logo

التوجيه غير المباشر


بتاريخ : الأربعاء ، 22 ذو الحجة ، 1441 الموافق 12 أغسطس 2020
بقلم : تيار الاصلاح
التوجيه غير المباشر

من الأساليب النبوية التربوية في النصيحة؛ التوجيه والنصح بطريق التعميم، فكان صلوات الله وسلامه عليه يُعْلِمُ بالخطأ ويذمُّه، وينصح المخطئ ولا يُشهِّر به أمام النَّاس، فكثيرًا ما كان يقول صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام؟»، وهو من باب التوجيه؛ ولكن بأسلوب التعميم دفعًا للحرج عن المخطئ، وسترًا له، ورفقًا به، فيتعلم المخطئ وغيره، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل: ما بالُ فلانٍ يقول؟ ولكن يقول: ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا (1).

إن من طبيعة الإنسان كراهيته أن يعاب وأن يخطئ أمام الآخرين، فإذا أنكرت عليه أمامهم فقد يكون ذلك سببًا لتمسكه بما هو عليه من الخطأ والمخالفة.

ويتأكد هذا الأدب خاصة إذا كان الداعية أكبر سنًا من المدعو، أو أعلى مكانة في العلم أو الجاه ونحو ذلك من الأمور؛ كحال الطالب مع شيخه والابن مع أبيه.

وقد أحسن الإمام الشافعي رحمه الله حينما قال:

تعمدني بنصحك في انفرادي       وجنبني النصيحة في الجماعة

فإن النصح بين الناس نوع          من التوبيخ لا أرضى استماعه

وإن خالفتني وعصيت قولي       فلا تجزع إذا لم تعط طاعة 

قال النووي: الأوْلى ترك التشهير والإعلان بالإنكار على المعين أمام الناس إن كان الأمر لا يتطلب ذلك، وينبغي أن يسر بالنصيحة إليه ليتحقق القبول.

وعن عبد الرحمن بن مطرف، قال: كان الحسن بن حي إذا أراد أن ينصح أخًا له كتب له في ألواح وناوله (2).

ففي بعض الحالات يكون أسلوب التلميح أفعل في النفس من أسلوب التصريح، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28]، ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين، إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه، مع التلميح إلى اطمئنانهم لإيمانهم، وثقتهم بهداهم، وبأن الكافرين في ضلال مبين (3).

المنهج الرشيد في إهداء العيوب يُبنَى على أدب رفيع؛ فالأسلوب الحسن، والكلمة الطيبة الهادئة تشرح الصدر، واللين من غير عنف، والنصيحة في السر، وتلميحًا لا تصريحًا أقرب للقبول، والأدب في العرض، وعبارات الحب والثناء الشرعي أبلغ في التأثير.

أما عرض العيوب في مشهد ملأ وجماعة فنوع توبيخ وفضيحة، وتفضي إلى رفضها وعدم قبولها، والأسوأ أن تجعل ذريعة لانتقاد الذوات، وتحقير مقامهم، وتقزيم مكانتهم، وهذا يعبر عن ذات مريضة ونفس دنيئة.

كان نبينا صلى الله عليه وسلم القدوة والأسوة الحسنة لكل معلم ومربٍ في توجيه الآخرين، ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يذكر أسماء المخالفين الذين يود بيان ما اقترفوه من ذنوب أو مخالفات لسنته سواء كانوا حاضرين أو بلغه شيء عن غائبين.

وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم مليئة بالكثير من هذه المواقف التي ترشد إلى هديه في نصحه بقوله: «ما بال أقوام»، ومن ذلك:

عن أنس رضي الله عنه: أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فحمد الله وأثنى عليه فقال: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (4).

قال النووي: قوله: «فحمد الله تعالى وأثنى عليه فقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا» هو موافق للمعروف من خطبه صلى الله عليه وسلم في مثل هذا، أنه إذا كره شيئًا فخطب له ذكر كراهيته ولا يعين فاعله، وهذا من عظيم خُلُقِه صلى الله عليه وسلم، فإن المقصود من ذلك الشخص وجميع الحاضرين وغيرهم ممن يبلغه ذلك، ولا يحصل توبيخ صاحبه في الملأ (5).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فخطب، فحمد الله ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية» (6).

قال النووي: وفيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع وإن كان المنتهك متأولًا تأويلًا باطلًا، وفيه حسن المعاشرة بإرسال التعزير والإنكار في الجمع، ولا يعين فاعله، فيقال: ما بال أقوام ونحوه (7).

وروى البخاري، عن أبي حميد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما بال العامل نبعثه فيقول: هذا لك، وهذا لي؟ فهلا جلس في بيت أبيه وأمه، فينظرَ أيُهْدَى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ألا هل بلغت؟» ثلاثًا (8).

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الخطأ ويذمُّه ولا يُشهِّر بصاحب الخطأ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف: «ما بال العامل» فليست العبرة والفائدة في معرفة شخصية المخطئ؛ إنما بمعرفة الخطأ، والتنبه له، والحذر من الوقوع فيه.

عن عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام وقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم فأبوا ذلك عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق»، ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» (9).

قال صاحب كتاب منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول صلى الله عليه: ولا يتعرّض في وعظه لأحد معيّن، بل يتكلّم خطابًا عامًّا، لحصول الفائدة فيه لكل سامع، مع ما فيه من حصول المواراة والستر عن الفاعل وتأليف القلوب (10).

المخطئ له حق على إخوانه وأصحابه ومجتمعه، يتمثل في نصحه بأفضل الطرق وأقومها، على حسب حاله وخطئه، فلو أن المسلمين -وخاصة الدعاة والمعلمين- اقتدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في أسلوبه ومنهجه في النصح -بما فيه من حلم ورفق، وحكمة وستر-، لأثروا بنصحهم في المخطئ تأثيرًا يجعله يُقْلِع عن خطئه، ويستجيب لأمر الله عز وجل، ويتبع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأحيانًا يخاطب غيره وهو يسمع، ومن ذلك حينما استبَّ رجلان عنده صلى الله عليه وسلم وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم». فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: إني لست بمجنون (11).

وفي بعض الأحيان يذكر بعضًا من أخطاء الأمم السابقة؛ وهو يريد بذلك تحذير أمته من فعل ما فعلوا، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (12).

وأحيانًا يأمر أصحابه بما يريد قوله للرجل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلًا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلًا في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: «لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه» (13).

وأحيانًا يخاطب شخصًا ليُسمع غيره، عن سليمان بن صرد قال: استبَّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد؛ لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» (14).

فالتوجيه غير المباشر هو أسلوب يسلكه المربي الحاذق اللبيب حين يكون التصريح بالنصح والمباشرة في التعليم يهتك ستر المتربي ويورثه الجرأة والعناد، فيأتي التعريض ليستميل القلوب الفاضلة، والنفوس اللمَّاحة.

قيل لإبراهيم ابن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه (يعني الشيء) أيقوله له، قال: هذا تبكيت، ولكن يعرِّض (15)، وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة دواعي الخير فيها.

وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتمًا من ذهب، فنبذه، فقال: لا ألبسه أبدًا فنبذ الناس خواتيمهم (16)، قال ابن بطال: فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول (17)، وفي هذا دليل على أن القدوة من أعظم الوسائل المساعدة على التربية دونما توجيه مباشر.

فوائد هذا الأسلوب:

إن أسلوب التوجيه غير المباشر أسلوب راقٍ وشفاف يلامس القلوب ولا يخدشها، وله فوائد جمة قد لا تتوفر في غيره من الأساليب، منها:

- أن فيه سترًا للمسيء أو المخطئ وإعانة له على تصحيح خطئه دون معرفة الآخرين؛ ما قد يجنبه الإحراج أو العناد والإصرار على الخطأ.

 - أنه ينمي المبادرة الذاتية لديه، ويساعده على اتخاذ القرار.

- أنه يجعل الدافع للعمل أو الترك ذاتيًا.

- أنه يقوي جانب الثقة بالنفس، واستقلال الشخصية مما يجعل الطفل يستمر في العمل دون أمر مباشر من والديه.

 - بعض الأشخاص مرهف الحس، شديد الحساسية للنقد؛ مما قد يجعل التوجيه غير المباشر أكثر ملاءمة لشخصيته.

ويتمثل التوجيه غير المباشر في أمور منها:

أ - كونه صلى الله عليه وسلم يقول: «ما بال أقوام»، دون أن يخصص أحدًا بعينه، ومن ذلك قوله في قصة، وفي خبر النفر الثلاثة.

ب - وأحيانًا يثني على صفة في الشخص ويحثه على عمل بطريقة غير مباشرة، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان الرجل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، فتمنيت أن أرى رؤيا أقصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلامًا أعزب، وكنت أنام في المسجد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فرأيت في المنام كأن ملكين أخذاني فذهبا بي إلى النار، فإذا هي مطوية كطي البئر، وإذا فيها ناس قد عرفتهم، فجعلت أقول: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فلقيهما ملك آخر فقال لي: لن تراع، فقصصتها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي بالليل»، قال سالم: فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلًا (18).

ج - وأحيانًا يأمر أصحابه بما يريد قوله للرجل، عن أنس بن مالك أن رجلًا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلًا في وجهه بشيء يكرهه فلما خرج قال: «لو أمرتم هذا أن يغسل هذا عنه» (19).

د - وأحيانًا يخاطب غيره وهو يسمع، عن سليمان بن صرد قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد...».

فمن الحكمة بمكان أن يكون أسلوب معالجة الخطأ أو المنكر بما يؤدي إلى النتيجة المرجوة، وهذا يقتضي دراسة حال الأشخاص وذهنياتهم ونفسياتهم، وما يتقبلونه وما لا يتقبلونه، فرب أسلوب يدفع بالآخر إلى أن يبالغ في الخطأ والمخالفة، ويزداد عنادًا في ذلك نتيجة الأسلوب الخاطئ، بينما يتقبل النصح لو جاء بأسلوب مخالف، فلذلك فإن على الداعية أن يكون حكيمًا في استخدام الأسلوب المناسب، فربما كان التعريض والتلميح والأسلوب غير المباشر أفضل من  التصريح والتوجيه المباشر، من هنا تعددت الأساليب في القرآن الكريم وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن أمثلة التعريض في القرآن الكريم قال تعالى: {قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63)} [الأنبياء: 62- 63].

قال الزمخشرى: هذا من معاريض الكلام؛ فإن قصد إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم؛ إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريض يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابًا بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة فقلت له: بل كتبته أنت، كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش؛ لأن إثباته – والأمر دائر بينكما– للعاجز منكما استهزاء به وإثباتاً للقادر (20).

 وقد دعا القرآن الكريم إلى استخدام التعريض دون التصريح في حال رغب رجل في امرأة متوفى عنها زوجها قبل انتهاء عدتها، قال تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235].

وهي وإن كانت في ذيل آية عدة الوفاة إلا أنها لا تختص بها، فهي تدل على عدم جواز التصريح بالخِطبة ممن يجوز له التزويج بعد العدة، وأما التعريض بها وهو ما يفهم السامع المراد من غير تصريح، مثل أن يقول للمرأة: إني في مثلكِ لراغب؛ إنكِ امرأة يرغب فيكِ الرجال؛ إذا انقضت العدة فأخبريني؛ وعلى هذا فقس؛ فهذا ليس فيه تصريح أن يخطبها لا لنفسه ولا لغيره؛ لكنه يسمى تعريضًا؛ والتعريض والتلويح بمعنى واحد.

الأغراض المترتبة على استعمال الأساليب غير مباشرة:

وهذا الأسلوب من الكلام متعارف عند أهل المحاورة، فكثيرًا ما يخاطب أحدٌ صاحبه ويكون المقصود من الخطاب هو مَن يسمع ذلك الخطاب، فقد يعلم الملقي للخطاب أنَّ المتلقيَ لخطابه مستغنٍ عن مفاده ولكنه يُخاطبه به لينتفع به مَن يصل إليه ذلك الخطاب.

- فقد يكون ذلك أوقع في نفس مَن وصل إليه الخطاب مما لو كان هو المُخاطَب ابتداءً خصوصًا إذا كان المُخاطَب يحظى بموقعٍ متميز في نفوس المعنيين بالخطاب كما هو النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين، فإنَّ وقع ذلك على قلوب المؤمنين يكون بليغًا وسيدفعهم هذا الخطاب إلى التشدُّد في الحرص على عدم الوقوع، في ما ورد النهي عنه كما في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس معنيًّا بهذا الخطاب، وإنما الغرض من توجيه الخطاب إليه هو التعبير عن خطورة هذا الذنب والتأكيد على لزوم حذر المؤمنين من الوقوع فيه.

وكما في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28]، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن الافتتان بهذه الأمور؛ ولكن الله سبحانه وتعالى يخاطب الأمة من خلال الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأمرها من خلال الرسول صلى الله عليه وسلم.

- والغرض منه أحيانًا تجنب السلبيات المحتملة من توجيه النصح أو النقد المباشر، أو حتى الإرشاد، كأن يكون الموجه أصغر سنًا أو أقل شأنًا فلا يستسيغ الأكبر سنًا أو الأقل شأنًا هذا التوجيه، وقد يكون استخدام هذا الأسلوب لإحداث مزيد من التقبل والالتزام بمضمون التوجيه.

- كما أن هذا الأسلوب يساعد على حفظ السرية فالناس -كل الناس- يكرهون الأسلوب المباشر في النقد، ولا يحبون أن تـُقال لهم الأوامر مباشرة؛ فالتصريح يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة على الهجوم، والتبجح بالمخالفة، ويهيج على الإصرار والعناد؛ أما التعريض فيستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية.

- وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُشهرّ بالخطأ ويذمه، ولا يشهر بصاحبه، ولذلك لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يواجه صاحب الخطأ أمام الناس؛ لأن ذلك يؤدي إلى تحطيم شخصية المخطئ وأذيته وإذلاله وإنما يشير إلى الخطأ دون صاحبه أمام الملأ فيعرف صاحب الخطأ خطأه ويتعلم ويرتدع الآخرون.

 فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بما يريد قوله للرجل، وأحيانًا يخاطب غيره وهو يسمع، أو يثني على صفة في الشخص ويحثه على عمل بطريقة غير مباشرة.

وشتان ما بين من يهدي إخوانه عيوبهم -كناصح مشفق، وناقد بصير-، وبين من يجعل همه ومهمته وشغله ليله ونهاره تصيد عيوب الآخرين؛ بل هذه آفة عظيمة تنافي الشخصية السوية، وتنطوي على خبث طوية، حين يطلق المرء للسانه العنان، ويتتبع الناس؛ فيهرم بدنه، ويمرض قلبه، ويضيع عمره، وتعمى بصيرته عن عيوب نفسه (21).

_____________

(1) أخرجه أبو داود (4788).

(2) شعب الإيمان (10/ 105).

(3) في ظلال القرآن (6/ 3647).

(4) أخرجه مسلم (1401).

(5) شرح النووي على مسلم (9/ 176).

(6) أخرجه البخاري (6101).

(7) شرح النووي على مسلم (15/ 107).

(8) أخرجه البخاري (2597).

(9) أخرجه البخاري (2168)، ومسلم (1504).

(10) ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟/ إسلام ويب.

(11) رواه البخاري (6115).

(12) أخرجه مسلم (1184).

(13) أخرجه أبو داود (4182).

(14) أخرجه البخاري (6115).

(15) الآداب الشرعية (1/ 215).

(16) أخرجه البخاري (7298).

(17) فتح الباري (13/ 233).

(18) أخرجه البخاري (3738)

(19) أخرجه أبو داود (4182).

(20) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 124).

(21) المنهج الرشيد في إصلاح العيوب/ ملتقى الخطباء.