فقه الانكسار لله تعالى
إن عبادة الذل والانكسار بين يدي الله هي من أحب العبادات لله، وأكثر عبادة يحبها الله عز وجل، وإذا أردت أن يحبك الله بسرعة فادخل عليه سبحانه وتعالى بهذه الطريقة، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
الانكسار حالة تسيطر على القلب، يستشعر الإنسان خلالها بذله وافتقاره وعبوديته لله تعالى، والعبودية كما يرى العلماء من أعلى المقامات عند الله تعالى، وعندما يرى الله من عبده هذا الشعور بصدق، يغفر له ذنبه، ويفك كربه، ويقبل عبادته وطاعته.
قال سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق: 6- 7]، إن رؤية الإنسان لنفسه بعين الغنى تجره إلى الطغيان ومجاوزة الحد، فلا يليق بالمؤمن إلا الفقر، وهو أصل خلقته، ولكن هذا الفقر الداخلي يحتاج إلى استشعار حقيقي ليظهر أثره على الجوارح وفي الفكر والتعبد.
ومعلومٌ أن الفقر وصفٌ ذاتيٌّ لكل مخلوق، وصفٌ لازم له، كما أن الغنى وصفٌ ذاتي للخالق جل جلاله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]؛ فلا بد أن تُظهر فقرَك وذُلَّك وانكسارَك بين يديه سبحانه وتعالى.
يقول ابن القيم: إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلًا لله وانقيادًا وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه (1).
في عام فتح مكة، ذلك العام الذي أعز الله تعالى به نبيه وصحبه، وهزم الشرك وأذله، مما يستدعي العزة والأنفة والرفعة، كأي فاتح ومنتصر وفائز، ترى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في غاية الانكسار والتواضع والذل لله تعالى، لا في قلبه فحسب، بل في جوارحه التي تأثرت بما في القلب من تواضع وانكسار لله تعالى.
فقد ورد في كتب السيرة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز (2).
كم نحن اليوم بحاجة لهذه العبادة القلبية العظيمة، في وقت تزايدت فيه الكروب وادلهمت فيه الخطوب، وأصبحنا بأمس الحاجة لمن ينقذنا وينتشلنا مما نحن فيه، فأين نحن من الانكسار والتضرع لله تعالى في هذه الأوقات، وأين نحن من هذه العبادة القلبية في ظلمة الليل والسحر، حيث استجابة الدعاء وحلاوة المناجاة (3).
قال العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله: وهو مشهد الذل، والانكسار، والخضوع، والافتقار للرب جل جلاله، فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقارًا تامًا إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كسرة خاصة لا يشبهها شيء، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل، الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيمه، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلًا منه ولا كثيرًا، فأي خير له من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله.
قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، فهذا سجود القلب.
فقلب لا تباشره هذه الكسرة هو غير ساجد السجود المراد منه، وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح، وعنا الوجه حينئذ للحي القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذل العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرًا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يرى إلا متملقًا لربه، خاضعًا له، ذليلًا مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له، الذي لا غنى له عنه، ولا بد له منه، فليس له همّ غير استرضائه واستعطافه، لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه، ومحبته له، يقول: كيف أغضب من حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟ (4).
إن إظهارك الافتقار لله يستجلب لك رحمة الله وعفوه، فأنت فقير إلى الله، والله غني عنك وعن عملك، وكل ما تعمل من عمل إنما هو لنفع نفسك: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس: 108]، فالله سبحانه وتعالى لا تنفعه طاعة ولا تضره معصية، ولو أن خلقه كلهم أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجلٍ منهم؛ ما زاد ذلك في ملكه شيئًا، ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منهم؛ ما نقص ذلك من ملكه شيئًا.
والذل إما يكون من المحبوب لمحبوبه، وهو أكملها وأعلاها، أو ذل المملوك لمالكه، أو ذل الجاني بين يدي المنعم عليه، المحسن إليه، المالك له، أو ذل العاجز عن مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها، التي هي في يده وبأمره، سواء يذل له في أن يجلب له ما ينفعه، أو يذل له في أن يدفع عنه ما يضره على الدوام، ويدخل في هذا ذلّ المصائب كالفقر والمرض، وأنواع البلاء والمحن؛ فهذه خمسة أنواع من الذل، إذا وفاها العبد حقها، وشهدها كما ينبغي، وعرف ما يراد به منه، وقام بين يدي ربه مستصحبًا لها، شاهدًا لذله من كل وجه، ولعزة ربه وعظمته وجلاله، كان قليل أعماله قائمًا مقام الكثير من أعمال غيره. فالعبودية حقًا كمال الحب لله، مع كمال التعظيم له، مع كمال الذل له: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة: 54].
وقد جمع الإمام ابن القيم بين هذين الأمرين بقوله: مَنْ كملت عظمة الحق تعالى في قلبه؛ عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو دونه، ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونَفَس.
وأيضًا فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به؛ يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به (5).
ومن فقه الانكسار لله تعالى:
أولًا: غاية الذل لله تعالى مع غاية الحب: فالمؤمن يُسلم نفسه لربه منكسرًا بين يديه، متذللًا لعظمته، مقدمًا حبَّه سبحانه وتعالى على كل حب؛ طمأنينة نفسه، وقرَّة عينه، وسكينة فؤاده، أن يعفِّر جبهته بالأرض، ويدعو ربه رغبة ورهبة، قال ابن جرير الطبري: معنى العبادة: الخضوع لله بالطاعة، والتذلل له بالاستكانة (6).
قال الحسن رضي الله عنه: ما ضربتُ ببصري، ولا نطقتُ بلساني، ولا بطشتُ بيدي، ولا نهضتُ على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟ فإن كانت طاعة تقدمتُ، وإن كانت معصية تأخرتُ (7).
وأمّا مَنْ طاشت به سبل الهوى، ولم يعرف الله عز وجل حق المعرفة؛ رأيته يستنكف الاستسلام لربه عز وجل، ويستكبر فلا يخضع له، قال الله تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (173)} [النساء: 172- 173]، ويقول الله تعالى في وصف المؤمنين: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كلما ازداد القلب حبًّا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه (8).
وقال ابن القيم: إنَّ مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلًا لله وانقيادًا وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه (9).
ثانيًا: التعلّق بالله تعالى وبمحبوباته: فشعور العبد بفقره وحاجته إلى ربه عز وجل يدفعه إلى الاستكانة له والإنابة إليه، ويتعلق قلبه بذكره وحمده والثناء عليه، والتزام مرضاته، والامتثال لمحبوباته.
قال بعض الصالحين: مفاوز الدنيا تُقطع بالأقدام، ومفاوز الآخرة تُقطع بالقلوب (10).
ولهذا ترى العبد الذي تعلق قلبه بربه وإن اشتغل في بيعه وشرائه، أو مع أهله وولده، أو في شأنه الدنيوي كله مقيمًا على طاعته، مقدمًا محبوباته على محبوبات نفسه وأهوائها، لا تلهيه زخارف الدنيا عن مرضاة ربه، قال الله تعالى: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
وثبت في الصحيحين أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظلّه ..»، وذكر منهم: «رجل قلبه معلَّق في المساجد» (11).
قال الحافظ ابن حجر: إشارة إلى طول الملازمة بقلبه وإن كان جسده خارجًا عنه (12).
ويصف الإمام ابن القيم الافتقار إلى الله تعالى بقوله: يتخلى بفقره أن يتألَّه غير مولاه الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يُفرق همومه في غير محابه، وأن يُؤْثر عليه في حال من الأحوال، فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله، وخلوص الود، فيصبح ويمسي ولا هّم له غير ربه، فقد قطع همُّه بربه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع الإرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه (13).
ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة، فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه؛ فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم (14).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: كل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له؛ يبقى قلبه أسيرًا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه.
فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقًا مستعبدًا متيمًا لغير الله؛ فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب، ثم قال: ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له؛ لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب (15).
وقال الإمام ابن القيم: أعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله، فإنَّ ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه؛ أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت (16).
ثالثًا: مداومة الذكر والاستغفار: فقلب العبد المؤمن عاكف على ذكر مولاه، والثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى في كل حال من أحواله، دائم التوبة والاستغفار عن الزلل أو التقصير، يجد لذته وأنسه بتلاوة القرآن، ويرى راحته وسكينته بمناجاة الرحمن، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} [الرعد:28].
وقد وصف الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر: 9].
وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190-191].
كما أمر الله عز وجل نبيه بمداومة الذكر والاستغفار، فقال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [غافر: 55].
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة» (17).
وقال عليه الصلاة والسلام: «والله إني لأستغفر الله وأتوب في اليوم أكثر من سبعين مرة» (18)، وقال: «إنه ليُغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة» (19).
إنَّ مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى، فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلئ قلبه مسكنة وإخباتًا، ويرفع يديه تذللًا وإنابة؛ فهو ذاكر لله تعالى في كل شأنه، في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه، بل حتى عند إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار لعون الله تعالى وفضله، لا يغفل ساعة ولا أدنى من ذلك عن الاستعانة به والالتجاء إليه.
ومقتضى ذلك أنه لا يركن إلى نفسه، ولا يطمئن إلى حوله وقوته، ولا يثق بماله وجاهه وصحته، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «اللهم لا تكلهم إليَّ فأضعف، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم» (20).
وعن أبي بكرة رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو؛ فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، أصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت» (21).
إنَّ حمد الله تعالى وشكره، والثناء عليه بما هو أهله، مع الاعتراف بالذنب والعجز؛ يعمّر القلب بالنور، ويوجب له الطمأنينة والسعادة، وما أجمل كلام الإمام ابن القيم عندما قال: إن في القلب خلة وفاقة لا يسدَّها شيء ألبته إلا ذكر الله عز وجل، فإذا صار الذكر شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة، واللسان تبع له، فهذا هو الذكر الذي يسدّ الخلة ويغني الفاقة، فيكون صاحبه غنيًا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، فإذا كان غافلًا عن ذكر الله عز وجل؛ فهو بضد ذلك، فقير مع كثرة جدته، ذليل مع سلطانه، حقير مع كثرة عشيرته (22).
رابعًا: الوجل من عدم قبول العمل: فمع شدة إقبال العبد على الطاعات، والتقرب إلى الله بأنواع القربات؛ إلا أنه مشفق على نفسه أشد الإشفاق، يخشى أن يُحرم من القبول، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟! قال: «لا يا ابنة الصديق؛ ولكنهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا يقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات» (23)، فعلى الرغم من حرصهم? لى أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم، ولا يدلون بها على ربهم، بل يزدرون أعمالهم، ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلًا، يخشون أن ترد أعمالهم عليهم، والعياذ بالله، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى الله يسألونه أن يتقبل منهم. وتتأكد هذه الحقيقة عند أهل الإيمان بأربعة أمور: الأول: أنَّ الله عز وجل غني عن طاعات العباد: فاللّه جل وعلا غني عن عباده، وليس في حاجة إلى عبادتهم وطاعاتهم، قال الله عز وجل: {وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12]، وقال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وقال تعالى: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [إبراهيم:8].
قال قتادة وغيره من السلف: إنَّ الله سبحانه لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته إليه، ولا نهاهم عنه بخلًا منه، بل أمرهم بما فيه صلاحهم، ونهاهم عما فيه فسادهم (24).
الثاني: أنَّ قبول الأعمال إنما هو من فضل الله ورحمته: ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا أدري وأنا رسول الله ما يفُعل بي ولا بكم» (25).
قال الإمام ابن القيم: كلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله، وعرفت النفس، وتبيَّن لك أنَّ ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت بعمل الثقلين؛ خشيت عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده وتفضله (26).
وكلما شعر العبد بهذه الحقيقة بانت له عظمة الخالق جل وعلا، وعرف مقدار نفسه، وهكذا ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، فها هو ذا أجلّهم وأعلاهم منزلة أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، والنبي صلى الله عليه وسلم أعرف الناس بصاحبه ومع ذلك قال له: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (27).
إنها تربية ربانية تحدُّ من استعلاء العبد، وتجعله دائم الافتقار لربه، دائم الانكسار بين يديه، وإذا كانت هذه هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنهما وهو مَنْ هو إمامة وجلالة وجهادًا ونصرة لدينه وذبًا عن نبيه؛ فكيف يكون حالنا ونحن المذنبون المفرطون؟!
وكنتُ أعجب من حال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف يخشى النفاق على نفسه، وهو الفاروق الذي بشّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة؟! ثم عرفت أن العبد كلما ازداد عبودية وافتقارًا إلى ربه ازداد ازدراء للنفس وخوفًا عليها، وتعلق قلبه بربه سبحانه وتعالى.
قال ابن رجب الحنبلي: كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق، ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة (28).
الثالث: أن المنة لله جميعًا: فالمؤمن ينسب ما به من نعمة، وما عنده من طاعة؛ إلى ربه ومولاه عز وجل، فله الفضل والمنة، ولا يزعم أن ذلك من حوله وكده وجهده، قال الله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]، وقال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَان} [الحجرات: 17].
وفي الحديث القدسي: «قال الله تعالى: يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم» (29).
ومن عجائب آي الذكر الحكيم: ما ورد في مطلع سورة المدثر، فعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالنذارة بادئ الأمر، وُضِّح له طبيعة الطريق، فقال عز وجل: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]، إنها وصية واضحة لا غموض فيها، تجرد العبد من استعلائه وإدلاله على ربه؛ تملأ القلب مهابة وإجلالًا لله عز وجل صاحب الفضل والمنَّة.
ومن لطائف هذا الباب أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما طُعن وجعل يألم، قال له عبد الله بن عباس مواسيًا: يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذاك، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته، ثم فارقته وهو عنك راض، ثم صحبت صحبتهم فأحسنت صحبتهم، ولئن فارقتهم لتفارقنهم وهم عنك راضون.
وبعد هذا الثناء العظيم على أمير المؤمنين رضي الله عنه؛ تأمّل جوابه عندما قال لابن عباس: أمّا ما ذكرت من صحبة رسول صلى الله عليه وسلم ورضاه: فإنما ذلك منٌّ من الله تعالى عليَّ، وأمّا ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه: فإنما ذاك منٌّ من الله جل ذكره منَّ به عليَّ، وأمّا ما ترى من جزعي: فهو من أجلك وأجل أصحابك، والله! لو أنَّ لي طلاع الأرض ذهبًا لافتديت به من عذاب الله عز وجل قبل أن أراه (30).
الرابع: أنَّ العبد لا يأمن على نفسه الفنة: فقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء» (31).
فالعبد مهما بلغت منزلته لا يأمن على نفسه الفتنة، ويخشى أن تجرفه رياح الأهواء والفتن، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم مصرف القلوب صرِّف قلوبنا على طاعتك» (32).
فإمام المتقين يتضرع إلى الله عز وجل بهذا الدعاء افتقارًا إلى الله تعالى، فكيف بنا ونحن الفقراء المحاويج؟! ومن كان لا يأمن على نفسه رأيته أشد وجلًا على نفسه، وأشد انكسارًا بين يدي مولاه العظيم سبحانه وتعالى.
ولهذا فإن من أدرك هذه الحقائق الأربعة؛ علم أنَّ إعجاب المرء بطاعته وإدلاله بها على ربه من أعظم الأدواء والآفات التي تُسقط العبد، وتجعله على شفا جرف من الضلال والانتكاس، والعياذ بالله.
قال مطرف بن عبد الله الشخّير: لأن أبيت نائمًا وأصبح نادمًا؛ أحبّ إليَّ من أن أبيت قائمًا فأصبح معجبًا (33).
وقال الإمام ابن القيم: إنك إن تبيت نائمًا وتصبح نادمًا؛ خير من أن تبيت قائمًا وتصبح معجبًا، فإن المعجب لا يصعد له عمل، وإنك إن تضحك وأنت معترف خير من أن تبكي وأنت مدل، وأنين المذنبين أحب إلى الله من زجل المسبّحين المدلين، ولعلَّ الله سقاه بهذا الذنب دواء استخرج به داءً قاتلًا هو فيك ولا تشعر (34).
خامسًا: خشية الله في السرَّ والعلن: الخوف من الله تعالى من أجلّ صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2]، وقال عز وجل: {وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34- 35]، وخشيته عز وجل في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه، فمن عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته، وسلطانه الذي لا يقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى (41)} [النازعات: 40- 41].
وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14]، ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقاً، دائم المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} [الزمر: 9]، وقال سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16]، وقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، قال الحسن البصري: تجري دموعهم على خدودهم فَرَقًا من ربهم (35).
وتأمل معي قول الحق جلَّ وعلا: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107-109].
فهو الافتقار التام لله عز وجل، والانكسار بين يديه تذللًا وإنابة، قال الأستاذ سيد قطب: إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا}، ثم تنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق وعده: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا}، ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوّره الألفاظ (36).
وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب؛ لأن القلب لا يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلى ما سواه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49]. وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33)} [ق: 31- 33].
والخوف من الله عز وجل عبادة قلبية تدفع العبد إلى الحرص والجدية والإقبال على الطاعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خاف أدلج، ومَنْ أدلج بلغ المنزل» (37)، ولهذا قال الحافظ عبيد الله بن جعفر: ما استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله (38).
وأحسب أن الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية لو فقهوا هذه المسألة حق الفقه، والتزموها في مناهج التربية والحركة والإصلاح؛ لأثمر ذلك انضباطًا كبيرًا في خططهم الدعوية والإصلاحية، ولساروا على جادة الصراط المستقيم، ولكن مع الأسف الشديد قلَّ عند بعضهم تعظيم النصوص الشرعية، وأصبحت القوالب الحزبية والمصالح المتوهمة هي المعيار الذي توزن به شؤون الدعوة (39).
***
__________________
(1) مفتاح دار السعادتين ومنشور ولاية العلم (1/ 289).
(2) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (4/ 78).
(3) العبادة المهجورة/ موقع المسلم.
(4) مدارج السالكين (1/ 427- 429).
(5) مدارج السالكين (1/ 144- 145).
(6) تفسير ابن جرير (1/155).
(7) جامع العلوم والحكم، (1/155).
(8) مجموع الفتاوى (10/ 193- 194).
(9) مفتاح دار السعادة (1/ 500).
(10) شذرات الذهب (2/ 326).
(11) أخرجه البخاري (660)، ومسلم (1031).
(12) فتح الباري (2/ 145).
(13) طريق الهجرتين (ص: 18).
(14) طريق الهجرتين (ص: 70).
(15) مجموع الفتاوى (10/ 185- 187).
(16) مدارج السالكين (1/ 458).
(17) أخرجه مسلم (2702).
(18) أخرجه البخاري (6307).
(19) أخرجه مسلم (2702).
(20) أخرجه أحمد (2487)، وأبو داود (2535).
(21) أخرجه أحمد (20429)، وأبو داود (5090).
(22) الوابل الصيب (ص: 139).
(23) أخرجه أحمد (25263)، والترمذي (3175).
(24) قاعدة في المحبة (ص 255).
(25) أخرجه البخاري (1243).
(26) مدارج السالكين (1/ 176).
(27) أخرجه البخاري (834)، ومسلم (2075).
(28) جامع العلوم والحكم (1/ 117).
(29) أخرجه مسلم (2577).
(30) أخرجه البخاري (3692).
(31) أخرجه مسلم (2654).
(32) المصدر السابق.
(33) الزهد (ص: 151).
(34) مدارج السالكين (1/177).
(35) الخشوع في الصلاة (ص: 31).
(36) في ظلال القرآن، (5/2254).
(37) أخرجه الترمذي (2450).
(38) سير أعلام النبلاء (6/ 9).
(39) الافتقار إلى الله لبّ العبادة/ أحمد بن عبد الرحمن الصويان.