عجز المؤمن وجلد الفاجر
وردت كلمة الملأ في القرآن الكريم تسعة عشرة مرة كلها في معرض الكفر والصد عن سبيل الله ومعاداة دعوات الأنبياء، فما من نبي من أنبياء الله عز وجل إلا ووقف الملأ في وجهه وعادوا دعوته وناصبوا أتباعه العداء وجاهروهم بالبغضاء، وعملوا جاهدين ليل نهار من أجل القضاء عليهم ووأد دعوتهم، حتى تسير الأمور كما هي ويظلوا هم في الصدارة.
وحتى ينجح الملأ في القضاء على الدعوات الإصلاحية فإنهم يعمدون إلى تضليل الجماهير، ويظهرون أمام الناس بمظهر الخائف على مصالحهم، القائم على شؤونهم، الساهر على راحتهم، والحقيقة أنهم يحولون بين هذه الجماهير الغافلة وبين معرفة مرامي هذه الدعوات وما تحمله لهم من خيرات.
يقول صاحب الظلال: فلتطمئن الجماهير، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم، إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، والبحث وراء الحقيقة، وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة، ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسهم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير، وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل (1).
ما أشد جلد أهل الباطل في باطلهم، إنهم لا يبخلون بأوقاتهم، فيقضون الساعات الطوال وهم يتباحثون ويخططون من أجل القضاء على دعوات الإصلاح والمصلحين، وكلما فشلت وسيلة اخترعوا وسيلة أخرى، فتارة يؤسسون حزبًا، وتارة ائتلافًا، وتارة جبهة إنقاذ، وتارة حركة، وكلها على اختلاف الأسماء هدفها واحد؛ وهو القضاء على كل دعوة للإصلاح والحيلولة دون وصول هذه الدعوات إلى الجماهير.
إنهم ينفقون الأموال الهائلة في الصد عن سبيل الله، وفي محاربة دينه، فينشئون القنوات الفضائية، ويصدرون الصحف لتضليل الجماهير وتشويه كل الدعوات الإصلاحية؛ بل والتشكيك في ثوابت الدين ذاته، ويعاونهم في ذلك إعلاميون فاسدون من أهل العلمنة والنفاق.
ما أروع هذه المقولة الخالدة التي حفظها لنا التاريخ عن الخليفة الراشد الثاني أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة، وهي مقولة تعبر بدقة شديدة عن الواقع الأليم الذي نعيشه في مجتمعاتنا الإسلامية، فتجد الرجل من أهل الخير والصلاح مستكينًا للمظالم حوله، منزويًا على نفسه، ملازمًا للصمت، حريصًا على دنياه، منكبًا على شؤونه ومصالحه الشخصية، وهذا قمة العجز والمنافاة للمرؤة، وقد أثنى الله على المؤمنين المجاهدين وفضلهم على القاعدين: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95].
إن قعود الثقات أمام جلد الفجار طامة كبرى ولها توابع ضخمة على المجتمع، فالمجتمع الذي يعجز ثقاته عن الوقوف في وجه فجاره مجتمع يسير نحو الدمار والخراب.
ما فائدة الصلاح الذي لا يدفع صاحب إلى الإصلاح، وما فائدة العلم الذي لا يدفع صاحبه إلى العمل ومناصرة الحق (2).
إنها ظاهرة انصراف أهل الحق عن الدعوة للحق الناصع الذي بين أيديهم وعدم إظهاره للناس وبذله لهم، والركون إلى الاعتقاد بأنه طالما هو الحق فإنه منتصر في النهاية لا محالة.
فهي في حقيقتها تبرير لخذلاننا للحق وعدم تحركنا من أجل نصرته، والضن بالوقت والجهد أن يبذل في سبيل رفع رايته وانتصار كلمته.
في الوقت الذي نشاهد فيه احتراق أهل الباطل من أجل رفعة باطلهم، وإيصاله إلى الناس في أبهى حلة وأزهى صورة، لعلمهم بأنه باطل لو ترك دون زينه تلبس على الناس لانصرف الناس عنه فطرة وعقلًا، فالحق أبلج والباطل لجلج.
ونظرة في حالنا وواقع الناس من حولنا، ندرك مدى تقصيرنا في نصرة الحق وجهد غيرنا في نصرة الباطل.
ذكر الشيخ عبد الحميد البلالي عن الدكتور عبد الودود شلبي قوله: أذكر أنني ترددت كثيرًا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: أيها المبشر الشاب نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير؛ وإننا نذكرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، كل ما نقدمه لك هو العلم والخبز والفراش الخشن في كوخ صغير، أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء.
قال الشيخ البلالي معلقًا على ما مضى: هذا يقال لمن هم على الباطل وليس لعملهم مهما كثر إلا النار، ومع هذا كله، فإن هذا الكلام قد حرك المئات من المبشرين من أنحاء العالم من حملة شهادات الطب والصيدلة، للذهاب إلى الصحاري القاحلة، والتي لا توجد فيها إلا الخيام والمستنقعات المليئة بالنتن والمكروبات، والمكوث هناك السنين الطوال دون راتب ودون منصب، ولو أراد الواحد منهم العمل بمؤهله لربح مئات الآلاف من الدولارات، ولكنه ضحى بكل هذا من أجل الباطل الذي يعتقد صحته (3).
أيجوز بعد هذا أن يتذرع بعض من لم تسر الدعوة في عروقه مسرى الدم وهو متكئ على أريكته بالحديث الضعيف «روحوا القلوب ساعة فساعة» (4)، متخذًا من هذا الحديث عذرًا له للتخلف عن الركب؟
ذكر الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم في كتابه الرائع علو الهمة قال: حكى لي بعض الشباب المسلمين في (ألمانيا) أنه منذ الصباح الباكر ينتشر دعاة فرقة (شهود يهوه) في الشوارع وينطلقون إلى البيوت، ويطرقون الأبواب للدعوة إلى عقيدتهم.
وذكر أحدهم أن فتاة ألمانية منهم طرقت بابه في السادسة صباحًا، فلما علم أن غرضها دعوته إلى عقيدتها، بين لها أنه مسلم، وأنه ليس في حاجة إلى أن يستمع منها، فظلت تجادله وتلح عليه أن يمنحها ولو دقائق (من أجل المسيح)، فلما رأى إصرارها أوصد الباب في وجهها، ولكنها أصرت على تبليغ عقيدتها، ووقفت تخطب أمام الباب المغلق قرابة نصف ساعة تشرح له عقيدتها، وتغريه باعتناق دينها! فما بالنا معشر المسلمين يجلس الواحد منا شبعان متكئًا على أريكته، إذا طلب منه نصرة الحق، أو كلف بأبسط المهام، أو عوتب لاستغراقه في اللهو والترفيه، انطلق كالصاروخ مرددًا قوله صلى الله عليه وسلم: «يا حنظلة ساعة وساعة» (5)، كأنه لا يحفظ من القرآن والسنة غيره (6).
قال الأستاذ محمد أحمد الراشد: يقف الداعية يؤذن في الناس، ولكن أكثر الناس نيام، ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لإمرار خطتهم، فإذا التفت رأى الأمين المسلم سادرًا غافلًا، إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم، ويعود ليفرغ حزنه في خطاب مع نفسه:
تبلد في الناس حس الكفاح *** ومالوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب
يكاد يزعزع من همتي *** سدور الأمين وعزم المريب
إن دعوة لا يعطيها أصحابها إلا فضول أوقاتهم دعوة ميتة لا ثمرة فيها، كما قال الأستاذ الراشد: والله لا نجاح في الدعوة إن أعطيناها فضول أوقاتنا ولم ننس أنفسنا وطعامنا.
وذكر عن الإمام أحمد أنه كان إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد سأل عنه وأحب أن يعرف عن أحواله.
ولم يكن بالمنعزل الهارب من الناس ولا يكون داعية اليوم إلا من يفتش عن الناس ويبحث عنهم ويرحل للقائهم ويزورهم في مجالسهم.
ومن انتظر مجيء الناس إليه في بيته فإن الأيام تبقيه وحيدًا ويتعلم فن التثاؤب.
الإسلام اليوم لا يحتاج مزيدًا من البحوث في جزيئات الفقه بقدر ما يحتاج إلى دعاة يتكاتفون (7).
ويؤكد ذلك ابن الجوزي رحمه الله فيقول: ألست تبغي القرب منه؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم السلام، أما علمتَ أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟ (8).
إن انتصار الداعية في أن تعاف نفسه ما لا يؤثر في تقدم دعوته، وإن غفلة الداعية محنة؛ لأنها صرفته عن نصر ممكن يحققه له الجد والعمل الدائب، وعن أجر وثواب أخروي ليس له من مقدمة إلا هذا الجد، وسيظل اسمنا مكتوبًا في سجل الغافلين الفارغين ما دمنا لا نعطي للدعوة إلا فضول أوقاتنا، وما دمنا لا نشغفها حبًا ولا نتخذها حرفة.
ما أكثر الثقات العاجزين في زماننا، فثقة مؤمن لكنه لا يتفاعل مع قضايا أمته ومجتمعه، وثقة مؤمن لا يصلح العيوب التي يراها والخلل الذي يشاهده، وثقة مؤمن في مؤخرة الركب، وثقة مؤمن لا يواجه المشاكل، ولا يجرؤ على خوض التحديات، وثقة مؤمن يفضل السلامة والراحة، وثقة مؤمن يعيش على الهامش، وربما لكل أولئك أعذار كثيرة وكثيرة تبرر لهم خمولهم وكسلهم وعدم تفاعلهم، رغم أن أمثالهم من أهل الضلال والانحراف يعملون ويقدمون وينفقون.
أما علم المؤمن الثقة العاجز أن خموله هو من مكَّن أولئك المنحرفين من ملأ الفراغ؟
أما علِم أن ترك دوره في التفاعل مع قضايا أُمته، هو من أعان أهل الفجور والغي على الاستمرار في باطلهم؟
انظر في نبي الله يوسف عليه السلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]، وتأمَّل في نبي الله موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]، وانظر في حال ذي القرنين يوم أن بلغ مشارق الأرض ومغاربها.
نحن اليوم نعيش في عالم لا مكان فيه للخامل والكسول، والقاعد والعاجز، وهكذا قال ربنا جل في علاه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} [النساء: 95].
عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ سيفًا يوم أحد، فقال: «من يأخذ مني هذا»، فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا، أنا، قال: «فمن يأخذه بحقه»، فأحجم القوم، فقال: سماك أبو دجانة: أنا آخذه بحقه، قال: فأخذه ففلق به هام المشركين (9).
أُمتنا بحاجة إلى أمثال أبي دجانة، رجل عامل فاعل صادق مؤمن ثقة، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: غبت عن أول قتالٍ قاتلت المشركين، لئن الله أشهدني قتال المشركين، ليَرينَّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أُحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم أعتذر إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء؛ يعني: المشركين، ثم تقدم واستقبله سعد بن معاذ، فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة ورب النضر، إني لأجد ريحها من دون أحد، فقال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربةً بالسيف، أو طعنة برُمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قُتِل ومثَّل به المشركون، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى ونظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] (10).
نحتاج إلى عامل في عدله ساهر على أُمته؛ أمثال: عمر رضي الله عنه، نحتاج إلى أمثال عثمان رضي الله عنه، المتصدق بماله؛ نحتاج إلى أمثال علي رضي الله عنه عامل في شجاعته يوم أن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله» (11).
ليجد كل منا لنفسه دورًا بما يملكه من قوة وطاقة وقدرة، فالله عز وجل لا يكلفنا إلا ما نطيق، فقد جاء رجل بنصف صاع من طعام في تبوك يوم أن حثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة، فقال المنافقون: إن الله غني عن صدقة هذا، فأنزل الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79] (12).
الرجل الثقة العاجز لن يفيد الأمة بشيء يُذكَر، ما دام تردده وضعفه نواقص قد حث الإسلام المسلم على عدم الاتصاف بها، فقد قال رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: «المؤمن القوي، خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف» (13)، ويضيف الرسول صلى الله عليه وسلم في السياق ذاته: «وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان»، فالدعوة هنا صريحة غاية الصراحة، موجهة إلى كل مسلم بأن يحرص على ما ينفعه في الدنيا والآخرة، مستعينا بالله وحده، ولا يجعله فشل ما عرض في حياته أو عمله عاجزًا عن الاستمرار في مساره، كما يرتضيه الله تعالى ورسوله الكريم، في شتى مناحي الحياتين الأولى والأخرى.
والرجل الصالح إذا كان عاجزًا لا ينفع المجتمع رغم شهادة الأرض له بالاستقامة والثقة، فهو بالكاد ينفع نفسه، بل قد يفضي عجزه وتردده في اتخاذ القرارات الحاسمة إلى تهيئ تربة خصبة لكثير من الآفات والأباطيل في المجتمع، فالمرء الطيب العاجز يستطيع إصلاح نفسه فقط، غير أنه لا يساهم بشكل فعال في إصلاح الجماعة، التي تحتاج أساسًا إلى الإنسان الصالح المصلح أيضًا، الذي تتجاوز رسالته ذاتَه إلى محاولة إصلاح المجتمع بالوسائل المتاحة له ولو كانت يسيرة قليلة.
فهناك فئام من الناس يظنون أنهم بصلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجهم قد أدوا ما عليهم تجاه مجتمعهم وبلدهم، غير أن الحقيقة ليست كذلك، وما هم في ميزان الجماعة إلا كنقط مضيئة يعلوها غبار يحول بينها وبين التوهج والإشعاع.
إن المجتمع المسلم ليس بحاجة إلى عابد غافل، ولا إلى ساجد عاكف، ولا إلى زاهد جامد لا يراوح مكانه، بل هو في أمس الحاجة إلى عابد متنبه ومتيقظ، وإلى ساجد مرتفع الهامة ومنتصب القامة، وإلى زاهد يمسك بتلابيب الحياة لبلوغ مرمى الآخرة، وقد يتساءل البعض ما فائدة عبادة هؤلاء إن لم تكن تنفع المجتمع وتفيد الأمة كلها؟، وما جدوى علم لا يبدد دياجير الظلام السائد في كثير من الأمكنة في مجتمعاتنا المسلمة؟
فعجز الصالح الثقة على التفاعل مع محيطه القريب قبل البعيد، والمساهمة في إصلاح عيوب المجتمع أفرادًا وجماعات ومؤسسات، يجعله يستقر في المؤخرة، ويرضى بالسلبية منهجًا، فارًا من مواجهة المشاكل وتحدي العراقيل، مفضلًا السلامة والدعة والعيش في هناء، قد يلهيه كسب قوت يومه، وقد يغرق في التفاصيل المملة لواقعه، أو خائفًا على منصبه، يتبع سير السفهاء ويرنو إلى عيش الغوغاء، وإن سألتَه عن حاجة المجتمع لصلاحه وإصلاحه، بسط أمامك ألف عذر وعذر ليقنعك
أنه مفيد في حالة سكونه وتقوقعه أكثر من انطلاقه وحركيته في ظل واقع موبوء لا يشي بالخير.
والصواب أن الفرد الثقة الصالح ينبغي أن يكون صالحًا لنفسه ومُصلِحًا لمن حوله، وثقته تقاس أساسًا بمدى عطائه الفردي والجماعي، وحجم تأثيره الإيجابي في محيطه.
ولعل من أبرز الأمثلة التي تبرز عجز كثير من أهل الصلاح والثقة أنهم إذا تولوا مناصب أو مراكز وأنيطت بهم المسؤوليات، وكان المرجو منهم خدمة مجتمعاتهم وعقيدتهم، كانوا أقرب إلى التردد في اتخاذ القرارات الحاسمة منهم إلى القيادة القوية، ربما حتى لا يقال عنهم أنهم انحازوا لمبادئهم وعقيدتهم، أو اتهِموا بتهم تشكك في سلامة نواياهم، كما حدث ويحدث لكثير من أبناء الصحوة الإسلامية اليوم، حيث تُكال التهم لهم بدون وازع تحت دواعي ومزاعم واهية محبوكة بكثير من الخبث واللؤم العالميين.
وفي المقابل، يجتهد أهل الباطل والفجور في استغلال مناصبهم ومسؤولياتهم ومنابرهم لبث أفكارهم والدفع بمشاريعهم الهدامة إلى الأمام، غير آبهين بالأصوات المنتقدة أو الأيادي النظيفة التي تدعوهم إلى التعقل وتحاول محاربتهم بالتي هي أحسن.
والمطلوب من الثقة أن يكون نافعًا لنفسه، نافعًا لغيره أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا في مسجد المدينة، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه؛ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» (14).
ففي هذا الحديث الجامع، يبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، والنفع لا يكون فقط ماديًا، بل يشمل النفع بالنصيحة والنفع بالمشورة والتوجيه إلى الخير، فالدال على الخير كفاعله، وغير هذه الأبواب كثير، فكل من ينفع الآخر فهو داخل في الذين يحبهم الله تعالى: «أحب الناس إلى الله أنفعهم».
وأحب الأعمال إلى الله كثيرة، تبتدئ بإدخال السرور على قلب المسلم بأن تزوره في مرضه وعافيته، وشدته ورخائه، وبالسؤال عنه ومعرفة ما يفرحه وما يترحه، كيف يعيش، وهل يحتاج إلى مساعدة أو عليه دين حتى تبادر إلى مد يد العون له، أو على الأقل تذليل العقبات أمامه، وبِكشف الكرب عنه، أو بطرد الجوع عنه، وهو عمل من أعمال البر الجليلة، ويجزي عنها الخالق سبحانه بجنة عالية، قطوفها دانية، فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
إن من ينفع الناس ويشارك في بناء المجتمع بناء قائمًا على الخير والفضيلة هو من الأخيار ولا شك، أما الذي يدوس على مشاعر الناس غير آبه بما يحتاجونه ولا بما يهمهم، فهو من الأشرار ولا قيمة له تذكر في المجتمع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بخيركم من شركم؟» قال: فسكتوا، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال رجل: بلى يا رسول الله، أخبرنا بخيرنا من شرنا، قال: «خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره» (15).
والثقات العاجزون يمنحون -بسبب عجزهم وسلبيتهم- فرصًا تلو أخرى للسفهاء الذين يستطيعون -بفضل دهائهم وذكائهم- أن يسيروا دواليب حياة الناس ويدبروا شؤونهم، وهؤلاء أيضًا رغم جَلدهم وعناصر التفوق في شخصياتهم لا يفيدون المجتمع بقدر ما يسيئون إليه، وهو الصنف الثاني الذي تعوذ منه الفاروق عمر رضي الله عنه فهو الفاجر الذي يمتاز بالجَلَد والصبر وقوة الشكيمة ونبوغ الفكرة.
ويبرز مثال جلد الفاجر وجرأته على نشر الباطل والفساد في كثير من القائمين على وسائل الإعلام والصحافة في بلادنا الإسلامية، حيث ينبرون للدفاع عن أفعالهم رغم قبحها، وعن توجهاتهم رغم دناءتها، يدافعون عنها دفاعًا شرسًا، حتى أنه قد تنطلي الحيلة على البعض من شدة حرصهم على الذود عن حياض قيمهم الموغلة في الفساد، وهو فساد قديم قدم البشرية نفسها، إنما تتجدد الوجوه والأماكن والأزمنة، ويظل الصراع بين الحق والباطل هو جوهر شتى مناحي حياة الإنسان.
فدعاء عمر رضي الله عنه: اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر ومن عجز الثقة، مَثلَ الخصال الطيبة في هذين النوعين من الناس وجسدها في أدق عبارة وأجملها.
وهو نفسه رضي الله عنه كان مثالًا نادرًا للصلاح والثقة، وللزهد والورع والتواضع والإحساس بثقل مسؤولية الحكم حينما تولى خلافة المسلمين بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إنه كان يخرج ليلًا يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة تُجسد الجلد وقوة الحق المطلوب أن يتصف بها كل مسلم، حتى تحفظ الأمة من جلد الفاجر وعجز الثقة (16).
أيها النائمون في بيوتهم- من كل أطياف المجتمع- المستمتعون بدفء فرشهم وحضن أبنائهم وزوجاتهم، لن تدوم سعادتكم طويلًا إذا رضيتم واكتفيتم بما أنت فيه من سلبية وعجز واستكانة، فأعداؤنا يصلون الليل بالنهار من أجل تحقيق أحلامهم بالقضاء على دعوتكم.
أيها العلماء والدعاة الأشاوس أنتم أحق الناس بالعمل من أجل رفعة هذا الدين ومناصرة الحق وأهله والوقوف في وجه الباطل وأهله فإذا عجزتم عن قول الحق ونكصتم على أعقابكم بعدما رأيتم الهدى وبانت لكم الدلائل واضحات بينات بأي وجه تلقون الله عز وجل وأنتم ترون حولكم ثوابت الدين يستهزأ بها (17)
_______________
(1) في ظلال القرآن (5/ 3009).
(2) جلد الفاجر وعجز الثقة/ زاد المسافرين ودليل السالكين.
(3) المصفى من صفات الدعاة (2/ 174).
(4) ضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3140).
(5) أخرجه مسلم (2750).
(6) علو الهمة (ص: 296).
(7) المنطلق (ص: 120).
(8) صيد الخاطر (ص: 52).
(9) أخرجه مسلم (2470).
(10) أخرجه البخاري (2805).
(11) أخرجه البخاري (3009).
(12) أخرجه ابن حبان (3338).
(13) أخرجه مسلم (2664).
(14) أخرجه الطبراني في الصغير (861).
(15) أخرجه الترمذي (2263).
(16) عجز الثقة وجَلَد الفاجر/ شبكة المسلم.
(17) جلد الفاجر وعجز الثقة/ زاد المسافرين ودليل السالكين.