logo

الدعاة والافتتان بالشهرة


بتاريخ : الاثنين ، 1 رمضان ، 1437 الموافق 06 يونيو 2016
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة والافتتان بالشهرة

إن من طبائع النفس البشرية التطلع إلى حب الشهرة والظهور، وهذه طبيعة تحتاج إلى توجيه وترشيد وتقويم، ولو أُطلق لها العنان ووجدت لذلك أرضًا خصبة لأفسدت في الأرض أيما إفساد، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)} [الشمس:7-10].

مرض من أمراض النفوس، وعلة من علل القلوب بدأت تطفو على السطح في الآونة الأخيرة، ألا وهي حب الشهرة وحب الظهور، والرغبة في التصدر والعلو على الأقران ولو بالباطل، وأخذت هذه الظاهرة في التزايد، فهذا يفتي فتوى مخالفة للأصول، وآخر يروّج لقول ضعيف مدخول، وثالث يسارع في هوى المفسدين ويحاول إرضاء الظالمين، ولو على حساب دين رب العالمين.

وقد حذر الشرع المطهر من حب الشهرة والظهور الذي يدعو النفوسَ المريضةَ إلى تعلُّق القلب بتأسيس بنيان السمعة على شفا جرفٍ هار، أو الإعداد لرفع الظمأ من سراب بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.

ومما يؤسف له أن هذا الأمر المهم لم يعطه بعض طلبة العلم في أيامنا هذه ما يستحقه من الاهتمام والاعتناء به، فوقع بعضهم جراء طلبه للشهرة في فتاوى مخالفة للمنهج الشرعي، بالإضافة إلى وجود كثير ممن نصب نفسه للتوجيه والتدريس ويغلب عليه حب الظهور واتباع أهواء النفوس، مع الجهل الكثير في المسائل العلمية المهمة، فصار من ثمار ذلك هذه الحالات التي يعيشها الشباب اليوم من التحزبات والاشتغال بالقيل والقال، وإطلاق الألسنة تلوك في أعراض الناس، ولا سيما المشايخ والدعاة إلى الله؛ بل توجه إليهم سهام النقد والتجريح بلا جريمة، فجعلوا محاسن أهل العلم مساوئ!!

ولو كانت الشهرة منقبة تتشوق لها النفوس الكريمة لأكرم الله بها سادة الدنيا من الأنبياء والمرسلين، الذين بعث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول، وأكثر من مائة ألف نبي، ورغم ذلك لم يحفظ لنا القرآن سوى أسماء خمسة وعشرين رسولًا لا غير.

قال ابن القيم رحمه الله: «وليحذر [أي مسلم] كل الحذر من طغيان أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس، وفرعون، وقارون، فـ{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} لإبليس، و{لِي مُلْكُ مِصْرَ} لفرعون، و{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} لقارون، وأحسن مما وصفت (أنا) في قول العبد: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف، ونحوه، و(لي) في قوله: لي الذنب، ولي الجرم، ولي المسكنة، ولي الفقر والذل، و(عندي) في قوله: اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي»(1).

إن هذا الدين عمل لا يراد به أجر سوى مرضات الله سبحانه, ومن ابتغى الأجر الدنيوي منه خسر مهما جمع, ومن ابتغى الشهرة منه خاب مهما اشتهر, ومن فسدت نيته في عمله له سعرت به النار في أول من تسعر.

إن السعي للشرف الذاتي والمكانة الشخصية أمر مباح ما دام في شئون الدنيا وسباقاتها, فهذا يبيع، وهذا يتجر، وذاك يجتهد، وذاك يبتكر, أما في شأن الدين فالأمر كله قلبي طاهر، لا متاع فيه ولا دنيا, ولا سباق فيه إلا بشروط الصلاح والتقى، وإنكار الذات والتواضع، وحب الخير أن ينتشر على لسان كل الناس وأي الناس.

إن من أقبح المناظر التي يراها المرء هو منظر داعية إلى الله يرفع رأسه مشرئبًا رجاء أن يُرِي نفسه للناس، أو أن يظهر في المقامات التي لا هدف منها سوى بناءِ الأمجاد الشخصية، أو الصراع على الدراهم الزائلة, إنه بقدر رفعته في تلك المقامات بقدر سقوطه وانحرافه عن سواء الصراط، وهبوطه في أعين الصالحين من الخلق(2).

قال الله سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسادًا وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].

يقول سيد قطب: «فلا يقوم في نفوسهم خاطر الاستعلاء بأنفسهم لأنفسهم، ولا يهجس في قلوبهم الاعتزاز بذواتهم والاعتزاز بأشخاصهم وما يتعلق بها، إنما يتوارى شعورهم بأنفسهم ليملأها الشعور بالله، ومنهجه في الحياة، أولئك الذين لا يقيمون لهذه الأرض وأشيائها وأعراضها وقيمها وموازينها حسابًا، ولا يبغون فيها كذلك فسادًا، أولئك هم الذين جعل الله لهم الدار الآخرة، تلك الدار العالية السامية»(3).

أخرج الترمذي عن ابن عمر وغيره قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه»(4).

فالإنسان عندما يحرص على المال وعلى المنصب والرئاسة فإن النتيجة من وراء ذلك الفساد الشديد، يريد المرء أن يكون عنده مال كثير، ويريد أن يكون أشرف الناس وأعلى الناس؛ ليظفر بهذا الحرص على المال والشرف، وسيعمل أي شيء على أنه يرضي الناس لأجل المنصب الذي يريده، فيصل إلى المنصب بالخيانة والغش والغدر والخداع، وحتى يصل إلى المال ويتعامل مع الناس بالحرام، وأكل السحت والرشوة، وفي النهاية يقع في الربا صراحة، فهو في فساد من ناحية طلب المال، وفي فساد من ناحية طلب الشرف.

فالفساد الذي في المال وفي حرص الإنسان على تحصيله، وحرصه على تحصيل الشرف، أعظم بكثير من إفساد الذئبين في الغنم، فكأنه يريك نتيجة هذا الفساد العظيم، ولكن الفساد في هذه الثانية أعظم بكثير من الأولى: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه» يعني: أفسد لدينه من إفساد الذئبين الجائعين لهذه الغنم(5).

وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله؛ لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»(6).

قال ابن مسعود: «لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله، فإنه يبقى ويذهب ما سواه»(7).

وقال ابن رجب: «أطول الناس همًّا الحسود، وأهنأهم عيشًا القَنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص، وأخفضهم عيشًا أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط»(8).

وقد وصف أبو بكر الآجري رحمه الله عالِمَ السوء بأوصاف طويلة، منها أنه قال: «قد فتنه حب الدنيا والثناء والشرف والمنزلة عند أهل الدنيا، يتجمل بالعلم كما تتجمل بالحُلّة الحسناءُ للدنيا، ولا يجمّل علمه بالعمل به، فهذه الأخلاق وما يشبهها تغلب على قلب المرء مَن لم ينتفع بالعلم، فبينا هو مقارب لهذه الأخلاق إذ رغبتْ نفسه في حب الشرف والمنزلة، فأحب مجالسة الملوك وأبناء الدنيا، وأحب أن يشاركهم فيما هم فيه من رخاء عيشهم من منظر بهيّ، ومركب هنيّ، وخادم سريّ، ولباس ليّن، وفراش ناعم، وطعام شهيّ، وأحب أن يُغشى بابُه، وأن يُسمع قوله، ويُطاع أمره»(9).

قال الحسن: «لا يكون حظ أحدكم من علمه أن يقول له الناس: عالم», وقال الثوري: «إنما فُضِّل العلم لأنه يُتّقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء»(10).

قال ابن رجب: «اعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ومن هنا نشأ الكبر والحسد، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي، الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلو الفاني الزائل، الذي يعقبه غضب الله وسخطه، وانحطاط العبد وسفوله، وبعده عن الله وطرده عنه»(11).

لا ينبغي أن يتطلع الدعاة الصادقون إلى الشهرة، فلا بد للدعوة من الإخلاص لله، كما قال الله في سورة الزمر: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2-3].

ولا ينبغي أن يتطلع الدعاة الصادقون إلى الشكر والثناء من الناس، كما قال الله عز وجل في سورة الإنسان: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)} [الإنسان:9-10].

من أعراض حب الظهور:

1- استنقاص المشاركين له في نفس العمل وإبراز عيوبهم.

2- الغيرة والحسد ممن يسند إليهم بعض التكاليف والمهام والمناصب الدعوية في المجموعة.

3- الطلب المباشر للمنصب، والغضب عندما يسند المنصب لغيره.

4- إظهار قدراته العلمية والشرعية والثقافية وغيرها بكل مناسبة، ودون أن يطلب منه ذلك.

5- تمييع الأحكام والقضايا الإسلامية حتى يحافظ على شهرته ونجوميته.

6- التساهل في أحكام الإسلام؛ كعدم غض البصر، والجلوس أمام المذيعات، والكلام بطريقة معينة؛ حتى يحافظ على نجوميته وشهرته.

إن مرض حب الظهور والإهانة والتشفي خلق ذميم ورذيلة لا تتوافق مع الخلق الرقيق، وتلك الرذيلة لا يصح أن تكون صفة لداعية، ولا يتشرف بها في سلوكه التطبيقي.

كما أن من وقائع حالنا أن يتصدى للدعوة أفراد بعلم ناقص أو بدون علم؛ بل دون تأهل ولا تأهب، وبلا زكاة للنفس وتربية ولا مجاهدة، فيدعون إلى الإسلام وهم بحاجة إلى الدعوة، ومثل هذه الأمراض من أصابته بشيء فهو ظلوم جهول، يدعى إلى الحق ولا يدعو، ويستصلح ولا يصلح.

7- عدم التعرض للقضايا الهامة، والبعد عما يغضب الحكام الظلمة والطغاة والمجرمين بعدم الكلام عن ظلمهم وإجرامهم، ولو أدى ذلك إلى تضليل الناس وتفهيمهم الإسلام فهمًا خاطئًا؛ مثل من يقول: «لا للسياسة»؛ متجاهلًا أن الإسلام دين ودولة، وأنه منهج حياة، كما قال الله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام:162-163]، وفي سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً} [البقرة:208]؛ أي: التزموا بالإسلام كله.

8- لا يحترم الذين سبقوه في الدعوة، ولا يعترف بأقدميتهم في العلم والخبرة، والله يقول في سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10](12).

إن الإسلام بطبيعته المعتدلة يريد لأفراده أن يكونوا صالحين متوازنين، لا يغترون بالدنيا أو تتعلق بها قلوبهم، فما مد أحدٌ عينيه إلى متاعها إلا واشرأبت نفسه، وقارب الفتنة أو حام حول حماها، والسعيد من جعلها مطيةً للآخرة، فصارت له دار ممر لا دار مقر، قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طـه:131].

9- مخالفة الدين والأخلاق: كثير من الناس تتوق نفسه إلى أن يُشار إليه بالبنان، أو أن يكون هو حديث المجالس، أو أن يُسمع قوله أو يُكتب؛ لذا قد يسعى بعضهم بكل سبيل إلى تحقيق ذلك؛ ولو على حساب مخالفة الدين والأخلاق، إذ من خصائص الشهرة أنها تؤز المرء إلى المغامرة أزًّا، ويدعى إلى تبرير كل وسيلة موصلة إليها دعًّا، وهنا مكمن الخطر ومحمل الشوك الذي لا ينتقش.

لذا؛ حذر الشرع المطهر من حب الشهرة والظهور الداعي النفوس المريضة إلى تعلق القلب بتأسيس بنيان السمعة على شفا جرفٍ هار، أو الإعداد لرفع الظمأ من سراب بقيعةٍ، يحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.

فقال تعالى معلمًا نبيه: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام162]؛ أي أن كل أعمالي ومقاصدي محصورة في طاعة الله ورضوانه، وعلى المسلم أن يكون قصده وعمله وكل ما يقدمه من عمل هو وجه الله تعالى، سواء في أثناء حياته، أو ما يعقبه من عمل صالح بعد مماته، هو لله، وإلى الله، وفي سبيل الله، ولطاعة الله تعالى، فإذا كان لله لم يَبقَ فيه نصيب لغير الله(13).

لذا؛ حذر من سوء الأخلاق التي يكون عملها وسعيها وقولها لغير الله، فقال: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها، قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها، قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها، قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار»(14).

فهؤلاء الثلاثة وعملهم الجليل؛ سواء كان الشهادة أو تعليم العلم أو الإنفاق في سبيل الله، يُعد من أعظم الأعمال في ميزان الإسلام، ولكنهم أحبطوا ثواب عملهم بسبب طلب الشهرة بين الناس، وحب الظهور الذي يقسم الظهور، فكانوا أول من تُسَعَّرُ بهم جهنم، فهم حطبها الأول؛ لأنهم أرادوا أن يكونوا أول الناس وعلى رأسهم، فعاقبهم الله بضد قصدهم، والجزاء من جنس العمل، وما ربك بظلام للعبيد.

10- الشهرة هي الصورة التطبيقية للرياء المحبط للأعمال: فالبحث عن الشهرة خلل في عقيدة التوحيد، وانقلاب في مفاهيم الغاية البشرية في الوجود، ونكسة في ترتيب الاهتمامات، فهو الصورة التطبيقية للرياء المحبط للأعمال في ميزان الشريعة.

وإذا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من لبس ثوب شهرة ألبسه الله يوم القيامة ثوب مذلة»(15)، يعني به لباس الشهرة المادي المصنوع من القماش، فإن غيره المسبب للشهرة داخل فيه أيضًا؛ كالسيارة مثلًا، فعن شهر بن حوشب قال: «من ركب مشهورًا من الدواب، ولبس مشهورًا من الثياب، أعرض الله عنه وإن كان كريمًا»(16).

قال الشوكاني: «والحديث يدل على تحريم لبس ثوب الشهرة، وليس هذا الحديث مختصًا بنفيس الثياب؛ بل قد يحصل ذلك لمن يلبس ثوبًا يخالف ملبوس الناس من الفقراء؛ ليراه الناس فيتعجبوا من لباسه ويعتقدوه، قاله ابن رسلان، وإذا كان اللبس لقصد الاشتهار في الناس، فلا فرق بين رفيع الثياب ووضيعها، والموافق لملبوس الناس والمخالف؛ لأن التحريم يدور مع الاشتهار، والمعتبر القصد، وأن يطابق الواقع»(17).

كما أن اللباس المعنوي للشهرة يمكن أن يشمله الحديث من باب أولى، ومن أي نوع كان، سواء لباس التقوى، أو لباس العلم، أو لباس الزهد، أو لباس الورع، وأي لباس معنوي يتدثر به الإنسان بين الناس يسبب له الشهرة، وهو يقصدها ويتعمد أن يراه الناس بها، فقد قال البيهقي: «كل شيء صيّر صاحبه شهرة فحقه أن يجتنب»(18).

أما من اشتهر بالعلم والزهد والورع؛ ونيته صالحة وعمله خالصًا لوجه الله، فإنه خارج عن هذه الدائرة، ولكن الواجب عليه أن يتفقد حال قلبه بين الفينة والأخرى.

قال النووي رحمه الله: «الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر، من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة، أو مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب إلى الله تعالى، وينبغي ألَّا يقصد به توصلًا إلى غرض من أغراض الدنيا؛ من مال، أو رياسة، أو وجاهة، أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء عند الناس، أو صرف وجوه الناس إليه، أو نحو ذلك»(19).

وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يفرون من الشهرة وعدم الإخلاص لله في الأقوال والأفعال كما تفر الفريسة من الأسد، فهذا بريدة بن الحصيب يقول: «شهدت خيبر، وكنت فيمن صعد الثلمة، فقاتلت حتى رئي مكاني، وعليّ ثوب أحمر، فما أعلم أني ركبت في الإسلام ذنبًا أعظم علي منه»؛ أي: الشهرة(20).

وهذا أبو عبيدة بن الجراح لما ذهب مددًا إلى عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل، قال عمرو لأبي عبيدة والنفر الذين معه: «أنا أميركم، وأنا أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستمده بكم»، فقال المهاجرون: «بل أنت أمير أصحابك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين»، فقال عمرو: «إنما أنتم مدد أُمددته»، فما كان من أبي عبيدة في هذا الموقف إلا أن أخلص لله، وترك الشهرة ورآه ظهريًا وقال: «والله يا عمرو، إنك إن عصيتني لأطيعنَّك»، وسلم إليه الإمارة(21).

وهذا خالد بن الوليد عندما أمره عمر بن الخطاب الخليفة أن يترك قيادة الجيش لأبي عبيدة بن الجراح قال: «سمعًا وطاعة لأمير المؤمنين»، وهذا موقف لو تعرَّض له أحد القواد في هذا العصر وبشهرة سيف الله المسلول لما ترك قيادة الجيش، ولما ترك هذه الشهرة؛ بل انقلب على أميره وحاربه، ولكنه أبو سليمان؛ الإخلاص لله ولدينه، والفرار من الشهرة وحب الظهور.

ومن العجب أن يحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يربو على مائة ألف صحابي، فلم يقدر ابن حجر العسقلاني على قوة حفظه، وسعة اطلاعه, ومهارة بحثه أن يجمع لنا في كتابه (الإصابة) أكثر من ثمانية آلاف صحابي، فأين الباقون؟! إنهم على منهاج قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي»(22).

وقد حذر سلفنا الصالح من حب الظهور والشهرة بين الناس لمن يسعى إليها ويجعلها هدفه، وتضافرت أقوالهم المحذرة من هذا الخلق الذميم، فهذا سفيان الثوري يقول: «إياك والشهرة؛ فما أتيتُ أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة»(23).

وقال إبراهيم بن أدهم: «ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة»(24).

وقال بشر بن الحارث: «إذا عُرفت في موضعٍ فاهرب منه، وإذا رأيت الرجل إذا اجتمعوا إليه في موضعٍ لزمه واشتهى ذلك فهو يحب الشهرة»(25).

وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: «الخير كله أن تزوى عنك الدنيا، ويمن عليك بالقنوع، وتصرف عنك وجوه الناس».

وجاء في ميراث صوفية السلوك والاعتدال قول أبي حمزة البغدادي الصوفي: «علامة الصوفي الصادق أن يفتقر بعد الغنى، ويذل بعد العز، ويخفى بعد الشهرة، وعلامة الصوفي الكاذب أن يستغني بعد الفقر، ويعز بعد الذل، ويشتهر بعد الخفاء»(26).

وقال أبو بكر بن عياش: «أدنى نفع السكوت السلامة، وكفى بها عافية، وأدنى ضرر المنطق الشهرة، وكفى بها بلية»(27).

كما تضافرت أفعالهم في البعد عن الشهرة رغبة في ثواب الله عز وجل وإخلاصًا له، فعن صفوان بن عمر قال: «كان خالد بن معدان إذا عظمت حلقته (أي كثر تلاميذه في حلقة التدريس) قام فانصرف»، قيل لصفوان: ولِم كان يقوم؟ قال: «كان يكره الشهرة»(28).

11- يشل حب الشهرة حركة المجتمع الإيجابية ليحولها إلى شكليات ومظاهر: قال الذهبي معلقًا: «ينبغي للعالم أن يتكلم بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت، فإن أعجبه الصمت فلينطق، ولا يفتر عن محاسبة نفسه، فإنها تحب الظهور والثناء»(29).

هكذا مضى السلف الصالح على هذا المنهاج، وكان هذا دينهم وديدنهم، فأين هذا من أقوام غلبهم حب الشهرة، وظنوا أن التفاضل بكثرة المعلومات وكثرة المحفوظات، وبالثناء وبانتشار الذكر، حتى سجل التاريخ عليهم أيضًا عارًا وشنارًا، فهذا الخطيب البغدادي عندما صنف كتابه (تاريخ بغداد)، وسمعت به الدنيا، كان هناك رجلٌ يسمى ابن البنَّاء، من كبار الحنابلة، فلما سمع بالكتاب سأل: هل ذكره الخطيب في التاريخ؟ ومع من ذكره؟ أمع الكذّابين أم مع أهل الصدق؟ فقيل له: ما ذكرك أصلًا، فقال: «ليته ذكرني ولو مع الكذّابين»(30).

هكذا يشل حب الشهرة حركة المجتمع الإيجابية ليحولها إلى شكليات ومظاهر، ومسرحيات يخادع بها بعضهم بعضًا، فالشهرة حين تصير غاية في ذاتها، فمعنى ذلك تفشي الكذب والنفاق والخديعة والتصنع، وغياب القيم الحقيقية التي لا تنتج الإبهار، ومعرفة الناس الشهرة تعني سقوط النماذج الحقيقية ليبرز مكانها البالونات الكاذبة والسراب المضلل، فليس كل مشهور ناجحًا أو ناجيًا عند الله تعالى، وليس كل مغمور فاشلًا أو متأخرًا.

لذا قال ابن خلدون: «قلما صادفت الشهرة والصيت موضعها في أحدٍ من طبقات الناس في أحد مجالاتهم على وجه العموم، وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه، وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها، وقد تصادف موضعها وتكون طبقًا على صاحبها، وإنَّ أثر الناس في إشهار شخص ما يدخل الذهول والتعصب والوهم والتشيع للمشهور؛ بل يدخله التصنع والتقرب لأصحاب الشهرة بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، والنفوس مولعةٌ بحب الثناء، والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها، فتختل الشهرة عن أسبابها الحقيقة فتكون غير مطابقة للمشتهر بها»(31).