكل شخص منفردًا؛ إذ يجب معرفة حاله، والظرف الذي طرأ عليه، وهل يمكن أن يكون مؤثرًا في الحكم أم لا(15).

إقرار الرخص في محالها:

والأخذ بالرخص في محالها ومواضعها التي أقرها الشرع وبينها هو الأولى، وهو الأحب إلى الله تعالى، وفي المسند من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يَكره أن تؤتى معصيته»(16).‏

فليس من الدين في شيء ولا الدعوة المحاولات التي تجري، من بعض المسلمين، لإلزام الناس بالعزائم فقط وحملهم عليها، والإنكار على من أخذ بالرخصة، إن هذا تضييق لما وسعه الله، وميل بالناس إلى الحرج والمشقة، وما جعل الله علينا في الدين من حرج.‏

وذلك أن رخص الدين إنما هي من طرق التشريع للتيسير ورفع الحرج، وإنك لتحس ارتباط التيسير مع الرخصة في مواطن الرخص في الكتاب والسنة وأقوال الفقهاء.‏

فعند تقرير رخصة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، يذيل الله عز وجل ذلك بتنبيه أن هذا تيسير ودفع للعسر، فيقول: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وللتخفيف على فاقد الطهور يشرع الله التيمم تيسيرًا له ورفعًا للحرج، يقول عند ذلك: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6].‏

إذن إقرار الرخص في محالها ضرب من ضروب التيسير، وسبيل من سبل التخفيف، ومسلك يقود إلى دفع الحرج، ورفع المشاق والتعسير، ذلك أن إتيان الرخص وغشيانها من محاب الله تعالى، تمامًا كالتمسك بالعزائم.‏

وفي المقابل، إنكار الرخص يكون ضربًا من ضروب التشديد، وسبيلًا من سبل التعسير، ومسلكًا يميل بالناس إلى الحرج ويبقي المشاق، وهذا مضاد لمحاب الله، ومناقض لطرق التشريع، ومخالف لمقاصد الشارع في التكليف.‏

فكيف بمنكري الرخص إذا علموا أن من الرخص ما يكون واجبًا، ومنها ما يكون مندوبًا، ناهيك عن أن يكون مباحًا، وهو الحكم الأصل للرخصة.‏

قال السيوطي رحمه الله: «الرخص أقسام:‏

ما يجب فعلها: كأكل الميتة للمضطر، والفطر لمن خاف الهلاك بغلبة الجوع والعطش، وإن كان مقيمًا صحيحًا، وإساغة الغصة بالخمر.‏

وما يندب: كالقصر في السفر، وكالفطر لمن يشق عليه الصوم في سفر أو مرض، والإبراد للظهر، والنظر إلى المخطوبة.‏

وما يباح: كالسَّلَم»(17).‏

ومن المشهور عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى أنه كان يقول: «إنما العلم عندنا الرخصة عن الثقة، فأما التشديد فكل إنسان يحسنه»(18).‏

مفاسد عدم قبول الرخص:‏

والرافض لرخص الله رافض لفضله وسماحته، وجاحد لنعمته، ومنكر لتيسيره، وبالتالي يقوده رفضه لرخص الله عز وجل إلى غضبه وسخطه، وذلك أن إتيان الرخصة من محاب الله، وبالتالي فرفضها من مساخطه ومكارهه؛ بل إن عدم قبول الرخص وعدم إقرارها في محالها بالإنكار والرفض قد يضر بصاحبه أيما ضرر، ويجلب له المفاسد والخبائث، حتى يفقد دينه، أو يسخط ربه.‏

أمر النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح في رمضان لما قرب من العدو، أمر أصحابه بالفطر، فبلغه أن قومًا صاموا فقال: «أولئك العصاة»(19).‏

وصلى على ظهر دابته مرة، وأمر من معه أن يصلوا على ظهور دوابهم، فوثب رجل عن ظهر دابته فصلى على الأرض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مخالف خالف الله به»، فلم يمت حتى ارتد عن الإسلام(20).‏

فأنت ترى كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف رافضي الرخصة بالعصاة، وترى كيف ختم الله على ذاك الرجل الذي رفض رخصة نبيه، كأنه أتقى منه وأخشع، وأعلم لما يرضي الله من رسوله ونبيه، فما مات إلا على غير دين الإسلام. ‏

إقرار الرخص لا الترخص:‏

إن عدم الإنكار على من أخذ بالرخصة لا يعني بحال الترخص في كل شيء، بالتشهي والهوى والجري وراء زلات العلماء، وتتبع رخص المذاهب، قال سليمان التيمي: «لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله»(21).‏

وسبب ذلك أن المتتبع للرخص، والمنتقي للأقوال من شتى المذاهب؛ دونما ترجيح معلوم، أو دليل مرسوم، أو استدلال موافق لأصول التشريع، معتبر في قواعد الاستنباط؛ فإنه بذلك يتبع هواه، ويختار ما اشتهاه، فيكون مناقضًا لمقصد الشريعة في إخراج العبد من دائرة هواه، ليكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا.‏

وقد ذكر الإمام المحقق الشاطبي رحمه الله تعالى مفاسد تتبع رخص المذاهب، نذكر منها باختصار:‏

1- الانسلاخ من الدين، بترك اتباع الدليل؛ أي اتباع الخلاف.‏

2- ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم.‏

3- انخرام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف.‏

4- الإفضاء إلى العقول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم(22).‏

وفيما دون ذلك لا ننكر على الناس اتخاذهم من الأقوال الأخف، ومن الأحكام الأيسر، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان لا يختار إلا الأيسر، مما لا حرمة فيه، كما في الصحيح، فعن عائشة رضي الله عنها: «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا»(23).‏

أمور يجب الحذر منها:

هناك أمورٌ عدة انتشرت بين بعض من تصدّر للدعوة والعلم مما ينبغي تجنبها، وهي تخالف التزام العلم النافع، ولها أثرٌ سلبي وخطير في حياة الناس؛ إذ لا يخفى علينا مدى أثرها على طلاب العلم وعلى العوام من الناس، وهي على النحو الآتي:

1- التميّع في أخذ هذا الدِّين، والتساهل في أخذ أحكامه والالتزام بها، فانتشر من جراء ذلك الفساد، وتجرأ بعض الناس على المنكرات، فأصبحنا نسمع من عامة الناس إذا نُصح بأداء الواجبات وترك المحرّمات من يقول: «الإيمان في القلب»، «ساعة لربك وساعة لقلبك»، «الله غفورٌ رحيم»... إلخ، وهم ما يزالون في تطاولهم في الدين، وتقصيرهم، وانحرافهم وكل ذلك لما يرونه من تميّع بعض من تصدّر للعلم والدعوة في أخذ الدين.

2- رفض إدخال الإسلام في شئون مختلفة من الحياة، فنجد بعض من تصدر للدعوة والعلم يقول: ما داموا يقولون لا إله إلا الله، ويصدقون بقلوبهم، فهم مؤمنون، ولا يجوز الإنكار عليهم.