القصة التربوية
تبقى الكلمات ثقيلة على الآذان، بعيدة عن الإحساس والمشاعر، خالية من العواطف، باردة من التصور؛ حتى تأتي القصة المعبرة في ثيابها الشفافة، فيصل المعنى بيسر وسهولة دون تكلف أو تعنت، فلا يمل من الحديث مستمع، ولا يسأم من الكلام مخاطب، ولذا كان الأسلوب القصصي أجدى نفعًا وأكثر فائدة؛ فالقصة أمر محبب للناس، وتترك أثرها في النفوس.
والقصة تشرح لنا ما يراد من المعاني بالأمثلة التي تجسد الواقع في صورة الماضي المعروف سلفًا ليرسخ في ذهن المتلقي فلا ينساه.
عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا، فانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق»(1).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوصل الغرض من رسالته وأهمية التمسك بها، فجاء بقصة مجسدة لمثل حالته فأبانت ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم تبليغه لأصحابه.
وللقصة في التربية الإسلامية وظيفة تربوية لا يحققها لون آخر من ألوان الأداء اللغوي، ذلك أن القصة تمتاز بميزات جعلت لها آثارًا نفسية وتربوية بليغة محكمة، بعيدة المدى على مر الزمن، مع ما تثيره من حرارة العاطفة ومن حيوية وحركية في النفس، تدفع الإنسان إلى تغيير سلوكه وتجديد عزيمته بحسب مقتضى القصة وتوجيهها وخاتمتها والعِبرَةِ منها.
فالقصة أحد عناصر التوجيه المباشر في إطار أساليب التربية في الإسلام، وتختلف القصة عن غيرها من العناصر والأساليب بكون القصة تنتهي حتمًا إلى عبرة هي بمثابة موعظة تستنتج استنتاجًا، وغالبًا ما توصف القصة بالتشويق وسهولة الأسلوب وتسلسل الأحداث وترابطها، مما يساعد على تعلق السامع بالقصة والرغبة في الوصول إلى النهاية، الأمر الذي يجعل التربية بالقصة تربية مستدامة.
وإنما كان هذا الاهتمام البالغ بالقصة لما لها من أثر واضح في التوجيه والتربية وإيصال المفاهيم, إذ الإنسان يولع بالقصص ويميل بفطرته إليها، وإذا ما قص عليه جزء من قصة حرص علي متابعة أحداثها ليعرف مدي ما وصلت إليه، فغريزة حب الاستطلاع تعلق عين السامع وأذنه وانتباهه بشفتي القصصي البارع استشرافًا لمعرفة ما خفي من بقيتها, ومما يدل علي هذا الميل الفطري نحو القصة والرغبة في تتبع أحداثها؛ ما ورد عنه صلي الله عليه وسلم أنه لما ذكر قصة موسي مع الخضر قال النبي صلى الله عليه وسلم «يرحم الله موسى لو كان صبر لقص علينا من أمرهما»(2).
والقصة أسلوب تربية عملية يشد من أزر المتمسكين بالحق والثابتين عليه؛ أسوة بمن سبقوهم علي الطريق, ومن ثم كان النبي صلي الله عليه وسلم يوجه أصحابه إلي استقراء تاريخ الثابتين علي الحق إذا أراد أن يقوي عزائمهمويشد من أزرهم في مواجهة الصعاب.
فعن خباب بن الأرت قال: شكونا إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة, قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه, فيجاء بالمنشار فيوضع علي رأسه, فيشق اثنتين, وما يصده ذلك دينه, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه» (3).
إن القصة أداة سهلة الفهم تحظي بالقبول من العامة والخاصة علي السواء, ومن ثم فقد لازمت الإنسان منذ وجوده, ومازالت تؤدي دورها في عالمنا المعاصر بصورة كبيرة جعلتها صاحبة المكانة الأولي في عالم الأدب اليوم, وما من شك أن إقبال الناس علي القصص النبوي وتعلقهم بأحداثها يعمق مضامينها في نفوسهم، ويمكنهم من الاستيعاب الجيد والتأثر بالأحداث واستخراج العبر والعظات, فضلًا عن استنباط الأحكام الشرعية والقيم النبيلة من السنة النبوية والتي لا تختلف لدي الإنسان عبر الزمان والمكان (4).
فهذه الظاهرة الفطرية ينبغي للمربّين أن يفيدوا مِنها في مجالات التعليم، خاصة وأن إعلامنا أجرم عندما جعل من العاهرة بطلة ومن العاهر بطلًا، وإعلامنا أجرم كثيرًا في حق أبنائنا فلم يترك عاهرة إلا وصورها وعقد معها لقاء.
الميزات التربوية للقصة:
1- تشد القصة القارئ، وتوقظ انتباهه، دون توان أو تراخٍ، فتجعله دائم التأمل في معانيها والتتبع لمواقفها، والتأثر بشخصياتها وموضوعها حتى آخر كلمة فيها.
ذلك أن القصة تبدأ غالبًا، وفي شكلها الأكمل، بالتنويه بمطلب أو وعد أو الإنذار بخطر، أو نحو ذلك مما يسمى عقدة القصة، وقد تتراكم، قبل الوصول إلى حل هذه العقدة، مطالب أو مصاعب أخرى، تزيد القصة حبكًا، كما تزيد القارئ أو السامع شوقًا وانتباهًا، وتلهفًا على الحل أو النتيجة.
وما يسمى بالعقدة الفنية في القصة واضح في قصة يوسف؛ فهي تبدأ بالرؤيا كما سبق، ويظل تأويلها مجهولًا، يتكشف قليلًا قليلًا، حتى تجيء الخاتمة فتحل العقدة حلًا طبيعيًا لا تعمّل فيه ولا اصطناع! والقصة مقسمة إلى حلقات، كل حلقة تحتوي جملة مشاهد، والسياق يترك فجوات بين المشهد والمشهد يملؤها تخيل القارئ وتصوره، ويكمل ما حذف من حركات وأقوال، مع ما في هذا من تشويق ومتاع..
ففي قصة يوسف- كما جاءت في هذه السورة- تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، بقدر ما تمثل النموذج الكامل لهذا المنهج في الأداء النفسي والعقيدي والتربوي والحركي أيضًا.. ومع أن المنهج القرآني واحد في موضوعه وفي أدائه، إلا أن قصة يوسف تبدو وكأنها المعرض المتخصص في عرض هذا المنهج من الناحية الفنية للأداء! إن القصة تعرض شخصية يوسف- عليه السلام- وهي الشخصية الرئيسية في القصة- عرضًا كاملًا في كل مجالات حياتها، بكل جوانب هذه الحياة، وبكل استجابات هذه الشخصية في هذه الجوانب وفي تلك المجالات.
وتعرض أنواع الابتلاءات التي تعرضت لها تلك الشخصية الرئيسية في القصة وهي ابتلاءات متنوعة في طبيعتها وفي اتجاهاتها، ابتلاءات الشدة وابتلاءات الرخاء، وابتلاءات الفتنة بالشهوة، والفتنة بالسلطان، وابتلاءات الفتنة بالانفعالات والمشاعر البشرية تجاه شتى المواقف وشتى الشخصيات، ويخرج العبد الصالح من هذه الابتلاءات والفتن كلها نقيًا خالصًا متجردًا في وقفته الأخيرة، متجها إلى ربه بذلك الدعاء المنيب الخاشع كما أسلفنا في نهاية الفقرة السابقة.
وإلى جانب عرض الشخصية الرئيسية في القصة تعرض الشخصيات المحيطة بدرجات متفاوتة من التركيز.
وفي مساحات متناسبة من رقعة العرض، وعلى أبعاد متفاوتة من مركز الرؤية، وفي أوضاع خاصة من الأضواء والظلال)(5).
2- تتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة، متمثلة في أهم النماذج التي تريد إبرازها للكائن البشري، وتوجه الاهتمام إلى كل نموذج بحسب أهميته، فيُعرض عرضًا صادقًا يليق بالمقام ويحقق الهدف التربوي من عرضه، وتتعامل القصة مع النفس البشرية في واقعيتها الكاملة، متمثلة في نماذج متنوعة: نموذج يعقوب الوالد المحب الملهوف والنبي المطمئن الموصول.
ونموذج إخوة يوسف وهواتف الغيرة والحسد والحقد والمؤامرة والمناورة، ومواجهة آثار الجريمة، والضعف والحيرة أمام هذه المواجهة، متميزًا فيهم أحدهم بشخصية موحدة السمات في كل مراحل القصة ومواقفها..
ونموذج امرأة العزيز بكل غرائزها ورغائبها واندفاعاتها الأنثوية، كما تصنعها وتوجهها البيئة المصرية الجاهلية في بلاط الملوك، إلى جانب طابعها الشخصي الخاص الواضح في تصرفها وضوح انطباعات البيئة.. ونموذج النسوة من طبقة العلية في مصر الجاهلية! والأضواء التي تلقيها على البيئة، ومنطقها كما يتجلى في كلام النسوة عن امرأة العزيز وفتاها، وفي إغرائهن كذلك ليوسف وتهديد امرأة العزيز له في مواجهتهن جميعًا، وما وراء أستار القصور ودسائسها ومناوراتها، كما يتجلى في سجن يوسف بصفة خاصة..
ونموذج «العزيز» وعليه ظلال طبقته وبيئته في مواجهة جرائم الشرف من خلال مجتمعه! ..
ونموذج «الملك» في خطفة يتوارى بعدها كما توارى العزيز في منطقة الظلال بعيدًا عن منطقة الأضواء في مجال العرض المتناسق..
وتبرز الملامح البشرية واضحة صادقة بواقعية كاملة في هذا الحشد من الشخصيات والبيئات، وهذا الحشد من المواقف والمشاهد، وهذا الحشد من الحركات والمشاعر..
ومع استيفاء القصة لكل ملامح «الواقعية» السليمة المتكاملة وخصائصها في كل شخصية وفي كل موقف وفي كل خالجة.. فإنها تمثل النموذج الكامل لمنهج الإسلام في الأداء الفني للقصة، ذلك الأداء الصادق، الرائع بصدقه العميق وواقعيته السليمة)(6).
3- تربي القصة العواطف تربية إيمانية:
أ) عن طريق إثارة الانفعالات كالخوف والترقب، وكالرضا والارتياح والحب، وكالتقزز والكره، كل ذلك يثار في طيات القصة بما فيه من وصف رائع ووقائع مصطفاة، فقصة يوسف تربي الصبر والثقة بالله، والأمل في نصره، بعد إثارة انفعال الخوف على يوسف، ثم الارتياح إلى استلامه منصب الوزارة .
ب) وعن طريق توجيه جميع هذه الانفعالات حتى تلتقي عند نتيجة واحدة هي النتيجة التي تنتهي إليها القصة، فتواجه حماسة قارئ القصة نحو يوسف وأبيه، حتى يلتقيا في شكر الله في آخر القصة، ويوجه بُغْض الشر الذي صدر عن إخوة يوسف حتى يعترفوا بخطئهم ويستغفر لهم أبوهم في آخر القصة، وهكذا.
ج) وعن طريق المشاركة الوجدانية حيث يندمج القارئ مع جو القصة العاطفي حتى يعيش بانفعالاته مع شخصياتها، ففي قصة يوسف يعتري القارئ خوف أو قلق عندما يراد قتل يوسف، وإلقاؤه في الجب، ثم تنسرح العواطف قليلًا مع انفراج الكربة عنه، ثم يعود القارئ إلى الترقب عندما يدخل يوسف دار (العزيز) وهكذا يعيش القارئ مع يوسف في سجنه وهو يدعوا إلى الله، حتى يفرح بإنقاذه، ثم بتوليه وزارة مصر، وبنجاة أبيه من الحزن، وهو في كل ذلك رسول الله والداعية إلى دينه.
4) تمتاز القصة بالإقناع الفكري بموضوع القصة:
أ) عن طريق الإيحاء، والاستهواء والتقمص، فلولا صدق إيمان يوسف لما صبر في الجب على الوحشة، ولما ثبت في دار امرأة العزيز على محاربة الفاحشة والبعد عن الزلل، هذه المواقف الرائعة توحي للإنسان بأهمية مبادئ بطل القصة وصحتها، وتستهويه صفات هذا البطل وانتصاره بعد صبر ومصابره طويلة، فيتقمص هذه الصفات حتى إنه لقلدها ولو لم يقصد إلى ذلك، وحتى إنه لَيردّدُ بعض هذه المواقف ويتصورها ويسترجعها من شدة تأثره بها .
ب) عن طريق التفكير والتأمل: فالقصص لا يخلو من محاورات فكرية ينتصر فيه الحق، ويصبح مرموقًا محفوفًا بالحوادث والنتائج التي تثبت صحته، وعظمته في النفس وأثره في المجتمع، وتأييد الله له.
ففي قصة يوسف نجد حوارًا يدور بينه وبين فتيين عاشا معه في السجن فدعاهما إلى توحيد الله، وقصة نوح كلها حوار بين الحق والباطل، وكذلك قصة شعيب، وصالح وسائر الرسل: حوار منطقي مدعوم بالحجة والبرهان يتخلل القصة، ثم تدور الدوائر على أهل الباطل ويظهر الله الحق منتصرًا في نتيجة القصة، أو يهلك الباطل وأهله، فيتظاهر الإقناع العقلي المنطقي والإثارة الوجدانية، والإيحاء وحب البطولة (الاستهواء) والدافع الفطري إلى حب القوة وتقليد الأقوياء، تتظاهر كل هذه العوامل وتتضافر، يؤيدها التكرار مرة بعد مرة (7) .
ولقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتمثل منهجًا ربانيًا: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176].
وتلك القصص كانت قصصًا تتميز بالواقعية والصدق، لأنها تهدف إلى تربية النفوس وتهذيبها، وليس لمجرد التسلية والإمتاع حيث كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يأخذون من كل قصة العظة والعبرة، كما يخرجون منها بدرس تربوي سلوكي مستفاد ينفعه وينفع من بعدهم في الدارين: في دار الدنيا والآخرة.
التحذير من القصص السلبية:
1- القصص التي تثير الفزع والرعب:
القصص التي يغلب عليها طيف الفزع والرهبة، هذه القصص تهدم الشخصية، وتقتل الحس الفكري لدى الطفل، ولا تؤسس الطفل الشجاع، ولكنها تؤسس الطفل الجبان المتخاذل، الذي يتملك الخوف من فرائسه، فالطفل يظل معايش الفكرة حتى بعد الانصراف، من لحظة المعايشة الفكرية للقصة، يتخيل بالفعل أن هناك عفاريت تحاصره بالظلام، فيجب أن نؤسس الطفل على الشجاعة، لكي نبني أمة شجاعة، لا أن نؤسس الطفل على الجبن فنبني أمة ضعيفة.
2- القصص التي تحتوي على مواقف منافية للأخلاق:
تلك القصص التي لا تحتوي على قيم إنسانية أو أخلاقية، بقدر ما تمجد العنف كوسيلة لحل المشاكل، وتجعل القوة البدنية، هي العامل الأقوى في حسم المواقف.
3- القصص التي تثير العطف على قوى الشر أو تمجيدها:
القصص التي تثير العطف على قوى الشر، وتمجده مثل انتصار الشر على الخير، الظالم على المظلوم.
ويطرحونها بحجة أنهم يكشفون السلوك الخاطئ للطفل، كمن يكذب على أولاده ثم يقول هذا كذب أبيض، وفي الحقيقة الولد يتربى على الكذب، فليس هناك كذب أبيض ولا أسود، أما عن إثارة العطف على قوى الشر والانتصار له في النهاية قد تجعل الولد يسلك السلوك الخاطئ، ليبقى ضمن طائفة الأقوياء المنتصرين.
4- القصص التي تعيب الآخرين وتسخر منهم:
القصص القائمة على السخرية من الآخرين وتدبير المقالب لهم وإيقاع الأذى بهم، منها السخرية من علة المعاق أو عيب خلقي في نطق البعض وتدبير المقالب للكبير مثلًا وإيقاع الأذى بالأعمى، بإيقاعه في فخ ما أو غيرها، دون تعظيم الأثر الواقع على المخطئ أو مدبر المقلب.
5- القصص الخيالية:
الحذر الشديد من الزيادة أو الكذب والإغراق في الخيال أو نحو ذلك، مما يدخل في حكم الكذب وذلك لسببين هما:
السبب الأول: أن ذلك من الكذب، والكذب حرام ومعصية، فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتني أمي يومًا ورسول الله صلى الله علية وسلم قاعد في بيتنا، فقالت ها أعطيك فقال رسول الله صلى الله علية وسلم: «وما أردت أن تعطيه؟»، قالت: تمرة، فقال لها رسول الله صلى الله علية وسلم: «أما إنك لم تعطيه شيئًا كتبت عليك كذبة»(8).
وليس الكذب في التربية من المواضع التي تستثنى من التحريم؛ حتى لو كان المستهدف بالقصة طفلًا صغيرًا، فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها عن النبي صلى الله علية وسلم أنه قال: «لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل مع امرأته لترضى عنه، أو كذب في الحرب؛ فإن الحرب خدعة، أو كذب إصلاح بين الناس»(9)، ولهذا فإن لا يجوز اختراع القصص وروايتها على أنها حقائق؛ لأن ذلك كذب صريح، وهذا لا يصح، حتى لو رواها على أنها مخترعة؛ لأن الأحداث التي فيها لا تمثل أمرًا واقعًا وبالتالي فهي كذب .
السبب الثاني: قد يكشف الشخص أو الأشخاص المستهدفين بالقصة أن ما رواه مربيه كذبًا واختراعًا، وعند ذلك يحصل من المخاطر ما لا يحمد عقباه؛ كأن يستمرأ الناشئ الكذب لأن قدوته يكذب، أو قد يعتقد الناشئ أن مربيه يكذب في كل شيء فتهتز ثقته به، ولا يستنصح بعد ذلك بنصيحة، ولا يأخذ بقوله، وربما شك في كل ما يحكيه، وإذا قيل للناشئ إن هذه القصة خيالية تروى لكذا وكذا؛ فإن الناشئ سيشعر بأن مربيه يستخف بعقله، ثم لا يتمكن من تحقيق الهدف الذي يرجو الوصول اليه مع الناشئ، عند ذلك لأن الناشئ عند ذلك يفهم أن الخيال وهم وفراغ، وكلاهما لا ينتج فكرًا ناضجًا (10).
أمثلة من القصص التربوية:
1- قصة الثلاثة أصحاب الغار:
روى البخاري في صحيحه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل، فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما، فوجدتهما نائمين وكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا، فلبثت والقدح على يدي، أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا، فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج».
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إلي، فأردتها عن نفسها، فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني، فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها، قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها».
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله، فاستاقه، فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون»(11).
الفوائد من هذه القصة:
قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 35]، قال قتادة: تقربوا إليه بطاعته، والعمل بما يرضيه .
1- الأعمال الصالحة وقت الرخاء يستفيد منها الإنسان وقت الشدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة»(12).
2- يجب على المسلم أن يلجأ إلى الله وحده دائمًا بالدعاء وخاصة حين نزول الشدائد، ومن الشرك الأكبر دعاء الأموات الغائبين، قال الله تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]، الظالمين: المشركين .
3- مشروعية التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، وهي نافعة ومفيدة، ولا سيما عند الشدة، وعدم مشروعية التوسل بالذوات والجاه .
4- حب الله مقدم على حب ما تهوى النفوس من الشهوات .
5- من ترك الزنى والفجور خوفًا من المولى نجاه الله من البلوى .
6- من حفظ حقوق العمال حفظه الله وقت الشدة، ونجاه من المحنة .
7- الدعاء إلى الله مع التوسل بالعمل الصالح يفتت الصخور .
8- بر الوالدين وإكرامهما على الزوجة والأولاد .
9- حق الأجير يحفظ له، ولا يجوز تأخيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه» (13).
10- استحباب تنمية مال الأجير الذي ترك حقه، وهو عمل جليل، وهو من حق الأجير .
11- شرع من قبلنا هو شرع لنا إذا أخبر به الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم على طريق المدح، ولم يثبت نسخه، وهذه القصة قصها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدح هؤلاء النفر الثلاثة لنقتدي بهم في عملهم .
12- طلب الإخلاص في العمل حيث قال كل واحد: «اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه».
13- إثبات الوجه لله سبحانه من غير تشبيه، قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
قصة خشبة المقترض:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه ذكر رجلًا من بني إسرائيل، سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فأتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلًا، قال: صدقت، فدفعها إليه إلى أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلًا، فقلت: كفى بالله كفيلًا، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وأني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده.
فخرج الرجل الذي كان أسلفه، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إلي بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه، قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف الدينار راشدًا»(14).
يعني لما تيسرت للمدين العودة إلى بلده, جاء بسرعة إلى صاحب الدين, ومعه ألف دينار أخرى, خوفًا منه أن تكون الألف الأولى لم تصل إليه, فبدأ يبين عذره وأسباب تأخره عن الموعد, فأخبره الدائن بأن الله عز وجل الذي جعله الرجل شاهده وكفيله, قد أدى عنه دينه في موعده المحدد.
وَفِي الحديث من الفوائد:
1- فضل التوكل على اللَّه وأن من صحّ توكله تكفل اللَّه بنصره وعونه، فما أحوج الإنسان في زمن طغت فيه المادة, وتعلق الناس فيه بالأسباب إلا من رحم الله, إلى أن يجدد في نفسه قضية الثقة بالله, والاعتماد عليه في قضاء الحوائج, وتفريج الكروب, فقد يتعلق العبد بالأسباب, ويركن إليها, وينسى مسبب الأسباب الذي بيده مقاليد الأمور, وخزائن السماوات والأرض, ولذلك نجد أن الله عز وجل يبين في كثير من المواضع في كتابه هذه القضية, كما في قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28], وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا} [الأحزاب 3], وقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر 36], كل ذلك من أجل ترسيخ هذا المعنى في النفوس, وعدم نسيانه في زحمة الحياة, وجاءتنا السنة بقصة هذين الرجلين من الأمم السابقة, اللذين ضربا أروع الأمثلة لهذا المعنى .
2- إن هذه القصة تدل على عظيم لطف الله وحفظه, وكفايته لعبده إذا توكل عليه وفوض الأمر إليه, وأثر التوكل على الله في قضاء الحاجات, فالذي يجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه على الدوام, وفي جميع الأحوال, والله عز وجل عند ظن العبد به, فإن ظن به الخير كان الله له بكل خير أسرع, وإن ظن به غير ذلك فقد ظن بربه ظن السوء .
3- إذا بلغ العبد الغاية من الزهد، أخرجه ذلك إلى التوكل، فإذا اتكلت فكن بربك واثقًا لا ما تحصل عندك الموثوق، قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسَلَّمَ: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، ألا ترون أنها تغدو خماصا وتروح بطانًا»(15).
قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3] (16).
فالقصة لها دور عظيم في تربية الطفل والانطلاق بخياله في أماكن رحبة لا تحدها حدود من الواقع، فتربية الطفل على قراءة القصة ومعايشة أحداثها أمر مفيد له؛ خاصه في وقت طغت عليه الألعاب الالكترونية وأفلام الكرتون المستورده فتجعل عقل الطفل يقف في حدودها لا يتجوزها ولا يعرف ما الخيال.
فالطفل الذي يتعلم منذ الصغر قراءة القصه تشتد عنده ملكة التعبير والكتابة باللغة العربية السليمة.
الإنسان مخلوق فى فطرته على حب القصص، ولكن قد يتحول هذا الحب إلى مجرد حب القراءة أو الاستماع، أو حتى المشاهدة كما يحدث مع ما يتحول من قصص إلى أفلام ومسلسلات وهى الوسيلة التى سيستخدمها أعدائنا فى التغيير من حالنا للأسوأ.
فتأثر الإنسان بالقصة واضح، ولهذا وجب علينا دعم القصص الهادفة التى تنمي حب الأعمال الصالحة، وتزيل من الإنسان الأمل فى الدنيا وتجعل أمله فى الله وحده.
والتربية بالقصة هو أسلوب قرآني عالج به الحق عز وجل النفوس، وربى به القلوب القاسية واللينة على السواء، وكان له أفضل الآثار التربوية على المسلمين منذ البعثة النبوية الزكية إلى يومنا هذا، وإلى أن يقوم الناس لرب العلمين.
واستخدام الأسلوب القصصي في التربية يتطلب توفر ظروف وأحوال معينة، منها على سبيل المثال: الوقت الكافي المناسب، وطبيعة الهدف المراد تحقيقه، ونحو ذلك.
فقد كانت القصة القرآنية تتلى على الكافر فما أن تنتهي إلا وهو مشهر إسلامه، فقد كانت تلك القصص تحرك فيهم الرغبة في الدخول في الإسلام (17).
___________________________________________
(1) البخاري، (7283).
(2) البخاري، (3401).
(3) البخاري، (3612).
(4) القصص في السنة النبوية، د. علي جمعة، (الأهرام، 4 من ربيع آخر 1433، 25 فبراير 2012، السنة 136، العدد 45737).
(5) في ظلال القرآن: مقدمة سورة يوسف.
(6) المصدر السابق.
(7) القصص في القرآن الكريم، إعداد إسلام محمود دربالة، جامعة أم القرى.
(8) رواه أحمد، (525)، وأبو داود، (4991).
(9) رواه أحمد، (27596).
(10) التربية بالقصة د. أمين أبو لأوي، موقع بناء الأجيال.
(11) البخاري، (2272).
(12) رواه أحمد،(2669)، والترمذي، (2516)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(13) رواه ابن ماجه، (2443).
(14) البخاري، (2291).
(15) رواه أحمد، (372)، والترمذي، (2344).
(16) التربية بالقصة، د. محمد صالح المنجد، المصدر: موقع المختار الإسلامي.
(17) التربية بالقصة د. أمين أبو لأوي، موقع بناء الأجيال.