logo

أصناف المدعوين


بتاريخ : الأربعاء ، 7 رمضان ، 1436 الموافق 24 يونيو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
أصناف المدعوين

إذا وفق الله تعالى الداعية إلى العلم الشرعي، ونال نصيبًا وافرًا منه، فإن الواجب عليه أن يعرف كيفية أداء هذا العلم، والطريق المناسبة التي يبلغ بها الدين، وهذا لا يتم إلا بمعرفة أصناف المدعوين، ومستويات ثقافتهم، والبصيرة بحالهم، وكيفية دعوتهم.

 

فاستقبال المدعوين للدعوة إلى الله ليس على صورة واحدة مطردة، ولكنهم ينقسمون إلى أصناف عديدة؛ فمنهم من يرضى بها، ويُقبل عليها ويتفاعل معها، ويستجيب لأصحابها، ويثني عليهم، ويتقبل كلامهم، ويدعو لهم، وهذا الصنف الطيب الخيِّر موجود بكثرة بين جماهير الناس.

 

ومنهم من يغلق قلبه أمامها، ويصمّ أذنيه عن سماعها، ويعرض ويدبر ويتولى، ويرفض أن يتفاعل معها.

 

ومنهم من يرفضها ويتوجه إلى الداعين بالاتهام والسخرية والاستهزاء والانتقاد.

 

ومنهم مَن يرفض الدعوة ويتهم أصحابها، ثم يوقع بهم من الإيذاء والتعذيب والاضطهاد ما يوقع.

 

ولقد ذكر الله في كتابه ثلاثة أجناس من البشر، وهم: المؤمنون، والكفار، والمنافقون.

 

فالمؤمنون يسعون لزيادة الإيمان والأعمال الصالحة، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال:2-4]، فهؤلاء في أعلى المراتب، فلهم السعادة في الدنيا، والجنة في الآخرة.

 

والكفار يعملون لزيادة الكفر والمعاصي، والتمتع بالشهوات، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد:12]، فهؤلاء في أخس المراتب، ولهم جميعًا الشقاء في الدنيا، والنار في الآخرة.

 

والمنافقون، وهؤلاء أخطر من الكفار، فهم مع المسلمين بألسنتهم، ومع الكفار بقلوبهم، يكيدون للإسلام وأهله من الداخل، كما قال سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].

 

فهؤلاء في النار في أسفل سافلين، وفي الدنيا في شقاء ورعب، يحسبون كل صيحة عليهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145](1).

 

وهناك تصنيف آخر بينه الله تعالى في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32].

 

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «يقول الله تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدّق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه الأمة، ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال: فمنهم ظالم لنفسه؛ وهو المفرِّط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات، فمن ترك الواجب فقد ظلم نفسه، ومن فعل المحرم فقد ظلم نفسه؛ ولذلك لما أكل الأبوان من الشجرة قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، ولما قتل موسى عليه السلام القبطي قال: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، فالظالم لنفسه هو المفرط في فعل بعض الواجبات، المرتكب لبعض المحرمات.

 

ومنهم مقتصد؛ وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات.

ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله؛ وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات(2).

 

والمسلمون جميعًا، بأقسامهم الثلاثة، يُدْعون إلى الله عز وجل، يُدعى الظالم لنفسه ليتوب من ظلمه، ويدعى المقتصد ليجتهد في فعل الواجبات وترك المحرمات، وليستزيد من النوافل وترك المكروهات، ويُدعى السابق بالخيرات بإذن الله تقربًا إلى الله ليثبت على ما هو عليه، ويزداد منه.

 

وعن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة، قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماءً، ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أُرْسِلت به»(3).

 

فالأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس؛ فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميتًا، وينبت الكلأ، فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس؛ يبلغه الهدى والعلم فيحفظه، فيحيا قلبه، ويعمل به ويعلمه غيره، فينتفع وينفع.

 

النوع الثاني من الأرض ما لا يقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة؛ وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس؛ لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.

 

النوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم فلا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم(4).

 

قال المهلب: «فيه ضرب الأمثال في الدين والعلم والتعليم، وفيه أنه لا يقبل ما أنزل الله من الهدى والدين إلا من كان قلبه نقيًا من الإشراك والشك، فالتي قبلت العلم والهدى كالأرض المتعطشة إليه، فهي تنتفع به فتحيا فتنبت، فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وعت العلم حيت به، فعملت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه، ومن الناس من قلوبهم متهيئة لقبول العلم لكنها ليس لها رسوخ، فهي تقبل وتمسك حتى يأتي متعطش فيروى منها، ويرد على منهل يحيا به، وتسقى به أرض نقية فتنبت وتثمر، وهذه حال من ينقل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه، ومنها قيعان؛ يعنى قلوبًا تسمع الكلام فلا تحفظه ولا تفهمه، فهي لا تنتفع به ولا تنبت شيئًا، كالسباخ المالحة التي لا تمسك الماء ولا تنبت كلأً»(5).

 

وقال الخطابي: «هذا مثل ضُرِب لمن قبل الهدى وعلم، ثم علَّم غيره فنفعه الله ونفع به، ومن لم يقبل الهدى فلم ينفع بالعلم ولم ينتفع به».

 

قلت: فعلى هذا لم يجعل الناس على ثلاثة أنواع؛ بل على نوعين.

 

وقال الطيبي: القسمة الثنائية هي المتصورة، وذلك أن «أصاب منها طائفة» معطوف على «أصاب أرضًا»، وكانت الثانية معطوفة على كان لا على أصاب، وقسمت الأرض الأولى إلى النقية وإلى الأجادب، والثانية على عكسها،... فالحاصل أنه قد ذكر في الحديث الطرفان العالي في الاهتداء والعالي في الضلال، فعبر عمن قبل هدى الله والعلم بقوله: «فقه»، وعمن أبى قبولها بقوله: «لم يرفع بذلك رأسًا»؛ لأن ما بعدها وهو: نفعه... إلى آخره، في الأول.

 

ولم يقبل هدى الله... إلى آخره، في الثاني عطف تفسيري لفقه، ولقوله: «لم يرفع»، وذلك لأن الفقيه هو الذي علم وعمل، ثم علم غيره وترك الوسط، وهو قسمان: أحدهما: الذي انتفع بالعلم في نفسه فحسب، والثاني: الذي لم ينتفع هو بنفسه، ولكن نفع الغير.

 

وقال المظهري في (شرح المصابيح): اعلم أنه ذكر في تقسيم الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين: أحدهما من فقه ونفع الغير، والثاني من لم يرفع به رأسًا.

 

وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه ينتفع به، والثاني هو ما لا ينتفع به، وكذلك الناس قسمان: من يقبل ومن لا يقبل.

 

وهذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين: من ينتفع به ومن لا ينتفع.

 

وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به ولم يبلغ درجة الإفادة، ومنهم من يقبل ويبلغ، ومنهم من لا يقبل».

 

وقال الكرماني: «ويحتمل لفظ الحديث تثليث القسمة في الناس أيضًا، بأن يقدر قبل لفظة (نفعه) كلمة (مَن)، بقرينة عطفه على: مَن فقه، كما في قول حسان رضي الله عنه:

 

أمن يهجو رسول الله منكم   ويمدحه وينصره سواء؟

 

إذ تقديره: ومَن يمدحه، وحينئذ يكون الفقيه بمعنى العالم بالفقه مثلًا في مقابلة الأجادب، والنافع في مقابلة النقية على اللف والنشر غير المرتب، ومن لم يرفع في مقابلة القيعان.

 

فإن قلت: لم حذف لفظة: من؟ قلت: إشعارًا بأنهما في حكم شيء واحد، أي: في كونه ذا انتفاع في الجملة كما جعل للنقية والأجادب حكمًا واحدًا، ولهذا لم يعطف بلفظ أصاب في الأجادب». انتهى.

 

وقال النووي: «معنى هذا التمثيل أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس؛ فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فتحيا بعد أن كانت ميتة، وتنبت الكلأ فينتفع به الناس والدواب، والنوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه ويحيا قلبه، ويعمل به، ويعلمه غيره فينتفع وينفع.

 

والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها، لكن فيها فائدة؛ وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع به الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس؛ لهم قلوب حافظة، لكن ليست لهم أذهان ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس لهم اجتهاد في العمل به، فهم يحفظونه حتى يجيء أهل العلم للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم.

 

والثالث من الأرض هو السباخ التي لا تنبت، فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذلك الثالث من الناس: ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم.

 

الأول: المنتفع النافع، والثاني: النافع غير المنتفع، والثالث: غير النافع وغير المنتفع، فالأول إشارة إلى العلماء، والثاني إلى النقلة، والثالث إلى من لا علم له ولا نقل... تقسيم الأرض وإن كان ثلاثة بحسب الظاهر، ولكنه في الحقيقة قسمان؛ لأن النوعين محمودان والثالث مذموم، وتقسيم الناس نوعان: أحدهما ممدوح، أشار إليه بقوله: «مثل من فقه في دين الله تعالى» الخ، والآخر مذموم، أشار إليه بقوله: «ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا»، وما ذكره الكرماني تعسف، وهذا التقدير الذي ذكره غير سائغ في الاختيار، وباب الشعر واسع.

 

وأيضًا يلزمه أن يكون تقسيم الناس أربعة: الأول: قوله: «مثل من فقه في دين الله تعالى»، والثاني: قوله: «ونفعه ما بعثني الله به»، والثالث: قوله: «ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا»، والرابع: «ولم يقبل هدى الله»(6).

 

ويمكن تقسيم المدعوين من كل مجتمع بشري بحكم أوضاعهم الاجتماعية والفكرية، ومستوياتهم الثقافية والعلمية، ومكانتهم في المجتمع من حيث السلطة، أو الجاه، أو المال، أو مدى استجابتهم لدعوة الحق، إلى أربعة أنواع:

 

النوع الأول: الملأ:

 

وهم القادة من رؤساء القوم وأعيان البلد وسادة المجتمع، وهم أصحاب النفوذ والجاه والسلطة في البلاد، وكانوا هم الذين يتولون مقاومة دعوة الرسل الكرام في كل مكان وزمان، وأطلق القرآن على هذه الطبقة من الناس كلمة الملأ؛ لأنهم هم البارزون في المجتمع، وفي أيديهم قيادة الناس والرئاسة، ومن الصفات الغالبة فيهم التكبر وحب الجاه والرئاسة، والتهافت على متع الدنيا، والغفلة عن الدار الآخرة، وهذه الصفات تمنحهم من قبول الدعوة الإصلاحية خوفًا من تأثيرها على مكانتهم، وترفهم، ومركزهم المتوارث.

 

وعلى الداعي أن يتبع في المعاملة مع هذا النوع من الناس مناهج الرسل الكرام، مستنيرًا بقصصهم الواردة في القرآن الكريم، قال تعالى في قصة نوح عليه السلام {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)} [الأعراف:59-62].

 

ولا يخلو مجتمع من هذا النوع من الناس في كل زمان ومكان، ويقفون غالبًا في وجه دعوة الحق والدعاة إليه؛ إما بدافع من الكبر، أو حب الرياسة على الناس، وخوفهم أن تسلبهم هذه الدعوة الإصلاحية مكانتهم، وتفقدهم مركزهم القائم في المجتمع، ومنهم جماعة أخرى تقاوم دعوة الإصلاح بسبب الجهل والغباوة، ولا يسمح لهؤلاء تقليدهم الأعمى لآبائهم وأجدادهم لاتباع الذين يدعونهم لإصلاح ما أفسده التقليد، وترك الضلال الذي تفشى في أوساطهم، وترسخ في نفوسهم بطول الأمل، وخفة العقل، وسفاهة النفس.

 

ومن ثم ندرك طرفًا من الأسباب الحقيقة التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة، فهم كانوا يدركون، ولا ريب، أن هذا الأمر الجديد، الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير، ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة، بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان...، كلا، لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجًا يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم، ومصالحهم، ومراكزهم.

 

وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية، ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي، وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية؛ ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها، لا قبل الهجرة ولا بعدها، الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها في وجه الأوضاع الإسلامية، لا عن مجرد الاعتقاد والتصور المجردين(7).

 

والنوع الثاني: المنافقون والمداهنون:

 

الذين يتظاهرون بقبول الدعوة رغبة في التقرب إلى المسلمين الصالحين، الذين يستجيبون لدعوة الإسلام، ونظرًا للاحتفاظ ببعض المصالح الذاتية، وفي الوقت نفسه يظهرون الولاء للسادة الذين يضمرون العداء للدعوة الإصلاحية، ويتوددون إليهم خوفًا من ضياع قربتهم إلى هؤلاء السادة، واستصغارًا لشأن متبعي دعوة الحق والإصلاح، وموقفهم أشبه بموقف المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، الذين قال الله تعالى في شأنهم: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14].

 

والمنافق الذي يخفي الكفر في الباطن، ويظهر الإسلام في الظاهر؛ أشد ضررًا من الكافر المعاند عن المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية؛ لأنه عدو خفي، يخدع المسلمين بتظاهره وفتنته، فهو إذن أسوأ من العدو الظاهر خطرًا، وأما الذين يتبررون ببعض صفات المنافقين بحجة لوازم المجاملة، أو من حسن الآداب بدون إيذاء للمسلمين وخداعهم في الخفاء، أو الاشتراك سرًا في المؤامرات التي يحيكها بعض المعارضين وأصحاب الأهواء ضد الدعوة الإصلاحية، فيعامل بالحكمة وبالحسنى حتى يزول من قلبه الضعف والخوف من المكانة والجاه، ويقوي فيه الإيمان بالله والإخلاص له، ولا يرمي بالنفاق والردة جزافًا، ولا يخرج من صفوف المؤمنين بلا روية ولا عجل، وأن علينا الحكم بالظاهر، ويعلم الله ما في القلوب.

 

والنوع الثالث: أهل المعصية:

 

الذين يرتكبون المعاصي، ويخالفون أوامر الشرع، مع الإعلان بالإيمان بالله ورسوله وكتابه، والإقرار بالشهادتين؛ ولكنهم متهاونون في أداء حقوق هذا الإيمان وهذه الشهادة، ولم يصدر منهم إنكار شيء معلوم في الإسلام بالضرورة، أو نطق بكلمة كفر، أو خروج على جماعة المسلمين، وعلى الداعي أن ينظر إلى أهل المعاصي نظرة تعقل لأسباب سقوطهم في هذه المعاصي، ونظرة شفقة لتخليصهم من هذه الهاوية، وأن الداعي الواعي لتحقيق هذه الغاية النبيلة لا يحتقرهم افتخارًا بنفسه عليهم بطاعته على معاصيهم، ولا يُعيِّرهم علنًا، ولا يشمت بهم؛ بل يتخذ الوسائل اللازمة بحكمة ويقظة لهدايتهم وإصلاحهم، وجعلهم أعضاء صالحين في المجتمع الإسلامي المثالي الذي يعمل لإيجاده؛ لأن احتقارهم وتشنيعهم علنًا سوف يؤدي إلى تقوية جرثومة المعصية، والاستهانة بالداعي، وإلحاق الأذى به.

 

وينبغي للداعي أن يتذكر دائمًا ما جاء في الحديث الشريف عن المسلم العاصي: «كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»(8)، وأن المسلم غير معصوم من المعصية، وأن الأنبياء والرسل هم المعصومون من الخطايا، وإذا وقع مسلم في معصية فعليه أن يسارع إلى التوبة ويقلع عن معصيته، ويعزم على ألا يعود إليها أبدًا، ويعصي المسلم إما بسبب ضعف في إيمانه، أو بجهل، أو بغفلة بدافع من إغراءات للشيطان، أو شهوات الدنيا، وأن الداعي يعمل معهم مثل الطبيب الخبير؛ فيكشف أصل الداء ثم يُشعر المريضَ بالمرض الذي ابتلي به، ثم يدفعه لتناول الدواء الذي يصفه له؛ لإنقاذ نفسه من التهلكة، ويستعيد صحته كاملة، ثم يتعهد بحالة مريضه من حين إلى آخر، حتى يتأكد من مراعاته لإرشاداته، ونجاته من زلاته.

 

النوع الرابع:عامة الناس:

 

وهم جماهير الشعب، ما عدا الرؤساء والأعيان، الذين هم في العادة قلة، وأما ما عداهم فهم أكثرية الناس في أي مجتمع بشري في العالم، ويكونون غالبًا على الفطرة، ولم تفسد نفوسهم بحب الرئاسة وشهوة الجاه والسلطة، كما يكونون عادة من الطبقات العاملة التي تباشر مختلف أنواع الحرف والمهن، ومنهم أيضًا طبقة الفقراء والمساكين والكادحين، وهؤلاء الأصناف من الناس أسرع من غيرهم إلى الاستجابة إلى دعوة الحق، واتباع الدعاة إلى الخير.

 

ويتضح لنا من قصص الأنبياء والرسل أن الذين آمنوا بهم وصدقوا بنبوتهم هم الجمهور قبل غيرهم، والسبب الطبيعي لهذه الاستجابة السريعة منهم أنهم خالون من موانع القبول السريع، الموجودة في غيرهم من الأعيان والسادة والعصاة والمترفين؛ كحب الرياسة، وخوف ضياع المكانة التي توارثوها في المجتمع ظلمًا وباطلًا، والتكبر والتعالي عن انقياد الغير، والانغماس في الترف والأهواء النفسية، ولهذا تستنكف هذه الطبقة عن اتباع دعاة الإصلاح، وتستصغر شأن الذين يتبعونهم ويرمونهم بالسفاهة والاستكانة، كما يحبون المكائد لتضليلهم وإغوائهم.

 

وحكى الله سبحانه وتعالى قول الملأ من ثمود: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)} [الأعراف:75-76]، ويستطيع الملأ الذي بيده الجاه والمال والقوة أن يرهبوا الجمهور، ويثبطوا هممهم وعزائمهم بالإغراء بالمال والجاه، وبالتهديد بالإيذاء والبطش، وقال الله في شأن فرعون وملئه: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83]، وكذلك كان أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في مكة من الضعفاء، وقد نالهم من مشركي قريش أذى كثير(9).

 

ومن أصناف المدعوين أهلُ الصلاح والاستقامة:

 

لأن المسلم قد يخطئ ويحتاج إلى التنبيه والتوجيه؛ ولأن العصمة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولمن عصمه الله من عباده المخلصين؛ ولهذا، لما رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلًا على من دونه، وجهه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشده بقوله: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم»(10).

 

فينبغي للداعية أن يقبل النصيحة ممن وجهها إليه من العلماء والدعاة، أو حتى ممن هو دونه، وينبغي له ألّا يستحي من توجيه إخوانه الدعاة إلى الخير إذا رأى ما يوجب ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوَّابون»(11)، وهذا يؤكد أن كل مسلم يحتاج إلى توجيه ونصيحة مهما ارتفعت منزلته.

 

ومن أصناف المدعوين الزنادقةُ الملحدون:

 

فينبغي للداعية أن يُبَيِّن لهم الأدلة الفطرية على وجود الله عز وجل وربوبيته؛ لأن الفطرة: الخلقة التي خُلِق عليها المولود في بطن أمه، والدين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»(12)، واستدل أبو هريرة رضي الله عنه بعد سياقه للحديث بقوله تعالى: {فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم:30].

 

فينبغي للداعية أن يوضح للملحدين أن كل مولود يولد على نوع من الجبلة والطبع المتهيئ لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها، وإنما يعدل عنها من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد، وكل مولود يولد على معرفة الله والإقرار به، فلا تجد أحدًا إلا وهو يقر بأن له صانعًا، وإن سماه بغير اسمه، أو عبد معه غيره.

 

ويبين البراهين والأدلة العقلية؛ فإن هذه الأدلة لها التأثير البليغ في دعوة هؤلاء إلى الله عز وجل، وذكر الأدلة الحسية المشاهدة التي تدل على وجود الله، وربوبيته، وأنه الخالق لكل شيء، المستحق للعبادة.

 

ومن أصناف المدعوين الأهلُ والأقارب:

 

دعوة الأقربين من أهم المهمات، وأعظم القربات، وأولى الواجبات؛ ولهذا اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بتعليم ابنته فاطمة رضي الله عنها، وابن عمه وصهره علي رضي الله عنه هذا الذِّكْر العظيم: «إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين»(13)، فنفعهما الله به، ونفع به المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يستفاد من هذا الحديث حمل الإنسان أهله على ما يحمل عليه نفسه من التقلل والزهد في الدنيا، والقنوع بما أعد الله لأوليائه الصابرين في الآخرة»(14).

 

وهذا يؤكد العناية بدعوة الأهل والأقارب، وأنهم من أصناف المدعوين الذين ينبغي أن يعتني بهم الداعية عناية خاصة؛ لأن الله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

 

ومن أصناف المدعوين أشراف الناس:

 

إن أشراف الناس صنف من أصناف المدعوين؛ ولهذا تألفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاهم عطاءً خاصًا، مراعاة لأحوالهم، وإنزالًا لهم منازلهم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «وأعطى أناسًا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة»(15)، وهم من الطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، ومنهم من هو من المهاجرين، وقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بجماعة فأجزل لهم العطاء، منهم أبو سفيان، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، ومالك بن عوف، والأقرع بن حابس، وعلقمة بن علاثة، والعباس بن مرداس، وغيرهم، وقد أعطى كل واحد من هؤلاء مائة من الإبل.

 

فينبغي للداعية أن يعتني بدعوة أشراف الناس، ويخاطبهم على قدر مكانتهم ومنازلهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سلك هذا المنهج الحكيم، وأنزل كل إنسان منزلته(16).

_________________

(1) موسوعة الفقه الإسلامي (5/401).

(2)تفسير ابن كثير (6/546).

(3) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).

(4) شرح محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم (15/46).

(5) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (1/164).

(6) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، لبدر الدين العيني (2/79-80).

(7) في ظلال القرآن، سيد قطب (سورة المطففين).

(8) رواه الترمذي (2499).

(9) معرفة أنواع المدعوين وأثرها في نشر الدعوة، موقع الدكتور محيي الدين الألوائي.

(10) رواه البخاري (2896).

(11) رواه ابن ماجه (4251).

(12) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658).

(13) رواه البخاري (3113)، ومسلم (2727).

(14) فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر (6/216).

(15) رواه مسلم (1062).

(16) فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري، للقحطاني (2/702-974) باختصار شديد.