الدعاة وثقافة الكراهية
الاختلاف والتنوع في الشكل والفكر والعلم، سُنَّة من سنن الله يجب احترامها وتقبلها في المجتمع، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيِب، وبين ذلك»(1).
إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم، يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض، إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة، واستعدادات شتى من ألوان متعددة كي تتكامل جميعها وتتناسق، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله، فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف، ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119].
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشئ بدوره اختلافًا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق، ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعًا حين تصلح وتستقيم، هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح، الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات، فلا يقتلها ولا يكبحها، ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح(2).
إن التباين والتنوع والاختلاف سنة الله في حياة البشر، وذلك بهدف التكامل والتعاون والتدافع وإثراء الحياة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وهذه السنة لن تؤدي أهدافها إلا في الحرية التي فطر الله الناس عليها، وعندما يمارس الاستبداد ويتحول إلى ثقافة للإقصاء والاستحقار والإذلال، والتضييق على حريات الناس، ويرفع الشعار الفرعوني (ما أريكم إلا ما أرى)، هنا تبدأ ثقافة الكراهية بالنمو؛ بل وثقافة النفاق والتأمر والحسد؛ لأن الاستبداد يضيع العدالة والمساواة والمحبة والرحمة والتعاون.
لقد كانت المجتمعات العربية في الجاهلية طبيعة حياتها في الصحراء، وصراعها على موارد الماء والكلأ، هذه الطبيعة كانت تدفعها نحو الحروب والصراعات، وكانت القبيلة تهيئ نفسها دائمًا وأبدًا للحرب والصراع؛ لذلك الثقافة السائدة في المجتمعات القبلية والعشائرية، من خلال الشعراء والشيوخ، هي في الغالب نتاج خطابات تحريضية تجاه الآخر، واستثارة للمشاعر، واستنهاض للهمم لمواجهة الآخر، وهذا جلي في الشعر العربي القديم، فأشعار الجاهلية خصوصيتها استخدام أسلوب إثارة الفخر والاعتزاز، والشعور بالقوة لدى أبناء القبيلة، وتحريضهم على الآخرين، وتشجيعهم على المقاومة والحرب وما أشبه ذلك.
لقد كانت المعارك تنشب بين القبائل والعشائر لأدنى سبب وأتفهه، قد تندلع معركة دامية خلال مناسبة سباق خيل مثلًا، وتستمر عشرات السنين، أو لإصابة ضرع ناقة يمكن أن تنشب معركة طويلة أيضًا تدوم لعقود من الزمن، كما نقرأ ذلك في أيام العرب، من حرب البسوس، وحرب داحس والغبراء وأمثالها.
هذه الثقافة كانت هي مديرة حياة العرب في الجاهلية، حتى جاء الإسلام ونسف هذه الثقافة، وسعى لتغيير هذا الأسلوب من التفكير، بحيث أثار دفينة عقول الناس للتفكير في وعي الاحترام الإنساني، والوئام مع الآخرين، والتعاون والتعايش السلمي.
فلما جاء الإسلام جاء بالبشارة والهداية والرحمة، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة، وقال تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)} [لقمان:2-3].
كانت رحمة للبشرية، ومحمد صلى الله عليه وسلم إنما أرسل رحمة للعالمين، من آمن به ومن لم يؤمن به على السواء، فالبشرية كلها قد تأثرت بالمنهج الذي جاء به طائعة أو كارهة، شاعرة أو غير شاعرة، وما تزال ظلال هذه الرحمة وارفة، لمن يريد أن يستظل بها، ويستروح فيها نسائم السماء الرخية، في هجير الأرض المحرق وبخاصة في هذه الأيام.
وإن البشرية اليوم لفي أشد الحاجة إلى حس هذه الرحمة ونداها، وهي قلقة حائرة، شاردة في متاهات المادية، وجحيم الحروب، وجفاف الأرواح والقلوب(3).
وتأملات سريعة في آيات القرآن الكريم، وأحاديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم وخطبه، خاصة في المناسبات العامة، تؤكد هذه الحقيقة الإسلامية المشرقة والحضارية، فمثلًا عندما حج النبيصلى الله عليه وسلم، لو اطلعنا على مضامين خطبته في حجة الوداع، نرى أوامره وإرشاداته، التي ركّز فيها على نشر السلم ورعاية الحقوق، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال: «يا أيها الناس، أي يوم هذا؟»، قالوا: يوم حرام، قال: «فأي بلد هذا؟»، قالوا: بلد حرام، قال: «فأي شهر هذا؟»، قالوا: شهر حرام، قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا»، فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت»، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، «فليبلغ الشاهد الغائب، لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض»(4).
لقد حزن المسلمون عندما انتصرت فارس على الروم، فنزل القرءان يفتح أمامهم باب الأمل في انتصار أهل الكتاب على المجوس، فقال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)} [الروم:2-3]، كذلك نعلم من تراثنا مقدار ما لقيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أذى اليهود وتآمرهم مع مشركي مكة، ومن غدرهم في الأوقات العصيبة التي أحاطت بالدعوة الجديدة إلى الحق، ومع ذلك لما مرت به جنازة فقام، فقيل: إنه يهودي، فقال: «أليست نفسًا»(5).
قال تعالى: {عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7]، إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين، وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك! وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظارًا لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع، ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم(6).
وقوله تعالى: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، إن النهوض بواجب الدعوة إلى الله، في مواجهة التواءات النفس البشرية، وجهلها، واعتزازها بما ألفت، واستكبارها أن يقال: إنها كانت على ضلالة، وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها، وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد، كل البشر أمامه سواء.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق، ولكنه شأن عظيم(7).
ولكن ثقافة الاستبداد هي من تزرع الكراهية في المجتمع، وتتحول إلى أخطبوط مدمر لقيم المحبة والوئام الاجتماعي، وتعمل على تنمية قِيَم الكراهية والجهل والتَّخلُّف والضَّعف، وفي حين تحرص ثقافة الاستبداد على الترويج لثقافة السلبيَّة والخُنوع لدى المواطن، وتعطيل التفكير في المقاومة السلمية للفساد والاستبداد، تتراكم الاحتقانات حتى ينفجر بركان الكراهية والغضب في مظاهر منفلتة، ويدخل المجتمع في دوامة دوائر الصراع المغلقة بين ثقافة الاستبداد وثقافة الكراهية.