logo

روح الدعوة


بتاريخ : الأربعاء ، 2 ربيع الأول ، 1441 الموافق 30 أكتوبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
روح الدعوة

 

كثيرًا ما يشكو الدعاة من أن دعوتهم لم تعد مؤثرة كما كانت من قبل فأين المشكلة؟ هل هي في الداعية أم المدعو أم الدعوة ذاتها؟

فلكل دور في نجاح العملية الدعوية؛ سواء الداعية أو المدعو أو ذات الدعوة من حيث منهجها وأساليبها، وروحها؛ فالدعوة كيان وروح، وفقدان الدعوة للكيان أو الروح يفقدها تأثيرها؛ بل يفقدها وجودها من الأساس، فتتحول إلى جسد بلا رأس، ورأس بلا عقل.

إن جهد صاحب الدعوة- في مثل هذه الحال- لهو جهد مضاعف، ومن ثم يجب أن يكون صبره مضاعفًا كذلك، يجب أن يصبر على الالتواءات والانحرافات، وثقلة الطبائع وتفاهة الاهتمامات، ويجب أن يصبر على الانتكاس الذي يفاجئه في هذه النفوس بعد كل مرحلة، والاندفاع إلى الجاهلية عند أول بادرة! ولعل هذا جانب من حكمة الله في عرض قصة بني إسرائيل على الأمة المسلمة، في هذه الصورة المفصلة المكررة، لترى فيها هذه التجربة، ولعل فيها زادًا لأصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل (1).

إن روح الدعوة تكمن في إخلاص الداعية وتفاعله وتفانيه من أجل دعوته والتلذذ بتحدياتها وعقباتها.

وما لم يكن الداعية على علم مُعَمَّقٍ بالذي يريد قوله، وما لم يكن على دراية بأقصر الطرق الموصلة إلى روح الإنسان ووجدانه؛ فإن الإخفاق سيكون من نصيبه.

ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية (2).

وتكمن في التجدد بهذه الدعوة وعرضها كخيمة وارفة الظلال لكل حائر تائه في صحراء الدعوات القاحلة، والأفكار والمناهج المنحرفة، وإلا كانت الدعوة بأدبياتها القديمة جسدًا بلا روح وجسمًا يأكل نفسه.

إن مرونة الدين الإسلامي وصلاحيته لكل الأزمان تقتضي الدعوة بأسلوب العصر ولغته، وبمختلف الوسائل المشروعة، التي تضمن نقل الإسلام وعرضه على الناس بأفضل طريقة وأوضح صورة، كما أن المتأمل في القرآن والسنة يجد فيهما الحث على استخدام كل ما يعين الإنسان على أداء رسالته في هذه الحياة، والداعية إلى الله أولى الناس بذلك.

وتكمن روح الدعوة أيضًا في استهداف المدعو القابل لهذه الدعوة، فهو كالأرض الطيبة التي تقبل الماء والزرع فيسعد بها ليحملها ويتبناها بعدما ذاق من طيباتها وروحها الكثير.

والتجديد في الدعوة يكون بالتركيز على اعتماد الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في حل وتناول القضايا المعاصرة، وهذا لا يعني التماس الحلول الجاهزة لمشكلاتنا التي غدت أكثر تعقيدًا من آثار السلف حرفيًا، وإنما المقصود سلوك المنهجية التأصيلية العلمية للسلف في تعاملهم مع النوازل والطوارئ، وتفعيل دور العلماء، وإنزالهم المنازل التي تليق بهم، وخلق التقارب بينهم وبين شباب الأمة، وتربية الشباب على معرفة مكانتهم، حتى يتمكنوا من حمايتهم من الوقوع في براثن الغلو والتشدد، والعمل على تكوين مرجعية عامة ترجع الأمة إليها عند النوازل والمعضلات، والاعتناء بالتأصيل العلمي للمناهج الدعوية؛ حتى يظهر التزامها بالأصول العامة للدين، وحتى تكون كل الخطوات لها من الحصانة العلمية ما يفعل ثمرتها.

والعمل على التوفيق بين كل التيارات الإسلامية، والتأكيد على ضرورة الاعتصام، ونبذ الحزبية والعصبية، مع التناصح والتآلف والتعاضد، والتغافر في موارد الاجتهاد، والاعتذار عند الزلل، واعتبار كثير من الخلاف خلاف تنوع لا خلاف تضاد، وتفعيل المبادرات الإصلاحية، التي تذيب الفوارق الفكرية والنفسية، وتربية الأمة على التفريق بين الثوابت والمتغيرات، والشرع المنزل والشرع المؤول؛ أي التفريق بين مواطن الإجماع وقطعيات النصوص التي لا تحل المنازعة فيها، وبين موارد الاجتهاد، وظنيات النصوص، التي يسع فيها الخلاف، وتختلف فيها الأنظار، فلا نرفع قضية من المتشابه أو المتغير إلى مصاف المحكم والثابت، وفي المقابل، لا نهون من قضية قطعية فنجعلها في مصاف المتشابه والمتغير.

ففي الوعي بهذه القضية حل لكثير من النزاعات التي تعطل مسيرة الأمة وتقدمها، ووضع خطط جاهزة لمواجهة الطوارئ والنوازل بدل الاعتماد على ردود الأفعال، والخطط الارتجالية، وتربية الأفراد والجماعات على نقد الذات، ومراجعة النفس، والتحلي بالشجاعة في الرجوع عن الخطأ، والاستماع للآخر، والخضوع للدليل، وهذا لا يكون إلا بإخلاص النيات، وصفاء المقاصد، وإعداد خطط مدروسة لمواجهة التغيرات الراهنة، والتي تمس هذه الحركات الدعوية بشكل مباشر (3).

إن ذبول الدعوة يكمن في داعية يتحرك بدون روح ولا دافع ولا هدف ولا صبر ولا أمل، وفي دعوة لا تلبي حاجة الواقع ومشكلات الأمة، ولا تتجدد في وسائلها مع تجدد الحياة، ولا تعطي الأجوبة الفكرية والروحية للسائلين.

وفي مدعويين حجبوا عنها وأجدبت نفوسهم فلا يستقبلوها ولا يمتثلون لها، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}

إن الدعوة الإسلامية تستهدف الواقع البشري بالإصلاح والتغيير؛ فلا بد حتمًا من معرفة هذا الواقع وفهمه الفهم الصحيح، وإذا كان العلماء قد قرروا أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره؛ فإن الحكم على الواقع واختيار الأسلوب الأمثل للتعامل معه بناء على هذا الحكم متوقف على تصوره تصورًا سليمًا؛ مبنيًا على علم وإحاطة وفهم عميق دقيق، ولو أن الدعوة تجاهلت الواقع ولم تعتنِ بفهمه وتحليله، لكان هذا المسلك اختيارًا منها لنفسها أن تمضي في طريقها معصوبة العينين، ولكان هذا الصنيع تنكباً طريقَ النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي كان يعرف ويحرص دومًا على معرفة الواقع الذي يتحرك فيه بدعوة الحق، إلى حدّ أنه كان يعرف عن كل ملك من ملوك الأرض ما يجعله يحسن اختيار من يرسله إليه ويجيد تحديد ما يكتب له، وكان يعرف على وجه أدق من معرفة عقارب الساعة لطريقها متى يحارب ومتى يهادن، ومتى يقدم ومتى يحجم.

ومن آثار مجافاة الواقع اعتماد الخطاب الدعوي المجرد دون الربط بواقع المجتمع، ودون التعرض لمشكلاته ومتطلباته، ما جعل تلقي الناس له مقطوعًا عن الاستجابة والعمل، وجعل خطبة الجمعة- مثلًا- واحة للاسترواح والاستجمام النفسي على أحسن تقدير.

إن المجتمع لا يمكن أن يتفاعل مع خطبة الجمعة أو غيرها من أدوات الخطاب الدعوي حتى يشعر فيها بالطابع العملي التفاعلي، وحتى ترتبط بهمومه وطموحاته، وحتى يكون فيها العلاج لمشكلاته وأزماته، أما أن تظل المواعظ المجردة محلقة في سماء الروحانيات فهذا يعني أنها ستظل في عليائها محلقة مرفرفة دون أن تحرك الواقع أو تؤثر فيه (4).

قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

هذه الآية منهج في إحياء روح الدعوة في المنطلق والمنهج والخطاب.

- فأما المنطلق: ففي قوله تعالى: {دَعَا إِلَى اللهِ}؛ فالدعوة إلى الله بتفانٍ من الداعية، وتجرد وإخلاص للفكرة لا يخلط معها الحظوظ والهوى من روح الدعوات وسبل التأثير عند الداعية، فهو لا يرجو ويخاف إلا ربه.

- وأما المنهج والأداء: ففي قوله تعالى: {وَعَمِلَ صَالِحًا}؛ فهو العمل الصالح والإنجاز المرئي وإبهار الناظرين بتجارب النجاح وإقناع للجميع بالانسياق والامتثال لدعوة الله، وفرد داعية ومؤسسة دعوية دون عمل صالح هيكل بلا روح ولفظ بلا معنى؛ لأن الهياكل خادمة للأرواح، والألفاظ خادمة للمعاني، والوسائل خادمة للأهداف (5).

إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى.

كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، يؤدي منها الإنسان ما يشاء، ويدع منها ما يشاء.

إنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره، وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر، غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح الحياة، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء، وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد (6).

إن شريعة الله تمثل منهجًا شاملًا متكاملًا للحياة البشرية، يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها..

وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان، وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية.. ومن ثم لا يفرط في شيء من أمور هذه الحياة، ولا يقع فيه ولا ينشأ عنه أي تصادم مدمر بين أنواع النشاط الإنساني، ولا أي تصادم مدمر بين هذا النشاط والنواميس الكونية؛ إنما يقع التوازن والاعتدال والتوافق والتناسق، الأمر الذي لا يتوافر أبدًا لمنهج من صنع الإنسان الذي لا يعلم إلا ظاهرًا من الأمر، وإلا الجانب المكشوف في فترة زمنية معينة، ولا يسلم منهج يبتدعه من آثار الجهل الإنساني، ولا يخلو من التصادم المدمر بين بعض ألوان النشاط وبعض، والهزات العنيفة الناشئة عن هذا التصادم (7).

- وأما الخطاب: ففي قوله تعالى: {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}؛ فقوله هذا شمولية في الفهم والدعوة والمنطلق والاستعانة، والخطاب فهو من المسلمين وللمسلمين وبالمسلمين ليكون مؤثرًا في المسلمين وغير المسلمين، وليس محصورًا ضمن دوائر ضيقة.

فإذا أراد داعية أو مؤسسة دعوية أن تنشط أكثر بعد خمول وركود فعليها بروح الدعوة وبهذه الثلاثة الواردة في الآية:

1- سلامة القصد والمنطلق والهدف.

2- القدوة الحسنة في الذات والإنجاز.

3- اتّساع دائرة الخطاب والفعل والأداء.

فسلامة القصد والهدف والمنطلق يحتاج إلى استغفار وتوبة وتجديد نية.

والقدوة الحسنة في الذات والإنجاز تحتاج إلى مشاريع والتزام ومجاهدة نفس ودأب في العمل.

واتساع دائرة الخطاب والفعل والأداء يحتاج إلى فكر وعلم ومرونة وسعة أفق (8).

قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيتًا فَأَحيَينَاهُ وَجَعَلنَا لَهُ نُورًا يَمشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظٌّلُمَاتِ لَيسَ بِخَارِجٍ مِّنهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ} [الأنعام: 122].

فهذا مثل للذي هداه الله بعد الضلالة، وأضاء بصيرته بنور الحجج والآيات، يتأمل بها الأشياء فيميز بين الحق والباطل، ويجد الإنسان في قلبه هذا النور، فتتكشف له حقائق الوجود وحقائق الحياة وحقائق الناس وحقائق الأحداث التي تجري في هذا الكون وتجري في عالم الناس، ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضوح في كل شأن وفي كل أمر وفي كل حدث، يجد الوضوح في نفسه وفي نواياه وخواطره وخطته وحركته، ويجد الوضوح فيما يجري حوله، سواء من سنة الله النافذة أو من أعمال الناس ونواياهم وخططهم المستترة والظاهرة، ويجد تفسير الأحداث والتاريخ في نفسه وعقله وفي الواقع من حوله كأنه يقرأ من كتاب، ويجد الإنسان في قلبه هذا النور فيجد الوضاءة في خواطره ومشاعره وملامحه، ويجد الراحة في باله وحاله وقاله، ويجد الرفق واليسر في إيراد الأمور وإصدارها وفي استقبال الأحداث واستدبارها، ويجد الطمأنينة والثقة واليقين في كل حالة وفي كل حين (9).

إن النفس لا يقوى إيمانها بالله، ولا تنبعث فيها روح الدعوة إلى الله، ولا ينقدح بين جوانبها التبيلغ والنذارة لهذا الدين، ولا يقوى ولاؤها لله، ولا براؤها من أعدائه، ولا تهفو للجهاد في سبيل الله؛ إلا إذا كانت دعائم التوحيد فيها راسخة، وصلابة الإيمان في جذورها متعمقة، فينتج من ذلك قوة العمل لهذا الدين، وعلو الهمة في بثه بين أنحاء المعمورة، وصلابة الإرادة في ذلك، وقوة الصبر على ما تواجهه من مصاعب وعراقيل، إثر قيامها بالتعليم، وتبليغ دين رب العالمين {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 32].

***

_____________

(1) في ظلال القرآن (3/ 1365).

(2) في ظلال القرآن (1/ 44).

(3) التجديد بين الرفض والقبول، منتديات الألوكة.

(4) تجديد الخطاب الدعوي التحديات والآمال، مجلة البيان (العدد: 314).

(5) روح الدعوات/ رابطة العلماء السوريين.

(6) في ظلال القرآن (6/ 3984- 3985).

(7) في ظلال القرآن (2/890).

(8) روح الدعوات/ رابطة العلماء السوريين.

(9) في ظلال القرآن (3/ 1201).